حوار حول العلاقة بين السياسة والاستراتيجية -2 – على هامش (جسر الاستراتيجية) لجراي

كان عندي سؤال والحقيقة هو مهم جدا في السياق العربي: وهو عن علاقة الاستراتيجي بالسياسة بمعنى التدافع السياسي الداخلي بين الأحزاب وجماعات الضغط وصانع القرار السياسي…باختصار السياسة بمعنى ال
politics not policy
يعني من خلال دراسة التجارب التاريخية مع حضرتك وما فيها من دراما، وكذلك طرح كولن جراي في (جسر الاستراتيجية) أشعر أن الاستراتيجي يحتاج أن يكون مؤهلا للتعامل مع ديناميات السياسة الداخلية ومحاولة التأثير والتفاوض فيها، وليس فقط مع رأس سياسي في إطار الجسر الاستراتيجي.
في حالتنا العربية بالذات – أي استراتيجي سيتعامل بالمعايير الاحترافية التي ستقول بالانعزال عن دائرة السياسية – سيُركَن حرفيا؛ لابد من فهم ومهارات للدخول في التدافع السياسي بما يسمح بأداء وظيفته .. ولن ينفع كذلك أن نقول( لو مش عاجبه يستقيل) لأن هذا منافٍ للبرجماتية المطلوبة !
وأيضا من خلال ما رأيناه أن الاستراتيجي العسكري يقوم بجزء من هذا فعلا لكن لو مزيد توضيح أكتر

سريعا، سأتناول الأمر في نقاط:

1- كما نبهت في مناقشتنا لكتاب جسر الاستراتيجية، لابد من الانتباه والتمييز بين المساقين المعياري والتجريبي. الأول – ضرورة عزل التنافس السياسي الداخلي عن صياغة وتطبيق الاستراتيجية الشاملة والعسكرية، والثاني – استحالة الوصول لذلك بالواقع ليس فقط بسبب الطبيعة الحزبية والبشرية في التنافس على السلطة ولكن لأن الرؤى المتباينة في خيارات الأهداف والاستراتيجية تتفاعل ضمن أطر التنافس السياسي ذاتها..
نعم، ما سيُقلل المفارقة بين الأمرين هو تطوير إجماعات وطنية و
Bi-partisan platforms،
ولكن غالبا هذا لايحصل إلا مع التهديدات الوجودية، وليس السير الطبيعي للدول فيما يدنوها من أزمات.

2- كذلك، في علاقة الاستراتيجي العسكري – كمسلك مؤسسي ديمقراطي.. معياريا – لابد أن ينعزل كشخص ودائرة عن مساحة ال
Politics
معياريا، ولكن تطبيقيا، لايحصل هذا حتى لو نيته سليمة كانحياز ديمقراطي واحترافي، لأنه مضطر أن يُمارس
Politics
كجماعة ضغط على الأقل، حتى لو لم يتدخل في مسار التنافس السلطوي.

3- وقد يطرح البعض تشكيكا في المبدأ المعياري على هذا النحو، لأنه قد يقود لنمط مفرط في سذاجته، مما لايسمح بتطوّر أعمق لمهام الاستراتيجي والاستعداد لها من منطق الحفاظ على كل من الحرفية وفي نفس الوقت ضمان أن يقود تدخله بالسياسة لضمان استحقاقاتها. بمعنى – لو لم يتهيأ الاستراتيجي العسكري مثلا لهذا الأمر، فصدمته العملية قد تقوده للتضحية بأي من الاعتبارين أو كليهما: المطلب الديمقراطي من احترافيته، والاستحقاق السياسي لاحترافيته.

وبهذا المعنى – نعم مقبول أن نقبل طرح كولن جراي، وحتى طرح هيو ستراون في كتابه الماتع
The Politics of British Army..
ولكن مع التأكيد على أن الأصل غير ذلك، والتدخل يكون فقط كضغط سياسي يبقى ملتزما ما أمكن بالمعيار الديمقراطي وبأرصفته، إلا في حال الضرورة بقدرها.
أعلم أن الضرورة نسبية وتفتح مجالا، ولكن هناك مسئولية اجتماعية وسياسية على كاهل القائد العسكري في آخر المطاف.

أخيرا، بخصوص رقم 3، أي تحريم تدخل العسكريين في دائرة السياسة الداخلية، أنا نفسي قد أضطر أحيانا – ليس لمخالفة ضميري العلمي، ولكن لنقل ماأقتنع به بصورة (ما) تخدم ماأراه من مصلحة وطنية سياسية، خصوصا أن أدبيات العلاقات المدنية العسكرية تنصّ على ذلك.. بمعنى:
كثرا ما أُلحّ لفترات طويلة على المبدأ المعياري الصرف في تحريم الصلة بين دائرة السياسة
Politics
، ودائرة الاستراتيجية – خصوصا العسكرية، وخصوصا ببعدها المؤسسي.
حوار حول العلاقة بين السياسة والاستراتيجية

لماذا؟
لسبب بدهي! أننا في معرض جيوش بطبيعتها تتكرس فيها نزعة التدخل العسكري في السياسة ونقض تجاربنا الديمقراطية. وهذا يختلف كثيرا – عن الوضع البريطاني مثلا، وحتى الإسرائيلي!

فهناك أريحية لهيو ستراون أو كولن جراي – في وضع ديمقراطيات مستقرة ومؤسسات عسكرية ذات قناعة بالديمقراطية وقوة شعبية و
Legacy
تاريخية للدمقرطة، أن يتحدثا عن التداخل بين ال
Politics
والاستراتيجية أو الجيش حتى كنمط معياري، وإن كنت أراهما لم يُدققا في ضرورة السعي للتقليل ووضعه ضمن دائرة الضرورة والمسلك الديمقراطي الحَذِر.. ولكن للأسف لسنا نملك هذه الأريحية.. فأعتقد قد يُساغ لنا الحديث عنها في دوائر شديدة التخصص وليس كطرح عام. (تذكّر إجابة ابن عباس لمن سأله: هل للقاتل توبة)..
ههه.. فكأننا بهذا، قد نُحدِث التواء في ذكر الحقيقة العلمية – تبعا لحال الضرورة ذاك – بذات الاستثناء الذي أشرنا له في منطق تدخل العسكري في السياسة، أو علاقة الاستراتيجية بال
Politics!!

فلا يُحرّج علينا خصومنا وإلا وقعوا في تناقض ذاتي! 😉