حوار حول العقيدة القتالية الأمريكية للمفهوم العملياتي المشترك للردع

متابعة لمسألة استراتيجية الردع وسد النهضة، هل هناك أدبيات تحكي عن المستوى العملياتي للردع؟
وما رأيك في العقيدة القتالية (الدوكترين) الأمريكي حول مفهوم العمليات المشتركة في عمليات الردع المرفق هنا؟

https://www.jcs.mil/Portals/36/Documents/Doctrine/concepts/joc_deterrence.pdf?ver=2017-12-28-162015-337

الحديث عن مستوى العمليات في الردع (سواء النووي أو التقليدي) ليس شائعا في الأدبيات الاستراتيجية لأن ملف الردع يتم اعتباره من بابه ملفا استراتيجيا.
أما العقيدة الأمريكية في المفهوم العملياتي المشترك (على مستوى المسرح والحرب المشتركة) لعمليات الردع هو حالة خاصة – إيجابيا وسلبيا،

إيجابيا – المذهب الأمريكي انحاز لتوسعة مفهوم فن العمليات عن إطاره التقليدي (سواء بمفهومه السوفيتي القديم القائم على المناورة، أو توسعته ليشمل الجمع بين نثريات التكتيك ليحقق نتيجة عسكرية متماسكة على مستوى الحملة أو المسرح)، ليشمل كل نثريات التنزيل التطبيقي للخيار الاستراتيجي، بالجمع بين خطوط عسكرية وغير عسكرية. وأول مرة يقوم الأمريكي بهذا كان في العقيدة القتالية لمكافحة التمرد في 2006.

سلبيا – مشكلته أن ضمّن مفهوم العمليات كثيرا من الاعتبارات الاستراتيجية.
وفضلا عن عدم وجود التأهل والتفويض السياسي للقيادة العسكرية العليا – فضلا عن قيادة مسرح العمليات المشتركة – للقيام بها، ستجد كثيرا ضياع العلاقة بين السبب والنتيجة، الهدف الاستراتيجي المتغير ضمن شروط التقييم الاستراتيجي،
ومفهوم وخطط العمليات التابعة له ولكن كذلك التي تتغير تبعا لاعتبارات البيئة العملياتية. وهي مشكلة معتادة في العقائد القتالية الأمريكية عموما وليس فقط في عقيدة الردع، وإن كان أثرها هنا أشد!

نعم.. عدم التأهيل السياسي فعلا مشكلة لكن أظنها في الردع أسهل في الإحاطة بها (حتى فيما يتعلق بالمستوى العملياتي الأعلى) من القتال الفعلى (الحرب).. أليس كذلك؟

طيب.. هل تعتقد أن التفكير السياسي، ودقة استيعاب تعقيدات البيئة السياسية والديبلوماسية، والتي تحكم على آثار مفرد الردع، أوسع في الردع – حتى لو التكتيكي/التقليدي، أم أضيق بالمقارنة بأنماط استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر؟ بالتأكيد أوسع، وهذا أعلى من مدركات وتفويض القيادة العسكرية

هذا لأن البيئة السياسية التي يحصل فيها الردع، ويرتبط بها فهم آثاره، وطريقة توصيل الرسائل ومتابعة الرسائل المقابلة، وبناء مخروط تصاعدي وتقابلي في طريقة استخدام الأدوات – والدمج بين العسكري والديبلوماسي والاقتصادي والإعلامي والتحالفي.. كل هذا يجعل
1- الأمر لا يمكنه بحكم التأهل والتفويض (أي امتلاك القدرة على تحريك الأدوات) من مهمة القيادة العسكرية.
2- هناك تعقيد بين بناء القدرات، ونشرها
Deployment
، وأنماط تفعيلها بشكل دقيق ومحسوب.. غير مُعتاد في التفكير والممارسة العسكرية التقليدية.

كذلك، منطق عمليات الردع، كتعيين وتطبيق، هل هو مسئولية القيادة العسكرية بالنظر أنه يشتمل على أدوات كثيرة غير عسكرية؟ بالطبع لا

ثم راجع كثيرا ما وضعه الدوكترين كمفهوم عملياتي.. هل هو فعلا كذلك؟ مثلا أنماط الردع بالإكراه وال
Denial،
أو رفع التكلفة.. هل هذا فعلا المستوى العملياتي؟
بمعنى أدق.. هل الردع (عملية) كما عنونها الدوكترين، أم هي خيار استراتيجي شامل، وله شق عسكري، وتحته منطق عملياتي في التشبيك بين الخيارات العسكرية وغيرها – كنسق عملياتي أعلى، ثم أكثر تخصصية وتفصيلية في كل مساحة؟

ولكن أليست العمليات كتطبيق هي مسئولية العسكري؟

.لا! فقط تطبيق الشق العسكري منها (والذي يشمل أنماطا مختلفة ومتدرجة من النشاط العسكري – البناء والانتشار والتفعيل).

نحن بهذا نتغافل عن الإيجابية الأهم في تلك العقيدة الأمريكية وهي توسعة مفهوم فن العمليات ليشمل أدوات عسكرية وغير عسكرية، وأنماط مختلفة من التعامل مع الأداة العسكرية تتجاوز منطق التوظيف المباشر!

لكن مرة ثانية.. مشكلة تلك العقيدة أنها حين تتعامل مع الردع كإطار عملية مشتركة، فهي تتجاهل فعلا المنظور الاستراتيجي، وغالبا ستُفسده لأن غلبة التفكير العملياتي العسكري ستحصل.

مع إن الدوكترين فعلا أوضح مفهوم الردع وخياراته (المشكل أن كثير من هذه الخيارات يتم صنعها في مستوى الاستراتيجية).. ووسّعت مفهوم العمليات ليشمل الأدوات المختلفة – وهذا جميل .

ومن هنا التناقض!
فكان الأفضل أن يُميِّز بين المستويين الاستراتيجي والعملياتي. ثم يتحدث أن مستوى العمليات قد يكون على المستوى الشامل (وهذا تنخرط فيه الأداة العسكرية مع غيرها وتنشغل بتطبيق الخيارات الاستراتيجية.. مثلا خط التطويق العسكري والذي قد يشمل أدوات ديبلوماسية واقتصادية وتنموية فضلا عن عسكرية بنائية وانتشار وتوظيف)
والعمليات العسكرية الصرفة – كمستوى عملياتي أدنى وأكثر تخصصا.. (ملابسات الوظائف العسكرية السابقة فنيا وتطبيقيا)

لكن حين يُدخل الدوكترين المنطق الاستراتيجي في العملياتي، فهو:

1- جعل المستوى الاستراتيجي من مسئولية القيادة العسكرية المشتركة، والتي تفتقد التأهيل والتفويض الحقيقي للقيام به

2- خلط بين الوسائل والغايات، مما يُفقدنا حساسية مراجعة الفرضيات من فوق لتحت (الاستراتيجية تحكم منطق العمليات، وإن كانت لابد أن تُراجع حين تتغير بيئة العمليات بشكل يُعوّق التطبيق..
كمثال بسيط، تأخذ خيارًا بانتشار بحري في مضيق باب المندب وخليج عدن، بأدوات هجينة وتمتلك القدرة على دعم عمليات جوية مثلا، وفي ذات الوقت تدعم نفوذا عسكريا وسياسيا في القرن الأفريقي. .
هذا الخيار قد نُراجعه استراتيجيا، بتطويره أو تقزيمه تبعا لملابسات البيئة الإقليمية مثلا والأهم – مدى تلقي الأثيوبي له ورد فعله. حينها لابد أن يتغير منطقه العملياتي فورا. ولكن، لو جعلت الأمر مجرد (عملية) يقوم بها المُكوّن العسكري فأنت تفقد هذه الحساسية السابقة وتوابعها الضرورية. وهكذا

للمراجعة:

حول استراتيجية الردع والديبلوماسية القسرية: خيارات مصر وسد النهضة

حول فن العمليات، وعلاقته بالاستراتيجية


مقال – اتفاق المصالحة والخرق البنيوي بالحركة الوطنية الفلسطينية: تقويم استراتيجي

11/3/2021

مع التطوّر الأخير تبعا لاتفاق المُصالحة الفلسطينية بالقاهرة والذي يقضي بانتخابات تشريعية ورئاسية على التوالي، تتباين التقديرات حول مدى جدية الأطراف في تنفيذ كل مراحله (خصوصا طرف السلطة)، ثم قدرته فعليا على إنهاء الانقسام وتبعاته المتضخمة، أم العكس – ترسيخه بتطوير فواعل الشحن الفصائلي والتنافس على مقدرات سلطات زائفة – يسيطر الإسرائيلي على قطاع منها حرفيا وأمنيا، ويستوعب الأخر بمُحددات الحصار والخنق الاستراتيجي.
ولايُمكننا مُقاربة هذا الشق الفرعي إلا بإعادة النظر لطرح تقويمي شامل للحركة الوطنية الفلسطينية ومسارها التاريخي والحالي، لفهم طبيعة الإشكال – وهل هو فقط في كيفية حل مشكلة تنازع الصلاحيات وشرعية التعبير عن الداخل، أم يتعداه للمساق السياسي والاستراتيجي وبشكل أكثر بنيوية.

ومبدئيا، تبقى القضية الفلسطينية في نظر أجيال متوالية بأمتنا لها مركزية في السبك العاطفي والفكري بل والاستراتيجي لها، مهما تراكمت على قارعة أمتنا كوارث ضربت بناها الوجودية والحيوية، كملفات ومراكز ثقل جغرافية – انهيار سورية والعراق وتهاوي دور مصر، وتصاعد الاستلاب الإقليمي والدولي لمقدراتنا، وبالأخص تعملُق النفوذ الإسرائيلي وحرية حركته بالإقليم.

وهذا لأن النظر الاستراتيجي بذاته يقضي بالوحدة الموضوعية والتبادلية بين الملفات. فلسطين تمثل بؤرة ومورد الصراع على بناء أمتنا والسيادة على فضائها، والتعبير الأساس عن الصعود والانخفاض فيه. وفي ذات الوقت، فلايمكن تصوّر أي صيغة للحسم لهذه القضية المركزية دون تحول نوعي في كل من الإرادة السياسية والقابلية الاستراتيجية لهذه الأمة بدوائرها في دول الطوق ومايردفها بالخلف من طبقات جيواستراتيجية مساندة.

وعلى هذا، فبالرغم من اعتزازنا الأصيل بكل حركات نضالنا في فلسطين، سواء المتقدمة زمنيا (فتح والجبهتين بالأساس) ثم الطبقة التالية (حماس والجهاد الإسلامي)، وبغض النظر عما قد يقود تقييمنا القيمي والاستراتيجي لمسارها التاريخي الفائت من تباين، فإن الاشتباك المباشر في محاولة اقتراف هذا التقييم وتطويره لصيغ من التصويب وطرح التصورات، ليس تطفلا فضلا أن يكون تعاليا. فمن جهة هو واجب وطني ورسالي لايمكننا التقهقر عنه توقّيا للوم، وثانيا – الوحدة الموضوعية والتبادلية المُشار إليها، وثالثا – ضرورة إرساء العُرف التقييمي والنقدي كقيمة مُحورية لتصحيح المسارات وتطوير الموارد البشرية والمؤسسية الضخمة لأمتنا أن تقود لقابلية حقيقية في الصحة المؤسسية والقدرة على صياغة الرؤى والاستراتيجية محاولة للتفلُّت من تحكمات ميراثنا التاريخي النكد بنتائجه المعلومة.

ولا يُمكن في هذا الحال التعلُّل بأن أهل مكة أدرى بشعابها، لأسباب: فهناك تشابك الملفات كما أسلفت، كذلك فإن ضعف القدرة التحليلية بالمنظور القيمي والاستراتيجي للدول والحركات العربية لم يكن غالبا بسبب المُشكل المعلوماتي ولكن ضعف الجدية والمُكنة الاحترافية والنزعة النقدية، بل كثيرا ما يُصاب أصحاب الشأن بالعمى التحليلي تبعا للانحيازات أو التخبط في طوفان الأحداث الآنية. كذلك، فإن ما نطرحه بالأخيرهي  آراء بشرية وتصورات تُضاف لماكينة النقاش داخل أمتنا، وليست تحكمية. وبالعكس، كلما تم إثراء هذا المخزون التحليلي أمام عناصر صنع القرار بالدول والحركات، وحتى في الإطار العام بشكل أوسع، كلما كان هذا في صالح قضايانا. بل إن من مظاهر المأزق الإدراكي والنفسي الذي نعيشه هو الاضطرار بشكل غالب إلى إعادة التذكير بتلك البدهيات قبل أي تناول نقدي لمسار حركاتنا ودولنا.

الفكرة الأساسية هنا، أنه بالرغم من تثمين أي جهد ومنتوج يُظَنّ منه تقريبا لحل الانقسام بين غزة والضفة – فتح وحماس، فإن الاتفاق الأخير بالقاهرة حول البدء بالانتخابات التشريعية ثم الرئاسية، هو أبعَد ما يكون من منطق الحل، فضلا عن علاج الخلل البنيوي في جسد الحركة الوطنية الفلسطينية وعجزها التاريخي والمستمر عن تطوير رؤية سياسية واستراتيجية فاعلة، وعلاج الوضع الكارثي الذي يدفع بنا فعليا لنقطة تصفية القضية الفلسطينية في ظل واقع عربي متهاوٍ بالأصل، بالأخص مع الاختراق الإسرائيلي استغلالا لما نتج عن مرحلة الربيع العربي من تهاوٍ لسوريا ودور مصر (الذي اقترب بشكل فادح من الإسرائيلي تبعا للمشكل السيناوي)، واختراق للخليج (تبعا لتطور النفوذ الإيراني الإقليمي وقد مكّنته السياسة الخليجية المنفلتة في سوريا ثم اليمن).

وبشكل جلي، فإن حالة الانقسام الحادة تلك، تمثل أفضل وضع استراتيجي لإسرائيل عن أي خيار آخر، كما يُدرك بسهولة أي متابع للمجتمع الاستراتيجي بها، ليس فقط لأنها تضمن الضفة لصالحها بما لها من ميزان جوهري سياسي واستراتيجي للصراع، ولكن التقليل بشكل مُعتبر من مشكل غزة ضمن صيغة ردعية يتم إعادة ترميمها من حين لآخر بمنطق العمليات بين الحروب كما تنص العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلي 2015، ودون الاضطرار لتحمل تكلفة احتلال عسكري كإدماء بشري ومواردي. خصوصا مع اضطرار حماس دوما للرضوخ لمنطق الإكراه – مهما تطورت قدرتها العملياتية على الإيذاء – تبعا لخنق غزة ومسئولية إعاشتها. وبالنظر لافتقاد إرادة وطنية فلسطينية تبعا لهذا الوضع (ارتهان السلطة ومكونها الفتحاوي في صيغة التبعية الأمنية والاحتلال المباشر لإسرائيل، واضطرار حماس للتموضع بالمحور الإيراني والقبول بالابتزاز المصري مع التفاتات – تبعا لتركيبتها القيادية – لوهم محور قطري تركي/إخواني انقضى بعد مرحلة الربيع العربي)، وأيضا لما تراكم مع هذا الانقسام مع مخزون من المرارة والاحتراب تبعا لتصفية وخروقات أخلاقية تبادلية في كل من الضفة وغزة، فضلا عن تكرُّس واقع مُعيق لأي اتفاق مصالحة كما حصل في كل المحاولات السابقة بدءا من 2007 حتى 2017 :أعني ملفات كالقوى الأمنية وتسكين الفصائل بها، وهيكل الموظفين الذي تضخم لصالح حماس في غزة وفتح في الضفة، ثم أيضا وضع حماس في الضفة خصوصا مع التنسيق الأمني، ووضع أي فصيل عسكري ممكن لفتح في غزة مع سيطرة حماس.

غير أن مشكلات الانقسام وماتبعها هي في الحقيقة عارض ومحصلة عن مأزق أعمق له مساحتان: الأولى في الإشكال السياسي والاستراتيجي في سلوك المقاومة الفلسطينية كرؤية وخيارات، والثانية في بنية الحركة الوطنية ذاتها وهي الضرورة الوجودية لتخليق وتطبيق هذه الرؤية ابتداء، فضلا عن التكامل والتنويع بين مساحاتها التي قد تتناقض في التمظهر ولكن يُمكن الجمع والمناورة بها على مستوى الاستراتيجية الأعلى.

