هذا المقال يعرض أحد فصول كتاب (حروب واستراتيجية: نهوج ومفاهيم) الذي ترجمته عالم المعرفة حديثا، وهو الفصل المعني بالعلاقة بين الاستراتيجية والأخلاق.. من ضمن فصول عديدة.
وبداية، لفت نظري في المقال – وهو عرض الفصل عرضا أمينا – إشارة أن الاستراتيجية هي أعلى درجات الوعي السياسي، وكذا الإشارة لتجربة المعهد العالمي للفكر الإسلامي في (أسلمة المعرفة – ومشروع العلاقات الدولية)..
وسريعا،
بخصوص السياسة والاستراتيجية؛ فهناك فارق جوهري بينهما – ونقاط تلاق وتلاقح متعددة، ولكن من أهم تجليات تلك الفوارق مايتعلق باستفهام مساحة التأثر والنقاش الأخلاقي.. تحديدا- الاستراتيجية معنية بصنع الطرق والتخيرات الكلية لتحقيق الأهداف السياسية، ولاتُعنى الاستراتيجية بماهية تلك الأهداف (والتي بالتأكيد يدخل في شقها العنصر الأيديولوجي والأخلاقي.. ضمن أمور أخرى كتفاعل القوة والمصلحة والهيمنة، والنظرة الجيوسياسية والتاريخ وطبيعة النظام…)، إلا بقدر الإجابة عن سؤال الجدوى في معرض صنع تلك السياسة (هل الأهداف قابلة للتحقق).. ولكن هذا لايعني انعدام التأثر والفعل الأخلاقي في مساحة الاستراتيجية كما سيأتي، ولكنها أقل وضوحا من مساحة السياسة.. إلا مساحة الاستراتيجية العظمى لأنها قريبة من السياسة.
أما بخصوص مشروع أسلمة المعرفة، فكان به نقاط إيجابية كثيرة الحقيقة، ولكنه عاني من قصور حاد في ناحية منهجية، وأيضا بنيوية وإجرائية..
الأولى، صحيح هو أقر أن النظر الديني له مساحة محدودة (إذا تعاملنا معه كحيز الوحي المعصوم وليس الخبرة التاريخية – الشرعية للفقهاء) في التدخل، بالأخص في مساحة الفلسفة والقيم والمقاصد، وأيضا أقر أن أغلب مساحات البناء المعرفي والتطبيقي في الظواهر الاجتماعية والسياسية عالة على التجريب البشري.. ولكنه قائم على فرضية خاطئة في ضرورة صنع نموذج متكامل مغاير، وليس أن الآثار الدينية في أبوابها قد يكون لها محدودية وضرورة الانضباط في متابعتها، وأن تسري بجوارها التجربة البشرية بملاحظتها وليس (الانبعاث منها).. الأليق هو منهج ابن رشد في توحد غايات الدوائر بين الشريعة والحكمة وليس توحد المنهج وطريقة النظر.
والثاني- عدم التشبع وإتقان دراسة التجربة الغربية ومنتجاتها – خصوصا الانتباه لكثير من مدارسها النقدية وغير السائدة.
كذلك، كان لي محاضرة بالقاهرة في يناير 2013 في هذا الشأن، وهي كانت ضمن سياق ما في نقد التصورات البائسة للحركات الإسلامية في تفاعلها السياسي حينها، ولكن بالطبع طرح المعهد العالمي كان أكثر نضجا وعلمية وأخلاقية بمراحل.. ربما فيها بعض فائدة..
أما بخصوص الكتاب، فهو كتاب فرنسي صدر حديثا، وللأسف لم يترجم للانجليزية، وفرنسيتي أضعف كثيرا من متابعته، ولهذا سعدت بترجمته العربية.. وإن كنت عموما لاأرتاح للترجمة العربية للأدبيات الاستراتيجية، وكثيرا ماتضع بعض التشويش على المعاني المقصودة الجزئية وأحيانا الكلية.. ولكن هذه الترجمة إجمالا معقولا مع بعض الهنات هنا وهناك.
مايُميّز الكتاب الحقيقة، أنه بنزعته الفرنسية هو مقاربة المداخل الفلسفية والمعرفية (ابستمولوجي) و(العلاقات-دولية) لباب الدراسات الاستراتيجية.. وهذا شيء غير معتاد – خصوصا الأول والثاني – في الكتابة الأمريكية والانجليزية، ولاحتى الروسية والصينية، في الدراسات الاستراتيجية التي تركز بشكل أساس على مساحات الفن والعلم والواقع، أو الخبرة التاريخية، أو المأسسة والبنى.
وبالرغم من ذلك، وأنه أيضا تغلب عليه المسحة النقدية مماقد لاتكون الأولوية في الدراسات التأسيسية، إلا أنه لعرضه المسحي لخلفيات المجال وتطوراته.. هو فعلا كتاب مناسب لقارئي العربية كتقدمة جيدة للدراسات الاستراتيجية.. خصوصا مع عدم وجود مواد مترجمة أخرى.
وأعتقد لمدخله العلاقات-دولي، أيضا سيناسب الأكاديميين القادمين من تلك المساحة..وينقلهم تدريجيا لبؤرة تمايز الدراسات الاستراتيجية عنها.
والكتاب ينطلق من رغبة في تعويض المكتبة الفرنسية بسبب الضمور الأكاديمي في باب الدراسات الاستراتيجي مقارنة بالحال الأمريكي والبريطاني، وأعتقد أن النظرة للحال العربي تقودنا لتقييم أكثر بؤسا 🙄
نصل لموضوع الأخلاق والاستراتيجية، مع تحديد واضح لمفهوم الاستراتيجية وتمييزها عن السياسة كما أسلف، فأعتقد الفصل طرق أمورا عديدة، وأغلبها بطريقة جيدة، مثلا:
احتياج أي جيش للشعور بتفوق أخلاقي ما
moral authority
، الدعوى الأخلاقية كثيرا ماتستخدم كأداة استراتيجية بناء وهدما، أن هناك تداخل كبير بين الاستراتيجية والأخلاق في مساحات معقدة ومهما يكن الشخص واقعيا لن ينكره، بالفعل أغلب الاستراتيجيين ينتمون للمدرسة الواقعية والتي الاستراتيجية منزوعة الأخلاق، إشارته أن الكثيرين يعتقدون أن الاستراتيجية غير المباشرة أكثر أخلاقية.. والحقيقة أن هذه الفرضية أول من سوقها ليدل هارت نفسه في بداية كتابه حيث أنه حمّل كلاوزفيتس (أو بمعنى أدق – كما اعترف هارت بذلك – التحريف الألماني ) مسئولية الكارثة الإنسانية والعسكرية للحرب الكبرى، حين دعى الأول لحرب الإبادة العسكرية
annihilation..
لكن طبعا هارت لم يقصد كما عرض الفصل الاستراتيجية غير المباشرة بحس الجراند استراتيجي – أو السياسة – بمعنى تجنب الحرب كخيار، ولكن على المستوى الاستراتيجي العسكري (وهارت كان فعليا يتعامل معه اصطلاحا كما نفهمه اليوم كمستوى العمليات) والتكتيك.
والطريف مثلا – أن هارت احتفي في طبعاته المتأخرة للكتاب بالتجربة الإسرائيلية لحرب 48، وترك يادين وإيجال آلون يكتبان تجربتهما في تطبيق استراتيجية ليدل هارت في الاقتراب غير المباشر..
نعم، نظريا، الخسارة البشرية لكل الأطراف ستكون أقل مع الاستراتيجية غير المباشرة، على عكس حروب ال
attrition
خصوصا بين جيوش احترافها وقدرتها العسكرية متدنية (حرب الخليج الأولى) أو متقاربة (الحرب الكبرى).. ولكن العنصر الأكثر حسما هو تجذر المجال الأخلاقي في التكوين والممارسة العسكرية وإنضاج آثاره، وليس النمط الاستراتيجي والعملياتي بشكل أساس.
مشكلة الفصل مع ذلك، وهذا ظهر في بعض الفصول الأخرى، أنه تغافل عن النقطة الجوهرية في فهم وتفسير الظاهرة والموضوع..
فهناك فارق جوهري بين (الممارسة الاستراتيجية) وهذا بطبيعة الحال لأنها بشرية، فهي خاضعة وتتأثر بالنوازع الأيديولوجية والمحددات الأخلاقية سواء قناعة أو توظيفا، تفيد أو لاتفيد المحصول الاستراتيجي.. ونحكي هنا بشكل تجريبي وليس معياري.. هذا دوما سيحدث..
أي جيش سيسعى لبناء وتوظيف واختلق دعوى أخلاقية، أي استراتيجية ستراعي في صنعها الآثار الناجمة عن السؤال الأخلاقي – دوليا واقليميا وداخليا وعند العدو – سواء آمنت بها أو لم تؤمن.
وبين (التحليل الاستراتيجي).. سواء حين نقيم التجارب من الخارج (استراتيجيا) أو كمرحلة جوهرية – وهي أساس – لأي (ممارسة) استراتيجية.
هذا التحليل يحرم عليه أصلا أن يكون منحازا أخلاقيا، لأن وظيفته الأساس هي (الجدوى) وليس الحقانية!!!
أنا حين أحلل ال
moral bombing
، أو مااصطلح عليه الضربات الاستراتيجية لإسرائيل في لبنان، أو الحرب العالمية، أنا معني- بالمنظور الاستراتيجي فقط بحساب الجدوى.. بمافيها جدوى الطروحات الأخلاقية والقانونية على جانبيه!
نعم – أنا كمحمد أو فلان – لي تصوراتي الأخلاقية.. مثلا في عدم شرعية عمليات استشهادية تستهدف مدنيين داخل إسرائيل، وقد أرفض مثلا تكييفات فقهية وأخلاقية عملتها حماس عندها.. وهذا يختلف عن موقفي مثلا – أخلاقيا وقانونيا – من الصواريخ ضعيفة التوجيه لحماس أو حزب الله، لأنه هناك منطق قانوني وأخلاقي قوي خلفها يخضع لعدم تناسبية القدرة وعدم الاستسهداف المباشر المُعيّن..
ولكن كل تقييمي هذا ليس له دخل – المفترض – في تحليلنا للجدوى الاستراتيجية، والتي يدخل فيها بكل تأكيد مدى نجاعة أو فشل تسويق الأطراف أخلاقيات لخياراتهم.
ولنسبة الفضل لأهله، التمييز بين التحليل والأداء الاستراتيجيين.
Strategic analysis vs making
هي فكرة قديمة لماوتسي تونج ، حين قال أن الأول علمي وموضوعي،والثاني بشري ومتحيز
subjective.
طبعا التحيز والذاتية تحضر أيضا في الأول، ولكنها نظريا وتطبيقيا أقل كثيرا من الثاني.
الحقيقة أعتقد – أن هناك بالفعل – مقاربة إسلامية قوية جدا ، ولاأقصد التراث الفقهي والتطبيق التاريخي والذين فيهما إشكالات ضخمة يخف كثيرا نقدنا لها إن وضعناها في سياقها الزمني، ولكن المصادر الأصلية بالأساس، فعلا بالضوابط الأخلاقية لممارسة الحرب، وكثير من الدراسات الغربية انتبهت لذلك.. سواء في مساحتي شن الحرب
Jus ad bellum
أو ممارسة الحرب (والأخيرة لها علاقة أكثر بالاستراتيجية)
Jus en bello
اشتركت مرة في سيمنارات بجامعتي في 2012 حول تأثير المركبات الأيديولوجية في الحرب والاستراتيجية، على هامش مؤتمر عن
(Liberal Way of War)
، وأتذكر أستاذي أعطى محاضرة في المؤتمر يسخر فيها من فكرته الأساسية، وقال مقولة
Is there any liberal versus socialist bullet?
وقدمت حينها مشاركة عن المقاربة الإسلامية لنظرية الحرب وأخلاقها..
وأعطيتها حينها بتبسيط للشباب في القاهرة.. ضمن دورة عن (النظرية الاستراتيجية العامة).
في حوار على هامش الانتفاضة العراقية طُرحت بعض الأمور الهامة:
1- هل فعلا لا تحتاج الثورة العراقية الآن لل(تنظير)؟! وأليس مايخطه الشباب العراقي بدمائه الآن كفيل بحسم كل الإشكالات؟
2- هل ثمة مشكلة طائفية الآن، بعد أن حطمت الانتفاضة العراقية كذلك أي طرح طائفي؟
3- وأليس الأجدى فعلا لمجتمعاتنا بعد كل الخراب الذي أحدثته الحركات الإسلامية والطائفية أن تختار العلمانية كخيار فكري وسياسي؟
أولا) بخصوص وضع الثورة العراقية الآن والحاجة للتنظير في الجانب الفكري والاستراتيجي، ،
بداية حق دماء الشهداء في عنقنا جميعا، وليس العراقي منا بأحرص من غير العراقي على نجاحها، فإننا جميعا إخوة وهمنا واحد.. وإن كان الأول بالتأكيد بحكم المعرفة والهم الذاتي، أكثر انخراطا ودراية بشأنها، فأنا مقدّر بصدق الانفعال الوجداني عند الإخوة العراقيين في تلك المرحلة، واسمحوا لي بالإشارة لتجربة شخصية قد تفيد، لأن ذات الانفعال قد عشته وغيري الملايين في مصر بالضبط منذ ثماني سنوات، وكانت ثورة ملء السمع والبصر نجحت في إسقاط رأس نظام عتي، وفقد فيها وموجاتها آلاف الشباب الطاهر غير المُسيّس أرواحهم لا لأيديولوجيا ضيقة أو تنظيم أو مصلحة، فقط للوطن.. وكان نجاحها كفيلا بتغيير وجه منطقتنا، بما فيها جروع غائرة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي.. وبالفعل – بمجرد قيامها، تركت تدريبي في أكبر مستشفى عيون بانجلترا، وجمّدت مؤقتا دراستي للدكتوراة في الاستراتيجية ونزلت مصر مع مخاطرة كبيرة لكوني ممنوع من دخول مصر حينها .. ومع ذلك:
. الثورات والحراكات لها مطالب نوعية، وبعضها أخطر كثيرا من مجرد المشاركة المادية في الشارع وفقدان الدم، وبالرغم من كوني حينها في أول الثلاثين بالعمر، و كنت في قلب الحالة الشبابية التي تفاعلت مع الثورة، كنت أرى الواجب في حقي – ومن هم مثلي – من حيث الاختصاص والقدرة على العطاء، هو في محاولة دفع المسار لرؤية سياسية واستراتيجية ما قادرة على إنجاح الثورة في عملية إسقاط النظام بالفعل، والقدرة على إدارة كل الملفات المعقدة في المرحلة الانتقالية وإنجاز مهمة التغيير وبناء عقد اجتماعي وسياسي جديد.. (ما أشرت له في مداخلة سابقة). وكان هذا هو السبب لنزولي حينها بمخاطرة، وليس أن أضيف رقما إلى الملايين في الشارع فواجب دراستي وتدريبي خدمة لأمتي، كان بالتأكيد أهم من ذلك.
. حينها تواصلنا مع كل القوى والتيارات الشبابية، وللأسف الشديد – كان الشباب بفقدان الخبرة، والإحساس العالي بالذات وماقدموه، وهذا الإحساس نفخت فيه بعض القوى الدولية والداخلية بغرض استيعابهم، والنبرة العقيمة أن الشارع وتجلياته سيحسم كل شيء – دون احتياج لبناء قيادة ورؤية سياسية واستراتيجية جامعة تحاول بصبر التأثير وتوجيه المسارات والملفات المعقدة – وأن مستوى الآمال والثقة في قدرة الشعب لتجاوز أي هواجس – عائقا، أما القوى كالإخوان والأحزاب المدنية فكانت بالأساس في طور عقد الصفقات مع الداخل والخارج، وتكريس حظوظها الذاتية وعينها على السلطة المقبلة..
. فانتهى الأمر لفض الحشد الشعبي سريعا بمجرد إسقاط رأس النظام دون جسده وأركانه، ودخول مرحلة انتقالية يقودها العسكر قادت لكوارث وظيفية وانهيار أكبر في الدولة كوظيفة، وتفاهم حصل بين العسكر والإسلاميين تارة، ثم بينهم والمدنيين تارة، ونشأة نظام مشوه يتقاسم فيه تنظيم شمولي (الإخوان) والعسكر النفوذ، ويفتقد فيه الإخوان مع فوزهم بكل الانتخابات شرعية ديمقراطية حقيقية لأنهم ناقضوا أبسط مقوماتها، وأهمها دستور ديمقراطي معبر حقيقة عن العقد الاجتماعي ومتطلباته السياسية والتشريعية، وصولا لانقلاب على سلطة ضامرة في شرعيتها، إلى انهيار كامل التجربة الديمقراطية، وصولا لنظام أسوأ كثيرا من نظام مبارك، ومالهذا من آثار إقليمية خطيرة وتكريس للفراغ الذي ملؤته القوى الدولية (أمريكا وروسيا) والإقليمية (تركيا وإيران وإسرائيل) – كما معلوم.. وهل من الممكن تخيل ظهور قوة عربية إقليمية (وهو الحل الجذري لكثير من مشكلاتنا – بما فيها العراق) دون مصر؟!
. الآن – بعد ثماني سنوات، لن تجد شابا عاصر الأحداث من موقع المشاركة والقيادة، وقوة سياسية مهما يكن ضمورها الفكري وهوسها الأيديولوجي ونظرتها الملائكية لذاتها والمشيطنة لغيرها، إلا وتشعر بأشد الندم على تلك المرحلة وكمية هائلة من الخطايا السياسية والاستراتيجية والأخلاقية، وأن الكارثة الناتجة اكتوى منها الجميع – حتى على مستوى الحظوظ الفئوية والشخصية.
واجبنا الأصيل تجاه الحراك على الأرض، المسئول عنه أخلاقيا وشعبيا، هو أن يقوم بدور حقيقي في طرح الرؤى والاستراتيجيات، والمداخلة الجادة في قضايا جوهرية لإنجاح الانتفاضة ومتوالياتها (رؤية سياسية بالأساس في المطالب وإدارة المرحلة المقبلة، وقيادة وتوجيه استراتيجي، والاستفادة منه لحل المشكل الطائفي والوحدة السياسية والاجتماعية على قاعدة عمل مشتركة خصوصا في المرحلة المقبلة ، وتجديد جذري وبنائي في القوى السياسية التي لايُمكن تصور أي تقدم للأمام في العراق دونها!!، ومتطلبات بناء عقد اجتماعي ودستوري جديد).
ثانيا) بخصوص مسألة الطائفية،
فالفارق شاسع بين التعامل معها بغرض حلها ومداراته سياسيا واستراتيجيا وفكريا وأيديولوجيا، وبين الخطاب الطائفي!!!
وهناك فارق أيضا بين طموحنا لإزالتها (المعيار والمأمول)، وبين وجودها كمشكل (التجريب والواقع) لابد أن نتعاطى معه لحله جذريا.
ولن يفيد فيه أبدا، إدخال الآمال والتأثرات الانفعالية – بماقدمته ثورة العراق بحق من خلخلة شديدة لوضع الطائفية بالعراق. ولكن هناك ميراث نكد، وواقع في قوى سياسية داخلية وخارجية تلعب بهذا الملف، وهي طائفية في بنيتها، وقطاعات شعبية تحتاج منا للبناء على خرق الوعي والضمير الذي أحدثته الانتفاضة، لمصالحة شعبية حقيقية، واستعادة للفكرة الوطنية بديلا عن التخندق الطائفي، وحل احتقانات ومرارات أفرزتها السنون الفائتة (الحرب الأهلية، وثورة العشائر – داعش والحشد). وواجب مُلح كذلك، التفكير وتوجيه المشاركة للقطاعات في المناطق السنية بشكل يخدم الأهداف المرحلية والسياسية دون تشويش وآثار جانبية.
