تحليل استراتيجي

مسارات التدافع العسكري، واستدعاء الاستراتيجية في حرب غزة

اقرأ في هذا المقال
  • سيد نفسه من لا سيد له
  • نحن أحرار بمقدار ما يكون غيرنا أحرارا
  • ليس من المنطق أن تتباهى بالحرية و أنت مكبل بقيود المنطق
  • حيث تكون الحرية يكون الوطن
  • ليس من المنطق أن تتباهى بالحرية و أنت مكبل بقيود المنطق
  • إذا تكلمت بالكلمة ملكتك وإذا لم تتكلم بها ملكتها

يلزمني إيضاحان في البدء

الأول) في هذا الظرف المشحون وجدانيا – بالمعنى العام والخاص – كم يثقل على المرء الحديث بمنطق ولغة (باردة) حول مسارات التدافع العسكري، وإعادة الاعتبار للأسئلة الاستراتيجية ومآلات تفعيلها وقد غابت عن جل الأطراف. ولكنه واجب حتمي؛ فعكسه خيانة لأمانة العلم والخبرة.
وإن الأمة التي تخوض صراعا، لن تفتقر أصحاب الهمم والعزائم وحاشدي العواطف وتمجيد الشهادة، ولكن كما يقرر تاريخنا القديم والحديث، أشد من تحتاجه في مفاصلها الهامة فوق هذا من يتناول هذه الأمور ويقضي (نعم كأنه قضاء، ولا يقضي القاضي وهو غضبان ومشحون بعاطفته) بحسم ودقة حول الموازين ومنتوج تدافعتها وجدواها، ويفصل كما الجراح بمقايسة منضبطة وحادة مسارات تفعيل وإدارة القوة مفصولة عن أي اعتبار غير قطعيات الشرع (إذا اعتبرنا خصوصيتنا).
والعقل الاستراتيجي لأي أمة أو دولة أو حركة، ليس محصورا بقائد أو مفكر أو أكاديمي، ولكنه نخبة تنداح فيها هذه المعارف والسمت والتجريب والعلم والفن، وبالتأكيد، ليس مطلوبا من كل أفرادها أن يقترفوا الاستراتيجية أو يستوعبوا مفرداتها، ولكن بالتأكيد تقدير قيمتها في الميزان والتقويم، ولعل في هذا نسبة لأحد أرفع علوم أصول الفقه تراثيا (المقاصد). ونتاج النظر الاستراتيجي مهما تعمق، فهو لا يقدر على التنبؤ بثقة عن المستقبل وهو قائم على اعتبارات بشرية يغمض قياسها وتدافعات مادية ومعنوية مفاجآت بيئية غير محسوبة، ولكن وظيفته تنظيم الفكر وموضعة القوة وتوظيفها السليم، وطرح الأسئلة المطلوبة وفتح مسارات البحث عن إجابتها برشد أكثر منه تقديم إجابات جاهزة.