مأزق الرؤية السياسية والاستراتيجية:

بالرغم مما مثلته فتح من إعادة لمركزية القضية الفلسطينية ووعد – لم تقدر على الالتزام به بسبب ضغط مسارات الحوادث التي فاقمتها خيارات استراتيجية خاطئة بأكثر منه نية مسبقة – بعدم الانشغال بالاحترابات الداخلية والبينية، إلا أن الإشكالات الفكرية والمؤسسية والتطبيقية في مسارها الاستراتيجي كانت فادحة. النقطة المركزية أن المنطق الاستراتيجي لحركة المقاومة، هو تكرسه في الشق الدفاعي بمتوالية عمل غير نظامي تتحيد به القوة العسكرية النظامية للخصم، وتتوسع مع الوقت القاعدة الشعبية اللازمة للتعبئة والحماية – بمنطق الإنجاز وردود فعل الخصم، مما يُمكّن من إدماء قوة الاحتلال على مسار زمني، فيدفعها للتنازل عن أهداف – ليس وجودية ويتحقق إنجاز سياسي. وهذا يقضي أن أقصى ماتطمح له المقاومة استراتيجيا  في حال إسرائيل هو القيام بدور نوعي أو أهداف سياسية غير راديكالية، وأن يكون مركز الثقل الاستراتيجي هو الشعب تحت الاحتلال، والعملياتي – الأرض المُحتلة. ولكن هذا لم يأخذ نصيبا من اهتمام فتح إلا فترة واهتمام محدودين بُعيد حرب 67.

وحين تبنت مبكرا فتح – والمنظمة عموما – منطق حرب الحدود المحدودة، كانت قائمة أول الأمر على فرضية استراتيجية مغلوطة، وهو استقدام الحرب النظامية، الفرضية تحققت، ولكن نتاجها كان كارثيا كما هو معلوم. وبعدها، كان منطق التعبئة السياسية والعسكرية والمواردية لتكريس فكرة (الدولة!)، والضغط على المجتمع الدولي هو الحاكم خلف هذا النمط، وكذا الإرهاب الاحترافي كما حصل في حملة خطف الطائرات، ولم يكن هذا متناسقا مع جملة الأهداف السياسية المطروحة التي تقتضي نسقا استرايتيجيا وأخلاقيا مُغايرا، ولا متناسقا مع احتكار الإسرائيلي للفضاء الجيواستراتيجي في هذا النمط من الحرب الذي يُمكّنه من التصعيد العقابي دون حاجز خصوصا بعد 75، كما فعل في 82 عند حصول بعض التقارب بين المنظمة والأمريكي.

وكان يقتضي كل هذا من المنظمة، سلوكا استيعابيا وتفاهميا مع الأنظمة والشعوب التي تحل فيها (الأردن ثم لبنان)، لأنها في الأخير مادة الأفق السياسي والاستراتيجي في هذا النطاق، وكان من الممكن خلق ظروف سياسية وشعبية، بغض النظر عن الإرادة السياسية للنظم، بجعل عمّان وبيروت أشبه بدور لاجوس، إن كان من المستحيل والسخيف – اعتبارهما هانوي، وفتحلاند (إذا استعرنا بعض المفردات من حرب فيتنام التي سادت في الخطاب الفلسطيني المقاوم تلك الفترة) .

ولكن بعد كارثة بيروت، رجع بعض المنطق الاستراتيجي الفائت وبدأ الاهتمام ينصب على حركة الداخل، وبالفعل – أشعلت فتح الانتفاضة، والتي شهدت مولد حركة حماس من رحم الإخوان المسلمين كذلك. وأحرزت الانتفاضة أثرا استراتيجيا ضخما، وعجز الإسرائيلي فعليا عن التعامل معها لأنها نمط شديد الجدة على منظومته، ولكنها فقدته سريعا بسبب الانهيار الإقليمي لأي مَنَعة عربية متبقية، ودور فيه بعض الاستقلال القومي بعد حرب الخليج. وهنا يتبيّن أكثر، طبيعة العلاقة المتداخلة والارتجاعية بين ماتحدثه الوحدات الوطنية من آثار استراتيجية ما، يُمكن توظيفها بشرط وجود سياق تحالفي ونظرة استراتيجية فوقية لبناء حيز من السيادة، واحتياج الأولى بالأساس لهذا الإطار القومي من ناحية أخرى لاستدامة مكاسبها الاستراتيجية وتكثيفها كمنتوج سياسي ملموس.

أما حماس فقد انخرطت مبكرا في سياق استراتيجي للحرب غير المتماثلة مع افتقادها للقنطرة الاستراتيجية الداعمة وحرية المجال السياسي والتحرك العسكري كحالة حزب الله، وإن استفادت من تحويل الدعم الخليجي عن المنظمة بعد موقف الأخيرة من حرب الكويت، وبقيت الجهاد مدعومة بالكامل إيرانيا. وكلاهما اضطر لخوض مسار بنائي عصيب، من ناحية كان عليه التملص من الضربات الأمنية لسلطة أوسلو، ولكن أيضا – خصوصا قبل هدم إسرائيل ذاتها لاستحقاقات أوسلو – ضرب الشرعية السياسية لمشروعها حيث أن هناك مسارا بديلا وقليل التكلفة لتحقيق هدف الدولة. ولكن مع انفجار انتفاضة الأقصى،

وبالرغم من عدم وجود رؤية استراتيجية طويلة الأمد  لحماس– غير القيام بدور تجذير المقاومة انتظارا لمتغيرات غيبية في الفضاء الإقليمي كما نص ميثاقها القديم، إلا ان استراتيجيتها تجاه الأهداف قصيرة المدى كانت أفضل كثيرا من المنظمة وفتح، وكانت أكثر تعبيرا عن فلسفة حرب المقاومة التي تدرك أن مركز الثقل الاستراتيجي والعملياتي يبقى الأرض المحتلة وشعبها. وبالفعل، اجتازت فترة التسعينات الصعبة، وقادت انتفاضة الأقصى – بما فيها كتائب فتحاوية انحازت لخط حماس، وبدعم من عرفات قبل استشهاده، ونتج عن هذا إنجاز واضح بانسحاب شارون من غزة.

ولكن بعد 2005، قاد افتقاد الرؤية وعدم تطويرها مع الوضع الناشيء وكذلك افتقادها لنخبة قيادتها، الى سلسلة من المواقف شديد الخطورة على منطق استراتيجيتها العسكرية قصيرة الأفق.. فبدل أن تستفيد حماس من الانجاز الاستراتيجي واللحمة المُستجدة بين فصائل المقاومة – وفيها قطاعات فتحاوية – لتطوير زخم سياسي ضاغط لتعديل هيكلي في منظمة التحرير ومايتبع ذلك من شق استراتيجيات شاملة وعسكرية مناسبة (وتلك فرصة أُهدرت في لحظة فارقة) – اختارت مسارا فجر مأزق الاستقطاب الحاد.
دخول الانتخابات المحلية ممكن تسويغه، ولكن دخول انتخابات البرلمان وعلى كل المقاعد، ثم التورط في تشكبل الحكومة، ثم الحسم لماهو متوقع من صدام سلطوي مع فتح، وبهذا السيطرة على غزة والمسئولية عن إعاشة مليوني مواطن في وضع جيوسياسي واستراتيجي يتحكم فيه اسرائيل مع نافذة محدودة على مصر، وكذلك الاضطرار للانضواء في محور إيران لضمان الإعاشة المادية والعسكرية بما له من آثار سلبية على مستوى الإقليم، وترك الضفة بالمقابل بعد سياسة اقصاء فتح في غزة.

هذا الوضع سلبي من ثلاث نواح.. أولا) ترك الضفة لصالح غزة والأول هي الأخطر ألف مرة في القيمة الاستراتيجية وأفق الصراع، ثانيا) استنسخ نفس وضع المنظمة في لبنان ومعه انهار منطق حرب المقاومة ليصبح حرب حدودية مع قوة عسكرية أدني وزاد سوءا عليه ان حماس هي من في خانة الابتزاز وليس إسرائيل بسبب المسئولية الجفرافسياسية والإعاشية، وثالثا) بناء مواقف إقليمية بناء على هدف بقاء سلطة غزة وليس بالضرورة المصلحة الاستراتيجية لمشروع مقاوم له رؤية واضحة.. وكذلك ذلك الاهتمام الأكبر بتمكين السلطة في غزة أكثر من الدوران حول بوصلة المقاومة.. ظهر هذا جليا في حملة 2009 التي صوّرتها انتصارا لتحافظ على رصيدها الداخلي وهي بالكاد تقدم استراتيجي لأن هناك عدم تحقق لهدفي حماس في الحملة : تمديد الهدنة للضفة وفتح المعابر بالرغم من بؤس الاستراتيجية الإسرائيلية حينها، ولكن لأن القيادة الثلاثية طرحت أهدافا راديكاليا – كاستهلاك انتخابي – بحيث يقود الفشل المتوقع في تحقيقها لتقدم استراتيجي لصالح حماس بالضرورة.

وبسبب هذا المأزق الاستراتيجي في غزة، فأي تطوّر جزئي للطرح الاستراتيجي إسرائيليا، كما حصل في حملة 2014 حين تمظهر الهدف السياسي بشكل معقول لترميم حاجز الردع، وبالرغم من تطور نوعي حقيقي تكتيكيا وعملياتيا لحماس (عمليات الأنفاق والكوماندوز ومديات الصواريخ)، يُصعّب إمكانية ترجمة ذلك لمكسب استراتيجي واضح. انتهت الحملة بشبه تعادف: قبول إسرائيل لمبدأ التفاوض تحت الصواريخ على غير ما قرّرت، وتنعيم جزئي للحصار، ولكن بقاء معادلته الأساس وتكريس شريط عازل.

يظهر من هذا الاستعراض الموجز عُمق إشكال الرؤية السياسية والخيارات الاستراتيجية، والذي قاد لهذا الوضع البائس وتكريس الانقسام، مع التناقض الحاد بين رؤيتين تغيب عنهم إمكانية وفرصة التحرك للأمام: خيار التفاوض للدولتين في واقع إقليمي تم اختراقه إسرائيليا، وحتى مع حكومة بايدين وغياب الكابوس الذي مثلته حكومة ترامب، فإن الإسرائيلي أبعد تماما عن أي تفاوض حقيقي فضلا عن التنازل لمكتسباته في الضفة وغور الأردن (السيطرة الأمنية، والمستوطنات) فضلا عن القدس. وخيار حماس بإبقاء إمارة غزة مع التعرض المستمر لحملات استعادة الردع الإسرائيلي وبقاء معادلة الحصار والابتزاز من المصري.

مأزق بنية الحركة الوطنية الفلسطينية:

لكن القضية الأخطر، هي غياب جسد حقيقي للحركة الفلسطينية، فضلا عن أن تتطوّر معالم قابليته الاستراتيجية في البُنية المعرفية لفهم الصراع ومنطقه، والمأسسية (صنع بيئات اتخاذ قرار بشكل نقدي وشامل وديمقراطي، ويُمكن التوازن  فيها بين الخيارات السياسية والعسكرية، والتوظيف الاستراتيجي لخطوط العمليات والتكتكيك)، والتطبيقية (جودة الخيارات ذاتها والقدرة على تطبيقها ومراجعتها).

قد يظهر نظريا أن الفرصة المُثلى لإعادة تكوين هذا الجسد هي في موجة يقظة للفصائل الفلسطينية – خصوصا فتح وحماس – لمراجعة المسار السابق بكل إشكالاته الأخلاقية وتكرس الفصائلية – حتى داخل كل فصيل!- والخيارات السياسية والاستراتيجية الخاطئة، وصولا لبناء عقد سياسي مُستجد للحركة الوطنية وجسدها، وحينها يُمكن تطوير أهداف سياسية مرحلية، واستراتيجيات ترتكز على الوحدة والتكامل بين الضفة وغزة والخارج وداخل الخط الأخطر– مع التنويع والتوظيف لخطوط عمليات مُقاوِمة مسلحة وشعبية ونضال ديبلوماسي.. وحينها يُمكن إعادة تعريف حدود التحالف مع القوى الإقليمية والتعاطي معها على قاعدة أكثر استقلالية واستفادة للمشروع الوطني. وبلاشك – ستبقى القدرة على تطوير نمط لحسم الصراع أسيرة للتغيرات السياسية والاستراتيجية في الساحة العربية بكل إشكالاتها.

ولكن ربما يتبدى لنا، بالنظر للضمور الهائل في بنية وموضعة حركة فتح (خصوصا تياري عباس ودحلان) وارتهانها لمنطق السلطة تحت الاحتلال، ضرورة شق خيار آخر ينحاز لفكرة الحركة القائدة ومركزية حركات خط المقاومة (حماس والجهاد والجبهتين، واستمالة فصائل بفتح)، بما يقتضي تطوير وحدتها السياسية والاستراتيجية، ثم الضغط على فتح لتحوير بنية منظمة التحرير، أو إنشاء قيادة مرحلية جديدة لا تكون بديلا عن المنظمة وإن تقود السياق الحالي حتى تتغير الأوضاع. من النقاط الإيجابية لحماس ما انحازت له وثيقتها المُستجدة من إعادة الاعتبار لمركزية المنظمة. وفي هذا السياق تبقى جملة من الخيارات الاستراتيجية العُليا والعسكرية:

  • إما حل السلطة رسميا في غزة، ودعوة أبومازن للدخول ولكن ضمن صيغة تفاوض ضاغطة للحفاظ على الأسبقية الأمنية لحركات المقاومة.
  • تفويض حماس السلطة الذاتية للجنة محلية توافقية لإدارة القطاع. وقد تلجأ لهذا الخيار حتى يحصل الخيار الأول.
  • بمعنى – أن تعود كحركة مقاومة صرفة، وجناحها السياسي لاينشغل بغير ملف النضال السياسي للتحرير، وملف إعادة تشكيل منظمة التحرير لضبط البوصلة السياسي، وإعادة تعريف حدود ومنطق التحالفات الخارجية.

من منظور الاستراتيجية العظمى – أقصى مايُمكن تحقيقه مرحليا هو وضع يسمح بتطوير الكيان السياسي الفلسطيني، ويُصقل إمكانات ودور المقاومة – في كل من الضفة وغزة معا – لتحقيق قدر من توازن ردع يحتفظ بمساحة للمناورة والمبادأة بحيث يفرض على الإسرائيل التعايش مع صيغة سياسية (غير نهائية) وأيضا عسكرية عبر تهدئة طويلة الأمد – بعد تراكم لحس الخسارة والخطر عند الأخير في تجربة أو اثنتين.

وكاستراتيجية عسكرية – وبتحررها من الضغط السياسي والاقتصادي عليها، وبعد تحسين العلاقة مع النظام مصري عبر ضبط الحدود (وهذا حصل بشكل ما) وتحويل تركيز الفصائل المتشددة لأجندة نضالية ماأمكن، يمكنها حينها أن تُصعّد في الضفة وداخل الخط الأخضر بعمليات نوعية تُحرم استهداف مدنيين (من الضروري إعادة صياغة صورة المقاومة دوليا وإقليميا، وتطوير صدقيتها من حيث القدرة والالتزام السياسي والأخلاقي) ، وتتهيأ لماقد يُسفر ذلك بالضرورة عن حملات على غزة – دون استدعائها إعلاميا – مع التحضير للاشتباك البري غير النظامي وتطوير الرادع الصاروخي كفرصة استراتيجية في هذا الوضع وليس ثمنا يُدفع – للتخديم على خارطة أهداف سياسية تصاعدية وفق المنتوج الاستراتيجي خصوصا إن توافق ذلك مع تصعيد في الجبهة الشمالية.. أقلها تهدئة مشروطة في الضفة وغزة معا، وتتصاعد لانسحابات في الضفة مع الوصول لتسويات طويلة الأمد ذات وضع سيادي – غير نهائي – مع فتح معابر دائمة مع الأردن ومصر، ووضعية أكثر تماسكا مع عرب الداخل.

وكتركيب عسكري وفن عمليات – أن تعيد النمط غير النظامي بحيث يكون هو الأساس في عقيدتها وتشكيلاتها، مع قدرة على التراكب النظامي خصوصا كنسق دفاعي مرن اعتمادا على مهيئات جغرافية وتقنية، وبما قد يناسب التحرك في بيئة متنافرة، وأن تفصل تماما عملياتيا ولوجستيا بين وحداتها المقاتلة، ووحدات العمل النوعي، وجناح الصواريخ – مع توفير مصادر إعاشة وتفويض للقيادة التكتيكية في المفارز الطرفية (كما في تجربة حزب الله).

وبالتأكيد أن أي حسم للقضية الفلسطينية، والتي لا يمُكن تمظهرها والتحرك فيها ومقاربتها إلا بالمنظور القومي والرسالي الأوسع، يقتضي تطورا جذريا في بنية الصراع وأهدافه مآلاته، وفيه تتموضع المقاومة الفلسطينية ضمن إطار قومي كدور استراتيجي نوعي. وهذا يقتضي تغير بنيوي في مراكز الثقل العربية (خصوصا المصري) لتكون راغبة في هذا المشروع ودافعة فيه ومستوعبة لمحطاته ومستكملة لشروطه البنائية والاستراتيجية. قد لاتظهر فواعل ذلك حاليا لأنها تقتضي تغييرا جيليا وتشكيل نخبة عربية ، بعناوين فكرية مستجدة وبامتلاك المُكنة الاستراتيجية والفنية للقيام بمتطلبات التغيير السياسي لاستعادة الإرادة السياسية للنظم أولا، وتطوير القدرة على إدارة الصراع تاليا، ولكن حركة الأمة بمداها القدري غالبة.