والعقد الوطني الجامع، كما نعلم جميعا، لايمسخ قطاعات المجتمع ويلغي عناصرها الطائفية والمذهبية والأيديولوجية والعشائرية! ولكنه يعيد توصيفها وبلورتها بحيث تتنفس في مساحات خاصة، ولاتشوش على العقد الوطني في المساحات الجامعة! وأن يُراعى ذلك في العقد الاجتماعي وحركة الدولة..
طمس الهويات والاختلافات الاجتماعية لاتتقنه غير الأنظمة الشمولية، وهو أمر غير مستقيم مع أي منطق ديمقراطي ومُعاصر، ولن تشتريه الشعوب في مجملها بطبيعتها الأصيلة. ولكن إعادة تعريفها وبلورتها وتأخيرها عن التعاقد الوطني وملحقاته في بناء الدولة – هو الحل.
الطوائف باقية، والطائفة ينبغي تجريمها تشريعيا، كما دعا الثوار بالميدان، ولكن الأهم: محاصرتها بجهد اجتماعي وسياسي وفكري مكثف. لم تنته بعد!
والطائفية ليس فقط المذهبية، ولكن الانحياز الأعمى للأيديولوجيا السياسية، النظرة الملائكية لها وحامليها والمشيطنة لمخالفيها، والنظرة التفسيرية للكون والتاريخ والواقع من بابها فقط – إهدارا لأي منطق علمي أو واقعي أو تحريري، وتخيّل إمكانية قدرة فصيل أو تيار ما أن يحوز على إرادة الشعب بأكملها، واستحقاقه أن يقود الدولة من بابها (كما تخيل الإخوان عندنا بمصر مثلا) هو بالضبط خطاب ونظرة شديدة الطائفية لاقيمة لها، وتجاوزها الزمن والحوادث.
أخيرا – بخصوص العلمانية،
فهو مثل بقية العناوين (الإسلامية، واليسارية، والليبرالية) تحتاج فعلا لتحرير افتقدته كل التيارات، وفي الأغلب مايسود صياغات شديدة السطحية والتصادمية، وتُستخدم في جل الأوقات بغرض الفعل السياسي ارتفاعا وخفضا.
وربما أهم الدراسات المُتقنة والمعمقة لهذا الأمر دراسة د. المسيري – رحمه الله – عن العلمانية الجزئية والشاملة. ومتى كان العراق في أي فتراته علمانيا بشكل مطلق (الفصل الكامل بين النظر الديني وحركة الدولة) وقانونه المدني الذي أشرف على وضعه د. السنهوري قائم بشكل صريح على اعتماد الشريعة مثلا في بنيته تصريحا وتلميحا، فضلا عن قانون الأحوال الشخصية.. وهل استخدام العقيدة الدينية بغرض التحريك الشعبي وتطوير الشرعية السياسية لم يكن حاضرا في فترة حكم صدام حسين مثلا – خصوصا في آخر عقد؟!
وأليست الشريعة مثلا المصدر الرئيسي للتشريع في كثير من بلادنا وأساسها مصر.. وفي مصر مثلا، لايجرؤ أي حزب سياسي – أن يقول أنه علماني، ونحكي حتى هنا عن فترة حكم السيسي وليس الإخوان! لماذا؟! بسبب الوضع الشعبي.. مع إن مفهوم العلمانية لو تم تحريره فكرية وتسويقه اجتماعيا، ستكون أنماط منه مقبولة جدا في حركة المجتمع والسياسة! المقصد – أن هناك أوضاعا سياسية وشعبية لابد من مراعاتها حتى لو لم نقبلها شخصيا. والعبرة بالمفهوم لا الاصطلاح، وقد تكون هناك خيارات مقبولة بنيويا ولكن يتوجب علينا مراعاة الحساسيات التاريخية والشعبية خلف اصطلاحات بعينها..
من أخطر مايتوجب على النخب الفكرية العربية حاليا، وهو أمر مفتقد في بلادنا وسبب في تخلفها وقابليتها أن يتم تحريكها لمسارات مهلكة باستخدام خطاب الدين، هو تجديد حقيقي في الفكرة الدينية ذاتها، والأهم – تحرير موطن علاقة الدين بحركة المجتمع والسياسة! ليس للوصول لرأي جازم تلتزم به الشعوب! سيبقى دائما اختلافات، ولكن حد أدنى مشترك تقوم عليه العقد الاجتماعي.
وللأسف، فأنا مثلا لست علمانيا بأي مفهوم، ولست كذلك إسلاميا كما طرحته كل الحركات الإسلامية، والإسلام – في قناعتي- لم يضع، ولا يطمح أن يضع نماذج شاملة في الاقتصاد والسياسة والفكر والاجتماع، لأنه يترك للبشر حرية صياغة وملء النماذج تبعا لتغير السياقات والتجريب، ولكن له مقاربات منهجية في دائرة القيم والمقاصد للنماذج تلك وبعض المحددات العزيزة تشريعيا.
فكما قد ينظر لي المُغرق في علمانيته دون تحرير ومنهجة – أني إسلامي ظلامي !، فاتهمني الإخوان مثلا حين نزلت القاهرة وأعطيت محاضرات أثناء فترة حكمهم أني (معاد للمشروع الإسلامي)..
بصراحة.. يكفي بلادنا هذا المنطق الضيق والمتلاعب بالأفكار! وتحتاج منا لواجبات أفضل كثيرا من هذا.
مانحتاجه الآن ليس أن نلتحف بشعار علماني أو إسلامي أو أيديولوجي ضيق،ولكن أن تنشأ حوارات بين كل من هو معبأ بحسه القومي، وعنده مايقدمه في مساحة التجديد الفكري والعملي، ويُقدم النظر المنهجي والعلمي كأداة مفصلية في فهم الحقائق وإعادة تفسير كل الفرضيات – حتى الصلبة والمؤدلجة منها في الفكر والتاريخ والنظر للمستقبل! مع التزام وثيق بأخلاقيات الحوار والبحث العلمي!!!
وبهذا الشروط فقط – يجب أن تنشأ حوارات جادة بين كل التيارات الفكرية في بلادنا، لأن الداء والتجاوز التاريخي والواقعي والشعبي لفرضياتها المنغلقة والمُقدسة حاصل فيها جميعا! وتحتاج لتجديد بنيوي..
والأهم – تجديد على مستوى الحد الفكري الجامع لنا كأمة، ويؤسس لتحضرها وفعلها السياسي والنضالي الجامع، ثم تأتي كل الاختلافات الأيديولوجية تحته.. لماذا تبقى؟ لأنها سنة البشر ولن تنتهي، ولأنها عامل ثراء وتنوع وإفادة إذا حصل ماسبق وليس هدما..
ماذا يريد الغرب من منطقتنا وماهي محركات ومنطق استراتيجيته؟
هل فعلا من مصلحتنا (وعكس مصلحته) تحول دولنا – أو ماتبقى منها – لدول فاشلة، فاقدة لأي سلطة ووظائف مركزية؟ وهل تحلل الجيوش شيء جيد لأن حسم الصراع مع الغرب (مثلا) – وبالطبع إسرائيل) يكون عبر حرب غير نظامية وشعبية مثلا؟
بداية – ومع التقدير للكاتب ونبل مقصده – لابد أن ندرك صعوبة تناول قضايا معقدة في النظر الفكري الإسلامي، أو السياسة والاستراتيجية، تقتضي فرزها أولا لنقاط عديدة لكل منها مسارها التحليلي المستقل – شرعيا وفكريا وتاريخيا واستراتيجيا – ونعم يمكن بعد ذلك الوصول لخلاصات كلية على مستوى النظر الشامل ولكن بعد استنفاذ هذه المسارات التفصيلية، و ليس أن نحاول أن نجمع كل شوارد مايصل إليه ليؤكد فرضيات مقدسة عندنا.
أيضا – أتمنى أن تنشأ عندنا طبقة تجديدية في الفكر والمعارف الدينية، والإنسانية، والتاريخ.. والسياسة والاستراتيجية.. تستطيع أن تحدث فارقا سننيا في مسار أمتنا المنكسر لقرون، وليس فقط أنه من ضرورات التغيير السياسي والاجتماعي والمنشود.
فأن تجد شابا – أو أكثر- واعدا، ورساليا وصادقا وهذا نادر، ولكن يمشي في اتجاه – أحسبه – خطأ فهذا مُحزن.
لا أنكر أننا يمكننا استخدام التاريخ لغرض وعظي أو تربوي، أو حشدي (هذا يحصل في كل التجارب الإنسانية) وهو غير مرفوض في حد ذاته بشرط انضباطه أخلاقيا وموضوعيا، ولكن أيضا لابد أن يوجد عندنا المؤرخ الذي يقدُم لنا مادة تأريخية أقرب ماتكون لإعادة إنتاج ما حصل بالفعل،فيستفيد منها المُنظّرون – في الاجتماع والسياسة والاستراتيجية والعلوم الإنسانية – اعتمادا على قراءات تاريخية.. ودون أيضا أن نخلط بين دور المؤرخ، ودور عالم السياسة أو الاستراتيجية..إذ لكل منهجية وذوق معرفي وأسلوب. ولامانع من الجمع بين أكثر من دور مع مراعاة حدود التأهيل والمنهجية والأسلوب كما أسلفت.
هذه الأدوار – هي فرائض سننية معطلة في أمتنا، ومن أهم أسباب نكتبها الحضارية – أكثر من مجرد انهيار في القدرة السياسية والعسكرية والاقتصادية.. بل الثانية عرض عن الأولى..
وأهم خطوات الانبعاث والمقاومة وعكس أقدار التخلف والاستلاب… هو بناء هذه النخبة المعرفية المُجددة.
—————
عودة إلى المقال.. فهو يطرح 4 نقاط مشكلة:
1- هو يرفض فكرة الدولة الوطنية الحديثة (لأسباب عديدة في تقديري: جزء منها تصور عاطفي وغير مُدقق عن حاكمية الشرعية ومناقضتها لفكرة الدولة الحديثة ونظامها الديمقراطي، وجزء منها رفض لفكرة التقسيم خصوصا أنه حصل بيد المستعمر، وجزء اتباعا لنهج الأناركية التي هي ضد مركزية الدولة).
أنا ناقشت هذه الجوانب باستفاضة في مواطن كثيرة ومن وجهات متعددة..
تحدثت مثلا عن أن رفضنا لطريقة ومنطق صنع الدول الوطنية لايعني أنها ليست حقيقة متقادمة ارتبط بها واقع (اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا واستراتيجيا) قائم بحد ذاته، وأن العودة لأي أطر تحالفية أوسع لابد أن يبدأ من تحت لفوق ووفق أطر تعاقد وتغيير اجتماعي وسياسي – وتبعا لمنطق استراتيجي جيد…
وأن المقاربة الفقهية – حتى القديمة كما عند الجويني – وجدت نفسها أمام واقع بعيد أيضا عن المثال، ووضع أطرا فقهية ومقاصدية – لاتصطدم مع الدولة السلطانية حينها، ولكن تستخدمها المقاصد العليا..
وهذا المنطق بالأخص (الذي يتحرك نحو المقاصد أكثر من التراتيب مادامت ليس مقطوع بها -كَجُلّ مسائل السياسة الشرعية) لابد أن يُتبع.
وعلى هذا كان دراسة د. السنهوري الرائعة قديما حول (عصبة أمم إسلامية)
أو حديث شكيب أرسلان عن ضرورة بناء القدرة الذاتية – اجتماعيا وسياسيا – في دول الإسلام، قبل الحديث عن إعادة خلافة (فما ثم إلا جمع الأصفار) بحد تعبيره.
وبالطبع، فتصور تطبيق الشريعة سياسيا في الدولة الحديثة، والاجتهادات المعطلة في تحديد مقاصد المشروع الإسلامي سياسيا، والمقاربة الديمقراطية في التنزيل، والتمييز بين أدوار السياسة والسلطة والمجتمع في تطبيق الشريعة وبنودها. . وتوازي التغيير الاجتماعي.. كل هذه النقاط التي تسلتزم ثراء شرعيا وأصوليا، وفي فقه السياسة والتاريخ، وتطور العلوم السياسية المقارنة.. لا ألوم قطاع الشباب عن افتقادها لها في وقت تغافلت عنها وشروط بنائها حركات كبرى توفرت لها موارد بشرية ضخمة، ودخلت بالفعل في مجال الممارسة.
هذه التدوينة تناولت أيضا هذا الجانب، بالإضافة لمناقشة الشق الأناركي:
2- كعادة قطاع الإسلاميين المتأثر بالفكرة القطبية وأيضا السلفية الجهادية في توصيفه المطلق والحدّي للغرب والنظر لدوافعه وطريقة صنعه السياسات والاستراتيجية بطريقة شديدة الاختزال والتبسيط استراتيجيا، والتحيز كتقييم أخلاقي ومبادئي.. بشكل لم يُهذبه احتكاك قريب بالتجربة الغربية بشكل يتيح رؤية إيجابياتها وسلبياتها، وفهم أكثر لطبيعة المحركات وتنوعها، ولا استيعاب الوضع المستجد بوجود أقليات مسلمة وعربية كثيفة ضمن الإطار الشعبي والسياسي والمؤسسي (لما نطلق عليه الغرب)، ولا دراسة منهجية لمعارف تتيح ذلك.
في هذه التدوينة، طرحت جملة من الأفكار (البديهية في رأيي) في مقاربة الحالة الغربية. وأنا ممن يري حتمية الصراع المباشر على المصالح الاستراتيجية والاقتصادية العليا وشكل المنطقة مع الأمريكي مثلا – وصفريته مع الإسرائيلي، ولكن الوضع الغربي باتساعه – حتى على المستوى النظامي والدُّوَلي – فضلا عن المأسسي والشعبي – وحتى فهم محركات الأمريكي في وضع أهداف سياسته (وأنه ليس فاقد مطلقا للقيمة السياسية مثلا من وجهة نظره حتى مع محدوديتها)، فضلا عن كيف التعامل معها وفق أي استراتيجية أو مرحلية ..فهذا شأن مختلف.
ولكن مجرد فهم الحالة على وضعها هو أول طرق تطوير استراتيجية مواجهة.
وبالأخص الوضع الأمريكي، ومصالحه الاستراتيجية، وتغير سياسات واستراتيجيات تدخله؛ بل وزن الملف الشرق أوسطي عنده – فهو شديد الدينامية والتعقيد.
ففكرة الاستعاضة بالأنظمة المحلية ودعمها وأطر للأمن والترتيب الإقليمي بديلا عن التواجد العسكري المباشر كان هو الأساس بعد الحرب العالمية الثانية، وصولا لحرب الخليج.
وفكرة التدخل العنيف لتغيير الأنظمة (تقديرا لمسئوليتها في إنتاج دول فاشلة تنمويا وسياسيا- وليس فاشلة بمعنى ضعف السيطرة المركزية! – وزيادة الاحتقان الشعبي مماأفرز ظاهرة الإرهاب وصولا ل 11 سبتمبر، وأيضا هلوسة مجموعة المحافظين الجدد حول دور أمريكي الإمبراطوري والرسالي في نشر الديمقراطية وإنتاج دول وشعوب مختلفة).. هي من قادت للتدخل في العراق وأفغانستان (وكانت هناك أيضا قائمة أخرى).
وهذا اقتضي بالمناسبة إعادة بناء دول (غير مركزية كإطار سياسي، ولكن بضبط أمني)، وتفتيت القائم فعلا! كما كان التصور حيال العراق – أو حتى الخطط بخصوص سوريا. وهذه المرحلة على كل كانت ملآى بعدم الوضوح السياسي والاستراتيجي والتخبط أمريكيا كما هو معلوم.
وبالمناسبة – كان البديل عن الأنظمة في نظر كثير من مراكز البحث القريبة من صنع القرار الأمريكي بعد 11 ستبمير – إما وضع ليبرالي صعب إيجاده، أو اتجاه إسلامي مُعدّل – وهنا ظهرت فكرة استيعاب الحركات الإسلامية في الوضع المستجد.
ولكن التعثر الاستراتيجي الشديد، وأيضا انهيار وزن مجموعة المحافظين الجدد داخل مؤسسة الحكم الأمريكية.. أعاد المنطق الأمريكي للنسق الأول.
ثم حين حصل الربيع العربي وما صحبه من فراغ سلطة، تم استعادة منطق دعم تغيير الأنظمة لصالح شرق أوسط إسلامي معدل، وبضمانات (كالوصاية العسكرية في مصر مثلا، أو الراعي القطري والتركي مع تدافع معهما على مساحة الحركة، أو العصا الإسرائيلية)، مع تراجع بالأصل مساحة الاهتمام بالشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية لأن المحركات الأصلية بدأت تضعف (تراجع اعتماد أمريكا على البترول العربي لأقل من 2%، ولأن وضعية إسرائيل من حيث التفوق الاستراتيجي يجعلها مؤهلة لتقوم بدور أمامي أكثر من احتياجها للحماية – فقط تبقى مسألة استدامة خطوط التواصل الاستراتيجي، والسياسات الاقتصادية العليا – بالإضافة لتحجيم تدخل الروس والصين الذي ظهر في مرحلة تالية)
وحين جاء ترامب، كان أهم مايطرحه هو ترك هذه المنطقة برمتها وتعيير التدخل للحد الأدنى، ولكن مع تطور ظاهرة داعش وتهديدها للحليف الأوروبي بشكل يُهدد الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية حتى (الأوروبي بدأ يُشكك في مدى التزام الأمريكي بسياسة التحالف الدفاعي التي مثلها الناتو – خصوصا بربط ذلك بموقف ترامب المُعلن من الناتو.. وخصوصا أيضا أن المنظمة تعاني أزمة شرعية وانهيار في التزام الدول الأعضاء باستحقاقاتهم المالية والدفاعية منذ فترة)، ومع تطور وضع الروس في المنطقة.. أجبرت المؤسسات الدفاعية والمخابراتية ترامب على الالتزام بمساحة أعلى قليلا للتدخل.. ليس لها أهداف كونية، ولكن فقط على حسب الملفات المُلحة..
فلو ملف داعش يقتضي تدخلا ما في العراق وسوريا (بضربات جوية، ودعم نوعي هو أبعد مايكون عن قبول بشركاء محليين – بل العكس قد يصل الأمر لحالة عداء كالوضع في سوريا، ودعم على مضض مع نفور من ارتباط السلطة بالإيراني كما في العراق) تفعل.
ولو الوضع الدفاعي الخليجي يحتاج دعم أكثر في منظومات تسليح وتكثيف تواجد يفعل.
فكرة التدخل المباشر الكامل انتهت نعم، ولكن فكرة الانشغال بالمآل السياسي – بالأصل – للدول المحلية أيضا تقلصت بدرجة كبيرة.
النقطة التي يجب أن نستوعبها.. أن الأمريكي (وأحكي هنا عن خيارات مؤسسية وليس قرار أرعن يصدره ترامب هنا أو هناك) الآن لايهتم حقيقا بليبيا أو مصر أو حتى الخليج إلا بقدر أن يُحدث مشكله له أو حلفائه.
سواء تحولت الدول لدول فاشلة (بالمعنى الوظيفي أو التنموي أو السياسي الديمقراطي) أو إسلامية أو (وطنية) .. كل هذا لا فارق معه – مادامت لاتنعكس بمشكلات أمنية أو استراتيجية محددة.
فهو في خانة رد الفعل الاستراتيجي لا الفعل.
—————————
3- من أسوأ مانقوم به أن نحاول إثبات أن الدولة الفاشلة أمر جيد – ومطلوب استراتيجيا.
لماذا؟ لأنه يمثل تهديدا للأمريكي، ولهذا فالأمريكي يرفضه!
. فلو افترضنا أن كونها تهديدا صحيح (وهو غير صحيح كما أشرت وأتابع)، فليس معنى أن الأمريكي يريد شيئا لمصالحه، أن نرفضه تماما بغض النظر عن تحليلنا الأخلاقي والاستراتيجي له بالنسبة لنا!
فلو الأمريكي يضرب داعش، إذن نحن نؤيدها.
ولو الأمريكي يريد تحجيم الإيراني، إذن نحن معها على طول الخط.