الثاني) لا أخفي شعوري بمرارة شديدة حين عرفت أنباء الهجوم المُقاوِم في 7 أكتوبر، لأنه مباشرة أتت لي الأسئلة الاستراتيجية البدهية: ما الأهداف السياسية؟ كيف يمكن توظيف هذا الإنجاز العسكري الباهر في ظل غياب متطلباته الأساسية في مشروع فلسطيني وطني وقيادة برؤية سياسية واستراتيجية تُناوِر به وتضعه في تصميم محدد؟ بل وفي ظل الخلل البنوي في الأهلية الاستراتيجية عند الحركة الوطنية الفلسطينية في مساحاتها المعرفية والمؤسسية والتطبيقية – المؤسسية مثلا .. ضعف سيطرة القيادة السياسية وانتصابها كموجه استراتيجي لجسدها العسكري ونشاطه!
 فضلا عن خصوصيا الحدث في تجاوز واسع في مساحة الشرعية الأخلاقية لحركة التحرر في مسألة استهداف المدنيين وكيف يمكن شيطنتها دوليا وإقليميا وكارثية ذلك تبعا لقوة الصورة في هذا النمط من الحروب (كما هو على خصمك، يسري عليك)،
وأكثر إقلاقا عندي – الأثر الاستراتيجي (غير المقصود) وهو تهديد مصالح حيوية ووجودية عند الخصم تدفعه لتسكين كل الحساسيات في الحساب الاستراتيجي و عنصر الإدماء (وهذا ما يجعل لحركة المقاومة أفضلية استراتيجية وليس كسحها العملياتي!!)، وبهذا حتمية الدخول البري واحتلال غزة، وإلغاء المعادلة التي تقبلها هو نفسه من 2007 لأنها تحقق مقصوده الأمن قومي (بقاء حماس تدير غزة ضمن موازنة ردع وابتزاز يتم تجديدها دوريا، مع بقاء سياسة التمايز في فصلها عن الضفة والقدس).
 نعم، منذ 2007 وغيري – وحتى أنا – مؤمن بضرورة تغيير هذه المعادلة والتحرر من أسر السلطة لصالح مشروع مقاوم صرف يلزمه التماهي مع مشروع سياسي مؤقت فقط تحت بوصلة التحرر دون فقد المناورة الاستراتيجية، ولكن أن يحدث هذا بتهيئة وتدرج وبناء متطلبات استراتيجية في القيادة الوطنية والرؤية، وليس دفعا من المحتل على قارعة تخريب غزة.
ولوجود هذه المرارة، مع اتساع حالة الانتشاء المفرط في شعوبنا ، وهذا متفهم إنسانيا وقيميا، حاولت أن أتوسع كثيرا في مقالي السابق في المشابهة التاريخية لحرب أكتوبر والمساحة النظرية، لأخفف وقع ما أطرح.
أما ونحن الآن على مشارف الاجتياح البري لغزة، وظهور كثير من العوار السابق للعيان، فسأحكي بوضوح عما أراه من تقديرات تتمايز حجيتها، ولكن كلها تقع في دائرة النظر وقابلية الخطأ. ونسأله سبحانه أن ينصر مقاومينا ويرأف بشعبنا الممتحن في غزة بما قد لا تلحظه أبعاد النظر ومنطق التسبيب.

المنظور الاستراتيجي والعملياتي إسرائيليا:

أولا) الهجوم الكاسح في 7 أكتوبر، ليس فقط مثّل ضربة لمنظومة الأمن القومي وفرضياتها ولكنه هدد فكرة الدولة والثقة الشعبية فيها وجيشها وقيادتها السياسية، ما لم يحصل ربما غير في حرب أكتوبر 73. وعلى هذا حصل أمران لا مناص عنهما:
أ. رغبة الإسرائيلي في توفية فاتورة انتقامية، بعد إزالة مكامن العدوان في الغلاف، وتتمثل في فاتورة ضحايا بشرية فلسطينية، والأهم تكسيح عسكري لحماس في بناها الحيوية وإمكاناتها (القيادة، قوات النخبة، الصواريخ، الأنفاق).

ب. إدراك فشل الاستراتيجية التي تبلورت منذ 2007، وهذا – بالإضافة للنقطة السابقة – يحتم الاجتياح البري، وإزالة حكم حماس عن غزة لصالح صيغة مختلفة (تكييفاتها عرضة للمنتوج العسكري، ومفاعيل فلسطينية وإقليمية كما سيأتي).

ثانيا) هناك إشكالان في المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي، الأول خاص بالفرضيات العملياتية (إمكانية تحقيقها لما تتطلبه الاستراتيجية كمنتوج عسكري)، والآخر الفرضية الاستراتيجية (المنتوج النهائي نفسه ومدى صيانته وتوفيته لمقررات الأمن القومي.