حوارات حول التصعيد الأمريكي الإيراني، وعلى هامشه

الضربة الأمريكية على قواعد حزب الله العراقي ردا على استهداف قواعد تتمركز بها قوات أمريكية ومقتل متعهد مدني، ثم حصار ومحاولة اقتحام السفارة الأمريكية من قبل مظاهرات سيّرها الحشد الشعبي، ثم اغتيال قاسم سليماني ومن معه وإعلان أن هذا إجهاضا لضربات كان يخطط لها الأخير، ثم توعّد إيران بردود قاسية.. هل هذا سياق حرب؟ أم عمليات تبادلية قد تتدحرج إلى حرب؟

بداية، كما أشرت في تعليق أثناء أزمة العمليات التخريبية بالخليج في مايو السابق، والتصعيد الخطابي وبعض الحشد الأمريكي حينها، فمحددات الحرب واضحة عند كل الأطراف.. الإسرائيلي يضرب إيران إذا تأكد اقتراب وصولها للنووي، الأمريكي إذا حصل استهداف (إيراني) مباشر لقواته بالخليج، الإيراني – إذا حصل اعتداء عسكري مباشر على أراضيه. طبعا نسق هذه الحرب إذا حصلت ومستويات تصعيدها وتخفيضها هذه مسألة أخرى.

تعليق موجزعلى التصعيد الأمريكي الإيراني

وفي مايو، كان ترامب يعتمد على التصعيد الخطابي والضغط النفسي مع فتح باب للتفاوض السياسي، لاستثمار ذلك سياسيا بالداخل (كمحاولته الفاشلة مع كوريا الشمالية)، وفي ذات الوقت إمكانية تحصيل أي تنازل من المقابل بعقلية السمسار التجاري.

هذا السياق العام القائم قبيل الأحداث.. والأمريكي لم يفعل شيئا بعد تصعيد مايو مثلا عند ضرب المنشآت النفطية بالسعودية، وكانت هذه خسارة تالية. والإيراني بالفعل كان يتقن التنقل بين مخروط تصعيدي استفادة من التورط الخطابي لترامب وعدم وجود استراتيجية متماسكة عنده، لتحصيل مكسب نوعي على حساب الأمريكي ناتج عن الخفض في مصداقيته الردعية.

لكن الفارق في التطور الذي حصل، أن ثمة خط أحمر تجاوزه الإيراني عبر عملية استهداف مباشر طالت بعض قواعد الأمريكي وجنوده.

والضربة الأمريكية لم تتجاوز رد الفعل على استهداف القاعدة الجوية. ولكن تم تغيير في المبدأ الاستراتيجي (حتى في ظل غياب استراتيجية) بإدخال عنصر النشاط العسكري (وليس فقط التهديد الخطابي) ولكن المحدود لتوصيل سياسة ردعية ذات مصداقية أقوى. وهذا شبيه بنمط التدخل العسكري الإسرائيلي المنضبط في سوريا لإعادة رسم خطوط حمر وبناء سياق ردعي. مايسمى

managing operations below war.
وهذا بالتأكيد مفيد لترامب داخليا كالمعتاد.

المنطق الاستراتيجي الذي حكم العمليات العسكرية الأمريكية إذن هو أن خطا أحمرا في معادلة الردع مع إيران قد تم اختراقه بفجاجة، فكان لزاما عليه إعادة تعريف هذا الخط وفق مايقتضيه من عمليات عسكرية تحت مستوى تصعيد محدد سلفا.

المشكلة – أن الإيراني للمرة الثانية لم يستوعب الرسالة، ومحاولة حصار واقتحام السفارة، (حتى لو لم نصدق) في الطرح الأمريكي عن تخطيط سليماني لعمليات عسكرية مقبلة، كانت تصعيدا أخرقا فضلا عما صاحبها من التعبير بفجاجة عن الوصاية الإيرانية بفتح بوابات المنطقة الخضراء لمظاهرة الحشد. ولهذا كان ينبغي على الأمريكي أن يرد بشكل أكثر حسما وهو ماحصل في عملية استهداف  سليماني ومرافقيه.
مدى الجدوى العملياتية والاستراتيجية وتتبع كل آثارها هذه مسألة أخرى.

ولكن ماحصل هو أحد أنماط الردع. ويعني التهديد باستخدام محدود للأداة العسكرية ل(منع) الخصم من تصعيد أعلى أو تغيير سلوكه السياسي.

coercion

لعل من اهم ما يمكن ذكره بخصوص الامريكي في الأزمة الحالية هو عدم وجود استراتيجية واضحة وترامب بشكل عام مش من صفاته التخطيط والحسابات البعيدة فهل تظن أن الايراني لديه فرصة كبيرة لكسب الجولة الحالية؟

هي خابت من الإيراني هذه المرة.

اماكان يقصده الأمريكي كما أسلفت هو إعادة تعريف الخطوط الحمر، تحت مستوى محدد من التصعيد. والأمريكي يظهرأوليا أنه قد استعاد قدر مماخسره في الجولات السابقة كصورة ردعية وبرستيج إقليمي.

و كما ترى، كل طرف يستفيد من غباء الطرف الآخر وأخطائه، أكثر من قدرته الذاتية وجودة استراتيجيته

والإيراني بالتأكيد سيردّ ولكن أفضل شيء له، أن ينسحب بشرف.. بمعنى – القيام بأدوار انتقامية عبر وسطاء وتحت خط تصعيد محدد، وتخلص الليلة.
هو فشل في قراءة أن هناك خطا أحمرا يتجاوزه بالاستهداف المباشر للتشكيلات العسكرية الأمريكية،
ثم فشل في قراءة الرسالة الردعية التي حملتها ضربة الأمريكي الانتقامية لمواقع حزب الله العراقي..
.ولكن أعتقد – أنه سيعي الدرس هذه المرة

ماذا عن تقييم التحرك الأمريكي استراتيجيا؟

باختصار:

 أولا) منطق التصعيد المحسوب لإعادة رسم قواعد الاشتباك (بالمعنى الاستراتيجي) هو منطق جيد بالطبع، بشرط ألا تنفلت، وأعتقد أنه انفلتت في حالة اغتيال سليماني.

نعم – حيز الردع تمت استعادته هنا، فقط لو انتهت متوالية الفعل ورده لوضع أفضلي. ولكنه الآن يجبر الإيراني على توسيع دائرة الاشتباك.

نعم – سيراعي الأخير ألا يخترق الخط الأحمر لاستدعاء الحرب (بأن يستخدم الوكلاء، أو عمليات دون تبن – سواء تخريبية بالخليج، أو استهداف آخر لقواعد عسكرية أمريكية، واحتمال عمليات إرهاب خارجي قائم ولكن بعيد لتعقيدات أخرى مرتبطة بالصورة الدولية وعدم إمكانية التنصل في هذا الظرف)، ولكنه بالتأكيد سيوجع الأمريكي، ويضعه كذلك أمام وضع يعجز فيه على توسعة مستوى الرد الانتقامي، وكل ذلك – سيأخذ من المكسب الردعي الذي تحصل عليه الأمريكي بعد ضرب قواعد الحزب، ولكن لن يعكسه أو ينهيه، وفي نفس الوقت – ستأخذ من حجم إنجاز ترامب الذي يمكن أن يوظفه داخليا بالانتخابات.

  ثانيا) التحفظ الأكبر، أن الأمريكي ليس عنده استراتيجية واضحة لا فيما يخص العراق وتحجيم النفوذ الإيراني به، أو التعامل مع إيران إقليميا، بحيث يمكن أن تتموضع فيه العمليات العسكرية تلك.

فيما يتعلق بالعراق – كانت هناك انتفاضة شعبية فاعلة، نعم ينقصها الكثير من بناء الزخم السياسي والاستراتيجية ولكنها حاضرة، وأبرز عناوينها كان رفض الوصاية الإيرانية وتحجيم النخبة السياسية الموالية لها.. لم يُفكر الأمريكي كثيرا في آثار تحركاته تلك السلبية، على إفقاد هذه الانتفاضة زخمها بحكم انشغال الفضاء العام بمسألة ملحة، وكذلك – تجنيه الفج على مبدأ السيادة وإعطاء الأطراف الموالية لإيران الفرصة على إعادة تصدير الخطاب المقاوم، وخصوصا الآن مع تصاعد مرتقب للعمليات العسكرية المتبادلة داخل العراق.

لم يدرس مثلا، أن هناك أنماطا من العمل العسكري – سواء عمليات نوعية لاستهداف القادة المسئولين عن الاعتداءات، وعمليات خاصة بعد تمهيد سياسي وقانوني على التشكيلات العسكرية الصغيرة، أو تخريب خطوط الإمداد واللوجستيك التي تمر عبر العراق والسيطرة عليها، أو تدعيم عسكري للقوات الموجودة وإعادة انتشارها بالتناسق مع ضغط لتعديل الاتفاقية الأمنية وإعادة تغيير الخريطة الأمنية للمنطقة الخضراء، أو ضغط سياسي واقتصادي ودفاعي (منظومة تسليح وتدريب الجيش العراقي) على المكونات السياسية دعما لمطالب الانتفاضة الشعبية بتغيير النسق السياسي الحاكم.

وعلى المستوى الإقليمي ومواجهة إيران.. الأمريكي هو في حال انسحاب من الشرق الأوسط، ولكنه يريد مع ذلك الحفاظ على بعض المكتسبات في سوريا والعراق والخليج، وفي ذات الوقت يتخيل أن الضربات العسكرية الإيذائية قادرة على تحجيم إيران، أوعلى الأقل ردعها حين تتجاوز الخط الأحمر.

بالتأكيد تحجيم إيران لاتصلح معه هذه الضربات التكتيكية. ومسألة قصف الرأس التي استخدمتها إسرائيل مثلا كثيرا.

Decapitation

لاتصلح مع حالة دولة إقليمية كبرى مثل إيران بأنساق سياسية وأيديولوجية مستقرة ووفرة في الكادر البشري النوعي، حتى لو انخفض مستوى الجودة القيادية في ملف ما تبعا لذلك، ولكنها تفيد إما في نزع رأس سياسي مؤدلج حاكم على صنع السياسة، أو قيادة نوعية بالمعنى الاستراتيجي والعملياتي في حركة صغرى. فضلا عن التعقيدات القانون-دولية في استهداف قيادات عسكرية لدول دون إعلان حرب.

بل إنه – أحكي من وجهة النظر الأمريكية – يقتضي استراتيجية مختلفة تماما بتعميق وإعادة الانتشار الاستراتيجي بما يسمح بنزع إيران من زوائدها، إن لم يمكن إبطال فعل هذه الزوائد، وتحجيم قدرتها على الإيذاء والتدخل.. وهذا يقتضي دورا وحضورا عسكري وديبلوماسي و خطط طريق واضحة لحل المشكل اليمني والسوري، وكذلك تطوير فكرة الدولة العراقية ودعمها في تحولها السياسي بالأساس. وبناء منظومة دفاع خليجي مستقرة وبما يشمل حل المشكل القطري والمصري.

ولكن هذا الجراند استراتيجي للتعامل مع المنطقة، ليس فقط غير موجود، ولكنه غير جذاب لترامب تحديدا، لأنه لاينظر إلا للمصالح المباشرة سواء في مكسب سياسي عاجل يوظفه داخليا، أو ملء خزانته كذلك لنفس الغرض.

وحتى الضربات الردعية، فهي تفترض أن الأخير سيتقبل هذه الرسالة ويتصرف وفقها. ولكن حين لاتحقق ذلك، كما حصل، فيلزم إعادة رفع التصعيد بحرص مع فتح باب أكبر للتسوية.

هو انا ملاحظ ان من اكثر الاشياء صعوبة ودايما تكون مخادعة هي مسألة ال

will to fight

يعني تقريبا دايما احد الطرفين بيفشل في قراءتها

 هذا المصطلح يستخدم بشكل عام على القابلية النفسية في الجيش، تشكيلات عسكرية عليا أو صغرى، على القتال .
ولكن انت تقصد

intentions of escalation/war

 أليست الارادة للقتال على المستوى السياسي ايضا؟ ومسئولية من تعرّف هذه الإرادة عند الخصم؟

الحرب مش القتال..
war not warfare

إرادة القتال مسألة بالأساس نفسية ومعنوية، تسود في القطاع العسكري بشكل أساس ومبدئي وتلقائي وافتتاحي، أمام القتل والخطر.

القيادة السياسية بالتأكيد مهم يكون عندها منعة وقوة نفسية لتتحمل ضغط الحرب، والمنعة بالأساس جزء منها منعة سياسية، ولكن الدافع لها بالأساس هو الحساب الاستراتيجي أن تأخذ قرار الحرب.

تذكر، ثلاثية كلاوزفيتس.. النسب تختلف، وحتى نوعية العنصر (نفسي، أو عقلي، أو صلابة وإبداع أمام الاحتمال)تختلف..

أما مسئولية من فهذا هو الخلاف بين لجنة أجرانات وزعيرا بعد حرب أكتوبر.. اللجنة قالت إن أمان فشلت في قراءة نية مصر للحرب، وزعيرا قال ديه مش مسئوليتي، أنا علي أن أوضح لكم قابلياتهم، ولكن تقييم النية ده شأن سياسي

لكن مثلا في بيرل هاربور الخلاف كان العكس، الاستخبارات البحرية كانت بتقول ان من صلاحياتها تقدم تقرير يتعلق بنية الخصم بينما القيادة العسكرية نحتها عن ده وكان ده من اسباب الفشل…قصدي يعني ان الاستخبارات عليها جزء من توقع نية الخصم

طبعا!
ولكن هي فعلا مشتركة.. وأنا طرحت هذه النقطة في تقييمي للحرب، وكلا الطرحين الخاص ب أجرانات وزعيرا خطأ.. وده رأي شيمون بار في دراسة جيدة له عن العلاقة بين الاستخبارات والسياسة.

ولماذا مشتركة؟ لأن توقع نية الخصم هي نتاج فهم عميق لبيئته السياسية والتاريخية والأيديولوجية وطريقة صنع القرار والأشخاص النافذة، وهي عملية معقدة.. أولا – أوسع من مساحة خبرة الضباط الأصاغر بالمخابرات،
وثانيا، تحتاج لمصادر معلومات شاملة من الخارجية والمخابرات والدفاع والوزارات المدنية والدول الحليفة، وهذا ليس في يد المخابرات، إلا لو جعلتها مهيمنة كل مصادر القوة بالدولة!

ماذا عن قراءة محركات الإيراني، ومنطق الصراع بينه وبين الأمريكي، وموضعة مسألة المقاومة؟

أولا ) مهم أن نميز بين التقييم الأخلاقي – بمعنى – تقييم سلوكيات وآثار فعل المنظومات السياسية والعسكرية أخلاقيا.. وبين التقييم السياسي (محركاتها وطبيعة سياساتها)، والاستراتيجي (قدرتها على تحويل وإدارة مصادر القوة لتحقيق هذه السياسات).

ثانيا) المأساة في بلادنا، ليس فقط في الخلط بين الأمرين، ولكن، التحيز العاطفي والأيديولوجي في التعامل مع كليهما، والنظرة الضيقة تبعا للمجال الحيوي والخلفية للناظر.

فكما ذكرت سابقا – فإما أن تنحاز لأولوية الصراع العربي الإسرائيلي، وتتناسى وجود المشكل الخاص بهيمنة القوى الإقليمية تبعا لانهيار الفضاء القومي العربي. أو يحصل العكس، فتتخيل أن إيران العدو وأمريكا وإسرائيل الصديق.

وحتى أخلاقيا! كيف يمكن لجهة تتدعي المقاومة سواء إيران أو النظام السوري وحلفائهما، أن يُتقبل منها ونبرر أخلاقيا ذبح مئات الألوف من الشعب السوري والعراقي. وبالعكس – كيف يمكنك أن تبرر تاريخيا للمذابح والانتهاكات التي قامت بها الأنظمة القومية في العراق وسوريا ومصر ضد شعوبها وجيرانها العرب، مهما تكن صدقية الهدف القومي وحقيقة الصراع وعدالته خصوصا فترة الستينات.

ثالثا) هناك خلط يحصل في التقييمات السطحية والحادة والاختزالية. فهي لا تدرك مثلا أن إيران ، تدفع سياستها محركات متعددة، منها الأيديولوجي الطائفي الذي يسعى لدولة إمامية تحت الولي الفقيه تبعا للنظرة الغيبية لانتظار المهدي وصيغة شديدة التشدد والاستئصال للسنة، وأيديولوجي رسالي ينفعل بفكرة المقاومة والاستشهاد لتحرير المقدسات والعدل، وهيمنة إقليمية تبعا لنزعة فارسية متأصلة تحتقر العرب وهي منطق التدافع الجيوسياسي الحديث على كل حال سواء احتالت بالأيديولوجيا أو التفوق العرقي أو المصلحة وتنافس القوة، ولكن دوما الأهم في الحال الإيراني – هو مصلحة النظام وديناميات بقائه.