الدولة الفاشلة كارثة كاملة (كمقصود ديني، و منطق استراتيجي).. نعم – كيف نناضل سياسيا واجتماعيا لكي تنشأ دول قوية ولكن وفق قيم رسالية وديمقراطية حقيقية – هذا شيء آخر! الدولة القوية – ولكن مستبدة مثلا، أو تابعة للغربي ومصالحه، أو منسلخة عن ثوابتنا الرسالية والقومية، هي كارثة أخرى، ولكن لا تجعلنا نُحبذ الدولة الفاشلة!
هذه الدولة الفاشلة (التي يضيع فيها النظام العام وتنهار السيادة) هي بالأخص مادفع الفقهاء قديما -كما أشرت في مواطن سابقة – للقبول بأنماط بعيدة كثيرا عن الحكم الرشيد. صحيح أني لم أرتح للخلطة الفقهية التي انتهوا إليها (بتغيير أصل الحكم الشرعي سواء بتحريم الخروج أو جعل التوريث من قطعيات الشرعية – كما نعى عليهم الجويني) ولكن المنطق الفقهي في رؤية حجم الضرر من انهيار الدولة سليم.
فقط تفكير القاعدة ثم داعش، هو الوحيد الذي رأى في هذا المنطق صلاحا دينيا واستراتيجيا، كما في الكتاب القديم عن: إدارة التوحش!
وأعتقد أن تجربة داعش وماحملت معها مبكرا من أحلام (انتصار) داعبت أحلام جيلٍ من الشباب الإسلامي المُحبط من تجربة السياسة السابقة – دون حتى الانتباه لعوارها القيمي الجسيم فضلا عن سخفها الاستراتيجي – خير دليل على عبثية هذا التفكير. مع أن داعش انتقلت خطوة وحاولت إنشاء إطار نظامي استغلالا لحالة انهيار الدول المركزية والفراغ السيادي.
لم يصل هذا الشباب لنتيجة مفادها أن الحالة الإسلامية كانت أهم مسببات تعثر مسار التحول السياسي – خصوصا في مصر- بعد يناير 2011، وأنه -بثقته المطلقة في قياداته وجماعاته – بمنطق التعصب التنظيمي تارة والتحيز الأيديولوجي تارة- سهّل تلك المهمة، ولم يدع لنفسه فرصة التفكير ومراجعة الفرضيات الفكرية والاستراتيجية الأصلية: ماهي الدولة الإسلامية؟ مامقصود الإسلام من التطبيق السلطوي للشريعة، و(المشروع الإسلامي في الحكم)؟ هل جماعة إسلامية بعينها قدر لازم بحكم الشرع والصيرورة التاريخية والضرورة الواقعية؟ هل النظام الديمقراطي مصادم للإسلام أم يمثل في كثير من جوانبه أفضل إجابة متاحة لتنزيل أهم مقصوداته من الحكم الرشيد؟ هل الثورة الشمولية – بغض النظر عن لونها الأيديولوجي – هي الحل أو ممكنة أصلا أم ثورة تدفع لتحول ديمقراطي متوازن تتحقق فيه مقصودات شرعية من حرية الشعب والعدل الاجتماعي والتحرر والاستقلال وحماية جناب الشريعة كإطار دستوري؟ كيفية التعامل مع مراكز قوى الداخل (الجيش والقضاء – في مقابل الداخلية مثلا)، وقوى الإقليم (إيران وتركيا وقطر) والتعامل مع المسألة الأمريكية والصراع العربي الإسرائيلي – في معرض التحول الديمقراطي وبناء الدولة؟ هل من سبيل غير الصدام المتعجل المُنهي للتجربة والتفريط في الثوابت الوطنية والرسالية وحدود التغيير السياسي الأدنى؟؟
كل هذه الأسئلة لم يُفكر فيها الشباب بعد اكتوائه بنار التجرية – وهو معذور بلاشك إنسانيا في كثير من مواقفه – ولكن فقط إما أنه انخرط في حالة إحباط كاملة، أو عالم افتراضي من الثورة ودحر الانقلاب، أو استجاب لطرح داعشي مع شذوذه الديني والواقعي، أو استسهل فتجاوز كل الأسئلة السابقة بحثا عن فرضيات مُبهمة عن ثورة (إسلامية) مُهدرة (قادمة) وحرب شعبية ضد المستعمر..
من أهم قواعد التفكير الاستراتيجي أن استراتيجية الحروب غير النظامية لاتحسم حروبا هجومية، ولكنها تلعب فقط على إطالة حالة الإدماء لدفع المحتل إلى ترجيح انسحابه على مصالح (ليست حيوية) مرتبطة باستدامة احتلاله.. ولكنه لايصلح مثلا مع الإسرائيلي لأنه يصطدم بمصالح وجودية وليست فقط حيوية.. فقط كاستراتيجية نوعية داعمة للاستراتيجية النظامية نعم. والقصور الشديد في إدراك هذه القاعدة الاستراتيجية أهم ماوصم تجربة الحركة الفلسطينية في الستينات (تبعا لهوسها عن نظرية ماو عن حرب التحرير الشعبية وتجربة الجزائر) وقادنا لكارثة 67..
والمواجهة مع الاستراتيجية الأمريكية تحديدا تقتضي أبعادا متشابكة من إعادة بناء الإطار القومي المواجه في ظل حالة انهيار دولنا المركزية، وفتح شبكات تقارب على المستوى الإقليمي (تركيا وإيران) والدولي مع أطراف مقابلة (الصيني والروسي والثنائي الألماني والفرنسي) من موقف متماسك استراتيجيا يمنع الانضواء، وتطوير أدوات استراتيجية قادرة على الاستقلال ثم التمدد – اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وفتح أبواب التأثير على الداخل الأمريكي والغربي عموما.. فهي استراتيجية تقوم بالأساس على إنهاء التبعية والتدافع والاحتكاك غير المباشر والتفاوض والتحجيم، وليس مواجهة مباشرة إلا في ملفات بعينها وفي مرحلة محددة. وكل ماسبق هو خارج منطق الحرب غير النظامية بالمطلق، بل في معظم الأحايين لايصل لدرجة المواجهة العسكرية المباشرة بالأصل.
وأيضا – انهيار الجيوش يجعل مهمة إعادة بنائها تستغرق سنينا إن لم يكن عقودا بفرض وجود الإرادة والإطار الوطني الجامع والمهارة، والانهيار هنا ليس تفتت الوحدات مثلا كما يحصل مع الجيوش المنهزمة، ولكن تحطيم أساس إطارها الوطني والاجتماعي والمؤسسي، وفكرتها التاريخية. ممكن تعدله وتطوره وهو قائم – كما حصل بعد 67 وبعد 70 عندنا مثلا، ولكن ليس تهدمه.
من أطرف ماحصل معي، كنت أعطي محاضرة في مكتبة الاسكندرية عام 2012 عن تحول العلاقات المدنية العسكرية المصرية، وسألتني إحدى الشابات عن قيمة الاحتفاظ بالجيش المصري مادامت حركات المقاومة ناجحة استراتيجيا!، وهي بالطبع مؤمنة تماما بالفكرة الأناركية وإن كان من منظور مختلف عن المقال. حاولت أن أشرح لها المنطق الاستراتيجي في الحرب الهجومية والدفاعية دون جدوى.. ثم وصلت أن سألتها: طيب الحرب غير النظامية حتى تعمل لابد من الاحتكاك المباشر بالجيش المحتل في أرضنا وقاعدتنا الشعبية.. صحيح: قالت نعم، قلت: إذن نسمح للإسرائيلي أن يأتي للقاهرة ثم نواجهه.. قالت: نعم. قلت: طيب ماذا إذا لم يرغب هو (أو الأمريكي هنا) أن يأتي.. وإن أتى: أقصى ماتطمحين له أن نرده عنا لبلاده.. صحيح؟ 🙂 هذه ملهاة الحقيقة!
طبعا حينها كنا نحكي في ظرف سياسي كنا قريبين فيه فعلا من إعادة تشكيل دولة وبناء سياساتها وأدواتها في المواجهة والسياسة الخارجية والدفاع، فكان للكلام قيمة ومحل، فقط لو نجحت تجربة يناير للأسف.. ولكننا الآن في وضع مختلف تماما بالأصل!
هذا لأن استراتيجية النضال السياسي للتخلص من الاستبداد وإعادة بناء دولنا وإطارنا القومي بمفهوم رسالي وديمقراطي مختلف، تختلف كثيرا – كمنطق وأدوات وتفصيلات ومرحلية ورؤية حتى – عن استراتيجية المواجهة مع الأمريكي، أوتلك الخاصة مع الإسرائيلي.. ربما تناولت الخلط بين المسألتين، وجانب الإفراط والتفريط فيهما في هذين المقالين قديما:
4- آخر شيء.. أن محاولة استخلاص أي شيء من العقيدة القتالية للمارينز في مكافحة حروب التمرد التي صدرت 2006، أعتقد أنها هي التي اقتبس منها المقال، للتدليل على أي شيء مما سبق (مع أو ضد)، غير سليم.
العقيدة القتالية لقوات المارينز تلك – لم تناقش أصلا الفرضيات السياسية الحاكمة لاستراتيجية التدخل العسكري الأمريكي – الغربي، ولكنها محاولة لإعادة إحياء دروس حرب فيتنام في طريقة مكافحة التمرد – أي تمرد وتحت أي أيديولوجية أو في أي منطقة! – واعتمادا على كتابي روبرت تومبسون (مكافحة حركات التمرد الشيوعي)، ودافيد جاولو (نظرية مكافحة التمرد) الذين ظهرا في الستينات..
وكان المُشرف على وضع هذه العقيدة اثنان: دافيد بيتراوس (الذي قاد القوات الأمريكية بعد ذلك في أفغانستان، ثم العراق، ثم تولى السي آي إيه ولكن استقال منها على أثر فضيحة أخلاقية، وهو حاصل على دكتوراة في العلاقات الدولية!)، وأيضا جون ناجل (الذي حصل على دكتوراة من لندن في دراسة تمرد فيتنام وماليزيا، ونشرها في كتاب بعنوان: أكل الشوربة بالسكين)
والفكرة الأساسية بالطبع في نظرية مكافحة التمرد – هو عزل حركة التمرد عن المحيط الشعبي (ببناء حياة سياسية وتنموية مُرضية، وتقليل خسائر المدنيين، وتطوير الشرعية السياسية للنظام المحلي)، وأيضا تطوير القدرة العسكرية وتحويرها لتناسب هذا النمط.
مااستُجد في تلك العقيدة أمران:
الأول – أن هناك عدد كبير من متخصص الأنثروبولوجيا والاجتماع ساهموا فيه، لسبب الفقر المعرفي الكامل عن الأمريكان (تحديدا – على خلاف البريطانيين مثلا) في استيعاب التعقيدات الاجتماعية و(الطوبوغرافيا القبلية) في أفغانستان والعراق.
الثاني – محاولة وضع النظرية السابقة في سياق سياسي ماأمكن بالحديث عن تعزيز بناء نظام ديمقراطي محلي (هذا الصلة الوحيدة مع الفرضيات السياسية للتدخل الغربي).. ولكن هذه المحاولة كانت قاصرة جدا.
أنا قدمت عرض عن هذه العقيدة في جامعتي حين درست الماجستير في 2007، وحينها كان أول ظهورها..
وأشد مالفت نظري حينا..
أنها لم تناقش الأهداف السياسية والاستراتيجية الغربية في التدخل، فضلا أن تقيمها من حيث الجدوى وإمكانية التطبيق استراتيجي!
إذن كيف تريد أن تُجري استراتيجية لمكافحة تمرد في العراق أو أفغانستان، وأنت أصلا لم تحدد: ماهي الأهداف السياسية؟ وهل هذه الأهداف السياسية قابلة للتحقق؟
فقط إشارة في مقدمة العقيدة تحاول أن تلتمس مبكرا العذر، أن التطوير الاستراتيجي والعملياتي لن يستطيع أن يُصلح مشكلة وضع أهداف سياسية تعجيزية.
بمعنى: خوض حرب أفغانستان والعراق، تم تقييمهما رسميا في المؤسستين العسكريتين الأمريكية والبريطانية، ومنذ فترة طويلة.. أنه كان خطأ استراتيجيا فادحا.
لم تكن هناك أهداف سياسية محددة، ولا استراتيجيات واضحة وناضجة، ولا حتى بناء قدرات عسكرية مناسبة ولو للأهداف العملياتية المطلوبة.
التصور الاستراتيجي المستقر الآن هو فقط التعامل مع الواقع الشرق أوسطي بأقل قدر من الاهتمام بإحداث قدر من التغيير الداخلي فيه – كما ذكرت، ولكن بالمشكلات التي تنشأ عنه ولها تأثيرات على المصالح الغربية.
ليس دعم إعادة بناء دولة، أو نظام ديمقراطي أو غير ديمقراطي.. دولة فاشلة أم قوية..
لكن فقط التعامل مع كل مشكلة يُفرزها ذلك الوضع على حدة: مشكلة داعش؟ مشكلة الهجرة؟ مشكلة تهديد على إسرائيل؟ (وإن كان هذه تم تأخرها كثيرا لعدم واقعيتها!)، مشكلة على خطوط الاتصال الاستراتيجي أو الاقتصادي؟
وهكذا.. لكل حالة حظها من التفكير والخيار الاستراتيجي المناسب – أصاب أم أخطأ – ولكن ليس هناك رؤية كلية، عدا منع التدخل الكامل أو الانخراط في إعادة بناء الدولة.
شمول الدين لايعني شمول وظائف أي حركة اجتماعية أو سياسية تتحرك لتطبيق ماتفهمه منه.. بل قد يكون هذا الشمول التنظيمي مضادا لمقصود الدين نفسه في عديد من الملفات خصوصا في هذه المرحلة الزمنية التي بدأت بنشأة الدولة الحديثة – سياسيا واجتماعيا.
لابد من التمييز القاطع بين الدين (كحيز وحي معصوم)، وبين أي مقاربة بشرية في فهم الدين وتنزيله.. الإخوان ليست (دعوة الإسلام في القرن الرابع عشر هجري) كما وصفها الشيخ البنا، ولكن مقاربة بشرية في تنزيله سياسيا ودعويا واجتماعيا.. ولأنها بشرية فيعتريها الصحة والبطلان، الرشد والانحراف، الإخلاص والهوى، المناسبة الزمنية وعدم المناسبة، محدودية المهمة وإطلاق القيمة…
في المشروع والتنظيم
لايجب البدء من اعتبار وجود تنظيم إخواني أمرا مسلما..
فالنظرة الدينية والتجريبية في وضع رؤية عامة واستراتيجية في مسار الحركة الفردية والجماعية للدين.. لابد أن تسبق أي تفكير تنظيمي ومشاريعي – لأنه عالة على الأول.وأي حركة إسلامية – على مدار التاريخ – لها فترة سماح سنني، إذا لم تحقق مقصودها فيه، لابد من إجراء تجديد جذري في كينونتها وأهدافها.
ولعل هذا بالضبط ماأشار له الشهيد علي شريعتي حول دورة حياة أي حركة اجتماعية وسياسية ثورية.
أخطر مشاكل الخط السياسي من تجربة الإخوان على مدار 80 سنة: 1- تحركت في العمل السياسي بمنطق الحركة الشمولية، ولهذا ففكرة البنا نفسه عن الدولة كان فيها تناقض جذري بين تأييده للنظام النيابي، وفي ذات الوقت تبنيه للنظام الشمولي ورفض فكرة الأحزاب.
2- خطيئة نسبة المشروع السياسي للإسلام.. ليس فقط أن انحيازات كثير من تجارب الإخوان السياسية لم تنحز لمقصودات الدين في بناء النظام السياسي من حيث الشورى الدستورية (الديمقراطية)، والعدل الاجتماعي والاستقلال.. بل لأن المرجعية الشرعية لاتدخل بفعل الاختصاص والاستقصاء والحصر إلا في دائرة محدودة جدا من النشاط السياسي الحزبي أو السلطوي، ولكن أكثر من 95% من البرمجة الحزبية تتدخل فيها الشريعة فقط بوضع المقاصد، فلاينبغي نسبتها للوحي فذلك مفسد للدين والدنيا معا – كما ذكر الإمام أبو حامد الغزالي.
3- لم تكن التجربة السياسية خادمة لرؤية استراتيجية واضحة في معظم المراحل.. فنجد في مرحلة كان الصدام مع الدولة والسعي لحيازة السلطة، في وقت كان النظر الاستراتيجي والوطني يُحتم مسارا إصلاحيا..وفي أوقات كان لابد من رؤية تغييرية وثورية، ولكن كان منطق الحراك السياسي المتبع إخوانيا هو إصلاحي وتفاهمي مع الأنظمة.. وهذا أربك كثيرا النظرة الوطنية العامة لأولويات العمل السياسي.
بالإضافة لكل ماسبق..فهناك إشكالات أوسع في حال عودة الإخوان الآن سياسيا بعد التجربة السابقة.كل مقامات التجديد والتطوير كان وقتها قبل ثورة يناير، وبالأخص بعدها مباشرة.ولكن هناك رصيد من التاريخ السلبي وفقدان الثقة العامة في الإخوان – كتنظيم وقيادات ومسار – موجودة الآن في قطاعات عديدة سياسية وشعبية.
وهذا لابد اعتباره في التقييم الأولي حول حدود ومنطق حركة الدين وبدائلها.وهذا ماذكرته سابقا.. أن الانطلاق من كون وجود الإخوان كجماعة وتنظيم أمرا مسلما به غير صحيح. ولكن الانطلاق هو من وجود تيار واسع مرتبط بالفكرة، وله مواقف متباينة من التنظيم ماضيه وحاضره ومستقبله.. هذا التيار هو ماينبغي أن نفكر لأجله – ونساعده أن يفكر بتحرر من أي مسلمات – عدا مسلمات الوحي!
باختصار – النقاط الجوهرية لعملية المراجعة المطلوبة ومعوقاتها لايجب أن تضيع في زحمة التفاصيل. أهم مايُميز – وتقدمه – ملكة الفكر الاستراتيجي هو التمييز بين المهم والأهم، وترتيب الأولويات:
هناك فرضيات في مقاربة الدين ووضعية أي حركة إسلامية – لابد أن تُحسم أولا.
هناك مراجعة فعلية للمسار الإجمالي للإخوان قبل وبعد ثورة يناير وبعد 30 يونيو لابد أن تحصل بالفعل، ولكن بالتوازي مع التفكير التجديدي في المشروع العام (وأهم ركيزة فيه، هو الفصل الكامل بين الدعوي والحزبي)، وقد يقتضي تغيير في العناوين وأشكال التحرك ومنطقه.
أخطر مشكلة.. أن فكرة المراجعات (حتى مراجعة المسار السياسي فضلا عن الفرضيات الفكرية والحركية للمشروع) مرفوضة تماما من قبل القيادة التاريخية للجماعة.وثاني أخطر مشكلة… أنه للقيام بتلك المراجعات، لايتطلب الأمر فقط استعداد نفسيا للمراجعة والنقد الذاتي والتحرر من هلاوس الاصطفائية والمظلومية، ولكن امتلاك حد أدنى من التأهل الفكري والحركي والاستراتيجي ليس موجودا عند أجيال تقود الحركة وهي إفراز مسار طويل مُشكل ومقفر تربويا، فضلا عن إرث المشكلات النفسية والمعرفية والتربوية التي أفرزتها تجربة السبع سنين الماضية.
في رأيي أن من لم يعتبر الكيانية الإخوانية – في سياقها الشرعي والتاريخي والتطبيقي والتنظيمي وإرث التجربة الإيجابي أو السلبي – مجرد فرضية، فهناك مشكلة ضخمة في استقلاليته فكريا أو سياسيا – حاليا ومستقبلا – للقيام بأي أدوار تأهلية أو تشبيكية أو في التدافع السياسي… فضلا عن عنصر بناء الثقة المتبادلة.