وخلط يحصل، بين أن يكون الإيراني مصدر عداء حقيقي لإسرائيل، بذاته خصوصا إذا حاز النووي، أو عبر أذرعته، والتي تتنوع قدراتها ومدى تبعيتها له، فحزب الله والجهاد والتنظيمات العراقية ليست مثل حماس، وهذا معلوم من استقراء الواقع وفهم المنظومة الاستراتيجية التي تسود إسرائيل فكريا ومؤسساتيا وبناء قابليات (ورقة تقييم التهديدات الاستراتيجية) التي تصدرها أمان منذ عقدين مثلا، أو العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية منذ 2016)، والتي تضع إيران في مرتبة التهديد الأولى يليها حزب الله ثم حماس، وبين أن تحصل التفاهمات والأهداف المشتركة في بعض المحطات الجزئيةـ سواء في فترة حرب الخليج الأولى، أو تفاهمات على صيغ توازن اشتباك تالية.

والأمر كذلك حاصل مع الأمريكي، هناك خلفية اصطدام حادة، ولكن دون الوصول لمرحلة العداء الوجودي كما هو الحال عند إسرائيل، ولهذا فالأمريكي بكل صيغه – حتى ترامب – ممكن أن يتعايش مع إيران نووية، ولكنه بالتأكيد يسعى لتحجيم قوتها ونفوذها وفرض إرادته. ولكن هناك محطات كثيرة يحصل فيها التقارب في أفغانستان والعراق بالأخص.. ولكن حتى هذا التقارب.. كما حصل في العراق، له ديناميات ودواع مؤقتة، إذا تغيرت، تتم استعادة منطق التدافع إن لم يكن العداء فورا.

لكن النظرة الاختزالية والمؤدلجة تلك، ستتمسك بجزء محدود فقط من الصورة الكلية، وبالطبع ستجد عليها شواهد.. ولكن تنسى آلاف التفاصيل الأخرى، وتعميق صورة كلية لتقييم الأطراف ومحركاتها ومسارات الصراع والتقابل.

وهي لن تقف مع نفسها مثلا الآن، وتراجع الفرضيات التي قدستها لعقود (أن ليس ثمة عداء وتنافس أمريكي إيراني على مساحات الهيمنة الإقليمية – أو أن إيران مايحركها بالفعل مبدأ للمقاومة والبعد الرسالي والمؤدلج حتى الطائفي منه) ، مع أن الواقع ينقضها بشكل جلي.. بل تتحول فورا لفرضيات مضادة، دون أي مساءلة ذاتية للمنطق العقلي والنفسي الحاكم ذاتيا. فهي تعيش في حال انفصام،

هذا مقال قديم حول الأمر

https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfOFJEbmhqdnZGcUk

التدافع الاستراتيجي التركي والمصري في ليبيا، وأزمة شرق المتوسط

https://www.raialyoum.com/index.php/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d8%a7%d9%81%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b1%d9%83/

النظرة المباشرة للأزمة الحالية مابعد الاتفاقية البحرية، وتلك الخاصة بالتعاون العسكري والأمني، بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية – المعترف بها دوليا، توصّفها في قضيتين أساسيتين.

الأولى، توسعة الحيز البحري التركي لاستغلال الثروات المعدنية إلى 200 ميل، بدلا من 12 ميل كما وضعتها فيه الاتفاقيات الثنائية بين قبرص واليونان ومصر وإسرائيل.. والحقيقة أن كل هذه الاتفاقات ليس لها منطق قانوني فاعل بذاته لأنها تجاهلت دولة محورية في حوض البحر المتوسط (تركيا)، وذات الأمر ينطبق على الاتفاقية التركية مع حكومة الوفاق. هناك مبدآن اعتمدت عليه الاتفاقيات القبرصية – الأول هو التقاسم بخط المنتصف، والثاني هو توقف الحيز البحري لتركيا – سواء بمفهوم المنطقة الاقتصادية، أو الجرف القاري- بأي عائق أرضي (هناك جزر يونانية ثلاث بالقرب من تركيا قطعت تمدد هذا). وفي المقابل – طرح تركيا التي أعلنته مرارا يؤكد ضرورة التقسيم (العادل) وليس تحكما بمسألة خط المنتصف – كما نص قانون البحار 1982، وأيضا عدم قطع مجالها البحري بجزر ثلاث صغيرة ولكن الدوران حولها. وبالتأكيد – فالمنطق التركي له درجة حجية قوية، خصوصا بالنظر إلى عزلها عن الاتفاقيات السابقة، وهذا يخالف المبدأ القانوني الواضح بتسوية النزاع.

ولكن في المقابل، كذلك الاتفاقية الجديدة ليس لها أي قيمة قانونية بحد ذاتها، غير دعم ثانوي للحجة التركية القانونية مستقبلا – اتفاقية أمام أخرى ولكليهما نفس الحجية تبعا للمادة 38 من لائحة محكمة العدل الدولية.. وهذا النوع من النزاعات هو منتشر حاليا كما في قضية بحر الصين الجنوبي، والحل الوحيد نظريا في هذا النزاع هو بالتوافق، أو طرح الأمر لمحكمة العدل الدولية على شرط قبول الأطراف. ولكن في واقع الأمر، هذا الملف خاضع لموازين القوى والتدافعات والترتيبات الديبلوماسية كما هو معروف.

الثانية، هو شرعنة التدخل العسكري التركي في معرض الحرب الأهلية الليبية لصالح طرف حكومة الوفاق المتحالفة مع الإسلاميين وقطر، ضد المعسكر المناقض (حفتر، وحلفاؤه مصر والإمارات بالأخص، وكذلك روسيا، والسعودية). صحيح – أن التدخل العسكري التركي الكثيف يظل أمرا مستبعدا نظرا للتعقيدات اللوجستية، وعدم أولوية الملف عند المؤسسة العسكرية التركية أو الشعب (حتى مع تفاقم هيمنة أردوغان على المؤسسة العسكرية وبنية النظام السياسي التركي)، ووجود محاذير ضد التصعيد مع أطراف تحاول تركيا الاقتراب منها (روسيا) أو تبقي على مساحة محفوظة من الخطوط الحمر (السعودية). ولكن يبقى التدخل، قيمة معنوية وشرعية سياسية، وفي ذلك الوقت – يفرض درجة من الردع كذلك على طرف حفتر. وهذا يقلل مستوى تهاوي حكومة طرابلس. وبالنظر إلى ضعف القابلية العسكرية وترهّل قوات حفتر (التي يغلب عليها الطابع الميليشوي أكثر منها جيش احترافي) فهذا قد يوقف بالفعل مستوى التصاعد العسكري، ويفتح بابا أكبر للتفاوض. ولكن في كل الأحوال.. تركيا تعزّز بشكل واضح شرعية وجودها، وفرصة حركتها، بالداخل الليبي كعنصر حاكم.

ولكن لايمكننا استيعاب محركات هذه الأزمة وسيناريوهات تطورها وحلها دون إدراك معمق لخلفيات الموقفين التركي والمصري.

بالنسبة للموقف التركي، فتركيا استفتحت الربيع العربي بهلاوس استعادة السيطرة العثمانية، عبر شرق أوسط إخواني برعايتها وقطر، وبمراعاة بكل تأكيد لمصالح الأمريكي، وصيغة تفاهم طويلة الأمد مع إسرائيل، ولكن أيضا كانت هناك المحرك الاستراتيجي المباشر سواء في تحجيم الخطر الكردي ومايحمله من تهديد انفصالي بالجنوب، وكذلك – توسع مساحة الهيمنة الإقليمية في ظل الفراغ الاستراتيجي الذي أحدثه الربيع العربي، وبطبيعة الحال ماتقدمه هذه الهيمنة من متواليات للمصالح الاقتصادية والسيادية.. وكل هذا دفعها لتدخل حاد وغير منضبط أو أخلاقي في سوريا، واصطناع ولاءات لتشكيلات عسكرية، وتفاهم ودعم حتى مع ظاهرة داعش في وقت ما، وكذا – دعم واحتضان الإخوان المسلمين، خصوصا بعد محنتهم بمصر. ولا ننس – أن العنصر الأيديولوجي حاضر بلاشك عند أردوغان، ولكن يغلب عليه الاستخدام الوظيفي لبناء شرعية داخلية (تعتمد تعبئة الشعور الديني عند قطاعات تركية أفرزها تحول اجتماعي في العقدين الفائتين)، ومساحة حركة خارجية للتدخل والاستعمال في ملفات المنطقة.

جزء كبير من الموجة التركية فشلت بالطبع مع تدخل الروسي واستعادة النظام مع حلفائه للسيطرة على قطاع واسع، وانهيار تجربة الإخوان بمصر، وتحجيمها بتونس (وإن أفاد هذا مجمل التجربة هناك بما فيها حزب النهضة)، ولاقت نقدا حادا من الناتو مثلا أثناء كوباني، فضلا عن تعرضها لهجمات حادة داعشية في الداخل التركي.. هنا – تم إعادة التوجيه الاستراتيجي لمنطق أكثر انضباطا وواقعية. أولا) قدّم المحركات الاستراتيجية المباشرة في الشق الكردي وتوسيع للهيمنة عن البعد الأيديولوجي والوهم التاريخي. وثانيا) استعمال ماتراكم من أدوات دون تدخل مباشر، واقتناص للفرص المتاحة في توسيع التدخل ولكن بشكل منضبط.. والتطبيق على هذا كان في: عملية نبع السلام، القواعد التركية في قطر والصومال..، والآن ليبيا.

فقط – بقي النزاع الحاد الذي غلب عليه طابع العناد الشخصي فيما يتعلق مع النظام المصري، وإن خف كثيرا بلاشك. وهذا لايمكن فهم سر التدافع الحالي كمحرك، وتمظهر دون اعتباره.

أما الموقف المصري، فبشكل مباشر لا تضر الاتفاقية البحرية حظوظه في المتوسط، بالعكس – تزيد حصتها بشكل ما في الترتيب التركي الليبي، ومع ذلك عارضت مصر الاتفاقية بشكل صريح، وأشارت لنقطة موضوعية، أنه ليس من صلاحية حكومة الوفاق عقدها في معزل عن البرلمان (وهو برلمان طبرق وله  شرعية)، وبالفعل – في وضع تفتت الدولة الليبية وتنازع فرقها العسكري وحول الشرعية، لايوجد معنى لمشروعية هذا الاتفاق وغيره. ولكن السبب الأعمق هو خلفية الاحتقان بين النظامين واختلال التوازن الإقليمي.

وفي المقابل – النظام المصري يرى مصالحه تتضرر بشكل بالغ من التدخل العسكري التركي في ليبيا، لأنها تقف مع حفتر وهذا التدخل نظريا يقلل من فرص سيطرته على الوضع بليبيا. وأيضا يجعل لنظام معاد (تركيا) يد في التحكيم في بيئة حيوية استراتيجية لمصر ومصدر تهديد حقيقي.

ليبيا في كل الأحوال هي مجال حيوي استراتيجي لمصر، نعم ليس من طبع التهديد الاستراتيجي تاريخيا أن يأتي من قبلها – على عكس جبهة الشام ، ولكن هذا تغيّر في السنين الفائتة بعد انهيار الدولة وتشرذم منظومتها التسليحية، تحولت ليبيا (قطاعها الشرقي بالأخص) لممرات تسليحية ولوجستية ومحضن عازل لجماعات إرهابية (داعش والقاعدة) تقوم بعمليات كبرى بالداخل المصري. ولكن فوق ذلك، ليبيا هي إضافة نوعية وكمية للمجال الحيوي الاستراتيجي لمصر (كنقل بعد التشكيلات والمدارس العسكرية لليبيا لحمايتها من ضربات العمق بالاستنزاف، أو المشاركة المشرفة في حرب أكتوبر) بالرغم من التنازع الحاد بين نظامي السادات والقذافي والمناوشات الحدودية 1977. مصر لاتستطيع احتمال ضياع ليببيا، أو تحولها لبيئة معادية. وللأسف، التداعي المُزمن في القوة الاستراتيجية المصرية وحدود حركتها بالإقليم، شهد تفاقما حادا بعد ثورة يناير وانكفاء ذاتيا، في وقت حرج تم فيه تدمير الدولة الليبية – مع ما بها من عوار بينوي – بتدخل عسكري غربي، ثم احتراب سياسي وعسكري وتفتت. في تلك المرحلة الحيوية من تشكيل ماهية ليبيا فقدت مصر فرصة حقيقية للقيام بدور ناظم سياسي وأمني، ووسيط نزيه وراع لحوار سياسي مفتقد.

وحين قدم نظام السيسي، وجد ليبيا كابوسا حقيقي أمنيا واستراتيجيا، ولعل حادثة ذبح الأقباط المصريين في 2015 مثلت الذروة في ضرب شرعية النظام المصري التي تصدرتها عناوين كاستعادة قوة الدولة وحمايتها لمواطنيها ومحاربتها للإرهاب وموالاة الكنيسة لحفظ مصالح الأقباط.. حينها تصرف النظام بشكل غير رشيد عبر ضربات جوية انتقامية، وكان الأمر يستدعي تدخلا أكثر حزما وتدقيقا في نفس الوقت، كسياسة دفاعية مطلوبة كان يلزم التدخل في مهمتين ويحظر في أخرى. استهداف بنية القواعد الارهابية في المنطقة الشرقية، والقيام بعملية انقاذ مدني تلزم انشاء ممرات آمنة للمصربين ونقل بحري في الغرب والاستعداد لعمليات خاصة محدودة.. وكان يحظر التدخل في الوضع الداخلي بمعنى نصرة طرف على طرف، ولكن محاولة شق الدور السياسي الراعي والوسيط لحل التناحر الليبي الداخلي.

هذا نظريا، ولكن عمليا هناك عوائق وشروط.. توسيع هذه المهمات كان يستلزم درجة من الاستقرار السياسي والدعم الشعبي كانت غير موجودة، ويستلزم تأهيل للقوات المسلحة على هذه المهام النوعية مفتقد، ويستلزم التمهيد بحملة قانونية وديبلوماسية وشعبية مع الطرف الليبي لم تحصل. ثم هناك إدراك داخلي -بعض النظر عن مدى نضجه- بصعوبة المهمة كقدرة عملياتية خصوصا وأن الجيش قام بثلاث عمليات متوسطة منذ حرب أكتوبر.. ليبيا 77 والعراق 91 وسيناء.. وأعتقد أن القيادة المصرية كانت تدرك جيدا طبيعة التقييم لهذه العمليات يعيدا عن البروباجندا المعتادة.

وفي هذا السياق تحديدا – وتحت العجز الذي شعر به النظام لمواجهة هذا المأزق الأمني، ظهرت سياسة دعم حفتر. هناك بلاشك العامل الخليجي (الإماراتي تحديدا) والذي دفع نظام السيسي لدور أكثر فعالية في دعم حفتر.. فبسبب الضعف في بنية الشرعية السياسية للنظام واقتراب الانهيار الاقتصادي، ارتمى بشكل يتجافى مع منطق الشرف المصري وحجمه التاريخي في حجر الإمارات بالأخص ثم السعودية قدم تنازلات في مساحات متعددة، ولكنه في ذات الوقت كانت له حدود تحجزه عن الدوران خلفهما دون تمحيص، وظهر هذا تحديدا فيما يتعلق بسوريا واليمن.

وكان جزء مهم من طرح السيسي فيما يتعلق بسوريا بالمخالفة للخليجي، وكذلك خلف دعمه حفتر تصور ساذج حول أهمية استعادة (الجيوش الوطنية) كمحاولة لاستنساخ التجربة المصرية، دون إدراك أن الأهم هو توفير الظروف السياسية والاجتماعية والدستورية لاستعادة الدولة بالأساس ومعالجة الاحتقانات والتدخلات الخارجية التي مزقتها، وإدراك أن لا جيش (حفتر) أو جيش (بشار) يمتلكون أدنى معايير الجيش الوطني على عكس الجيش المصري مع كل إشكالاته. بل حتى قبل الربيع العربي، الجيش السوري كانت تحكمه قاعدة الطائفية، والليبي قاعدة الارتزاق.

وهناك عامل آخر، دفع نظام السيسي لفشل في تحليل الواقع الليبي وإدراك الفرص لصك استراتيجية صالحة فيه، وهو النفور الحاد الشخصي والنظامي من أي مكون إقليمي له علاقة بالإخوان المسلمين، خصوصا أن بناء شرعيته الداخلية قائم على شيطنة الإخوان وعملقة دورهم وخطره، واستخدم ذلك بالأساس لقتل الحياة السياسية المصرية وتضخيم الوصاية العسكرية والأمنية. هذا لاينفي بالطبع أن الإخوان ارتكبوا خطايا وطنية وأخلاقية، وبالفعل تورطت فصائل منهم في إرهاب، وتحالفوا مع قوى إقليمية وخارجية ضد أوطانهم، ولكن القياس الأخلاقي والوطني كذلك يصم نظام السيسي وبشار (مع فارق كبير بينهما) بجرائم غير مُتصورة وأفدح. والعبرة في حديثنا هنا ليس هذا المعيار الأخلاقي، ولا هو الحاكم لحركة النظام المصري، ولهذا – فموقف النظام مثلا مع حماس اختلف في النصف الأخير لحملة 2014.. فحماس بلاشك تورطت بشكل غير شريف أو مبرر استراتيجيا في الداخل المصري، جزء بسبب تعصب أيديولوجي، ولكن كذلك – لحساب ضيق أن الاضطراب الأمني والسيادي بسيناء يمثل فرصة ما لتسليح وتموين غزة، وراهنت بشكل أخرق على دور قطري في بداية الحملة. وكذلك النظام المصري رد على حماس بشكل متشنج دون مراعاة الحساسيات القومية والاستراتيجية، ولاننس كذلك التقارب مع إسرائيل  تحت ضغط الوضع بسيناء كما تجلت أبشع صوره في فضيحة سحب مشروع قرار إدانة الاستيطان من مجلس الأمن في أواخر عهد أوباما. ولكن كلا الطرفين – تحت ضغط المصالح الصلبة المتبادلة، طويا الملف بشكل كبير، وبالفعل توسطت مصر لإنهاء الحرب بشكل معقول حفظ قدر من ماء وجه حماس وساعدها في ترجمة نضالها المُشرف بالحرب لأثر سياسي ما وإن كان أبعد عن أي مفهوم للانتصار بالطبع، وتم تثمين دورها بشدة من حماس، وبالتأكيد خرجت العلاقة بعد ذلك من طور العداء إلى نمط أقل قليلا مماكان سائدا أيام مبارك.

ومن كل ذلك ندرك – أن إشكالات النظامين المصري والتركي بنيويا تجلت في محركات الأزمة وطريقة التعامل معها.. فهو محرك إقليمي بحثا عن الهيمنة وحماية المصالح البحرية عند التركي بشكل أساس، وهو محرك أمني مهووس بالمعادلة الداخلية عند المصري.

وهناك ثلاثة سيناريوهات تبعا لذلك:

الأول مستبعد.. وهو تصعيد عسكري تركي بالداخل الليبي يقابله انخراط عسكري مصري يقود لحرب ثنائية… هو مستبعد لكل التعقيدات السياسية واللوجستية المذكورة سابقا. ومبدئيا، فالتوازن العسكري يميل بشكل مُجرد بالتأكيد للجيش التركي، خصوصا بمستوى احترافه وتواجده داخل الناتو لنصف قرن، والنضج العالي للبيئة التصنيعية والأكاديمية الخادمة له. ولكن تبقى نوعية وكم أسلحة الطيران التقليدي والمدرعات لصالح المصري. ولكن الجيش المصري يعاني منذ أوائل الثمانينات من مشكلات معقدة وترهل نوعي في البنية والتشكيل والفكر العملياتي وخامة القادة. وكلا الطرفين أدركا بشكل ما أهمية تحوير جانب مهم في السياسة الدفاعية – وهو تنويع مصادر السلاح وتقليل التبعية العسكرية. ولكن كلاهما كذلك يعاني من مشكلات مستجدة تضعف من قدرته الاستراتيجية والقتالية: الهيمنة السياسية الحادة لأردوغان على المؤسسة العسكرية التركية، وتداع أكبر في البنية الاحترافية للجيش المصري تبعا لتضخم دوره الاقتصادي، وفقدانه لجزء من  قاعدته الاجتماعية تبعا لمسئوليته عن احتقان عند شريحة كبيرة، وإن لم تكن غالبة في الشعب المصري.

ولكن التوازن العسكري لايمكن فهمه بمعزل عن السياق الاستراتيجي الذي تتفاعل فيه؛ الأهداف السياسية ومحدودية استخدام القدرة العسكرية فنيا وبيئيا. وهنا – تظهرمشكلة ضعف بناء زخم عسكري تركي داخل ليبيا، وشبه استحالة نظرا للتقييدات الدولية والإقليمية على هذه النقطة. وكذلك – فقدان الجيش المصري لفائض كمي ذي نوعية عسكرية تقليدية، فضلا عن تأهلها لنمط عسكري هجين يسمح بتدخل كبير وشامل في ليبيا. (تحليلنا فقط لتجربة 1977، وكان الجيش لايزال على قدر كبير من احترافيته وخبرة حرب قريبة، وباستخدام قوات تقليدية وفي نمط نظامي، وأمام قدرات عسكرية شبه بدائية، تؤكد هذا). وهذا التساوي – في العجز العسكري- واضح لكلا الطرفين، وحاجز لهما عن التصعيد.

 ثانيا) سيناريو حرب بالوكالة، عبر زيادة معدلات الدعم التسليحي والاستشاري والتدريبي.. وهذا بشكل مايحصل حاليا بالفعل. والأرجح استمراريته لفترة، لأن المشكلات البنيوية وحجم النزاع الحاد بين الطرفين المصري والتركي، وتلبسهما بالمشكلات الإقليمية المحيطة بهما (هاجس الهيمنة عند التركي، والتبعية الخليجية عند المصري)، سيعقد مساحة التسوية أو حتى التفاهم البيني.

 ثالثا) صيغ تفاوض حقيقية على إعادة اللحمة السياسية، وفك حاسم للنمط الميليشوي عند كلا طرفي النزاع، وتدشين مرحلة انتقالية جادة بإشراف إقليمي متوازن. وقد يظهر أن حل المشكل المصري التركي البيني هو ضرورة لهذا بحيث أن يكون كل طرف داعم وضاغط لتسوية هذه الإشكالات. ولكن في اعتقادي، أن المصري لوحده يمكنه القيام بدور حاسم في الداخل الليبي، إذا استطاع بالفعل، تغيير بنية سياسته تجاه الملف، وتخلصه من عقدة الإخوان – كما فعل مع حماس – ووقوفه بشكل ما حاسم أمام الضغط الخليجي (وهذا فعله مثلا في ملفات أقل أهمية له كالسوري واليمني)، خصوصا أن الطرف الروسي كذلك قريب من النمط البراجماتي الذي يقصد فقط حفظ قدر من مصالحه. فالتركي أولا وآخرا جسم غريب على تلك البيئة، وهناك حد أقصى لتدخله، ولم تلجأ له حكومة الوفاق وحلفاؤها الإسلاميون على هذا النحو إلا تحت مستوى من الضغط الكبير على طرابلس. والجميع يدرك – أن ليبيا لايمكن أن تعود دولة، فضلا عن استعادة وظيفتها ومصالحها الوطنية والاقتصادية، دون توافق سياسي حقيقي وردم لمرحلة النزاع البيني، ودور مصري داعم.

الاستراتيجية والأخلاق، وتعقيب على الكتاب الفرنسي (حروب واستراتيجية)

http://alsaa.net/article-107029

هذا المقال يعرض أحد فصول  كتاب (حروب واستراتيجية: نهوج ومفاهيم) الذي ترجمته عالم المعرفة حديثا، وهو الفصل المعني بالعلاقة بين الاستراتيجية والأخلاق.. من ضمن فصول عديدة.

وبداية، لفت نظري في المقال – وهو عرض الفصل عرضا أمينا – إشارة أن الاستراتيجية هي أعلى درجات الوعي السياسي، وكذا الإشارة لتجربة المعهد العالمي للفكر الإسلامي في (أسلمة المعرفة – ومشروع العلاقات الدولية)..
وسريعا،

بخصوص السياسة والاستراتيجية؛ فهناك فارق جوهري بينهما – ونقاط تلاق وتلاقح متعددة، ولكن من أهم تجليات تلك الفوارق مايتعلق باستفهام مساحة التأثر والنقاش الأخلاقي.. تحديدا- الاستراتيجية معنية بصنع الطرق والتخيرات الكلية لتحقيق الأهداف السياسية، ولاتُعنى الاستراتيجية بماهية تلك الأهداف (والتي بالتأكيد يدخل في شقها العنصر الأيديولوجي والأخلاقي.. ضمن أمور أخرى كتفاعل القوة والمصلحة والهيمنة، والنظرة الجيوسياسية والتاريخ وطبيعة النظام…)، إلا بقدر الإجابة عن سؤال الجدوى في معرض صنع تلك السياسة (هل الأهداف قابلة للتحقق).. ولكن هذا لايعني انعدام التأثر والفعل الأخلاقي في مساحة الاستراتيجية كما سيأتي، ولكنها أقل وضوحا من مساحة السياسة.. إلا مساحة الاستراتيجية العظمى لأنها قريبة من السياسة.

وهذا حوار لي في هذا الشأن..

حوار حول العلاقة بين السياسة والاستراتيجية

أما بخصوص مشروع أسلمة المعرفة، فكان به نقاط إيجابية كثيرة الحقيقة، ولكنه عاني من قصور حاد في ناحية منهجية، وأيضا بنيوية وإجرائية..
الأولى، صحيح هو أقر أن النظر الديني له مساحة محدودة (إذا تعاملنا معه كحيز الوحي المعصوم وليس الخبرة التاريخية – الشرعية للفقهاء) في التدخل، بالأخص في مساحة الفلسفة والقيم والمقاصد، وأيضا أقر أن أغلب مساحات البناء المعرفي والتطبيقي في الظواهر الاجتماعية والسياسية عالة على التجريب البشري.. ولكنه قائم على فرضية خاطئة في ضرورة صنع نموذج متكامل مغاير، وليس أن الآثار الدينية في أبوابها قد يكون لها محدودية وضرورة الانضباط في متابعتها، وأن تسري بجوارها التجربة البشرية بملاحظتها وليس (الانبعاث منها).. الأليق هو منهج ابن رشد في توحد غايات الدوائر بين الشريعة والحكمة وليس توحد المنهج وطريقة النظر.

والثاني- عدم التشبع وإتقان دراسة التجربة الغربية ومنتجاتها – خصوصا الانتباه لكثير من مدارسها النقدية وغير السائدة.
كذلك، كان لي محاضرة بالقاهرة في يناير 2013 في هذا الشأن، وهي كانت ضمن سياق ما في نقد التصورات البائسة للحركات الإسلامية في تفاعلها السياسي حينها، ولكن بالطبع طرح المعهد العالمي كان أكثر نضجا وعلمية وأخلاقية بمراحل.. ربما فيها بعض فائدة..

 

أما بخصوص الكتاب، فهو كتاب فرنسي صدر حديثا، وللأسف لم يترجم للانجليزية، وفرنسيتي أضعف كثيرا من متابعته، ولهذا سعدت بترجمته العربية.. وإن كنت عموما لاأرتاح للترجمة العربية للأدبيات الاستراتيجية، وكثيرا ماتضع بعض التشويش على المعاني المقصودة الجزئية وأحيانا الكلية.. ولكن هذه الترجمة إجمالا معقولا مع بعض الهنات هنا وهناك.

مايُميّز الكتاب الحقيقة، أنه بنزعته الفرنسية هو مقاربة المداخل الفلسفية والمعرفية (ابستمولوجي) و(العلاقات-دولية) لباب الدراسات الاستراتيجية.. وهذا شيء غير معتاد – خصوصا الأول والثاني – في الكتابة الأمريكية والانجليزية، ولاحتى الروسية والصينية، في الدراسات الاستراتيجية التي تركز بشكل أساس على مساحات الفن والعلم والواقع، أو الخبرة التاريخية، أو المأسسة والبنى.
وبالرغم من ذلك، وأنه أيضا تغلب عليه المسحة النقدية مماقد لاتكون الأولوية في الدراسات التأسيسية، إلا أنه لعرضه المسحي لخلفيات المجال وتطوراته.. هو فعلا كتاب مناسب لقارئي العربية كتقدمة جيدة للدراسات الاستراتيجية.. خصوصا مع عدم وجود مواد مترجمة أخرى.
وأعتقد لمدخله العلاقات-دولي، أيضا سيناسب الأكاديميين القادمين من تلك المساحة..وينقلهم تدريجيا لبؤرة تمايز الدراسات الاستراتيجية عنها.

والكتاب ينطلق من رغبة في تعويض المكتبة الفرنسية بسبب الضمور الأكاديمي في باب الدراسات الاستراتيجي مقارنة بالحال الأمريكي والبريطاني، وأعتقد أن النظرة للحال العربي تقودنا لتقييم أكثر بؤسا 🙄

نصل لموضوع الأخلاق والاستراتيجية، مع تحديد واضح لمفهوم الاستراتيجية وتمييزها عن السياسة كما أسلف، فأعتقد الفصل طرق أمورا عديدة، وأغلبها بطريقة جيدة، مثلا:

احتياج أي جيش للشعور بتفوق أخلاقي ما

moral authority

، الدعوى الأخلاقية كثيرا ماتستخدم كأداة استراتيجية بناء وهدما، أن هناك تداخل كبير بين الاستراتيجية والأخلاق في مساحات معقدة ومهما يكن الشخص واقعيا لن ينكره، بالفعل أغلب الاستراتيجيين ينتمون للمدرسة الواقعية والتي الاستراتيجية منزوعة الأخلاق، إشارته أن الكثيرين يعتقدون أن الاستراتيجية غير المباشرة أكثر أخلاقية.. والحقيقة أن هذه الفرضية أول من سوقها ليدل هارت نفسه في بداية كتابه حيث أنه حمّل كلاوزفيتس (أو بمعنى أدق – كما اعترف هارت بذلك – التحريف الألماني ) مسئولية الكارثة الإنسانية والعسكرية للحرب الكبرى، حين دعى الأول لحرب الإبادة العسكرية

annihilation..
لكن طبعا هارت لم يقصد كما عرض الفصل الاستراتيجية غير المباشرة بحس الجراند استراتيجي – أو السياسة – بمعنى تجنب الحرب كخيار، ولكن على المستوى الاستراتيجي العسكري (وهارت كان فعليا يتعامل معه اصطلاحا كما نفهمه اليوم كمستوى العمليات) والتكتيك.
والطريف مثلا – أن هارت احتفي في طبعاته المتأخرة للكتاب بالتجربة الإسرائيلية لحرب 48، وترك يادين وإيجال آلون يكتبان تجربتهما في تطبيق استراتيجية ليدل هارت في الاقتراب غير المباشر..

نعم، نظريا، الخسارة البشرية لكل الأطراف ستكون أقل مع الاستراتيجية غير المباشرة، على عكس حروب ال

attrition

خصوصا بين جيوش احترافها وقدرتها العسكرية متدنية (حرب الخليج الأولى) أو متقاربة (الحرب الكبرى).. ولكن العنصر الأكثر حسما هو تجذر المجال الأخلاقي في التكوين والممارسة العسكرية وإنضاج آثاره، وليس النمط الاستراتيجي والعملياتي بشكل أساس.

مشكلة الفصل مع ذلك، وهذا ظهر في بعض الفصول الأخرى، أنه تغافل عن النقطة الجوهرية في فهم وتفسير الظاهرة والموضوع..
فهناك فارق جوهري بين (الممارسة الاستراتيجية) وهذا بطبيعة الحال لأنها بشرية، فهي خاضعة وتتأثر بالنوازع الأيديولوجية والمحددات الأخلاقية سواء قناعة أو توظيفا، تفيد أو لاتفيد المحصول الاستراتيجي.. ونحكي هنا بشكل تجريبي وليس معياري.. هذا دوما سيحدث..
أي جيش سيسعى لبناء وتوظيف واختلق دعوى أخلاقية، أي استراتيجية ستراعي في صنعها الآثار الناجمة عن السؤال الأخلاقي – دوليا واقليميا وداخليا وعند العدو – سواء آمنت بها أو لم تؤمن.

وبين (التحليل الاستراتيجي).. سواء حين نقيم التجارب من الخارج (استراتيجيا) أو كمرحلة جوهرية – وهي أساس – لأي (ممارسة) استراتيجية.
هذا التحليل يحرم عليه أصلا أن يكون منحازا أخلاقيا، لأن وظيفته الأساس هي (الجدوى) وليس الحقانية!!!
أنا حين أحلل ال

moral bombing

، أو مااصطلح عليه الضربات الاستراتيجية لإسرائيل في لبنان، أو الحرب العالمية، أنا معني- بالمنظور الاستراتيجي فقط بحساب الجدوى.. بمافيها جدوى الطروحات الأخلاقية والقانونية على جانبيه!