ولكن بلاشك الحالة الإخوانية (بشريا على الأقل) تمثل رصيدا مهما لعملية بناء النخبة السياسية. لكن فقط – من لم (ولن) يعيقه أسر التنظيم، أو تتمكن منه فرضيات الحالة بحد التقديس، وتحرر ذاتيا من خشية نقد – ونقض إذا لزم – الفرضيات الأساسية تلك .. فليس ثمة قطعيات هنا.
وهذا يقتضي مراجعة جذرية، وتجديد (أو تعامل إيجابي مع طروحات التجديد فليس المطلوب أن نكون كلنا مجددين ومجتهدين في كل المساحات).. واستعداد نفسي، وقبله ومعه – تأهل معرفي .. خصوصا في أبواب الفكر والاستراتيجية.إذ كثيرا مايُعيق فقدان بديهيات النظر الفكري والشرعي والاستراتيجي عند الشخص، التواصل في تلك المساحات بالأصل، فضلا أن يتفاعل معها ويُجدد.
حول تصور مجموعات الإسلاميين للدولة والنظام السياسي
في رأيي من أهم علامات ضمور الفكر السياسي والمراهقة الفكرية في الحالة الإسلامية هو هذا الموقف من الدولة الحديثة الوطنية – خصوصا عند شرائح من الشباب وليس بالضرورة الأجيال الأسن من الحركة الإسلامية، بشكل لاتجده بذات الدرجة في بقية التيارات.. ولسببين جوهريين:الأول) أن القضية على درجة عالية من التعقيد بالفعل، لتوقف حركة النظر – وليس فقط التجديد – في الفقه السياسي الإسلامي تحديدا لقرون.. فتراكمات عشرات الأسئلة المركزية، ومئات الملفات وفي غفلة عن إدراك مقتضيات تغيير السنن الاجتماعية والسياسية التي أنتجت تطورا هائلا في الحالة الغربية.. ومع ضعف المتابعة بالأصل للتجربة الغربية، فحتى التواصل معها دون منهجية أصولية ومعرفية مناسبة تُهدد بالوقوع في مشكلة أخرى وهي الاعتساف في النقل دون مراعاة السياقات (وليس فقط مراعاة ثمرة المقاربة الإسلامية في النظر). وكل هذا يكون من الإجحاف أن نحمل هذا الجيل من الإسلاميين أو من سبقوه مسئوليته.الثاني) هو دور الحركة الإسلامية المشكل سواء في تأسيساتها التي شابها شق كبير من الخلط والتسطح الفكري والاعتماد على مخاطبة العاطفة الدينية بأكثر من تأسيس منهج تجديدي فارق، ومسلكها التربوي الذي أيضا تعامل سلبيا وبشكل نافر – وليس فقط تغافل عن – مع جوانب التطور الفكري والمعرفي (والاستراتيجي أيضا) في النخب والقيادات، وممارستها التي كان همها إحراز مكاسب سياسية وتوسعية قصيرة المدى والتعجيل بالتنافس السياسي والدخول في مساحة السلطة دون إنفاق وقت كاف في بناء مشروعات حقيقية على مستوى الفكرة والتطبيقات..
الرفض لفكرة الدولة الحديثة أوضح مثال على الضمور الفكري السابق.. فشق منه فعلا هو نوستالجيا مثالية لأوضاع يتخيل الإسلاميون كونها مثالية تاريخية (وهي أبعد أشوطا شاسعة عن هذا المثال!).لكن هناك ثلاثة منطلقات أساسية:الأولى) مقاربة شديدة السطحية والفقر والتقليد في فهم كيفية تنزيل الشريعة سياسيا؛ أو علاقة النظر الديني ببناء النظام السياسي.. أقول هذا – والغالبية العظمي لم تدرس بالأصل مقومات النظر الشرعي والأصولي، أو تراث الفقه السياسي (مع محدوديته وتوقفه مبكرا).. فضلا أن تكون مؤهلة لاقتراف التجديد.الثانية) هو الخلط بين الرفض الرسالي والاستراتيجي لفكرة التقسيم التي فرضها المستعمر (الدولة الوطنية)، وبين أن هناك واقعا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا شديد الكثافة والتعقيد ارتبط بهذه الحالة مع تقادمها.. ولهذا فيجب اعتباره. ولا يمكن هذا إلا ببناء عقود اجتماعية محلية، وأنماط سيادة واستقلال وتنمية في الأطر القائمة.. ثم الانتقال التدريجي عن طريق توسعة العقد الاجتماعي والتهيئة للظروف المحيطة للوصول للوحدة.. وإلا فنحن مثلا نستنسخ تجربة عبد الناصر. وهذا النظر للمقاصد والكفايات أكثر من التراتيب، هو أهم مقومات النظر الشرعي السياسي التجديدي، كما فعل الجويني مثلا – وغيره – مع الدولة السلطانية حين رأوها واقعا انزوت بجواره دولة الخلافة واستحالت رسما.والثالثة: مشكلة الاتجاه الأناركي الإسلامي الذي بدأه المسيري، ونقد التجربة الديمقراطية. هذه المشكلة لم تنتبه أن التجربة الديمقراطية الغربية بالفعل خرجت بشكل كبير عن الحالة المركزية، إلا في ملفات محدودة، وتحولت معها الديمقراطية غالبا لتشاركية أكثر منها تفويضية، وأن مزية التجربة الديمقرطية ليس خلوها من أخطاء بل أنها قادرة على التطوير الذاتي، وأن الفكر النقدي الغربي للديمقراطي هو محاولة تصحيحة وليس هادما للتجربة لأنه لايطرح نموذج كلي بديل، وأنه خطيئة أن ترفض نموذجا ما دون أن يتضح لك ملامح واضحة لنموذج متكامل.. وجزء من الإشكال بالطبع هو الفقر الأصولي في عدم معرفة كيف يتدخل الإسلام (الفكر الشرعي) في ترشيد الظواهر الإنسانية والسياسية، وأنه لايصنع نماذج متكاملة ولكن مقاربات منهجية (هذا ماكان يسميه أصوليو وفقهاء المالكية بدائرة الإمامة والسياسة – في مقابل دائرة التشريع، ودائرة القضاء.. بتعبير القرافي في كتابه الشهير)
بخصوص النظام الديمقراطي فالدراسة المتأنية للظاهرة الشرعية، وظاهرة التطور السياسي والاجتماعي والعسكري.. تجعل جزءا كبيرا من مقومات الديمقراطية (خصوصا بمعناها الوظيفي) هي أبلغ الطرق التجريبية (حاليا) لتحقيق مقصودات شرعية..
مثلا فكرة الفصل بين السلطات، أو تقييد السلطة التنفيذية، أو التنوع في مساحات التقييد الرقابي للحاكم في عملية اتخاذه القرار وأخرى يتم تفويضه فيها وحسابه على نتيجتها، أو الهيمنة المدنية على القوات المسلحة، أو الحزبية السياسية والفصل بين النشاط الحزبي والأنشطة الاقتصادية والخيرية والدينية- التبشيرية، أو معايير الحكم الرشيد في الشفافية والمحاسبة والكفاءة والتوازن..
فالمقصودات الدينية والالتفاتات الشرعية في بناء النظام السياسي قد تقتضي من الفقيه السياسي في عصر تطبيقات وفتاوى ما مناسبة لسياق اجتماعي وسياسي (مثلا أن يتم تعيين القاضي من الخليفة، أو عدم اشتراط مدة للحكم، أو عدم تعيين مجلس دائم للحل والعقد، أو شرط القرشية، أو تعقيد ظروف الخروج على أئمة الجور عند من يجيز فضلا عمن يحرمه ابتداء….) ولكن تغير السياقات والظروف التي تتنزل فيها علل المقاصد والأحكام.. يفرض تغييرا في البنى الحكمية ذاتها فضلا عن الفتاوى. بحيث تصبح ذات الفتاوى السابقة مضادة لذات المقصود الشرعي وتطبيقه!
ولعل هذا مثلا ماحكاه البنا أن النظام النيابي هو أقرب النظم لروح الإسلام.. مع إشكالات طرحه الشمولي في العمل الإسلامي أو بناء الدولة كما أسلفت.
الخلاصة – أن النظام الديمقراطي – بكل مشكلاته الذاتية، أو حتى اختلاف البيئات الشرقية عن الغربية مما يقتضي أسئلة مختلفة في العلوم السياسية (مثلا العلاقات المدنية العسكرية مشغولة غربيا بأمور كثيرة ليس منها الانقلابات وفي ذات الوقت تبقى ترفا شديدا – بالعكس سلبيا – في مرحلتنا) فضلا عن اختلاف الإجابات (فترى مثلا اختلاف بنية وتفضيلات شكل النظام السياسي بين أمريكا وبريطانيا مع أنهما يُحسبان في نفس طور الديمقراطيات المستقرة والثابتة)،
أقول – بالرغم من كل هذا.. فالنسق الديمقراطي بالفعل يمثل أفضل الإجابات النظرية عن كثير من أسئلة التجديد في باب الفقه السياسي (وفق شروط وتهييئات معتبرة)، فهو ليس بعيدا عن الروح الإسلامية كما يتخيل البعض.
حول الحراك الوطني والمسار السياسي
الحقيقة كل ماكنا نأمل فيه من ثورة يناير أن تحدث فتحا لمغاليق التطور الاجتماعي والسياسي الشامل، عن طريق إزالة العقبة التي مثلها النظام السابق.ولكن – بالقطع – لم يكن هناك نخبة سياسية مؤهلة لتصنع سياسات حقيقية بديلة تمثل بذاتها مادة التغيير السياسي والاجتماعي الشامل. كذلك – لم تكن هناك أي قوة سياسية عندها القدرة والاستقامة وتفويض الشرعية السياسية لتدير المرحلة الانتقالية – ولكن كان الأمل أن تحصل صيغة توافقية – هي بحد ذاتها أهم ضمانة للوقوف أمام ارتداد المؤسسة العسكرية للنظام السابق، وتجاوز مشكلة إعادة الهيكلة الضرورية دون التسييس لمؤسسات الدولة الناشئة، وأيضا التوافق على عقد اجتماعي ديمقراطي ومنحاز للعدل الاجتماعي.
بالإضافة لأزمة إرث الحكم العسكري، وأزمة التغييب الشعبي وفقدان المبادرة والوعي السياسيين – ممايعيق التحول الديمقراطي الحقيقي وإعادة بناء الدولة، فهناك أيضا أزمة الإرث الحركي الإسلامي الذي يحوز على قاعدة شعبية معتبرة بفعل العاطفة الدينية، ولكنه مشكل من حيث – وضوح انحيازاته، وكونه لبنة في بناء نظام ديمقراطي، ووضح شكل أنشطته وتوافقها مع الدولة الوطنية (إشكال الدولة الوطنية مع التنظيم ذو الهم الأوسع من إطار الدولة – وكانت هذه مشكلة أيضا في التيار القومي) والمنطق الديمقراطي (التخلي عن أي صيغة للشمول التنظيمي، أو الشمول السياسي) (وفك النسبة مع الوصف الإسلامي إلا فيما هو مقطوع به شرعا).وهذا يقتضي كما ذكرت ليس فقط تجديدات جذرية ولكن تضميد جراح وعودة مختلفة للحيز الشعبي.
بالفعل، خصائص وشروط الطليعة السياسية أو صانعة المشروع وركائزه تختلف عن متطلبات وخصائص القيادة السياسية غالبا.
الفكرة المُلهمة وتجديد الحلم بمشروع رسالي ووطني شديد الأهمية في هذه المرحلة.. وهذا لاينتج إلا بعد تضميد كثير من الجراح التي أفرزتها المرحلة السابقة عند الجميع، واستعادة الثقة في الذوات الفردية والجمعية والمتبادلة.
مكونات المشروع السياسي المنشود هي الرؤية الفكرية والسياسية، ثم الرؤية والمسارات الاستراتيجية.بخصوص الرؤية الفكرية: الخط الأول هي في الانحيازات الأساسية للمشروع الوطني من حيث الأهداف والسياسات البديلة.. ولابد فيه من مراجعة الفرضيات الأساسية عند كل التيارات – وخصوصا الإسلامي – حول أهداف الرسالة والدولة، وشكل الدولة وخطها، وانحيازات التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، والتوازن بين الهم التوسعي (الإسلامي والقومي) ومقتضيات الدولة الوطنية- القطرية وعقدها الاجتماعي والسيادي.أما الخط الثاني – فهو السياسات البديلة في مسارات الدولة الوظيفية.. وهو جزء من استراتيجية الصراع والتدافع السياسي بالأصل، وهذه تنضج وتتطور مع الوقت، وليس بالضرورة حضورها الآن على وجه التفصيل.وفي كلا الخطين هنا حد المشترك الوطني، ولابد من إبرازه والتحلق حوله في مرحلة الصراع السياسي والانتقال الديمقراطي وبناء ركائز الدولة وأهما العقد الاجتماعي، ثم تأتي بعد ذلك في مراحل تالية المشاريع الحزبية والمتأدلجة في مرحلة ممارسة الديمقراطية وهنا لابد من الاختلاف بالطبع .
استراتيجيات الصراع والتدافع السياسي، لابد أن يتم تحديدها ولكن اعتمادا على رؤيةاستراتيجية مبدئية، ونواة قيادية..وغالبا الرؤية الاستراتيجية هي المزاوجة بين استراتيجيات الاحتجاج والفعل السياسي خارج إطار النظام، مع التدافع على المساحات داخل إطار النظام،ويقتضي الأمران طرح سياسات بديلة ونقدية،وتساوقا مع سيناريوهات تطور النظام وخياراته،والأهم فيها مع اختلاف تلك السيناريوهات: تصاعد الاحتقان الشعبي وتعمق الإفلاس النظامي..(على أن في التعامل مع إفلاس وفشل النظام قضية شديدة الحساسية – قيما ووطنيا واستراتيجيا.. فالفشل والإفلاس يكون التعبير عنها وتوظيفها ونقدها منضبطا ودقيقا وعلميا وموضوعيا، لأسباب عديدة أهمها استعادة الثقة الشعبية والمؤسسية في النخبة السياسية وأولوية هدفها في المشروع الوطني وليس المناكفة وحيازة السلطة)أما الخيارات الاستراتيجية وبناء المواقف التفصيلية، فيصعب جدا تحديدها بدون تكوين شرطي الرؤية والنواة القيادة والتنظيمية.
بالتأكيد تبقى فكرة الصراع الصفري وفق استراتيجيات دفاعية وهجومية مع الإسرائيلي على شكل المنطقة ومشروعها قائمة بالطبع،ثم درجة أخرى من الصراع – ليس صفريا – مع الأمريكي بالأخص ولكن وفق استراتيجيات تهيئة ومناورة وتدافع، ثم تدافع إيجابي مع الأطراف الإقليمية (إيران وتركيا) أو الدولية الأخرى مع تكامل وتلاقي في بعض الملفات.المشكلة الأخطر من كل ذلك، أنه لايوجد مشروع حقيقي يملأ الفراغ القومي (بعد انهيار الدول المركزية، وإشكالات في البنى المركزية والمآل القريب في الخليج والمغرب العربي)، فأصبح فضاؤنا القومي – وحتى قطاعاتنا المحلية – أسيرة للتدخلات الإقليمية والدولية بشكل يجعلنا شعوبا ودولا مفعولا بنا..النظرة الاستراتيجي المعقولة هنا، أن هناك دور محوري لمصر (لاعتبارات عديدة.. أقلها أنها هي التي لاتزال باقية كحالة دولة وجيش) في إعادة بناء مشروع أمة.. وهذا جعل – ويجعل – من التغيير السياسي الحقيقي فيها مقدمة جوهرية لنهضة أمة. وهذا يوضح كم الخسارة الضخمة، والخطيئة بمفهوم الرسالة والاستراتيجية.. في إفشال الفرصة التي لاحت مع يناير 2011. فلو حصل الحد الأدنى من التغيير السياسي المطلوب.. بالتأكيد الوضع العام (وحتى الملفات التفصيلية: سوريا، وليبيا، والعراق، والمقاومة، ومشكلة إيران وتركيا، فضلا عن الصراع العربي الإسرائيلي) لكان جد مختلف.
لا أعتقد أنه من الصحيح نسج علاقات بين النشاط السياسي المعارض في مصر وبين أي حكومات إقليمية أو غربية – مهما بدت نقاط توافق حول بعض الأهداف أو المواقف، أما التلاقح مع الشعوب والتيارات والتجارب الحزبية فهو مطلوب دوما..و لعدة أسباب: 1- للدول القوية (كإيران وتركيا، أو الدول الغربية) مصالح مباشرة كثيرا ماتتناقض مع أهداف وأولويات وأخلاقيات المشروع الوطني.. وبالتأكيد سيكون دوما منسوب التعامل مفضيا لوضع استخدامي لصالح الأقوة. ولنا في مآسي سوريا وليبيا والعراق واليمن، وحتى مصر عبرة.
2- هذا تدمير – بالحق والباطل – لسمعة المشروع الوطني ورموزه، وهذا أهم مايطرحه النظام كخطاب مواجه – خصوصا إذا استقامت بين يديه أدلة. وهذا له نتائج سلبية على مستوى القبول الشعبي، وحتى ضمن مؤسسات القوة داخل النظام، والتي ينبغي أن يكون التعامل معها استراتيجيا معتمد على جوانب مختلفة – منها فقط وجه وحيد للتدافع والصدام، ولكن فيها أوجه الإقناع والاستيعاب والاختراق والجذب الوطني والقيمي والمصلحي.. كل هذا تعطله.
أما أن نقصد المشروع الوطني في مرحلة بناء الدولة والتنافس المشاريعي، فهذا طبعا مطلوبا كسياسة دولة، أو برنامج حزبي.
نقاش حول شرعية وجدوي العمل المسلح في التغيير السياسي.. ومنطقه الاستراتيجي؟
أولا) أقدّر لك حرصك الشديد على تحرّي كل ماله علاقة بهذا الأمر الحيوي.. ومن أشد الأمور التي جعلتني ناقما على كثير من الكيانات والأفراد، في محيطنا الإسلامي والوطني.. ليس الجهل أو قلة الوعي والإدراك، فمن منا الذي يعلم كل شيء وفي كل شيء، ولكن الترفع عن طلب المعرفة وتمحيص الآراء في الأمور المفصلية التي يتوقف – وتأثرت بها – مصائر البلاد والعباد.
ثانيا) رأيي القديم – شرعيا وحركيا – في مسألة التغيير السياسي المسلح ، أو الذي يكون العمل المسلح أحد مساحاته – كما يشي به فعلا حواري مع القيادي الشرعي الإسلامي – هو منطق الجواز مبدئيا ولكن ضمن شروط هامة..
————–
كنظرة شرعية، بالفعل أغلب الفقهاء المتأخرين، وكثير من أهل الحديث كانوا مع منع الخروج المسلح (ورفعوها حتى لمرتبة الاعتقاد.. كما في العقيدة الطحاوية: ولا يخرجون على أئمة الجور!!)
ولكن هناك قطاع واسع عند الأحناف (رأي الإمام أبي حنيفة على الأخص) وبعض فقهاء الشافعية (أهمهم الجويني، ونقلت رأيه تفصيليا وناقشته في محاضرتي عن الغياثي.. فراجعها – لأنها أهم محاضراتي على الإطلاق)
ورأي عن مالك، وموقف عملي لأحمد في تأييده لثورة أحمد بن نصر الخراعي مع شيوع رأيهما المُعلن بالتحريم.
وفعل فقهاء التابعين والقراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث، وقبلهم الإمام الحُسين، وهو رأي الإمام علي، وأبي ذر.