نعم – أنا كمحمد أو فلان – لي تصوراتي الأخلاقية.. مثلا في عدم شرعية عمليات استشهادية تستهدف مدنيين داخل إسرائيل، وقد أرفض مثلا تكييفات فقهية وأخلاقية عملتها حماس عندها.. وهذا يختلف عن موقفي مثلا – أخلاقيا وقانونيا – من الصواريخ ضعيفة التوجيه لحماس أو حزب الله، لأنه هناك منطق قانوني وأخلاقي قوي خلفها يخضع لعدم تناسبية القدرة وعدم الاستسهداف المباشر المُعيّن..
ولكن كل تقييمي هذا ليس له دخل – المفترض – في تحليلنا للجدوى الاستراتيجية، والتي يدخل فيها بكل تأكيد مدى نجاعة أو فشل تسويق الأطراف أخلاقيات لخياراتهم.

ولنسبة الفضل لأهله، التمييز بين التحليل والأداء الاستراتيجيين.
Strategic analysis vs making
هي فكرة قديمة لماوتسي تونج ، حين قال أن الأول علمي وموضوعي،والثاني بشري ومتحيز

subjective.
طبعا التحيز والذاتية تحضر أيضا في الأول، ولكنها نظريا وتطبيقيا أقل كثيرا من الثاني.

الحقيقة أعتقد – أن هناك بالفعل – مقاربة إسلامية قوية جدا ، ولاأقصد التراث الفقهي والتطبيق التاريخي والذين فيهما إشكالات ضخمة يخف كثيرا نقدنا لها إن وضعناها في سياقها الزمني، ولكن المصادر الأصلية بالأساس، فعلا بالضوابط الأخلاقية لممارسة الحرب، وكثير من الدراسات الغربية انتبهت لذلك.. سواء في مساحتي شن الحرب

Jus ad bellum

أو ممارسة الحرب (والأخيرة لها علاقة أكثر بالاستراتيجية)

Jus en bello

اشتركت مرة في سيمنارات بجامعتي في 2012 حول تأثير المركبات الأيديولوجية في الحرب والاستراتيجية، على هامش مؤتمر عن

(Liberal Way of War)

، وأتذكر أستاذي أعطى محاضرة في المؤتمر يسخر فيها من فكرته الأساسية، وقال مقولة

Is there any liberal versus socialist bullet?

وقدمت حينها مشاركة عن المقاربة الإسلامية لنظرية الحرب وأخلاقها..
وأعطيتها حينها بتبسيط للشباب في القاهرة.. ضمن دورة عن (النظرية الاستراتيجية العامة).

وهذا ممكن سحبه على تتبع التدخل الأخلاقي كما ذكرت.

ملاحظات حول التوظيف الاستراتيجي للانتفاضة العراقية

https://www.raialyoum.com/index.php/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a7%d8%aa-%d8%ad%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%88%d8%b8%d9%8a%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b1/

 

بداية، أود الإشارة لنقطتين تبدوان خاصتين، ولكنهما مدخل لما هو أعم:

الأولى – أني لم أدلف لبكور الشباب إلا وقد انتكبت أمتنا بسقوط بغداد الثاني!، وهذا ماكان له أثر مؤلم عليّ وجرح لم تعافه السنون.. فالعراق، مع كل الإشكالات الجوهرية والمآسي والويلات في تاريخه الحديث، كان عمودا لخيمة أمتنا، وصمام أمان لها، ولعل أبرز علامات هذا الدور كان في الحؤول أمام سقوط دمشق في حرب أكتوبر.

الثاني – أني اقتربت بشدة من دراسة الحال العراقي في عام 2010، حين كنت مهتما باستيعاب ملف المقاومة وكذا التدافع السياسي الداخلي وبالأخص تموضع الحركة الإسلامية العراقية والتي كنت مبكرا شديد الإنكار على مسارها الكارثي ديانة ووطنية. وحينها – وصلت لقناعة أن العراق صارت (أرضا محروقة).. ليس فقط بفعل الاحتلال الأمريكي، أو الاستباحة الإيرانية التي أنشبت مخالب الانتقام لحرب الخليج الأولى والتي حتى كنت أحمل مسئوليتها الأخلاقية لنظام صدام أكثر من إيران – بشكل لم يُراع دينا أو إنسانية أو حتى مصلحة، ولكن لحجم التفسخ الشعبي، وانهيار الفكرة الوطنية، وإحلال التخندق الطائفي محلها بعد حرب طائفية مُهلكة، وفساد القوى السياسية في المشهد وفقدانها لشرعية أخلاقية ووطنية، إما لأنها قدمت مع دبابات المحتل، وشرعنته، وخصوصا الأحزاب الدينية السنية والشيعية على السواء كانت تحترف التجارة بالدين ويعشعش الفساد المالي والإداري بها،   أو لأنها كانت في قلب النظام السابق ولم تقم بأي مراجعة أخلاقية أو سياسية على ميراث نكد! فضلا عن المشكلات البنيوية استراتيجيا وعملياتيا في المقاومة العراقية، ومع تحسن ملحوظ في الاستراتيجية الأمريكية.

ومازاد الطين بلة، كانت حكومة المالكي، وماأصلته للمحافظات السنية من نير وعنت طائفي، مما دفع الحالة السنية لأكثر الخطوات حمقا وشذوذا بأي معنى أخلاقي ووطني، وهو المراهنة بشكل مباشر وغير مباشر على داعش وقت ثورة العشائر! وكيف أدى هذا لظهور الحشد الشعبي، وماارتكبه من مجازر مُخزية في المقابل.

وحصل حينها لو نذكر انهيار الجيش العراقي المفاجيء، مشروع الجنرال بيتراوس الذي صنعه علي عينه، وأذكر لقاء معه في ندوة بلندن بعدها مباشرة، وكان الكل ينظر إليه بلوم وتساؤل، والرجل بالطبع حاول بشكل أو آخر التبرير لفشل مشروعه، وكان بالطبع شديد اللوم لحكومة المالكي، ومسئوليتها عن الاحتقان الطائفي واضطرام مشكلة داعش، ولكنه بالتحديد في مسألة الجيش، لم يشر لمشكلة طائفيته فقط، ولكن أشار لغياب فكرة وعقيدة وطنية جامعة له! بالطبع، فالجيش الذي يصنعه المحتل، ويُحقن طائفيا بالوريد، أبعد مايكون عن الجيش الوطني.

مع كل هذا، فكان عندي أمل رأيته يضعف مع الوقت، أن تقود الإفلاسات العميقة لإفاقة ما في الحالة الشيعية العراقية، وعودة ثانية لفكرة الوطنية، فيكون بالتالي الباب مفتوحا لمصالحة وطنية حقيقية، وكذلك مراجعة – يسهل حصولها – في الشق السني.. ولكني كنت أستصعب حصول ذلك في المدى القريب.

ولهذا، فكان حصول الانتفاضة الشبابية في المحافظات الشيعية بالأساس، وضد نظام في أغلبه شيعة موالون لإيران، بل ونقمة عالية على التدخل الإيراني بالأصل.. حلما صار واقعا مبهجا لي شخصيا، وسطّر الشهداء الأماجد عنوانا وطنيا فريدا طالما افتقدناه في البلد العزيز علينا، البائس في تاريخه البعيد والقريب وحاضره.

لكن: هذه المساحات لايمكن التعاطي معها – كقراءة وتقييم ورسم سيناريوهات وشق استراتيجيات، إلا بنَفَسٍ هاديء، وأن نبذل جهدا موضوعيا لتسكين خفقات العاطفة، فمن بديهيات القيادة العسكرية مثلا أن تنحجب – مؤقتا – عاطفيا ونفسيا عن هزات الخوف ودراما الحرب والصراع،
ولا يقضي القاضي وهو غضبان! هذا في حادث بين شخصين، فما بالنا بمن يريد التصدي لهموم أمة، ويُحاول أن يستلبها ثانية من براثن التخلف والذل والتفتت عاشتها لعقود، إن لم يكن لقرون..

وإن أي طرف وطني أو قومي يريد أن يتعاطى بشكل إيجابي مع هذه الانتفاضة، فإن أي ستراتيجية للتدخل والدعم مهم أن تكون واضحة وتعتمد على أمرين..

أ. قراءتنا لانتفاضة الشباب العراقي ومآلاتها، وماتحتاجه لتحقق أهدافها السياسية المطلوبة! بمعنى: أن الانتفاضة غالبا سيتم استيعابها، لأنه يغيب عنها أي قيادة سياسية أو استراتيجية، تستطيع أن تدير عمليات الحشد والتصعيد والمناورة والتفاوض مع أطراف الداخل والخارج لخلق واقع جديد، أو تحوز على قدرة ملء أي فراغ سياسي ناشيء أو حتى تتدافع مع النظام على المساحات ضيقا واتساعا.. ولو هناك إرهاصات قوة ما – من الشباب أو غيرهم – فإن أقصى ماتطمح له هو التوظيف الاستراتيجي لهذا الحراك ومتواليته ضمن مسار ما لتحقيق المتطلبات الاستراتيجية للتغير السياسي على مدى مقبل.

ب. ثم ماهو في يد القوة السياسية تلك لتقدمه في سبيل التوظيف الاستراتيجي تلك واحتياجاته، لأن أي استراتيجية لا تُخلّق في الفضاء النظري، ولكنها لقوى بعينها ذات موارد وقدرات وانحيازات معلومة!

ولكن – كنظرة شديد التجريد، فإن أي مسار للتوظيف الاستراتيجي لهذه الحراك لابد أن يرتكز على نقاط محددة::

1- إنضاج رؤية المطالب السياسية، فالمعلوم بناء على سبق، أننا نحكي عن مطالب إصلاحية بما فيها إسقاط الحكومة، و لكن ليس تغييرلبنية نظام مابعد الاحتلال لغياب القدرة السياسية والشعبية في الأمد القريب، والقدرة على ملء الفراغ السياسي وحل مشكلات شعبية عميقة تحتاج وقتا قبل صنع دستور جديد مثلا.. بالأساس ملف المصالحة الشعبية. ولهذا فالحد الأقصى هو المطالبة بإسقاط الحكومة وإنشاء حكومة وطنية للكفاءات، وإعادة هيكلة قوى الجيش والشرطة على أساس وطني، وتحجيم التدخل الإيراني عبر خطوط محددة، ونزولا لمطالب ترتبط بتحسين البنية التحتية والإصلاحات الإدارية والاقتصادية.

2- وتوسيع الحراك ومنهجته، وبلورة قيادة شبابية له..وهذا مطلب جوهري بالتأكيد أن تتشكل به لجان عمل، وقيادة رسمية، ولكنها تعتمد بشكل كبير على المركزية في المساحة الاستراتيجية (التي تشمل التوجيه الأعلى للمناورة والحشد، وكذا إدارة ملفات التفاوض)، ولكن اللامركزية على مستويات العمل والتكتيك: ممارسة الحشد ذاته والضغط الشعبي. وبالتأكيد الحالة السنية لابد أن تشترك بأشكال متعددة، غير محبذ أن تأخذ أشكال الانتفاضة، ولكن الدعم الإنساني والإعلامي، والوقفات الرمزية والنقابية، والأهم – هو بناء حوارات نخبوية وشعبية لحل المشكل الطائفي كما سيأتي.

3- وضبط الخطاب والوعي داخليا وإقليميا، وبما يمثل ضغطا سياسيا وقانونيا على إيران – وزوائدها- دون أن يتورط في دعم وشرعنه الأجندة الخليجية أو الإسرائيلية والأمريكية.. لابد أن يكون هذا محسوما، بغض النظر عن أي تحليلات تتباين.

ولكني أعلم أن هذا سيأخذ وقتا معتبرا، وبشكل لاينعزل – بل يتدرج مع إنجاز الملفات الأخرى.. لسبب بسيط – أن حجم الإشكالات في جدار الوعي السياسي ومرارات الاحتقان السابق، جعل هناك قراءات شديدة العاطفية والتسطيح والوهن الأخلاقي والأدلجة للواقع الإقليمي والدولي..واحتكاكاتي بالأخوة العراقيين كان يجعلني أرى سرديتين شديدا التنافر ويبقى الواقع بعيدا عنهما، أو بينهما بمعنى أدق: بين من يرى مؤامرة كونية يتحالف فيها أمريكا وإيران وإسرائيل، وداعش (صنيعتهم) على العراق، وبين من يرى مؤامرة خليجية إسرائيلية أمريكية على خط المقاومة!

نعم، ستبقى هناك اختلافات وتحيزات تطال التفسير للتاريخ والواقع، ولكن لابد أن نتعود أن نعيش بها دون أن نشوش على وحدتنا الوطنية والقومية، وأيضا نحاول أن نضع له خطوطا حمر في الوعي والسلوك..
(فأن نبرر مثلا لمجازر النظام السوري – أو أي نظام حالي أو تاريخي! – أو خطايا حركة مقاومة شيعية كحزب الله أو سنية كحماس مثلا – بحجة انحياز للمقاومة، هذا تجاوز للخط أحمر
..
وأن نتخيل أن كل دوامات الصراع الإقليمي والدولي ومحطاته وتعقيداته فقط لايُمكن النظر لها إلا من خلال نافذة واحدة: إيران أو إسرائيل، فكأن هناك مؤامرة كونية مشغولة بتمكين إيران وإجهاض انتفاض الشباب العراقي، أو فقط مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي مع محوريتها.. فهذه مشكلة  في بديهيات تحليل العلاقات الدولية والمنظومات السياسية والعسكرية..وغفلة عن طبيعة علاقات الصراع الإقليمي والدولي الذي تتلبسه معادلات التصعيد والاحتراب والتفاهم في قضايا متبانية وبشكل شديد التحوّل، دون أن ننسى هل الخلفية الأعم هي خلفية تضاد وصراع، أم تحالف!

فإيران بالتحديد لن تختفي من منطقتنا، هي أساس فيها مثلنا وستبقى!، وهي بالفعل في حالة صراع حقيقي مع إسرائيل، والخليجي في حال اقتراب معه بسب سياسة رعناء مستحدثة.. ونزاعنا مع إيران هو حيوي، ولكن مع إسرائيل وجودي وصفري. وأن إيران لم تتغول إلا بانهيار الفضاء العربي ومشروعه، وبالرغم من مسئولية نظام صدام بكل خطاياه عن انهيار العراق، إلا أن الطرف الخليجي كان له دور محوري في تلك المأساة، وهذا مامكن لإيران التمدد إقليميا بشكل عام، واحتلال فعلي للعراق بشكل خاص. حتى وصاية إيران وتمددها على ملف المقاومة – لم تحصل إلا بعد أن باع العرب قضيتهم المركزية بأثمان بخسة. مشكلة إيران لن تُحل بتحالف كارثي مع إسرائيل والرهان على الأمريكي، ولكن إعادة بناء قوة عربية حقيقية، تستطيع أن تتدافع مع إيران بأشكال تجمع بين الاحتكاك والردع والتفاوض والإحلال والاستيعاب ، بل والتحالف في قضايا مركزية! هكذا تبنى الأنظمة الإقليمية وتُدار صراعاتها!

4- والأهم: الاستفادة مما يمثله هذا الحراك من فرصة تاريخية – قدمها لنا الشباب الثائر في محافظات الجنوب الشيعية – لحل المأزق الطائفي وتطوير حراك وحوار مجتمعي مُعمّق على جانبيه، وبما يشمل كذلك – أشكال الحراك في المناطق السنية، بما لايُشوش ويجهض الحراك الأعم، ويُمكن أن يحل المشكل التاريخي، والذي تعقد بعد حراك العشائر وداعش!! أي مصالحة شعبية حقيقية واستعادة للفكرة الوطنية، تتطلب مراجعة واعتذارا وتغافرا، وتعاقدا وطنيا جديدا وتغيير للبيئات والفضاءات المجتمعية والسياسية والأمنية تبعا لذلك، وربما ندخل في مسألة العدالة الانتقالية إذا فعلا تطور الإنجاز السياسي والمجتمعي في مرحلة تالية.. كل هذا يقتضي وقتا ومسارا مضنيا، ولكن لعل الله يكتب للدماء الشريفة التي غطت شوارع البصرة وكربلاء أن تكون وقودا لهذه المهمة الجوهرية لانتهاض العراق من كبوته.

5- والأهم كذلك: تحفيز مراجعة جذرية للقوى السياسية سواء داخل العملية السياسية وخارجها، ومراجعة للخطايا التاريخية والسياسية والأخلاقية، وهي كثيرة، وارتكبتها كل القوى بنسب مختلفة.  المراجعة الجذرية ، وحتى تدشين عناوين سياسية جديدة، واجبةحتى يمكن استعادة الثقة الشعبية بقوى سياسية ما.. تستطيع أن تقود بناء عقد اجتماعي وسياسي وإنشاء نظام جديد.. ليس فقط تأخر لعقدين، ولاتبدو له إرهاصات لحصوله، بل واقع العراق سيبقى للأسف هكذا – شبه دولة، فاشلة وظيفية، وتتوجع من الانشقاق الطائفي، والاحتلال الأجنبي والنزعة الانفصالية غير المتورعة – دون حل هذه المأزق، ظهور قوى سياسية رشيدة ووطنية، وتحوز على قدر معتبر على الثقة الشعبية.