لكن.. بلاشك أن التجربة العملية – سواء في النظر لحجم الدماء (كما حصل في الحرة وكربلاء – خصوصا الحرة التي حكى عنها ابن الأثير وابن كثير – بمبالغة كما هو واضح أن هناك ألفي امرأة حبلت مع استباحة المدينة!، ولكن استباحة المدينة والمقتلة هو قطع تاريخي)
أو الخسائر الضخمة على مستوى الأمة (بالأخص تقويض مستوى المنعة وعدم استباحة الحياض، أو حتى مارآه الفقهاء وقفا لحركة الفتح – بكل مافيها من إشكالات معقدة كما نعلم) وهيبة الديانة (ضرب الكعبة بالمنجنيق، ومجرد استباحة المدينة، والمقتلة في الصحابة وآل البيت والنكالة بهم)،
أو تقييم هل قاد الخروج في حال نجاحه لنتائج إيجابية (كالدعوة العباسية التي قادت لدولة باطشة مُحرّفة).. جعلت فعلا المنحى الفقهي يتجه للتحريم غالبا، وهناك أيضا عنصر تأثير السياسة للأسف – وهو عنصر حاضر.
وهذه إشارة ابن حجر في التقريب (أن السيف كان مذهبا للسلف قديم، ثم لما رأوا ماحصل في الحرة تركوه)
وكانت مشكلتي في مع هذا الرأي الغالب – خصوصا المنبني على تقييم للتجارب والظروف السياسية والاجتماعية – ليس المنع كإفتاء عام مرحلي، ولكن تغيير أصل الحكم.
وكنت أرى من الأولى لهم تبني مسألة (إفتاء عام لزمان بعينه) وليس تغيير الحكم، ولكن يصعب عليّ أن أحاسبهم على هذا لأن هذا التقسيم كان خارج خارطتهم الإدراكية والأصولية حينها!
وهذا أيضا ينسحب على رأي ابن حزم الذي قال بالنسخ (أن الشريعة حرمت الخروج أول الأمر، ثم أتت النصوص بالتجويز)، وفي رأيي أن ذلك مرتبط بالمرحلية والقدرة، وليست بالنسخ.
لكني لاحظت مع الوقت أيضا – أنه حتى ألمع الفقهاء وأوضحهم في التجويز – الجويني كما نقلت عنه كلامه – استخدم كلاما شديدا في التحذير من أخذ الأمر بتساهل..فراجعه.
مع الوقت والتجربة والدرس.. حصلت تطورات هامة في رأيي من ناحيتين:
الناحية الأولى – أني بدأتأقدر عنصر العوامل السياسية والاجتماعية وموازين القوى التي تجعل أي مخالفة للخط السياسي للدولة والرغبة في تغييره، لابد أن تنحو للمسار المسلح وبناء العصبة القبلية في مرحلة زمنية (مفهوم الشوكة عند الجويني)، ولكن حين تتعقد الأنماط الاجتماعية والسياسية وشكل الدولة ومؤسساتها، وتظهر أنماط (قويت أو ضعفت) من التشكيل والممارسة السياسية.. هنا يتغير الأساس الواقعي التي صدرت عليها أحكام (وفتاوي) المنع والإجازة ..
فكرة أن الأحكام (مادون القطع) تتغير على حسب العوائد والأعراف والسنن، وليس فقط الفتاوى، طرحها الإمام شلتوت، وهي مامارسها عمر بتمامها في أحكامه المشهورة.. فهو لم يغير فتاوي ولكن أحكاما.. الفارق هنا: أن هذه الأحكام مبنيه في انطباق شروطها على علل تتغير زمنا، وليس بين حالة فردية وأخرى!
بمعنى أن هناك أنماطا من الشوكة وحيازتها والتعبير عنها وممارستها أوسع من القوة العسكرية والقبلية..
(هذا تناولته باستفاضة في محاضرة الجويني)
ولأن الجويني مثلا بنى كثيرا من خياراته وتأسياساته على علة الشوكة، فظهر لي كيف أن التجديد الزمني والعُرفي في تكييفها، يُمكن أن يفتح بابا لتجديد في مفردات الفقه السياسي، ومنها الخروج المسلح تضييقا أو توسعة.
بمعنى – أن مسألة القوة الشعبية مثلا، والقوة العسكرية النظامية المساندة (كفصيل من الجيش مثلا) للحركة الشعبية.. هي من أنماط الخروج السياسي، ولكن ليس الخائض في العمل المسلح والقتال.
ولأن العمل المسلح فيه من الإشكالات الشرعية (خصوصا في مفهوم الدولة الحديثة والتجنيد الإجباري والعمل الشُرطي – مايجعل هناك حائلا شرعيا أمام الاستحلال الشرعي لدماء القوى العسكرية والنظامية للدولة لخفوت المسئولية الفردية وحيز العدوان في حقهم!) بل حتى في طور الدفاع مافيه من اختلال لموازين التسلح والقدرة القتالية لصالح الدولة، ولكن الأخطر: هو رد الفعل الذي يتعدى حيز الدفاع ورده لمظالم متعدية أوسع كثيرا من مصلحة رد الاعتداء!
ونقطة خطيرة استجدت في مقاربتي الشرعي لأي عمل عسكري يستهدف مدنيين (حتى لو ضد المحتل العدو)، أو تكون هناك حصيلة مدنية مُقدرة في التوظيف الاستراتيجي والعملياتي هو التحريم المطلق.. ولا عبرة لأي تكييف لايستقيم شرعا أو قانونا حول قبول شعبي إسرائيلي مثلا بسياسات الدولة، أو غلبة نظام الاحتياط والاستيطان (من لايحمل سلاحا فليس له أن يُقتل، وإن كان مغتصبا، وإنما يُدفع بما دون القتل).
وهذا يجعل أي عمل إرهابي – بتعريف القانون الدولي- هو محرم بالضرورة شرعا سواء كان في الداخل أو الخارج.
تكملة لتلك النقطة وإن كانت خارج الموضوع.. فيما يتعلق بالعمل العسكري (ضد العدو والمحتل بالأخص) الذي يكون له حصيلة مُقدرة مدنيين، فهناك خلاف معتبر في القانون الدولي وكتابات شديدة التعارض.. وهل العنصر المدني يُمثل ثقلا في التخطيط العملياتي والفائدة الاستراتيجية للعملية؟ وهل جرى الحساب بين الضرورة العسكرية وحصيلة الضحايا المدنية؟ وهل تم بذل كل وسع ومراجعة خطة العمليات لتقليل هامش الضرر المدني؟
ولكن للإنصاف – فهناك أيضا عنصر عدم التناسق بين القدرات العسكرية للحركة غير النظامية (الصواريخ ضعيفة التوجيه مثلا) أمام قوة الدولة (ذات الصواريخ والقنابل الموجهة والمجسات الحاسة)، وهذا جعل بعض الكتابات تتساهل في مستوى الضرر الجانبي (الاستهداف غير المقصود للمدنيين) إذا صدر من حركة المقاومة (منهم للمفارقة كاتب إسرائيلي!) وكان هذا بشكل وآخر بعض منطق من أجاز الضربات الاستراتيجية قانونيا ما بين الحربين.. ولكن الأصل العام للأسف – هو العكس: أي التساهل في حق الدولة، وإدانة القوات غير النظامية.. تبعا لاتفاقيات جنيف.
وبالإضافة لكل تلك الإشكالات الشرعية والأخلاقية فهناك أيضا الإشكالات العملية كما سيأتي ذكرها، وهي الأكثر حسما لأنها مرتبط بفكرة الجدوى التي بنى عليها المجيزون حكمهم.
كل هذا – يجعل أنماط العمل السياسي الاحتجاجي (الخروج غير المسلح)، أو الإصلاحي.. هي الأولى في الاعتبار.
الناحية الثانية– أن هناكاشتراطات لم يعتبرها الفقيه القديم، وإن كانت من مفردات الجدوى (ليس فقط العملية ولكن الرسالية والقيمية) ورأيتها بحكم التجربة، والدرس التاريخي أخطر من مجرد الحساب الضيق لفاتورة الدم والخسارة مقابل المصلحة العامة..
أ. وضوح الهدف السياسي وسلامته
ب. قدرة القيادة واستقامتها.
لا أقول أن كلا الشرطين لم يكن لهما محل في اعتبار الفقه القديم.. بالعكس – لو حللنا خروج القراء والفقهاء مع ابن الأشعث مثلا، أو حتى خروج محمد ذي النفس الزكية أو الإمام زيد.. لظهر لنا قيمة الشرطين جليا.
فابن الأشعث كان رائم سلطة بالأساس؛ فالهدف السياسي الذي يُخاض من أجله في مخاضة عويصة لم يكن على هذه الدرجة من الصفاء.
والقدرة والاستقامة في حالته كانت منقوصة أيضا لطيشه، والقدرة القيادية (أي المُكنة في التقييم الاستراتيجي وعدم الاندفاع) كانت منقوصة في حالة الإمامين للأسف.
ربما يدفع أحدهم أننا لم نضع الثقة في قدرة القيادة واستقامتها اشتراطا منفصلا عن تقييمنا للجدوى (كمنتج خططي استراتيجي)؟
لأن حساسية ملف الخروج المسلح ومافيه من تعقيدات للقياس الأخلاقي والاستراتيجي المُدقّق يجعلنا – منذ أول الأمر – قبل انتظار لأي تجديف في بحر مهلك لا طائل منه.. نسد الباب إذا افتقد أي من الشرطين السابقين.. خصوصا أن علاماتهما تكون جلية في الغالب.
مثلا قدرة القيادة واستقامتها: إذا كانت قيادات الإخوان والإسلاميين مفتقدين غالبا لشرطي الاستقامة والقدرة والمعرفة أمام استحقاقات وظروف ومهام أيسر كثيرا في جوانب الحساب الأخلاقي والسياسي : (كالتفكير في مسألة التغيير السياسي قبل الثورة، أو عدم التشويش عليها كخط سياسي، أو بناء توافق وطني و استفادة من ثورة شعبية حاضرة، و طريقة التعامل السياسي مع المؤسسة العسكرية، أو معالجة سياسات حمقاء مستأثرة تسمح بتكتل الخصوم وتضييع السلطة من أيديهم، والمقامرة بآلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المسجونين والأسر التي تعاني في مسار عبثي دون وضوح بوصلة سياسية أو حساب مُدقق بعد 3 يوليو، وإدمان التصريحات التخديرية للأتباع على غير الحقيقة في كل المحطات، أو التسبب في إفشال مرحلة التحول الديمقراطي على الجملة، وفشل الحساب الأخلاقي والاستراتيجي في ملفات العلاقة مع الأمريكي وملفات الصراع العربي الإسرائيلي والسياسات الاقتصادية العليا)
فهل يُتوقع من مثل هذه القيادة أو بناتها، أن تؤتمن على خيار شديد الخطورة.. الأصل فيه صعوبة الضبط الأخلاقي والقيمي، فضلا عن الاستراتيجي كالعمل المسلح؟!
من أشد المهازل الشرعية والأخلاقية مثلا ماسُمي بفتوى (القصاص) التي فقط لم تُدرك المآل المُهلك في حساب الدم والسياسة للقيام بهذا (القصاص)، بل جهلت أبسط جوانب الفروق بين الفتوى والقضاء! ولم تر أي مسئولية ولو يسيرة في الطرف الذي سمح بمظاهر سلاح في فعالياته من أول يوم وغرر بآلاف الشباب للوقوف أمام آلة البطش لدولة كاملة في مسار كان ظاهرا عدم جدواه.
القصاص هو حكم قضائي، ليس فقط من حيث أنه لايُترك للعوام إنفاذه وإلا سقط النظام العام وابتلي الناس بفوضى ومقتلة وسلب، ولكن لأنه لايُمكن إنفاذه إلا عبر استنفاذ أدوات التحقيق الجنائي والنظر في الأقضية والأدلة على حسب كل حالة!!
أيضا وضوح الهدف وسلامته.. لأن هناك إشكاليات ضخمة ليس فقط في مدى الشرعية السياسية لنظام الإخوان السياسية بكل النواقص المبتدئة فيها أو الطارئة :عليها، ولكن حتى في سلامة ووضوح المشروع السياسي ذاته
الأسئلة البديهية حول الدولة وشكلها ومدى دمقطرتها؛ فك الإشكال بين النظام الديمقراطي والمقاربة السياسية للإسلام بما تقتضي من تجديد زمني، والخلط بين شمول الإسلام وشمول وظائف الجماعة المهيمنة على الحكم الذي يقود لشمول سياسي، وتسييس الجيش والقضاء، مفهوم الدولة الوطنية والمواطنة، والعلاقة بين العقد الاجتماعي المحلي للدولة الوطنية والترتيبات التنظيمية والسياسية في الحيّز العربي والإسلامي، والاستقلال والتحرر – حدود الثابت والمتغير فيه، والعدل الاجتماعي أم نهج نيوليبرالي في الاقتصاد يلتحف برداء ديني، وعلاقة المرجعية الإسلامية بالمنطق الدستوري وتجنب الممارسة الثيوقراطية والاستخدامية في ذات الوقت، ومنطق العدالة الانتقالية (القصاص!)..
هل الهدف السياسي هو عودة جماعة للحكم (التمكين)؟ أم تأسيس نظام ديمقراطي ليس عليه وصاية عسكرية أو لتنظيم شمولي أو توظيف لنمط ثيوقراطي في الحكم؟
ليس معنى هذا أن وضوح الهدف السياسي وسلامته ليسا مطلوبين في أي عمل سياسي، ولكن لخطورة هذا الملف وعُمق الإشكال الشرعي والاستراتيجي فيه، فلابد أن تكون الراية السياسية في وضح ليس فيه أي غبش، وإلا فليقر الناس في بيوتهم ويحفظوا دماءهم ودماء إخوانهم في الدين والوطن!
الخلاصة: في نظرتي الشرعية الحالية.. أن الأصل في الممارسة هو التحريم كإفتاء عام للمرحلة، مع أن الأصل في الحكم هو الجواز بعد اعتبار الجدوى والمصلحة، إلا في حالات شديدة الخصوصية، يكون حاضرا فيها قيادة ذو استقامة وقدرة، وبوضوح الهدف والمشروع السياسي مما ليس فيه لبس، وبعد استنفاذ أو استحالة كل أنماط التغيير والإصلاح السياسي.. والأهم: حصول التقييم الاستراتيجي – المُرجح..
وهذا نقطتي التالية
—————————–
رأيي الحركي منذ الصغر، كان كما تعلم منحازا أيضا لتصور الشيخ البنا عن القوة العملية.. وإن كنت ميزت حينها أيضا بين رفضه لمنطق الثورة – بمعناها الانفجار الشعبي العفوي، وبين الثورة المنظمة التي قد يكون العمل المسلح أو العنيف أحد مظاهرها.
وبالطبع – كنت أتفهُم المعيار المرحلي والاستراتيجي في اعتبار هذا الخيار..
فمرحليا – استخدام القوة العملية لايكون إلا بعد استكمال البناء الحركي، وفترة من التغيير الاجتماعي والنظال السياسي والتثوير الشعبي (بنص ماقاله: لابد من فترة تنتشر فيها مباديء الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب المصلحة العامة على الخاصة).
والبنا بالطبع ألحّ أيضا على اعتبار المصلحة والجدوى كشرط عام.
بمضي السنين بدأت تحصل عندي إشكالات ضخمة في رؤية البنا الفكرية والحركية نفسها، ومافيها من إشكالات جوهرية – سواء في توهين الفارق بين حيز الدين المعصوم وبين الدعوة الإخوانية كمجرد مقاربة بشرية (وليست دعوة الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري!)، بين شمول الإسلام والتنظيم الشمولي والدولة الشمولية، وبين قبوله للنظام النيابي من ناحية ورفضه لفكرة الأحزاب إلا أن تكون تابعة للجماعة القائدة (كنت أمرتكم بالبعد عنها والآن ندعوهم للانضمام إلينا!)، الخرق الشديد والانفعالية والتساهل في تعامله مع تجربة النظام الخاص مما قاد لكوارث واستحلال دماء (وسمها هو نفسه – أيضا بعدم ضبط شرعي: ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين)، ومشكلة الدولة الوطنية.. ثم مُجمل التجربة كلها كحصيلة سياسية وفي سُنة التغيير الاجتماعي والجيلي والفكري (مع ما أثمرت من خير وفير على مستوى نشر التدين وزيادة الهم بالقضايا الدينية والقومية والانحياز للبعد الاجتماعي ورفع مستوى الروح الحركية الدينية) .. ماعبُر هو نفسه عن ندمه الإجمالي عليها – كما في حواره مع د. عبدالعزيز كامل (ولهذا خلق الله الندم ياعبد العزيز!)
وخلال هذه السنين، كان جليا أمامي – ليس فقط أن الإخوان كقيادة ومسار بعيدين عن الرؤية التغييرية للبنا – ولو حتى بمعنى التغيير السلمي الذي لاينضوي تحت مظلة النظام السياسي، ولكنها بسلوكها كانت أداة استعابية تُعوّق من إنضاج مستلزمات التثوير الشعبي – لولا غباء النسخة النهائية من نظام مبارك الإبن في آخر محطاته، لما حصل عندنا فعلا شيء اسمه ثورة يناير.. وكان أقصاها مظاهرات شبابية – قد تكون في حد ذاتها إيجابية (لو عادت بنا الأقدار!) ولكنها لم تكن لتصبح ثورة.
حين درست الاستراتيجية – خصوصا العسكرية – بدأت تتضج أمامي إجابات أسئلة كانت مستترة، أو على الأقل كان لها عندي من قبل إجابات مبهمة..
كان استدعاء (القوة العملية) في التغيير السياسي .. شيئا ما حاضرا نظريا، ولكن التدقيق الاستراتيجي في ماهيته، ونمطه الاستراتيجي واشتراطاته كان مُرحلا.
أول درس.. كان التأكيد أن حالة الثورة – على اختلاف أنماطها، ليس فقط تقتضي توفر ظروفها من إنضاج الحالة الشعبية، واضطراب مراكز قوى النظام، وتهيؤ الوضع الإقليمي والخارجي أو صعوبة التدخل المعاكس، ولكن أيضا – وجود قيادة سياسية وعلى المستوى الاستراتيجي.. ليس فقط هي من تقود حالة التثوير والمناورة والتفاوض، ولكن إدارة مرحلة مابعد الثورة لبناء عقد اجتماعي مستجد وتوافقي، ومعالجة إشكالات المرحلة الانتقالية (تنفيذ أجندة التغيير الثوري، دون الطغيان عن مهمة إعادة تأسيس منطق الدولة ومؤسساتها، الحفاظ على مستوى نشاط وظيفي معقول في ظل مرحلة إعادة الهيكلة، ترسيخ القواعد الديمقراطي في السير العام والممارسة…).
ثاني درس.. أن أنماط العمل العسكري لاتخرج عن نطاقات محددة.
فحرب العصابات تقتضي – استراتيجيا – بالأساس دولة ضعيفة المركز، أو شعب تضعف فيه فكرة الدولة وهيمنتها، وتوافق عريضة الحراك التمردي وأيديولوجيته مع مخزون الاحتقان الشعبي، ووجود عوازل جغرافية وشعبية تمثل حماية لحركة التمرد ومنصات لعملياتها، وطرف إقليمي حدودي داعم، وخبرة فنية متصاعدة.
وكما في الأدبيات والتجارب في هذا الباب.. يمكن إنهاء حرب العصابات بإحدى الطريقتين:
الأولى – هي التطور العسكري وصولا لحرب المواقع (نظامية) .. وهذه في حال الدولة ضعيفة المركز – كما حصل في أمريكا اللاتينية، والصين.
الثاني – مسارات الإدماء مما تدفع لانهيار مركزي (تحول أطراف نظامية، أو تخلي الداعم العسكري الأجنبي) كما فشل في المالايو ونجح في فيتنام والجزائر ولبنان..
وهو منطق حروب المقاومة التي نعرفها.
أو خليط – كما حصل في أفغانستان الأولى.
وكما هو واضح – فهذا النمط مكتوب عليه الفشل في دولة كمصر (قوية مركزية بجيش ضخم،
وفكرة الدولة قاهرة شعبية وليس أدل على هذا أكثر من فترة 18 يوم – فمع اختفاء الدولة عمليا، وقيام المواطنين بوظائف الأمن والرعاية، ولكن عادت فورا دون مشكلة بعدها.