وهذه هي المشكلة البنيوية في كل الحراكات السياسية التي مرت ببلادنا في العقد السابق، وذهبت بتضحيات وعزائم وآمال لغير مكان.. والتدافع السياسي، حتى لو سقطت الأنظمة وتركت فراغا – لايملؤه إلا قوى حقيقية تحوز على ثقة شعبية، ولاتتخلف عنها القدرة والاستقامة.

وإلا – فتحتال الأنظمة والقوى المحلية الفاسدة، أو القوى الإقليمية والدولية، على الآثار الإيجابية الممكنة، وتتجاوزها، أو حتى تبني عليها واقعا مشوها. شعوبنا ، خصوصا الشباب، يضحون ويظهرون علامات الوعي والنجابة والأمل، ويفاجئون الجميع مهما نعاهم البعض وقالوا موت، ولكن تخذلهم النخب.

5- وبعد ذلك تأتي إدارة المرحلة الانتقالية، إذا حصلت في المستقبل!، وطرق بناء عقد اجتماعي وسياسي ونسق دستوري مستجد، واستفادة من التجارب السابقة العربية – الحديثة نسبيا..

هل ثمة خيار عسكري لأزمة سد النهضة، ومنطق التعامل استراتيجيا

https://www.bbc.com/arabic/middleeast-50148319

 هل هناك جدوى من حرب عسكرية مباشرة مع أثيوبيا .. وهل قصف السد جويا مُجدٍ، هذا على فرض أصلا توفر الامكانيات لذلك؟ 

بداية، مهم أن نموضع خطاب آبي أحمد في خانة الاستهلاك السياسي المحلي، ولايخلو من السخافة والتدليس (أي حرب يحشد لها تلك ولاتوجد حدود مشتركة؟ جيشه بإمكاناته المتواضعة سيطير في الهواء؟! وأي صواريخ أرض-أرض عند مصر تصل إليه، وقنابل عنده؟!)،
وكذلك – مايمثله مشروع سد النهضة من أداة للشرعية السياسية بدأت مع مليس زيناوي وتطوير حلم شعبي يتجاوز بشكل ما استحقاقات التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي المنهجية – في تشابه ما مع حالة السد العالي في العهد الناصري، وإن كانت الأخيرة أكثر جدية كنظر استراتيجي وتنموي بغض النظر عن تقييم مآلها.
دعني أوضح إجابتي في نقاط محددة، من الأخص للأعم:
1- هل هناك إمكانية عسكرية لضرب سد النهضة؟ بالتأكيد، مع وجود طائرات الرافال ووضاعة الدفاع الجوي الأثيوبي (سام قديمة)، أو عمليات سرية تخريبية، مع ضعف إمكانية عقابية للخصم، وعدم وجود تماس جغرافي يمكن أن يقود لحرب مباشرة..
لكن!
2- الجدوى التكتيكية والعملياتية ليست هي فقط ماتحكم الخيارات الاستراتيجية؛ لا يوجد سياق استراتيجي أصلا يسمح بتلك الخطوة التصعيدية، لا وضع إقليمي أو دولي، ولا غطاء قانوني، أو حتى نضال قانوني وديبلوماسي متصاعد يقدم غطاء ما، أو دراسة موضوعية لحجم الضرر الإنساني المصاحب لهكذا عملية، ولا وصول مستوى التهديد لمصر لحيز الخطر الذي يُمكن أن يضمن تأييدا شعبيا، ولا تماسك للدولة المصرية وقوة حركتها داخليا وإقليميا ليسمح بإدارة هذا التصعيد ومتوالياته(وهذه النقطة الأخيرة هي عصب تفسير تلك الأزمة بالأصل كما سيأتي).
3- كما أسلفت في تعليقات قديمة في عامي 2013، وعام 2015، المشكلة الأساس هي أن انهيار وزن الدولة المصرية وقدرتها على التحرك الإقليمي في المساحات المختلفة (السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستخباراتية)، بالأخص بعد ثورة يناير 2011، أعطى الضوء الأخضر لأثيوبيا لحسم الإشكال المزمن مع مصر منذ السبعينات حول نقطتين: أن الاتفاقيات السابقة التي تضمن حصة ثابتة لمصر من النهر لاقيمة لها، وأنه بالتالي لاقيمة لموافقة مصرية على أية مشاريع سدود..
4- هل انهار وزن مصر وقوتها الإقليمية بعد ثورة 2011 – كما يقول الرئيس السيسي؟!
بالتأكيد!!
ولكن السبب ليس كما يدعيه أنه الثورة ذاتها!!؛ فالثورة بالأساس قامت على نظام مترهل وفاسد وفاشل وظيفيا (الفشل الوظيفي تحديدا في ملف أفريقيا بدأ منذ السبعينات مع السادات وتفاقم مع سلوك مبارك كما أوضحت سابقا)، ولكن حساسية المرحلة الانتقالية في التحول الديمقراطي كانت تفرض نشأة حكومة وطنية انتقالية، ليس فقط لتنجز الحد الأدنى من ملفات التغيير وإعادة الهيكلة المؤسسية وتحقيق الحد الأدنى من ملفات الدمقرطة وتتفق على العقد السياسي الجديد وتصيغ البيئة السياسية بما يمنع العودة للاستبداد مثل ما حصل – كما تنص أدبيات وتجارب أي تحول ديمقراطي، ولكن لأن الخلخلة الوظيفية المتوقعة في تلك المرحلة – خصوصا مع إعادة هيكلة المؤسسات وهو أصلا ما لم يحصل – تقتضي الحكومة الوطنية والدعم الشعبي والخبراتي الجارف خلفها، بما يُقدم تعويضا وظيفيا، وكذلك في الصورة الإقليمية لقوة الدولة!
لماذا لم تحصل هذه الدينامية الضرورية ودخلنا في حكم المجلس العسكري والاضطراب السياسي الحاد، والذي قاد لنظام شديد التشوه كشرعية سياسية ووظيفة (فترة مرسي)،
تلاه وأد التجربة الديمقراطية وما لذلك من آثار استراتيجية؟!
المسئول كما نعلم القوى السياسية المدنيةـ وعلى رأسها الإخوان، ولكن المجلس العسكري – وكان في القلب منه وأداته في التعامل مع الوضع المدني الرئيس الحالي- وطريقة إدارته العقيمة عديمة الخبرة لمصر هو المسئول الأكبر.
فترة حكم د. مرسي الله يرحمه، كذلك أسهمت بشكل فعال في تداع أكثر لقوة البلد، وخصوصا في طريقة التعامل مع ملف السد كما فصلنا حينها،
ثم فترة السيسي ضاعفت هذا الانهيار، بكل مااعتملت على ضرب الإجماع الشعبي، وخنق القوة السياسية والقابلية الاستراتيجية للدولة، وضعف أكبر في الحركة الإقليمية للضعف الذاتي وأيضا للتبعية والالتصاق بالخليجي والأمريكي (ترامب) والإسرائيلي!
من سخريات الأقدار، وهذا مايؤكد الغباء النكد للقيادة المصرية الحالية أكثر من مجرد فساد ضميرها الوطني، هو الالتجاء للإسرائيلي كوسيط في سد النهضة، مع أنه وإن أفاد في تفصيلات فرعية هنا أو هناك في تلك المرحلة، فإن الخنق الاستراتيجي لمصر بهذا الملف وغيره، هي أساس (استراتيجيته الطرفية) الذي بدأها منذ الخمسينات!

(هذا كتب جيد ليوسي ألفر، الضابط في المخابرات العسكرية الإسرائيلي، وأحد مهندسي تلك الاستراتيجية فترة السبعينات

Periphery: Israel’s Search for Middle East Allies

والسيسي الذي ينعي على القوى المعارضة – بحق بالمناسبة – عدم فهمها للدولة (التي يدرسها منذ خمسين عاما)، وبالتأكيد هي دولة مبارك الفاشلة و حتى لم يفهمها بشكل دقيق ويحافظ على أدنى سمات الوظيفية والأهلية السياسية لها، هو أهم علامات العبث والضعف لما وصلت له حال رأس الدولة المصرية (ما يبزّ الملهاة التي حصلت في عهد مرسي في اجتماع القوى السياسية الحليفة له والذي أُذيع على الهواء دون عملهم، هو طلب السيسي من آبي أحمد أن يُقسم له أنه لن يمس مصر بأذي!!!)
5- إذن هل الحل مع أزمة سد النهضة وماتحمله من هواجس ومخاطر، أوسع من الآثار الجانبية للسد نفسها، يرتبط بملف التحول السياسي الجذري في مصر، والاستعادة
المنهجية لقوة مصر الداخلية أولا، لأنها الضامنة لقوتها الإقليمية؟
بشكل جذري، نعم..
ولكن – مجرد التحول الديمقراطي كما شرحنا سابقا، بحد ذاته ليس ضمانة، دون وعي استراتيجي وسياسي مصاحب، لتعامل شامل يُزاوج بين أدوات الاستيعاب والضغط (الردع الدفاعي المُبطن والحصار الجيواستراتيجي الهادي) والتفاوض، وبناء القوة الناعمة الداعمة اقتصاديا وشعبيا داخل أثيوبيا، ثم التصعيد الدولي والقانوني، مع فرض خط أحمر واضح للتصعيد العسكري وفقط يرتبط بحد المجاعة المائية. فضلا، عن استراتيجية البدائل المائية والترشيد كأمر مطلوب في ذاته كسياسة حكومية وأمن قومية، وأيضا لبناء الصورة الدولية قانونيا ودبلوماسيا التي قد تدعم أي تصعيد مستقبلي.
ولكن حتى النظام الحالي، بكل إشكاله كان أمامه خيارات، وأعتقد  لاتزال.. 
منطق التهاوي في التعامل الديبلوماسي المُراهق مع الملف لابد أن يتوقف، ويتم المزج بين التعاطي الإيجابي واليد المدودة، مع الحسم في
التعاطي مع عنصر الوقت والمطالب المحددة مع أثيوبيا، والتصعيد القانوني والدولي الفوري، ورسالة ردعية غير تصعيدية ولكن واضحة
explicit
(هناك خط أحمرمُحدد، كل الخيارات عند تجاوزه متاحة) ،
مع وسائل أكثر تصديقية وإتاحية لهذا الردع (عمليات تدريبية مشتركة وطلعات جوية قريبة، وتداخل في قواعد عسكرية في دول جوار ومنها لأنظمة  حليفة ^_^!!!)، و بناء ضغط في مساحة التحالف الإقليمي (الأفريقي والروسي والخليجي – وترك تلك السياسة المُقززة فيما يتعلق بالوساطة الإسرائيلية)..
فضلا – عن كذلك فتح الملفات لنقاش خبراتي ومجتمعي وسياسي (شيء طبعا شبه مستحيل حاليا بالنظر لطبيعة النظام الحالي، ولكن على الأقل كحد أدنى) للمضي في استراتيجية مائية بديلة، وفعلا النظام بدأ في بعض جوانبها، ولكن ليس هناك في يدنا أي مؤشرات صادقة وموضعية (بسبب غياب المؤسسية والرقابة السياسية والبرلمانية) عن مدى نجاعتها.

على هامش كتاب (عن الحرب) لكلاوزفيتس – الحلقة الثانية (الاستخبارات)

لماذا يقلل كلاوزفيتس من القيمة الاستراتيجية للاستخبارات؟
في الفصل السادس من الكتاب الأول وهو الإستخبارات تكلم الكاتب بلفظه أن (لو تمعنا في الأسس والمصادر الحقيقية لهذه المعلومات -القادمة من الاستخبارات- وكيف أنها غير منطقية ومتضاربة فيما بينها سرعان ما سندرك أن الحرب بناء هش…..حتى أن الكثير منها كاذب ومعظم الباقي غير مؤكد أما الشيء  المعقول الذي يمكن طلبه من ضابط ما فهو إمتلاك معيار للأحكام من خلل معرفته بالرجال والقضايا المطروحة وإدراكه العام وفطنته كما ينبغي عليه السير وفق قوانين الإحتمالات) 
 هل لازال الأمر بهذه الصورة والتي شبهها في كتاب آخر بأن (الطرفين يتلمسان طريقيهما في الظلام) فنحن الآن في وقت يمكن للمدني العادي الحصول على مخططات مقبولة للأرض في أي مكان ولعل حضرتك تتذكر كيف استخدم حزب الله جوجل لقصف إسرائل في 2006 فضلا عن ما لدي الدول العظمى من إمكانيات والدول تُعلن عن تفاصيل التفاصيل حول جيشها من ميزانية وتسليح واكتشافات جديدة…الخ 
هل مثلا كان يقصد بأن الطبيعة الديناميكية للحرب هي ما تجعل الأمر أصعب؟ يعني أننا يمكننا معرفة الوضع بدقة أثناء فترة السكون لكن ما أن تبدأ الحرب تتغير الأمور بشكل جنوني؟ هل مثلا لأن هناك استطلاع دفاعي كما أن هناك استطلاع هجومي؟ إن كان الأمر كذلك فهذا سيعني وجود تعتيم أو نقص في المعلومة وليس تضارب ولا معقولية بالشكل المُصوّر
——————————————

بخصوص موقف دراسة كلاوزفيتس من مسألة الاستخبارات فهو شيء لافت جدا، وله فائدة جلية، لفهمنا الاستراتيجية وعوامل الثبات والتغير فيها، وليس فقط لتحرير المسألة تلك.
أولا) بالفعل كلاوزفتيس لايُعوّل كثيرا على مسألة الاستخبارات، وكذا مسألة المفاجأة في نظريته للحرب، على عكس صن تزو مثلا لو طالعته، فقد جعلهما تقريبا أساس الانتصار بكل معاني – خصوصا الاستخبارات لأنها الأداة الأساسية كما يراها لمعرفة الخصم.
ثانيا) ولكن لاحظ نقطة جوهرية، وهو اعتبار السياق الزمني والظروف المحيطة في تقييم النظريات والخلاصات – سواء تقدير مدى مناسبتها لزمانها
والأهم – إمكانية تعميمها لتناسب عصرنا مثلا!
ولو عجز الاستراتيجي – المنظر والقائد – عن اكتساب ملكة التمييز بين الثابت والمتغير، والقدرة على تسييق الطروحات الاستراتيجية، سيخبط بشكل عشوائي..
خصوصا حين يدرس التاريخ، وهو أهم ميدان لشق النظريات واستخلاص الدروس..
وصعوبة تلك المهمة التنظيرية والتطبيقية، جعل البعض يزهد أصلا في إمكانية الاستفادة من التاريخ (لأنه يحمل دروسا متناقضة، كما نقل بوفر في أطروحته) دعك حتى من المرض الشهير في إساءة تفسير التاريخ بشكل إرادي أو غير إرادي.
 أو حتى العودة بالتراكيب النظرية المطروحة لغير زمانها – المفارقة التاريخية..
فلماذا نقول أن نظرية الاستراتيجية والحرب عند كلاوزفيتس، هي أنضج ماكُتب في التاريخ الاستراتجي وأكثرها امتدادا حتى اللحظة؟ وهذا لايعني أنها خالية من القصور أو حتى الانقطاع الزمني في بعض المواضع.
  كيف يمكننا مثلا تخيل فهم وتطبيق خلاصاته في مسائل تكتيكات وتراتيب الهجوم والدفاع والمحاصرة في وضع تغيرت فيه خصائص الحرب ومنظومات التسليح بشكل كبير، وظهرت بيئات جيواستراتيجية كاملة مثل السيبر والفضاء فضلا عن الطيران والنووي من قبل؟
الإجابة ذكرها كلاوزفيتس نفسه، حين ذكر أن (لكل عصر نظريته الخاصة في الحرب!).. بمعنى – أن هناك ثلاثة مستويات للتنظير الاستراتيجي:
المستوى العام، وهي القواعد التي تحكم السلوك الاستراتيجي وطريقتها في العمل، وتمتد عبر الأزمنة.. مسائل، عن حاكمية الهدف السياسي، وكسر إرادة الخصم السياسية وتحويرها، ومنطق الحرب ذات الأهداف الشاملة والمحدودة، وفكرة تغيير المنظومة العسكرية كفن وأداء ونهايات لتتناسق مع الأثر الاستراتيجي، والحساب الاستراتيجي بالتوفيق بين الوسائل والطرق والنهايات.. وهكذا
المستوى الخاص بكل عصر، ويرتبط بظهور منظومات تسليحية وبيئات جيواستراتيجي من بابها كالجو مثلا وماأتاحه للاستراتيجية في مستواها العام والعسكري من فرص وتهديدات وتعقيدات، والتطورات السياسية والاجتماع- إدارية.. كمثل ظاهرة انفجار ظاهرة الحرب مع الدولة القومية وتجييش الشعب في عهد نابليون، أو الحروب الشعبية مع الصين والشيوعية، أو… أو..
في هذا المستوى – يمكننا تلمس خلاصات عامة تنطبق على خط زمني بعينه، ولكنها تتغير بدورات زمانية.
المستوى الثالث – هو تسييق تالي بالحالة الاستراتيجية بعينها.. مثلا الصراع العربي الإسرائيلي، أو الحرب الباردة.. هنا تظهر أنماط وخلاصات استراتيجية عامة، ترتبط بالأوضاع الخاصة بذلك الصراع، الجغرافيا والتركيب السياسي والتحيزات الاجتماعية والأيديولوجية والخبرة التاريخية والتوازن العسكري والثقافة الاستراتيجية والعسكرية السائدة و و و
ويُخلص من ذلك تخليق نظرية للانتصار في ذلك الصراع..
Theory of Victory
وهذه فوق وأوسع من الاستراتيجيات التفصيلية التي تتغير في المجرى الزمني لهذا الصراع.. هي الفكرة النظرية الحاكمة لإدارته والانتصار فيه!
كان أستاذي يسميها حبكة الرواية
Story arc،
.وهي ماعناها كلاوزفيتس أنها الوظيفة الأولية للاستراتيجي أن يعرف نوع الحرب التي يزمع شنها قبل خوضها
استيعاب مستويات الثبات والتغير في فهم الظاهرة الاستراتيجية إذن جوهري، لتفسير النظريات الاستراتيجية التي كُتبت في أزمنة سابقة والاستفادة منها، وأهم من ذلك، صنع الاستراتيجية ذاتها لأي صراع!
 