وغياب عريضة تحريضية مؤدلِجة لطبيعة الشعب المصري (قد يقوم بانتفاضة خبز مثلا، أو مشاركة في ثورة ضد الظلم الاجتماعي والسياسي، ولكن لايمكن أن يشترك ضد أي تهديد قد يتصل بتهديد لوضع الدولة إجمالا.. وهذا أهم ماأفشل خطة الجماعة والجهاد بعد مقتل السادات)
وغياب الداعم الإقليمي الحدودي (إلا في حال سيناء لفترة، وانفلات الحدود الغربية والجنوبية مع صعوبة كبيرة في سلامة خطوط اللوجستيك).
بالعكس – الوضع الإقليمي والخارجي وحساسية الدولة المصرية في سياقها.. يضيف تمتينا أشد لسياق الدولة (وضعية الربيع العربي كان فيها اختلاف لأننا كنا نحكي عن ثورة شعبية لها سمعة إيجابية دوليا)، وفي ذات الوقت يهيء رد فعل شعبي شديد التحسس من أي مقاربة للتجارب التي فتت دول المنطقة : سوريا وليبيا واليمن.
وغياب التطور الفني والتسليحي – إلا بالتواصل والانغماس ضمن هيكل داعشي.
وعدم وجود المناسبة جغرافيا – إلا في سيناء لمُعوقات الانتشار التسليحي ليس أكثر، وللبعد التضاريس نسبيا.
قديما كان هناك مزارع القصب في الصعيد، أو الآن الواحات، ولكن هذه فقط كانت نقاط انطلاق لعمل إرهابي وليس تمرد مسلح.
أماالانقلاب العسكري فهو غير مطروح أيضا.. لعدم انفتاح الجيش أمام التأدلج السياسي، ولقوة القبضة الأمنية، والضبط التشريعي ومعايير الترقي والأقدمية، وللترتيبات في الفصل بين الأسلحة – والمركزية الشديدة في التحرك والأوامر العملياتية (هذا يُضعف بشدة القدرة العملياتية للجيش في الحروب المشتركة وحروب المناورة كما هو معلوم، ولكن هذا النمط بالأخص تم تبنيه عربيا لمنع الانقلابات).
أما الجناح العنيف- المسلح على هامش ثورة شعبية.. فهو كذلك مرتبط بالسياق الاستراتيجي الأوسع الذي يحصل فيه، ومدى توفر مفردات وشروط حصول الثورة الشعبية بالأخص..
وهل هو عنف وممارسة خشنة عفوية تستطيع أن تُبطيء من فعل الأداة الأمنية في فترات فقدان الاتزان النظامي – وليس أن تُقود هي إليه في وضع دولة قوية كمصر، دون تحريك الرأي العام ضد الثورة؟
أم هو عنف مسلح – في وضع كمصر وشعبها – حتما سيثير ردود فعل وتوجسات عامة، تفصل بين القاعدة الجماهيرية وفعل الحراك وتُرجح سؤال الأمن والاستقرار على التغيير.
أم هو جناح مسلح يقوم بعنف منظّم، لإتمام عملية السيطرة على مفردات حيوية – فقط على هامش ثورة شعبية كاسحة أفقدت النظام توازنه بالأصل؟ فهذا ممكن، ولكن وظيفته ثانوية ومُكملة.. وهذا شبيه بماطلبه للمفارقة عبدالناصر من النظام الخاص للإخوان في حركة الضباط، ولكن ترك لهم مهمة ثانوية ليحرمهم من طلب المكسب السياسي لاحقا.. والحق أن دورهم فعلا كان محدودا.
=====
المشكلة الجوهرية في حراك تحالف الإخوان بعد 3 يوليو هي أكثر من نقطة:
أولا) لم تكن هناك فعلا معطيات ثورة من حيث التأييد الشعبي الكاسح، وانهيار أو شبه حياد أجهزة البطش، وسلامة القضية السياسية المُعلنة، والوضع الإقليمي المُلائم. ليس أن تُعلن أن ماتقوم به ثورة يجعله مستحقا لهذا الوصف استراتيجيا! ولا أحكي هنا عن الحق السياسي.
ثانيا) كل مظاهر السلاح العفوي المُبكر، ساهمت ليس فقط في رفع فاتورة الدم، لأنها واجهت قوات شرطة بالأساس (الجيش فقط تعامل في الحرس الجمهوري وكان نطاقا خلفيا في الفض) غير احترافية في التعامل مع تجمع شعبي فيه بعض مظاهر تسلح، والأهم – أنها معبأة بالانتقام والرغبة في التصفية.. ولكن هي أكّدت من شرعية خطاب النظام وأثره في شيطنة حراك الإخوان وتجريمه..
خصوصا – الربط الغبي الذي حصل مع أحداث سيناء (ارتفعت العمليات الإرهابية من 7 عمليات في يونيو 2013، إلى 700 في يوليو 2013).
ثالثا) الخطاب السياسي المُعلن للحراك (سواء في الدعوة للتدخل الخارجي، أو شق الجيش، أو ادعاء حرب على الإسلام،) وكذلك استمرار المظاهرات في الشوارع والميادين بما في بعضهما من مظاهر انفلات – دون ارتباطها بخطة واضحة المعالم من التصعيد أو التفاوض.. أحدث حالة نفور شعبي (شبيهة بما حصل في 2011 مع موجات احتجاج الشباب) استغلها النظام لتكريس فكرة حماية الدولة في محيط إقليمي تفتت دوله.
رابعا) عدم الاستقامة الأخلاقية والوطنية – سواء في تمييع الرفض الكامل للإرهاب مبكرا واتهام النظام بالقيام به! مع أنه أكثر الخاسرين بحدوثه، أو إطلاق السلمية الفاعلة مع بدء عمل عسكري بدائي ثم محاولات احترافية، مع اتهام النظام للإخوان بالإرهاب الاحترافي – الذي حمل بصمات داعش بوضوح – من أول يوم.. جعل تهمة الإرهاب شيئا لايُمكن إزالته بسهولة لمدى زمني مقبل.
المشكلة هنا.. أن الإرهاب قد يكون وسيلة تكتيكية أو خط عملياتي مقبول استراتيجيا – لا أحكي هنا أخلاقيا أو شرعيا كما بينت- إذا كان ضمن استراتيجية تمرد واضحة لتحقيق أهداف متعددة أهمها تحريك النظام لرد فعل باطش أو إفقاده بعض اتزانه لكسب وقت تعبوي، أو إزالة الرأس السياسي، أو كان هو في حد ذاته استراتيجية لتحقيق أهداف سياسية نوعية ضد عدو خارجي للابتزاز والإدماء بشرط دعمه شعبيا (أيرلندا) أو فرض تنازل سياسي على حكومة ضعيفة (أيرلندا وفورك)، أو تمهيدا لثورة شعبية بهدف كسر هيبة النظام وإزالة حالة الاعتياد الشعبي على وجوده – بشرط عدم مصادمته شعبيا أيضا (كحالات الإرهاب النوعي في استفتاحات التمرد الشيوعي في أمريكا اللاتينية).
ولا يوجد – أو يمكن أن يوجد – شيء من هذا في الحالة المصرية.
خامسا) كل الأنماط التي تنحاز للعمل المسلح بكل أشكاله، ليس فقط لايوجد معطيات استراتيجية لتفعيلها وتأثيرها، ولكن هي مثلت – أو تُمثل – أداة مُهمة في تكريس أجندة النظام في التوغل العسكري والأمني، وقتل الحياة السياسية وأي فرصة للحراك الاجتماعي والسياسي المستقل.. وهذا كان واضحا من أول يوم!
ومع كل الإشكالات البنيوية التي حكيناها مرارا عن الحالة السياسية المصرية، وكل السيناريوهات المستقلة.. تبقى إعادة تشكيل النخبة السياسية المصرية هي أولى الواجبات، ويظهر أن أي مسار يعزّز من شرعية النظام – والاحتياج الشعبي له – ويسمح له بمزيد بطش وغلق للمساحات هو ضار استراتيجيا بشكل لايُتصور.
سادسا) إذا حصل أي احتكاك طلبا للدعم بقوى خارجية هنا أو هناك، ففيها هذا كارثة أخلاقية واستراتيجية أيضا.. ليس فقط بسبب مشكلة توظيف النظام لها في تخوين وشيطنة أي حراك معارض – بغض النظر عن كونه مسلح أم لا، ولكن لأن منطق الدعم الخارجي في حد ذاته ضد دولة محورية كمصر – هي الوحيدة الباقية في أمتنا العربية، سيكون إما من دولة إقليمية حدودية لها مطامح توسعية لانقاش في وجودها، أو دولة خرقاء تريد توسعة نفوذها الإقليمي ولا يوجد أي شك في ارتباطها بالنسق الدفاعي والسياسي الأمريكي بالمنطقة للمفارقة!
بمعنى – هذا فعليا يطعن في الشرعية الوطنية لأي حراك! و التي هي مطلب استراتيجي لأي تحريك شعبي أو لأطراف في مؤسسات الدولة ولو كان سلميا.
مقال ظريف.. وإن كنت أعتقد أن أصل المسألة ليس في مجرد تغير بنية الخطاب الديني تبعا لتغليب النظرة المصلحية (التي غلب عليها البعد المواجه في مرحلة الصحوة، أو البعد التصالحي والباحث عن الاستفادة في المرحلة الحالية) على النظرة الفقهية (التي تحدد مساحة القرب والبعد على حسب معيار التدين)..
أصلها – كما أرى – في تغير مقاربة الدين والتدين ذاتها:
أ. في تصوراتنا الذاتية للدين ومقاصده وأولوياته،
ب. وفي تغليب النزعة المنهجية والعدالية في التعامل مع الذات والآخر،
ج. وفي إدراك نسبية التقييمات القيمية والواقعية
الأول – (تصوراتنا حول الدين ومقاصده وأولوياته).. كما نعلم أن الإسلام الصحوي والحركي له تصور يُعلي كثيرا من جوانب التعبد الصرف، أو المصادمة السياسية العليا لتحقيق رؤى شديدة المثالية والسطحية على – مصفوفة القيم والمقاصد الدينية في أبعادها الإنسانية والروحية والعلمية .. وعلى هذا فمرجعية التقييم، ومساحة النظر ذاتها (على ماذا تقيم الناس والمجتمعات) تختلف.
مثلا – تنزيل الشريعة أو أسلمة المعرفة والتطبيق البشري، أوسع كثيرا وأكثر استيعابا لخلاصات التجريب البشري، وأبعد عن حدود المثال التاريخي (المثال التاريخي بالأصل لم يتحقق إلا في لحظات محدودة) مما طرحه الإسلاميون. وهذا ماطرحنا سابقا في محاضرات تجديد الفقه السياسي، وأسلمة المعرفة، ودوائر تدخل الشريعة، وحجيتها، والتمكين للنزعة المقاصدية.
ولكن لماذا عائض القرني (وأيضا نحن) اختلفت منظوراتنا التدينية؟
لأمرين: تجاربنا، وزيادة وعينا الديني والمجتمعي.. وبينهما صلة تبادلية.
فتجاربنا أخضعت كثيرا من المثاليات و(الأوهام) الأيديولوجية لمشرط القدح والإفلاس.. فأجبرتنا على أن نعيد زيارة منظورنا في فهم الدين ذاته.. وهذا بالتالي يُتيح درجة أعلى من التقييم .. وهكذا
الثاني – (تغليب النزعة المنهجية في تعاملنا مع الذات والآخر).. أننا بفعل التربية الاصطفائية والاستعلائية.. عانينا من مرض الخلل المنهجي في تنزيه ذواتنا الجماعية – كأمة وحركات – (حتى لو كنا بمنطق التربية الفردية نجاهد أنفسنا على معنى التواضع والإخلاص الفردي)، وتجريم خصومنا (أنظمة، وغرب، وحتى مجتمعات مسلمة غير حركية)..
وعلى هذا – فهذا الخلل النفسي والسلوكي قادنا لخلل معرفي أيضا – وهو تجاهل تعقيد دوافع الخير والشر بل جوانب الخيرية والشر ذاتها (هل نظام عبدالناصر مثلا هو مجرد نظام شيطاني عميل – أم أن هناك بجوار مُعطيات الاستبداد وقلة النضج الاستراتيجي والتنموي والأزمة الثقافية – جوانب كثيرة مثلت أحلاما ونقاطا مضيئة في العدل الاجتماعي وأشواق ومسارات التحرر وحلم الوحدة؟ وأن هناك تفسيرات أكثر اتساعا من عامل خصومة الدين لتشمل بشكل أهم صراع السلطة وسلوك الاستبداد بغض النظر عن أيديولوجيته؟)..
هل الغرب هو كيان مظلم (على شفا انهيار حضاري مقبل وقريب؟) أم به جوانب متعددة من معالم التحضر والأنسنة والتقدم – وحتى في عداواته لنا يتحرك بمنطق بعيد عن الشيطنة – أو على الأقل لايتجاوز كثيرا في مساوئه منطق تاريخنا الإسلامي ذاته – مع المفارقة الزمنية بالطبع والتي تُعطي لسلفنا الأسبقية الحضارية والقيمية وكان هذا فقط من أثر باق للديانة؟ .. وهكذا
وهنا تأتي النقطة الثالثة.. أنه ليس بالضرورة أن نطلق أحكاما حدية – سواء من منظور القيمة أو الواقع؟
فقد تعدد – وينبغي أن تتعدد – منظوراتنا التقييمية.. وكل منها له فائدة في بنائنا الشخصي والمجتمعي.
وهذا لابد أن يحظر في مناهجنا في تحليل كل شيء حولنا.
فقد نحتاج لإعمال منظورات (أخلاقية، وسلوكية، ومعرفية، وحضارية، وسياسية، واستراتيجية، وإيمانية، وتاريخية، ومجتمعية، وووو) حين نقارب أي وضع.
وكل منظور له دلالته وفائدته ولغته التي نعبر بها عنه، وحتى مزاجه.
ويجب عدم الخلط بينها، أو تغليب أحدها على الآخر مطلقا دون النظر لوظيفته.
وهذه مشكلة ضخمة في تناولنا لتاريخنا الإسلامي مثلا..
فالقراءة الوعظية للتاريخية (تذكر حديثنا قديما عن راغب السرجاني مثلا) مفيدة في أحوال معلومة، ولست ضدها.
ولكن لاينبغي أن نكتفي بها، أو نُعممها في كل مواطن النظر والتعليم والدرس، أو نجعلها بديلا عن القراءات الأخرى (التأريخية بمنطق البحث التاريخي الصرف، أو السياسية والاجتماعية والاستراتيجية بمنطق التنظير الإنساني الذي يعتمد على التحليل التاريخي مع مراعاة – وبالرغم من- تغير السياقات وكثافة التفصيلات)
وأعتقد أن المسببات الثلاثة السابقة هي الأكثر تأثيرا – بعلمنا أو بدون – في التحولات الفكرية التي حصلت فينا ومع غيرنا.. أننا نقترب منها أكثر، ونقتنع بها بحكم التجربة والقراءة الذاتية والتدبر، ونمتلك أدواتها المعرفية والتجريبية فتضفي علينا خلاصات تُغير من ذواتنا ونتائج نظرنا
وأتخيل أنك لو سألتني في الصغر وأول سنيّ الجامعة ذات السؤال، لكنت بالتجديد أردد – دون وعي ولكن بعمق إيماني حاسم! بل وربما بشيء من التفلسف والتنظير تبعا لقراءات آل قطب وغيرهم – نفس إجابة عائض القرني الأولى !
فانظر إلى فعل السنين والتجارب والأحوال فينا – سلبا وإيجابا !
حوار حول إشكالية التقابل بين سنة الله في نصر المؤمنين، مع واقعهم المزري اليوم حضاريا
الحقيقة أفضل من تكلم في هذه الأمور بإجادة وفقه عدنان إبراهيم..
المشكلة الأوسع هي إشكالية الشر والكوارث عموما: أي قدرة الخالق سبحانه ورحمته وخيريته – أليست تتجلى في اختفاء الظلم وانحسار الشر وغلبة الخير؟
ويتفرع من هذا مسألة خصوصية نصرة المؤمنين ذاتهم.
وهذه من أهم مسببات الإلحاد الحديث.
يمكنك تراجع هذه المحاضرات:
الله عاجز أم شرير؟ (تعالى الله)
فلسفة الشر بين القضاء الإلهي والتقصير البشري
أهلا وسهلا بالشر
الكوارث الكونية بين التفسير الغائي والميكانيكي
هل ننقرض؟
لاتراهنوا على الإسلام
—–
أيضا – سيد قطب في تفسير آيات آل عمران الخاصة بأحد، وكذلك آخر فصول المعالم.. مع قلة مساحة النضج الفقهي والفكري في طرحه ، ولكن غلبة البعد الإيماني وجمال التعبير بلاشك.
—–
في رأيي أن هناك ثلاثة تفسيرات لابد للمؤمن من التعامل معها في مساحة الابتلاء والنصر والهزيمة والكوارث والنهوض، وإن كان لكل تفسير مقتضاه ومقامه:
1- التفسير التجريبي: وهو البحث في الأسباب المادية والمعنوية التي تقود لنتائج اجتماعية وسياسية وعسكرية واقتصادية ، وعلى هذا تظهر نظريات التغيير السياسي، والتطور الاجتماعي، الاقتصاد، الانتصار العسكري، والترقي الحضاري والفكري..
فلكل هذه الظواهر (أسباب) قد يتعللها البشر فتصل بهم لنتائج معلومة، أو تنكبوها فينحسرون عن تلك النتائج.
وبالرغم من سهولة التعبير عن تلك الأسباب أحيانا، فإن المعارف التجريبية (العلوم السياسية والاجتماعية وفلسفة التاريخ والاستراتيجية والاقتصاد) كلها هدفها الأساس هو في فك هذه الشفرات.. وهذا مايجعل الخوض فيها وظهور الكوادر ونضج التخصص واقتراف التجديد والريادة هو من فروض الكفايات.
2-التفسير الغيبي: وهو رد الأمر لله سبحانه تبعا لحكمته – جل شأنه. هذه الحِكم تتعدد ولايمكن (الجزم) بأي ننسب له هذه الحالة وتلك إلا بنص معصوم قطعي.
فحكمة الله من الابتلاء والشر والتدهور والانهيار: قد تتوزع بين الابتلاء والتمحيص اختبارا، أو رفعا للدرجة، وبين العُقوبة المُهلكة، أو العقوبة المُكفّرة (الماحية للذنب)، أو فقط (وهذا الدائر في جل الحوادث) إعمالا لمقتضى الأسباب ترسيخا لقاعدة السببية ونظام الخلق.
ومن العجيب: أنه قد تكون حكمته – جل شأنه – في الحالة هو إعمال مقتضى الأسباب، وهو الأغلب كما ذكرت، ولكن له فوق هذا حِكما أخرى للمجموع (كتمحيص المؤمنين في أحد مثلا) أو حتى تتعدد الحكم على حسب الأفراد في ذات الحالة (فيكون لأحدهم ابتلاء تمحيصيا، والآخر ماحيا، والثالث عقوبة، وهكذا..)
3-التفسير التربوي.. وفيه لايتخلى المؤمن عن التفسير التجريبي تبعا لتكليفه وماأقامه الله فيه من أسباب وأدوار، وبالتأكيد يبقى التفسير الغيبي وتعرف الحكم الكلية حاضرا .. ولكن يغلب على المؤمن شفقته ونظرته المُحاسبة لنفسه، فيحاول تلمس أسباب المصيبة في تقصيره في مقام السبب أو معصيته أو تقاصره عن مقام التفويض وتمام التوكل.
والعجيب: أن هذا بالضبط هو منطق القرآن في خطابه – أو بعض خطابه – للمؤمنين والنبي (صلى الله عليه وسلم)..
“ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك”
بل قد يذهب الذوق بالعبد ألاينسب لله ماهو من فعله – جل شأنه – على الحقيقة، بل ينسبه لنفسه:
“وإذا مرضت فهو يشفيني”
وهذه التفسيرات الثلاث كما ذكرت لابد أن تتراكم في حال المؤمن، ولكن نسبتها ووصفها يختلف على حسب الحال والمقام.