فتثبيت ماليس ثابت يقود للتحجر والدوجمائية، فيقود لفشل ذريع.. وهذا يُذكرني بتجربة منظمة التحرير وفتح في الستينات والسبعينات حين حاولوا بوضوح وتصريح أن يستنسخوا نظرية الحرب الشعبية الماوية أو الجيفارية في الصراع، وتغافلوا عن فروقات جوهرية – أبسطها .. أن مركز الثقل الاستراتيجي والعملياتي جغرافيا وعملياتيا هو الأرض المحتلة، وأن مايقومون به هو حرب حدود منخفضة الحدية وليس حرب شعبية أو حتى حرب عصابات!
وتصورنا أن كل شيء متغير، سيجعلنا مقطوعي الصلة بقواعد المنطق الاستراتيجي، وحتى تحليل بيئات استراتيجية بعينها، فيجعلنا نبدأ من الصفر تنظيريا وتطبيقا في كل مرة.. مع أن فائدة النظرية الاستراتيجية – كما أوضح كلاوزفيتس – ليس التوجيه المباشر لكيف نتصرف، ليس كتاب للطبخ كما حاول صن تزو أحيانا أن يتصرف، ولكن رفع مستوى الوعي العام بالظاهرة، ممايطور بشكل كبير الملكة القيادية والاستراتيجية، ويوجه بشكل غير مباشر ولكن حاسم تلك الملكة أثناء اتخاذ القرار.
وأعتقد أني تطرقت لمسألة التوازن والتدقيق في جوانب الثبات والتغير في ظاهرة الحرب والصراع والاستراتيجية في تلك المناقشة.. فراجعها
ثالثا) الحقيقة – أني انتبهت  لهذا التقسيم في مستويات التنظير الاستراتيجي (عام، وزمني، وتبعا للحالة) بمجرد احتكاكي بدراسة الاستراتيجية، ولم أطلع عليه حينها في أي مصدر، ولكني كنت عالة بلا شك على تراثنا الأصولي. فهذا أمر أي دارس للأصور يعتاد عليه وهو تغير الفتاوى تبعا لتغير الأزمنة والأمكنة والعوائد، كما عنون ابن القيم في (اعلام الموقعين)، بل حتى ماذكره شلتوت من تغير الأحكام المنبنية على علل تتغير، والمناقشات المستفيضة لأفعال عمر في باب الإمامة، وما ظنه البعض تغيير تعسفيا للأحكام، وأذكر أني تأثرت في صغري لعرض القرضاوي في (السياسة الشرعية) لتلك المسألة.. ووجدت هذا المسلك في التسييق الزمني للمداخل الفقهية والتنظيرية أشد مايكون في باب الفقه السياسي.. لعلك راجعت هذا
فكان من السهل عليّ أن أصل لذلك التقسيم التنظيري، خصوصا حين وقعت على مقولة كلاوزفيتس عن خصوصية نظرية الحرب في كل عصر..
   ولكني بعد ذلك، وجدت المسألة شديدة الوضوح حين قرأت ماو، حين قال:
(أن هناك قواعد للحرب عموما، وقواعد لحرب العصابات والشعبية، وقواعد للحرب الشعبية في الصين)
رابعا) في خصوص مسألة الاستخبارات وقيمتها بالأخص، فمايكل هاندل تناولها بتفصيل في دراسته
Masters of War
وقضيته الأساسية كانت إثبات الوحدة الموضوعية للنظريات الاستراتيجية لكل من كلاوزفيتس وجوميني وماو وصن تزو، كقاعدة غالبة، بالرغم من كثير من الاختلافات التفصيلية والتطبيقيات، تبعا لوحدة أساس المنطق الاستراتيجي، والتي لاتختلف على حسب الأزمنة والبيئات و(الثقافات)..وبالرغم من تعسفه بعض الشيء في بعض المواضع،ـ لكنه أقر كذلك بوجود بعض الاختلافات.
وأشار بالأخص أن محدودية أدوات الاتصال والمراقبة والتتبع، والانعزال الجيوسياسي والمعلوماتي، والاختلاف اللغوي والاجتماعي والثقافي بين الأطراف المتصارعة، مع التضخم الهائل في تعداد وانتشار الجيش في عصر نابليون، هو ماجعل كلاوزفيتس يزهد في اعتبار عنصري الاستخبارات والمفاجأة على عكس صن تزو..
ورأيي طبعا أن الاستخبارات عنصر مهيء للتفوق الاستراتيجي والعملياتي في الحرب، هذه قاعدة عامة تتجاوز أي زمان..
لكن هناك فعلا مساحات كبيرة للتغير في تنزيلها زمنيا وعلى حسب الحالة!
 
1- تغير في المصادر المتاحة ونوعيتها
مثلا في هذا العصر، كما أشرت أنت، أغلب مصادر الاستخبارات المفيدة هي مايسمى
Open Sources Intelligence!
وبالتأكيد الاستخبارات الرقمية والتقنية
لكن في أتون الحرب الباردة، لطبيعة السرية الصارمة على مصادر المعلومات، والاحتياج الحيوي لمعلومات على درجة هائلة من السرية، كان المخروط الاستخباري ينحو من حيث الأهمية للاستخبارات البشرية!
2- تغير في طبيعة المعلومات المطلوبة لصانع القرار الاستراتيجي والعملياتي، وهذا حتى في ذات الحالة والزمن

فالتعامل مع الغواصات الألمانية بالحرب الثانية كان يقتضي نوعية ما من المعلومات، فاكتشاف الانجما في الحرب العالمية الثانية
3- تغير وتنوع في الأدوات التحليلية لمصادر تلك المعلومات، وهذا شيء خطير جدا
قديما، فالاختراق الذي حصل مع الانجما كان تقنيا تحليليا وليس في الوصول لها.
المشكلة المعاصرة لكل أجهزة المخابرات، مع الإغراق المعلوماتي الهائل، هو وجود أطر تقييمية وفارزة أولا، ثم أطر تحليلية ثانيا!!  بمعنى – كل شيء تقريبا موجود، ولكن كيف تفرز المهم عن غير المهم، وكيف تفسر وتجمع آلاف التفاصيل المنثورة في أطر ناظمة تقودك لخلاصات استقرائية سليمة!
ولو تريد رأيي، وعن تجربة شخصية، ماهو الشيء الذي يفرق هذا الشخص أو الجهاز في فهم المشكلات الاستراتيجية وتصور تطورتها والسيناريوهات المستقبلة، هي نضج أداته التحليلية التي تنتج عن فهم معمق لظواهر الاستراتيجية والصراع والحرب من ناحية، ووعي كثيف بالبيئات والأطراف التي يريد فهم سلوكياتها وفعلها حاضرا ومستقبلا!  (أليس هذا مانقلته عن كلاوزفتس؟!!)
وليس معلومات سرية كهنوية قادرة على إحداث اختراق بعينه!!
فساد المنطق التحليلي واستيعاب البيئات، قد يؤدي حتى للتعامل مع المعلومات شديدة الحساسية والتي تنتج عن عمل استخباراتي عالي القيمة، بشكل مُهدر ومعكوس!
وتقريبا أغلب الأمثلة على الفشل الاستخباراتي -خصوصا عند الأجهزة الاحترافية –  هي في تلك المساحة، وليس مساحة جمع المعلومات! وأوضح الأمثلة هو الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في حرب 1973، وذلك لوجود عقيدة استخباراتية خاطئة نشأت داخل أمان تحديدا، أن المصريين لن يحاربوا قبل تحقيق السيادة الجوية، أو امتلاك ردع صاروخي كاف.. فتجاهلوا متعمدين آلاف التفاصيل عبر أشهر، بل حتى تعاملوا بشكل أخرق مع معلومات أشرف مروان، إلا متأخرا بعد فوات الأوان..
الطريف هنا، هو النقاش الذي استمر لعقدين بعدها عن مسئولية جهاز أمان بقيادة زعيرا، وهو ماوصلت له لجنة أجرانات.. أم ماطرحه زاعيرا نفسه للدفاع عنه، أن الاستخبارات ليس وظيفتها تحديد (نوايا الخصم) ،ولكن إمكانياته، ولكن النوايا تقدرها القيادة السياسية لأنها ترتبط بالفهم الشامل للخصم وانحيازاته وطريقة تفكيره والملابسات الحالية!
كلام زعيرا فعلا صحيح من ناحية، أن الاستخبارات ليست هي صاحبة القول الفصل في تقييم نوايا الخصم، لأن الأخيرة لا تحددها معلومات بعينها!! ولكن الفهم الشامل والمستوعب لظاهرة الصراع وتركيب البنية السياسية والشخصية والإطار الاستراتيجي للخصم، وهذا أمر يتعدى كثيرا الملكات والخبرات والتفويض السياسي (لضباط الحالة الذي قد لايتجاوز أحدهم رتبة النقيب!) في جهاز الاستخبارات..
ولكن المخابرات بالتأكيد مصدر معلوماتي حيوي للقيادة السياسية، ولابد أن تقوم كذلك بوضع صيغ استشرافية لنوايا الخصم واحتمالات الصراع وأشكاله!!! وهذا بالتأكيد يقتضي تطويرا عميقا أوسع من طرق جمع المعلومات وبناء شبكات الاختراق البشري والتقني، والعمليات السرية!! لتطوير قاعدة معرفية وتحليلية مُعمقة في الاستراتيجية واستيعاب البيئات والخصوم!
هناك مشكلة أخرى كانت حاضرة في أمان، وموجودة في كل أجهزة المخابرات العربية (والمصرية تحديدا)، ولها علاقة بالعنصر الرابع المُحدد لقيمة الاستخبارات ووضعها في السياق الاستراتيجي، وهي استراتيجية المخابرات!
4- فالاضطراب في استراتيجية العمل الاستخباري هو من أهم المتغيرات كذلك..
لانحكي هنا عن الأمراض الفجة في أن تنشغل أجهزة المخابرات الخارجية (العامة والعسكرية) بالملفات الداخلية، السياسية والأمنية، وحتى الفنية والإعلامية والبيروقراطية!! وكل هذا الخبل!! كما كان موجودا في عهد ناصر ماقبل 67، ولكنه أصلحها جذريا بعدها، وعادت لذات الدور المقيت في النظام المصري الحالي!
ولكن أقصد جهاز استخبارات محترف كأمان تحديدا( وفيه مشكلة أخرى وهي أنه مسيطر على العمل والتقدير الاستخباري الإسرائيلي مما يجعل للجيش دور أعلى كثير مماهو مطلوب في صنع الاستراتيجية مما يساهم في عسكرة وتكتكة خيارات الاستراتيجية).. وهو أنه من يضع الصياغة الاستراتيجية المبدئية!
وهذا خطأ.. لماذا؟
لأن تلك الصياغة هي نتاج جهد تكاملي ولجهة عندها تفويض واستحقاق سياسي، كالقيادة السياسية والاستراتيجية.
ولكن تأثير ذلك على استراتيجية العمل الاستخباراتي أنه يدفعه لجمع معلومات، وطرق بيئات عمل، فضلا عن منطق وخلاصات تحليل، تخدم الخيارات الاستراتيجية المُفضلة للجهاز، أو المؤسسة التابع لها (الجيش في حال إسرائيل)..
مع أن استراتيجية جمع المعلومات مثلا، لابد أن تطرق وترتاد مساحات غير خطية ومباشرة، لتتجنب المفاجأت، ولكن في توازن كذلك مع المساحات المطلوبة لصانع القرار.
وهنا أستاذي يُميّز بين نمطين في استراتيجية المخابرات
Policy Driven
Policy Relevant
الأول خطأ كبير، لأن جهاز المخابرات يتم توظيفه – ذاتيا أو من قبل القيادة السياسية – لجمع معلومات تؤكد فرضيات مسبقة هي أساس خيار سياسي أو استراتيجي ما.. أو على أقل، فقط تعمل في تلك المساحات بفرض موضوعية الجمع والتحليل.
والثاني مطلوب ومهم.. أن يكون أغلب نشاط المخابرات واع بالفعل لمتطلبات صنع السياسة والاستراتيجية بالتركيز على مساحات وملفات بعينها، مع إعلاء التفكير النقدي والتخلص من أي فرضيات مسبقة أو ثابت.
ولكنه كذلك يترك مساحة للارتياد الاستكشافي في الملفات والبيئات!
 الخلاصة  –
نعم، كلاوزفيتس كلامه كان له منطق زمني حينها، ولكن التنظير حول الاستخبارات وتوظيفها استراتيجيا وعملياتيا هو من باب النظريات التي تتغير حسب السياق الزمني والتطور التقني وطبيعة الصراع.
وعصر الحرب الباردة تحديدا كان درة النشاط الاستخباري البشري والتقني، وفائدته كانت ضخمة – من حيث دائرة جمع المعلومات – تبعا لطبيعة التنافس النووي والتقني حينها.
ولكن في عصرنا، ربما رجعنا نسبيا لخلاصات كلاوزفيتس..

تعليق موجزعلى التصعيد الأمريكي الإيراني

 

أنا لاأرجح أن يقود التصعيد السياسي ، ورفع مساحة التوتر العسكري، لمواجهة حقيقية.
من ناحية الأمريكي، الأمر بوضوح هو فكرة ترامب المعتادة للمزج بين شقي الإرهاب النفسي بالتحرك سريعا نحو تصعيد عسكري (لاتوجد أدنى مقوماته من حيث القدرات والاستراتيجية والقبول المؤسسي والشعبي والدولي، وتخالف مبدآه الأساس في تقليل حجم التدخل العسكري في الملفات الخارجية وخصوصا في الشرق الأوسط)، وفتح باب خلفي ومعلن لإعادة التفاوض، مما سيستعمله بمجرد حصوله في العلن (حتى دون نتيجة ملموسة) كانتصار سياسي له في الداخل.
من ناحية الإيراني، كذلك فكرة التصعيد الكامل غير مطروحة، إلا كمنطق دفاعي ردا على اعتداء عسكري أمريكي أو إسرائيلي لاتوجد شروطه كماأسلفت. (الإسرائيلي بالأخص لن يضرب إلا بتحقق اقتراب الوصول لسلاح نووي).
مايميز الإيراني أمران:
الأول) وجود درجة عالية من المرونة الاستراتيجية لصك مخروط تصعيدي متدرج، يقصد لفرض استجابات ذكية في معرض الأزمة، وتحويل تدريجي لنهايتها لصالحه على مدارها.
الثاني) أنه يدرك تحديد موطن تميزه الاستراتيجي والعسكري ونقاط ضعف خصمه.
فالتحليلات التي تتبع مبدأ قياس التوازن العسكري التقليدي في القوات البرية والجوية والبحرية فعلا تُخطيء كل وأهم شيء.
الإيراني يعتمد على نهج الحرب غير النظامية، والصواريخ.
واستطاع أن يُنضج قدرا لا بأس به من الأدوات والرؤى العملياتية والتكتيكات في كل نهج.
الموضوع يطول، ولكن مثلا في النمط الأول: عمليات تخريبية (بحرية وكوماندوز) في الخليج بأدواته المباشرة او زوائده الاقليمية، عمليات تخريبية في بلدان الخليج، تحريك شعبي للحالة الشيعية بأشكال تصعيد مختلفة، العراق وسوريا ولبنان، حملات إرهاب دولي للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، استهداف قيادات سياسية بعمليات اغتيال، حرب سيبرية…