فمقام فقه التاريخ وتقدير السياسات والاستراتيجية وتقييمها، لابد أن يتجه غالبه للتفسير الأول.
وكما ذكرت في رسالة سابقة: في أشد المعارف التجريبية نزوعا وتعلقا بالأسباب والنتائج.. تبقى مساحات غائمة هامة سواء في الحوادث فضلا عن المسارات الكلية، ولايُمكن تفسيرها إلا بالعنصر الغيبي.
ومقام تعامل المرء مع نفسه لابد أن ينشغل في التفتيش فيها عن مصادر القصور فيما حل من كوارث وأزمات، دون أن يقود ذلك ليأس وقنوط.
ومقام رؤية فعل قدرة الخالق حاضر في كل هذا لأنه مُسبب الأسباب، ومن يهدي للصلاح.. ويكوناستشراف حكمته سبحانه في كل هذا مطلوب إيماني للفرد والأمة، ولكن دون جزم فيما لم تقطع به النصوص.
وأحيانا يكون – لهدف فقهي وتربوي عام أو خاص – من المصلحة ترجيح حكمة عن غيرها دون القطع بها كذلك..
فإن عمّ التواكل والقصور وفساد النوايا والعزائم، يكون ترجيح حكمة ابتلاء التمحيص والعقوبة ومقتضى الأسباب – دون ابتلاء رفع الدرجة – مطلوبا.
وإن عمّ القنوط وأنشب الشك والإلحاد مخلبه، يكون ترجيح مقتضى الأسباب، مع جوانب الرحمة التي تصحب الابتلاء ومقابلته بما هو حاصل في أمم أخرى مطلوبا.
وقارن مثلا بين لحن القرآن ومنطقه في التعامل مع نفسية المنتصر في بدر (الأنفال)، والمنهزم في أحد (آل عمران)، وإن كانت لغة المواساة والطمأنة (ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون … ) لم تمنع منطق التربية (… إن كنتم مؤمنين) (إن الذين تولوا يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ماكسبوا) أو منطق فقه السبب (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم) (إذ تصعدون ولاتلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم) فكلاهما مطلوب للفرد والجماعة. ثم تتكامل الآيات في ذكر حكمة تمحيص الابتلاء بشكل عام وكيف أن الآخرين قد مسهم قرح سبق وأنه تداول للأيام.).
قرأت ملخص الدراسة، والفكرة الأساسية في الفصل بين الوظائف الحركية والرسالية مهمة بالطبع وسليمة، كذلك أطروحة ثلاثية (الوعي والثورة والسياسة) أجادوا التعبير عنها وعن ضرورة الفصل بينها.. ولكن هناك ثلاث ملاحظات جوهرية الحقيقة:
أولا – أن الصيغة المطروحة لاتمثل فصلا على الحقيقة، وكثيرا مايتم التحايل عليها مادام الجميع تحت مظلة قيادية واحدة، بل هذا من طبائع التنظيم والسياسة والسلطة. مثلا تجربة الأردن. وعلاقة الإخوان بحماس ليس كما يتصور، ولكن حماس ابتلعت جماعة الإخوان بفلسطين، وهي تابعة إداريا وماليا للتنظيم الدولي عبر مجلس المستشار، وإن كان هذا المجلس والتنظيم الدولي لايُسيّرون حماس على الحقيقة، فهذا لايعني أنهم لم يحاولوا.
الحقيقة أنهم حاولوا كثيرا، وفشلوا في أغلب الأحيان (منها محاولة كنت بنفسي شاهدا عليها لإقناع حماس بشروط الرباعية قبل الربيع العربي لتحسين شروط التفاوض الإقليمي مع الغرب)، ونجحوا في أقلها وكانت نتيجة شبه كارثية – وهي المحاولة التي صاحبت الربيع العربي وتم إغراء حماس بالانحياز لفكرة الشرق الأوسط الإخواني وترك خطوط تحالفاتها السابقة – وكذلك محاذيرها في التعامل مع دول الطوق وخصوصا مصر – حتى عاد المسار لسابقه مع جروح لاتندمل بسهولة.
كما أن خصوصية حالة حماس التي تمنع وتُزهّد في الاندماج التنظيمي الكامل لايُقاس عليها كذلك (العزلة الجغرافية، حالة الاحتلال والمقاومة – وفيها مايُعتبر غربيا كإرهاب).
الخلاصة – أن الفصل بين الوظائف يقتضي فصلا كليا في التنظيم والإدارة ومساحة الانشغال والخطاب، وتبقى للحركات الإسلامية وظيفة صيانة البعد الرسالي (في عمومياته وقطعياته) والأخلاقي والتربوي، أما ممارسة السياسة فهي تُترك لاجتهاد المجاميع المختلفة. هناك صيغة أخرى – كنت أراها شبه مقبولة، وهي لاتشترط الفصل الكامل، ولكن أن تسمح الحركة الإسلامية لأبنائها بتأسيس تجارب حزبية مختلفة وكان في هذا مظنة منع تغلب الحظوظ الحزبية واحتكارها للمسار الدعوي أو العكس.
ثانيا- بصراحة شديدة، هذه الصيغة أصبحت إمكانات الواقع متجاوزة لها زمنيا بشكل كبير.
بمعنى – ربما فكرة الإطار الاستراتيجي الجامع لمستويات الفعل الثوري والدعوي والسياسي كانت مقبولة ماقبل ثورة يناير، وأرفقت لك ورقة (المرجعية) مثلا)، وكان هذا ماانتهيت إليه في 2010، أن تدشن الإخوان حركة شبابية ثورية وترتبط بها فقط في التغذية الرسالية، بحيث تشترك مع القوى الوطنية الأخرى في أي عمل ثوري أو شعبي قريب دون أن تنزل الجماعة بنفسها في ذلك – وكان من أهم مايدفعني لذلك – ليس فقط النظر الاستراتيجي، ولكن تصوري حينها لمسألة المرجعية الإسلامية والشرعية السياسية (والذي حصل فيه بعض التطور مع الوقت خصوصا بعد يناير)، وطرق بنائها وتوليدها مجتمعيا.
ثم بعد الثورة مباشرة، ضاق الخيار أمام الإخوان، فلم يكن ممكنا أمامها غير مطلق الفصل، والتركيز على النشاط الدعوي والتربوي، وكذلك توفير معطيات مجتمعية ورسالية مطلوبة للبعد السياسي الوطني، وليس التنافس على السلطة.
وكان قطاع معتبر في قيادة الإخوان – خصوصا الإصلاحية – مقتنع بمسألتين: تقنين الجماعة، والفصل الكامل بينها وبين أي نشاط حزبي..
إلى أن عاد القائد المظفر من غيبته الصغرى، ودلس على الجميع – وخصوصا الشباب – بأن خدعهم ب(التطوير) في البرامج عن (المراجعات والتجديد) في الأفكار والرؤى البنى واللوائح والاستراتيجيات، وكان يعقد مؤتمرات يحضرها عشرات الألوف، ثم انتهى كل ذلك لصفير البلبل، لأن الغرض منه كان تفويت لحظة الاستفاقة – لاغير.
وبالطبع – نظّر ونفذ – إحكام السيطرة الكاملة على النشاط الحزبي، بل الحقيقة أنه مع الوقت احتكر نشاط الجماعة كله للعمل السلطوي، وفي ذات الوقت ضاع الحزب نفسه ككيان ومساحة عمل.
كما أنه نقل مشكلات التقنين والعلاقة مع الدولة الوطنية لمستوى سيء جدا، واحتراف التفاوضات والصفقات مع كل الأطراف بشكل لايستقيم تحت أي عنوان أخلاقي أو قانوني أو حتى مصلحي.
أما لماذا حتى الصيغة السابقة لايقبلها الواقع الآن، لأن الإخوان (أو ماتبقى منها، ومايعبر عنها من خليط غير متجانس) تصاحبها الآن مشكلات جسيمة – ليس فقط في تفويت المراجعات الجذرية التي تأخرت سنينا، ولكن: انحسار القاعدة الشعبية، وحرق المخزون الدعوي والتربوي والسلوكي والخيري في مقامرة السلطة، والتكفير والنزوع للعنف المسلح، والانشقاقات الحالية وكذلك القابلية للتشظي عند أي محاولة جادة لمراجعة المسار السابق وظهور حقائقه.
ربما أقول – أن فترة من الزمن يحتاجها قطاعات فيها خير من الإخوان ( وليس مراجعة يقوم بها تنظيم لأنه لايريد ولايملك وغير مؤهل) – مع غيرهم – لتقوم بمراجعات وسياحات فكرية ورؤية وعلى مستوى التربية والسلوك والنظرة للتاريخ، بحيث تنتج أطرا جديدا على مستوى العمل الدعوي والاجتماعي والتربوي تحديدا..
وقل مثل هذا على مستوى الحراك السياسي أيضا – ولكن بشكل مستقل تماما.
والاستفادة من تراكم إفلاسات الواقع السياسي الحالي، وتنامي تدريجي للاحتقان الشعبي، مع انتهاز الفرصة لتقديم بديل سياسي في لحظات مفصلية مقبلة – وهذا الأهم.
الوضع الحالي، فحتى إعادة هبوط الإخوان و اقتصارها على المجال الدعوي والتربوي الصرف، يحتاج لفترة نقاهة ومصالحة ذاتية – مع تجديد فكري وأخلاقي – ومجتمعية.. على افتراض أن الحركة اجتازت مشكلات التشقق، والتفكير والعنف دون خسائر مهلكة لبنيتها وبقية رصيدها
ثالثا– وهو الأهم – حين نحكي عن الخيارات الاستراتيجية للقضية الوطنية والرسالية ثم موضعة الحركة الإخوانية (أو أي حركة) فيها، فهي مبنية أولا على تصوراتنا بخصوص الرؤية الفكرية الرسالية ، وكذلك على الفرضيات الاستراتيجية وحدودها ثانيا.
بمعنى – ثلاثية (الوعي – السياسة – الثورة) أراها غير ملائمة لا للتصور الفكري الرشيد، ولا للفرضيات الاستراتيجية المقبلة للواقع المصري تحديدا.
جانب الوعي – بمعنى إنتاجه وتجديده – في الأغلب ليس من فعل جماعات، ولكن نُخب فكرية تجديدية – قد تستفيد بتجربة الحركات (دعما ومكابدة ودرسا) ولكن هناك جدلية سننية دائمة (المفكر والحركة). الحركات تسعى للتأطير الفكري والنفسي والتطبيقي، و(محافظتها) هو سر بقائها – كما يتصور قياديوها في الأغلب. أما التجديد الفكري والبعث الحضاري، فهو انتفاضات وارتيادات في مساحات الوعي والفكر والأنسنة بطبيعتها مصادمة لأي تأطير أو التزام – دون ماتؤمن هي به من قواعد رسالة أو مصلحة وطن.
الفجوة الحضارية الضخمة – خصوصا في مجالات الفكر والمعارف السياسية والاجتماعية والاستراتيجيات وإدارة الصراع – قد يُساهم المجتمع والدولة والحركة في تهيئة الأوضاع لردمها، ولكن الدور الحقيقي هي لنُخب رائدة – تكابد بذاتها عملية التنزيل الرسالة والتدافع المنهجي والتجريبي مع الإرث الغربي مع استحضار وتكوين إمكانات التجديد لتجارب مختلفة. يمكن في جوانب الطب والصناعات والإدارة والعلوم التطبيقية – يظهر بشكل أكبر دور المجتمع والدولة في مأسسة عملية ردم الفجوة الحضارية تلك،
ولكن كذلك يصعب تصور ذلك دون وجود كوادر احتكت بالتجربة الغربية مثلا.
جانب السياسة في الثلاثية – صحيح، مع تمييز بين السياسة كتنافس على السلطة تقوم به الأحزاب، وسياسة بمعنى تدافع اجتماعي مستمر وتأسيس وطني، ودور الحركات الأيديولوجية فيه بصيانة ماتعتبره حدا رساليا لابد أن يتجلي في تعاقد اجتماعي وسياسي، وأن يُخزن في الخيارات مافوق الاستراتيجية للدولة.. ولكن هذا يكون عن طريق تدافع وتغيير
اجتماعي كما ذكرت– حتى ينفع – وليس بالتأكيد فرض سلطوي في انتظار للحظة (النصر) المزعومة.
هناك جانب لم تذكره الدراسة – مع أنه هو ماتتصدى له الحركة الإسلامية على الحقيقة!: جانب التغيير الاجتماعي والتربوي والرسالي.. ولن أفصل فيه، لأنه ظاهر، وهو
يستفيد بالشك من حراك الوعي، والسياسة، ويؤثر فيهما.
المشكلة الحقيقية في ثلاثية الدراسة – هي ماعبر عنه بمساحة (الثورة) والتصور الاختزالي والتبسيطي – أن دائرة الثورة ستقود للنصر، ثم تبدأ دائرة السياسة بعد النصر!
بداية – الثورة كخيار استراتيجي مرتبط بمدى توفر شروطه الموضوعية، ونجاح دراسة الجدوى الخاصة به، مع وجود احتمال كبير جدا للمجازفة كذلك سواء في بداية الثورة كانفجار يغلب عليه العشوائية، أو نهايتها مع إمكانية اختطاف منتوج الثورة من قبل مجاميع شمولية تبعا للنظام الساقط أو لنظام جديد.
في الواقع المصري – تحديدا – ولأمد متوسط، خيار الثورة: لاتتوافر عوامل إنشاؤه، ولا عوامل نجاحه، ولاهو بالضرورة حتمي لنجاح التغيير السياسي. وهذه نقطة أهم:
خيار الثورة هو خيار استراتيجي على الأفضل، وليس هو بالتأكيد خيار فكري لازم!
من الطرائف المرة: أن بعض المناقشات الفكرية على الإيميل حصلت بيني وبين عبد الرحمن البر – مفتي الإخوان وعضو الارشاد – قبل وبعد الثورة. ومنها: أنه كتب مقالا في أغسطس 2011 تقريبا (أي بعد ثورة يناير وقبل الانتخابات) أن (الإسلام لايقر خيار الخروج على الحاكم الظالم ).. هكذا زعم! وحينها طبعا حاولت أن أوضح خلط مقولته ومصادمتها مع قواعد الأصول والنظر الشرعي والفقه السياسي.. وأن هناك اتجاهات فقهية شديدة التنوع في هذه المسألة، وكذلك تجارب تاريخية شديدة الثراء منذ العصر الأول،
فضلا أن معطيات التغير الاجتماعي والسياسي الهائلة تلقي بظلال التجديد على فرضيات كثيرة تؤثر على الفتوى في هذا الباب: (مثلا – فكرة تعدد وتوازن السلطات في الدولة الحديثة، وتحول نظرية العصبة، وظهور الأحزاب كرؤي مقابلة، وخيارات الخروج غير المسلح ولكن الناقض للشرعية السياسية)، وكذلك أن رأيه الجازم (باسم الإسلام) هذا..فضلا عن جنايته الأصولية، يخالف حتى اختيار البنا مع أن الأخير هو حامل اجتهاد مرتبط بنسبية فهمه لمصطلح (الثورة) مثلا وكذلك للظروف الاجتماعية والسياسية في عصره، ويذهل عن التطور الحاصل في الربيع العربي والذي سمح له ولجماعته أن يتنسموا ليس فقط عبير الحرية، ولكن السلطة.
طبعا – هذا الرجل بعد فقدان السلطة، أصبح وغيره من مشايخ الإخوان ينظّرون للثورة، وتورطوا للأسف في إفتاء يشرعن الإرهاب تحت عنوان (القصاص) دون أي اعتبار للشروط الشرعية والقضائية والسياسية في مقاربة وتطبيق هذا الأصل.
وهذا مثال مرير عن موضوعنا بعدم الفصل بين مساحات الدور الرسالي، كالعلماء والسلطة مثلا – خصوصا إن قابلناه كذلك بما يحصل في دائرة النظام ومشايخه.
مالم ينتبه له القائل بأن (الثورة) خيار الإسلام، أو ليس بخيار الإسلام.. أن أقصى دور الفقيه – حتى في مسائل قطعية وليس في مسألة مختلف فيها فقهيا كالخروج على الحاكم الظالم،أن يضع الشروط الافتائية بشكل عام، ولكن تنزيلها على الحوادث المفصلة يقتضي نظرا سياسيا واستراتيجيا لايمتلكونه… ربما فقط – إذا اتفق أهل الاختصاص على تقدير بعينه ولايُفهم من رأيهم تغالب على مصلحة خاصة أو تحيز.. قد يتبرع حينها الفقيه بوضع ختمه الإفتائي خصوصا في قضايا محورية لحركة الأمة كالتحرير أو نفض حاكم غاصب.
——
يمكن تقديري الاستراتيجي لتطورات الواقع المصري، ذكرته في ورقة الجامعة الأمريكية، وهو تلاقح جملة من المسارات لابد لكل منها أن تتشكل معطياته حتى يحصل النتاج النهائي، وهي مع الوقت تدعم إحداها الأخرى في تبلورها: إفلاسات النظام خصوصا في جوانب الاقتصاد والأمن القومي، بناء عوامل موضوعية للحراك الإصلاحي والاحتجاجي دون حد (وشعار) الثورة مع انسحاب الإخوان – كجماعة – من مشهده، تطور بديل على مستوى النخبة السياسية – كاتجاهات، والأهم – كحركة وطنية تتفق على أجندة حد أدني، وهذا يقتضي مستوى للمراجعات وإعادة بناء الأطر الكادرية والشعبية، ثم مصالحة وتعاضد على مستوى الحركة الوطنية..
غير ماقد تأتنا به الأقدار فجأة، ولكن حتى هذا – يحتاج لجهد مبذول في سبيل المراجعات وبناء الحركة الوطنية – حتى لاتتكرر التجربة السلبية السابقة.
24-12-2015
في إطار الإصلاح والمراجعات، إذا كان لديك تصور في العيوب التربوية سواء على مستوى الخطط والأهداف أو الممارسة والسلوك، فأرسلها لي..ولتكن في الجوانب التربوية فقط..
لا يمكننا فصل تحليل المشكل التربوي، أو تصورنا – كمراجعة وتجديد – للتربية – كرسالة ومنهج وأدوات ومعايير إنجاز ومنتوج – عن الجوانب الفكرية والرؤوية والاستراتيجية المرحلية. وهذا شيء جوهري في استيعاب الأمر.
طبعا – بغض النظر عن اختلاف الرسالة التربوية المطلوبة تبعا لإخوان عزت أم إخوان منتصر ، فكلام بجد.. هناك أسئلة بداهة في باب الفكر، والرؤية لابد أن تُحسم وتراجع جذريا وتُجدد – ليس فقط لأنها ستحدد شق معتبر في الرسالة التربوية (على افتراض أن التربية أوسع من الترقية الروحية والعبادية والسلوكية)، كما أنها قد تغَيّر تصوراتنا حيال منهجية التربية (أدوات وأشكال ومعايير إنجاز ومنتوج).
ثم تأتي بعد ذلك المرحلة والدور الاستراتيجي لتلقي بظلالها على التربية حيث تطرح ملفات شديدة الإلحاح عليها.
على مستوى الفكر ورؤية الحركة مثلا– هل نقصد بمفهوم شمول الإسلام شمول الوظائف التي تتصدى لها الحركة الإسلامية؟ أم أن كثيرا من هذا الوظائف كالدعوي مقابل الحزبي، والأخلاقي مقابل الاقتصادي والتجاري، والعلم مقابل السلطة – تقتضي (فصلا) على مستوى التطبيق صونا للعدالة وتحقيقا لمقصودات الدين، وأن شمول الوظائف منوط بالأمة بكل تكويناتها؟
هل تكون أي جماعة من المسلمين لها أفضلية مطلقة على غيرها – كمعنى غيبي حاكم ؟ أم أنها تبقى – ببشريتها – عرضة للرشاد والانحراف، والفهم والجهل، ونية الحسن والقبيح، والبقاء والانقطاع – فلا يجوز بناء على هذا تعليق هداية ربانية بها دون المسلمين (جماعة ربانية)، أو الحكم بأصلحيتها القطعية على غيرها (هي من ستقيم الدين)، ولا تزكيتها دينيا على غيرها (الدعوة تنفي خبثها)؟
هل يجوز لنا أصوليا أن نسم خياراتنا في مشاريع الاجتماع والسياسة والدعوة بوصف (إسلامي)؟ أم أن هذا الوصف يحتكره (الشارع) لما ثبت على طريق القطع، أما مايخالجه ظن البشر واجتهادهم – ولو حتى في مسائل شرعية – فيبقى (رأيا) ولانصفه ك(إسلام)، وأن هناك مساحة واسعة من خيارات التجريب ليست منسوبة للشرع بالأساس إلا في مراعاة المقاصد العليا – ومنها حتى ما ورد من أفعال وأقوال المعصوم (سنة غير تشريعية – دائرة الإمامة والسياسة في مقابل دائرتي التشريع والقضاء .. كما عبّر الإمام القرافي)؟
هل محاولة تنزيل الإسلام سياسيا هي مطابقة لتنزيله (سلطويا)؟ وهل هي بالأساس مرتبطة برفع شعار (الشريعة) أو حتى إقامة بعض القوانين الجنائية والمدنية- أم هي تطبيق لمقصودات في أبواب الحرية وحق الأمة (بما يقتضي منع تسلط أي فئة على الحقيقة على خيارات الناس وإدارة أمورهم،وأن التولية استحقاق وأمانة، وأن العقود لازمة)، وفي باب العدل الاجتماعي (بما يفرض انحيازا لحقوق الفقراء والمهمشين ومسئولية الدولة في كفايتهم ولو باقتطاع أموال الأغنياء مايزيد حتى عن الزكاة)، وفي باب التحرر والوحدة (ضمن رؤى استراتيجية مناسبة، ولكن دون تفريط في استقلال الأمة).
حتى في بنية الحركة – تبعا لما سبق.. هل تكون التربية أداة ضمن حركة شمولية تسعى للسلطة، فتستخدم في تطويع المناخ الداخلي وأفواج الأتباع للخيارات الحزبية والسلطوية برفع عناوين تربوية ودينية؟ أم أن التربية بالأصل هي حال – وبناء – مستقل وحاكم وناقد ومصحح وأمين على كل الانحرافات الممكنة في مخالطة المجتمع والمال والسلطة؟
فالتربية تقترب من المحيط الاجتماعي والسياسي لتصححه وتراقبه، وليس بالأصل لتكون أداة طيعة في تحقيق مكاسب فيه . بمعنى أن هناك توازن بين تخديم التربية على أجندة استراتيجية في مصالح سياسية واجتماعية عامة – من وجهة نظر الحركة بالطبع – وبين أن تحتفظ باستقلاليتها النقدية والمراقبة.
وكذلك توازن بين الشق الروحي والأخلاقي في حزمة التربية، وبين الشق العملاني والفكري.. توازن وليس بالضرورة تساوي – فقد ترتفع نسبة هذا الشق أو ذاك تبعا لمقتضيات المرحلة، أو حتى خيارات الحركة ولكن هناك حدود معتبرة باقية.
وفي الاستراتيجية والمرحلية..هل تكون الرسالة والحزمة التربية واحدة في الأحوال التالية: حركة تجيش لجهاد مستعمر، وحركة تهيء لثورة شعبية، وحركة في مساحة إصلاح سياسي واجتماعي، وحركة تسعى لتصحيح أخلاقي وفكري ومراجعة تتسع وتضيق، وحركة تواجه انشقاقا استدعى فسادا في السلوك والخطاب واحتكارا للصواب، وحركة تواجه تفلت للتكفير والعنف، وأخرى تواجه تفلت في مستوى الثقة في الدين ورسالته؟
———————————————–
ثالثا – هناك احتياج حاد حاليا لتأسيس فكري، وإعادة تأسيس أخلاقي ونفسي لتجاوز مرارات ونكسات المرحلة السابقة.. هناك مشكلات كالتكفير، واللجوء للعنف المسلح لابد من تفكيكها وعلاجها – بتقعيد شرعي، ومطالعة سياسية واستراتيجية، ودرس أخلاقي.
مثلا كتاب ك (دعاة لاقضاة) لم يتم تدريسه من قبل في المناهج الإخوانية مع محوريته في فهم قواعد التكفير، على الرغم أن الكتاب نفسه يغالي في تكييف جماعة الإخوان – أنها (جماعة المسلمين – كاختيار فقهي لأتباعها).
كذلك – ترسيخ المنهجية العلمية والمنضبطة في فهم الواقع السياسي والاجتماعي، وتلمس خروقات المنهجية كالتفكير الغيبي والرغائبي والإسقاطي. كذلك – الضبط الأخلاقي والنفسي حين التعامل مع المظلوميات- أو تصوراتها، وإحياء نفسية تحمل الخطأ والنقد (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك).. هو مطلب تربوي مرحلي هام.
——————————————
أخيرا –
كما سيظهر لك من مراجعة الورقتين المرفقتين – ثم مضاهاتهما بورقة (نصيحة) التي أرسلتها لك من قبل، وكذلك ورقة (الرؤية الفكرية والاستراتيجية) التي أشرفت على كتابتها لحزب أبو الفتوح (مرفق) وإن كانت تفتصر على مشروع حزبي على قاعدة الفصل بين العمل الدعوي والحزبي.. تطور وتجدد تصوراتنا الكلية حول الجوانب الفكرية والرؤوية السابق ذكرها يحدد بشكل كلي تصورنا بخصوص فلسفة التربية ومنهجيتها.
قبل يناير 2011، كنت على قناعة بإمكانية تحقيق رؤية البنا – مع تطويرات وعلاجات فيها، بمعنى التصور حيال الحركة شمولية الوظائف التي تقود التغيير السياسي وتمارس الحكم، وعلى هذا قدرتها على إنتاج طبقات من النقباء والركائز كتمثل رسالي فضلا عن ضرورة قيادة وتربية.. وإن كانت تجربتي في السنين التي سبقت 2011 حكمت بشكل سلبي – ليس فقط بخصوص إمكانية تحقيق هذا في حركة الإخوان بكل مافيها من تجريف تربوي أصاب أجيالا متعاقبة، ولكن بإمكانية – أو سلامة – طلب هذه النواتج والطريقة في العمل الإسلامي من الأساس!
تصوري الذي تطور – سريعا- بعد يناير 2011، حسم بلاشك مسألة شمولية الحركة إلى جعلها مجموعات عمل اجتماعي وتربوي ودعوي وسياسي (بالمفهوم الوطني والقومي وليس التنافس على السلطة)، وعلى هذا فيسهل تطبيق حزمة التجديد التربوي سالفة الذكر.
وعلى هذا – تغير تصوري لمنهجية التربية ذاتها، وليس فقط رسالتها. أصبحت رافضا بشكل كبير لمسألة المستويات التربوية مثلا – والتي تتعدى على جوانب شرعية وأخلاقية ونفسية، وكذلك للتساهل والانتقاء في تخريج نقباء و(مربين)، والاعتباط في دفعهم لممارسات تأهيل معرفي وعلمي وفكري هم يفتقدون بديهياته، وحتى للوسائل التربوية و-مسمياتها خصوصا الكتيبة.
أدوات التربية المطلوبة – هي مدارس علمية متخصصة، ولامانع من وضع مستويات فيها، وندب أهل تخصص في إعطاء موادها، وبشهادات.
وتُكمّل هذه – بمجالس ذكر وتصفية جامعة يقوم عليها كذلك نفر قليل من أهل التربية المتخصصة والذوقية.
ويبقى نشاط (الأسر) في الأحياء كنشاط اجتماعي دون مستويات – مع بعض الاجتماع للذكر، والدعوة المسجدية والاجتماعية.
، وتدعم كل هذا بعد ذلك – مدرسة للدعاة – لمن سبق لهم الترقي التخصصي.
أما المستويات التربوية – والتقييمات التربوية – فمؤاخذاتها الشرعية والتربوية والخلقية كما ذكرت أسوأ كثير من أي مصلحة متوهمة منها،ـ وقياسها على مراتب التحديث وعلوم الرجال هو قياس مع الفارق لدرجة الإضحاك.
ومنهجية تربية – كسالفة الذكر – هي قريبة مثلا من طريقة (جماعة العدل والإحسان) المغربية، وأراها أكمل في الجانب الروحي والسلوكي، ولكنها تُكمل بالتأسيس العلمي والفكري.
حوار مع أحد الأصدقاء حول الفصل بين الدعوي والحزبي ذكرني ببعض مقالات قديمة كتبتها في 2011-2012 حول الموضوع
وبالرغم من تثميني بالطبع لتجربة النهضة في تونس إجمالا ولموقفهم الأخير على وجه الخصوص مع بعض الملاحظات عليه، وأني مقتنع أن الجماعات الإسلامية تحتاج لطرح أسئلة أكثر مركزية ووجودية حتى (من مسألة الفصل بين الدعوي والحزبي) حول غاياتها وفرضياتها الأساسية وتاريخها القديم والقريب وأوصافها ووظائفها وعلاقتها بفكرة الدين وتطبيقاته.. فضلا عن البحث عن صيغ جد جديدة اجتماعية وسياسية تتساوق مع مسارات التطور السياسي الحالي واحتمالاته.. فربما لقراءة ماكتبت قديما في الموضوع بعض فائدة
حوار حول حراكات بعض القيادات الإصلاحية في الإخوان لتطوير مؤسسي وتفعيل دورها السياسي في ذات المسار
السابق، وفيه أعرض بإيجاز حدود خلافي حتى مع تلك النزعة التطويرية في الإخوان :
———————————————————-
الحقيقة أن حجم الخلاف بيني والمطروح هو جذري سواء في مساحة الأفكار الحاكمة، والرؤية الاستراتيجية وسبكها، وتقديرات الواقع، مرورا بالمنحي النفسي والخطابي.
ولا أعتقد أن التحريك الإيماني والعاطفي – خصوصا إذا تلبس بتفخيم للذات الجماعية ودورها القائم والممكن – مفيد في حد ذاته، فضلا أن يكون بديلا عن سلامة الأفكار والرؤى والاستراتيجيات والتجرد الأخلاقي.
ولاأحب الحقيقة التفصيل في نقاط الاختلاف دفعا للحرج، ولكن سأكتفي بإشارات سريعة. وعساها تكون آخر الأحزان
وأشير بداية أني لاأشعر فارقا كبيرا بين ماهو مطروح وبين ماطُرح في الثلاثة الأعوام السابقة في مساحة الفعل السياسي الإخواني وأهدافه التصورات حياله وجدواه (بالرغم من أنه فشل سابقا، ولم يحافظ حتى على ديمومته) ، وحتى بين ماهو سائد بشكل أساسي في فكر جماعة الإخوان وطريقة النظر داخلها وإليها طيلة العقود السابقة.
ولا أرتاح لأي محاولة خططية من داخل الجماعة ولها وترى مركزيتها في المشروع الرسالي والوطني (بذات الميراث الثقيل الذي أراه أهم أسباب التعثر)، وأعتقد أن الرسالة على هذا النحو جاءت للعنوان الخطأ.
وعموما – ربما لو ابتدأ الناظرون – سواء كتأسيس فكري للمسار، أو وضع بوصلة تطبيقية واستراتيجية للحراكات الرسالية والوطنية المطلوبة – بقضية الدين والأمة والوطن (الثابت)، وليس تماسك الجماعة وتمكينها .. ثم تم الانتقال بعد ذلك لمراجعة وتجديد في كل الخيارات والبنى والرؤى(المتغير) – بما يشمل كل ماله علاقة بجماعة الإخوان – لكانت الثمرة أفضل كثيرا.
******
هناك ملاحظات فاقعة سواء في جانب الأفكار (مثلا مسألة التمكين التي يتخيلها الإخوان أنها السيطرة على الدولة، وهل هذا يتفق مع أي نسق ديمقراطي أو حتى الحس الإسلامي ومقصوده في بناء النظام السياسي والاجتماعي؟! – أو بالأصل تثبيت الجماعة كعنوان ومادة لحركة الدين والوطن والحكم على أي مسارات حركية بديلة – ومتدافعة – بأنها تهديد دون فحص جدواها الرسالية والوطنية)ـ
*****
وفي جانب السبك الاستراتيجي :
الخلط بين الأهداف والاستراتيجية،
ووضع خيارات استراتيجية – أو شبه خيارات – في معزل عن ترجيح السيناريوهات والقدرات المتاحة،
أو تخيل أن فكرة إنهاك وإرباك النظام التي سيطرت على حراك الإخوان منذ يوليو 2013 هي مركز الثقل للحراك السياسي المطلوب دون الانتباه أن النظام بدأ يفقد من هالته وقاعدته فقط حين خفت حراك الإخوان لدرجة الاختفاء! وأنه كان يعتاش ويصنع هالته من هذا الحراك بشكل أساس،
وأن مركز الثقل هو تكوّن بديل سياسي وقاعدة شعبية على المستوى الوطني، تستفيد وتتدافع مع كل سيناريوهات وضع النظام وقدرته،
وأن البديل الوطني والسياسي ذاك يقتضي مراجعات جذريةمن الجميع خصوصا الإسلاميين وخروج الإخوان – كجماعة لا أفراد – من المشهد السياسي تماما بغض النظر عن الاستراتيجية المختارة في هذا المشهد)
وطبعا – المسألة التي تؤكدون عليها هي موضوع (تحالف دعم الشرعية) مع فقدان صلاحيته السياسية والتنظيمية وتناسي كونه فعلا مجرد أداة هزيلة في يد الجماعة، وبالأساس مسألة مرسي وعودة الجماعة للسلطة السياسية مع شبه استحالتها وفي ذات الوقت تفخيخها حتى لحراك الإخوان سابقا وتأثيرها على جدواه واستمراريته – بغض النظر على مدى الاتفاق حول أهدافه ومسلكه وقيادته.
الشيء الجيد الذي يثيره التفكير الجديد هذا – ولكن لم يلتفت لآثاره ولوازمه – هوأنه تلمّس الخيارات الاسترايجية (ولكن يضعها بشكل سيناريوهات لتطور وضع النظام في خانتي النجاح والفشل – وهذا سبب مهم للقصور في السبك الاستراتيجي)، صحيح أن هذه الخيارات جزء كبير في تشكلها هو نتاج التقابل بين موقف الحالة الوطنية ووضع النظام ووضع الحال الشعبي – بالأساس تبعا للنتائج الاقتصادية والسياسية والأمنية،
ولكن من المنظور الاستراتيجي: المُضي في كل حالة يعتمد بشكل كبير على توفر الموارد وقبلها (الخيار الاستراتيجي نفسه) للمضي في هذا أو ذات تبعا لاستشراف تقابل القدرة والتطورات.وعلى هذا مثلا فاستدعاء حالة (الثورة) – ومن أول يوم! – دون توفر مقوماتها هو مأزق استراتيجي كبير وتناقض اضطر أي محاولة تطويرية من داخل الجماعة لمتابعة الوقوع فيه – بوعي أو بدون.
*****
وفي مسألة العنف والإرهاب تحديدا (وهي ليست فقط مسألة ذات خطر استراتيجي عام، ولكنها في صلب الخلاف والتفتت الداخلي عند الإخوان) فالقضية شائكة.. لايُنتظر من أي تصور خططي أن يُفصل فيها، ولكن كان مهم بالإضافة للإشارة على السلمية (الفاعلة!) – وهذا شيء محمود – تناول موجز لمخاطره الاستراتيجية.
لكن مواجهته للأسف تقتضي فك ميراث ثقيل، يصعب على قيادة الجماعة التاريخية دفع ثمنه .
المشكلة لم تكن فقط في التكييفات الشرعية السقيمة والمستدعاة، أو أوهام الجدوى الاستراتيجية، أو حتى التدحرج من السلمية (الفاعلة تلك!) للقصاص ثم أبعاد أوسع وهلاوس حرب العصابات والثورة المسلحة عند الشباب- مع موقف لاأخلاقي من مسألة الإرهاب منذ البداية، ولكن في فاتورة دم واضطهاد ضخمة ماثلة أمام أعين الشباب ولايمكن ترشيد آثارها بدون تحمل القيادات لتبعات في ما مضى ممابالتالي سيحكم على حظوظها المستقبلية في استمرارها كقيادة!
******
ومع كل ماسبق..
المشكلة التي أدركها، وتقلل كثيرا من أهمية تناول ماسبق على التفصيل، أن المراجعات لابد وأن تسبق التطوير، ولكنها تقتضي نزوعا نفسيا بعينه، (أشبه بتعريف ابن القيم لحال اليقظة في المدارج)، ومقدمات معرفية ومواد تجريبية لابد من توفرها.
ويصعب علينا – جميعا – أن نُعرّض بسلاسة فرضيات (اعتبرناها بحكم تقادم العهد وإدخالها في نظرتنا الدينية وسعينا الإيماني والتعبدي ودائرتنا الاجتماعية والعاطفية – ثوابت وقواطع) لمشرط الفحص والنقد والنقض والاستبدال!
———————-
مسألة أخرى – أراها طريفة وهي قريبة من تخصصي – وهي نموذج اتخاذ القرار الذي وضعه العقيد جون بويد
OODA loop
هناك مبالغة واعتساف في اعتماد أي مادة خططية عليه.
المبدأ اشتقه صاحبه بالأساس كوصفة لاتخاذ القرار التكتيكي في العمليات الجوية، ثم تم توسعته عن طريق بعض منظري القوة الجوية – أهمهم جون واردن – ليكون أداة حسم استراتيجي عن طريق القوة الجوية عبر استهداف منهجية اتخاذ القرار عند الخصم على المستوى الاستراتيجي.
لكن هناك مآخذ عديدة وجوهرية من الكثيرين، ليس فقط انتقادهم على تسويق جدوى القوة الجوية عبر المفهوم، ولكن الأهم اختزال المعادلة الاستراتيجية وحتى العملياتية للحرب في هكذا أسلوب، وتشي التجارب العديدة أن القضية الاستراتيجية أوسع من هذا وتأخذ مسارات استراتيجية واحتمالات أعقد.
بل حتى في اعتباره نموذج لاتخاذ القرار وليس وصفة استراتيجية – فيه قصور شديد أيضا.. على المستوى التكتيكي يكون عند متخذ القرار بيئة محدودة واحتمالات قليلة للفعل ورد الفعل، وهو كذلك يتحرك بقواعد اشتباك ونحو أهداف تكتيكية (مادية) محددة، ولكن على المستوى الاستراتيجية ترد كل أشكال التعقيد: الآثار الاستراتيجية في أغلبها غير مادية يصعب إدراكها أحيانا وتوصيفها غالبا والتعبير عنها كميا دائما، الخيارات الاستراتيجية ليست ثابتة وتتغير بشكل مفاجيء تبعا لتطورات غير متوقعة غالبا، بمعنى لايوجد (دوكترين) أو
Know how
كما الحال في بيئة التكتيك وحتى العمليات
ثم البيئة الاستراتيجية تتحرك فيها عوامل كثيرة، والخيارات الاستراتيجية بالأساس تتأثر بشكل كبير بفرضيات فكرية وأيديولوجية إيجابية أو سلبية، وبنوازع نفسية عميقة مُسهلة أو صادة.
ومن هاتين النقطتين، يتعزز ماذكرته سابقا سواء فيما يتعلق الخيارات الاستراتيجية في الحالة المصرية في مسألة انهاك النظام والتأثير على اتخاذه للقرار، أو ضرورة المراجعات الفكرية والنفسية قبل الدخول في ديناميكيات اتخاذ القرار وتطويره عند أي جماعة أو مؤسسة.
———————————————–
أخيرا – كل ماسبق لاينفي إطلاقا دعائي للجميع بصدق المقصد والتوفيق والرشاد في أي مسعى، وأن يلهمنا الله مثله