  • عملياتيا – من السخف كما يقول كلاوزفيتس أن تكون هناك قراءة عسكرية بحالها منفصلة عن سياقها الاستراتيجي الخاص بالتوظيف والحساسية.. مثلا – الجيش النظامي في مواجهات مباشرة، وحتى في نمط غير نظامي ولكن طوّر حاله عقائديا وتركيبيا لمواجهته يسود – مهما تطورت القدرة العسكرية للحركة غير النظامية (إلا في مراحلها الأخيرة وغالبا أمام حكومة محلية أو قوة احتلال متراجعة، بحيث تتحول الحركة لحرب نظامية
    War of Position
     كما أشار ماو قديما).
    تمثيلا على ذلك، التوازن العسكري على مستوى القدرة القتالية للفرد بين حزب الله وإسرائيل (كما أشار أنتوني كوردسمان في دراسته) كانت حوال 5:1 في التسعينات (يعني من كل قتيل إسرائيلي – خمسة من الحزب)، ولكنها ارتفعت ل 2-1:1 في حرب تموز 2006.
    طبعا التوازن العسكري التكتيكي فضلا عن العملياتي أوسع كمعيار قياس من هذا كما نعلم (اعتبارات العقائد والفن التكتيكي والعملياتي والقيادة والانسجام الهيكلي، والتسليح وو)، ولكن هذا يساعدنا في ما نريد طرحه.
    طيب – هل هذا التوازن العملياتي هو ما سيحدد المنتوج العسكري ثم قيمته استراتيجيا ؟
    لا – لأنه دوما تكون هناك حساسية مغايرة للإدماء البشري والاقتصادي والسياسي من قبل جيش الاحتلال، مما يعجل في التسليم وإجهاض النشاط العسكري مبكرا قبل الكسح العملياتي، بما له من تقاصر عن تحقيق الأثر الاستراتيجي في الإرادة السياسية للعدو.
    وأذكر حوارا لي في ورشة عمل مع أحد العسكريين الإنجليز ذوي علاقة وثيقة بإسرائيل في 2009 حين ذكر أن عامل الوقت هو فقط ما منع تطوير الهجوم البري الشامل في جنوب لبنان ومنع الحسم العسكري. حينها ذكرت– بالضبط! لكن الوقت – كما كان يعده أستاذي كولن جراي-  أهم بيئات الاستراتيجية  
    Dimensions
    وهو في حالتنا عالة على السياق الاستراتيجي في تباين الحساسية والحساب  
    strategic interdiction
    ومتواليات الضغط الدولي والشعبي، وهذا مثل بالتالي وزنا استراتيجيا للإنجاز العسكري للحزب وليس التدافع العسكري ذاته ومنتوجه المبتور.

ثالثا) في ذات السياق العملياتي .. من ناحية، ما يصب في مصلحة إسرائيل الآن، هو تحييد جملة من هذه الحساسيات الأفضلية للمقاومة، بسبب ما قدمته المقاومة ذاتها في 7 أكتوبر من رفع الحراجة الوطنية لدرجة تتراجع فيها هذه الحساسيات سياسيا وشعبيا.
ولهذا فقرار الاجتياح البري استبعده الكثيرون بسبب وجود الأسرى الإسرائيليين خصوصا المدنيين منهم، ولكن هذا كما أوضحت في المقال السابق قياس مغلوط على سياق استراتيجي حكم الفترة السابقة، وقد تغير. ولهذا – كان الحرص على تشكيل حكومة الطواريء لإعطاء شرعية وتشاركية في تحمل الثمن السياسي تبعا لهذه الخطوة، وأيضا الخسائر العسكرية التي ستحصل مع الاجتياح البري. وهذا بالتأكيد يجعلنا أمام جيش مختلف – كمعايير توازن عسكري صرف. وهذه العلاقة الاضطرادية بين مستوى العمليات والاستراتيجية ، فكلاهما يؤثر في الآخر حرفيا.

رابعا) ولكن من ناحية أخرى، يبقى سؤال القدرة التكتيكية والعملياتية ذاتها لتحقيق حسم عملياتي في غزة (الأنفاق، القادة، النخبة، الصواريخ، التمدد الاستحواذي…). وهذا عمق الإشكال الإسرائيلي كنظرة عسكرية بحتة، وكانت تشغله طيلة العقدين السابقين: نوع القدرة القتالية التي يريد أن يقيم عليها جيشه (عقائد وتركيب وقيادة وتسليح) ومدى كفاءتها عند الاختبار..
وبالرغم من وجود جهد ضخم من الرؤى والخطط والمناورات، فهناك عدم حسم وسببه استراتيجي بالمناسبة.
خبرة حرب تموز أفادت بضعف القدرة التكتيكية للجيش، والعملياتية (ضعف القدرة على الحركة على مستوى الألوية) وربما تم ربط ذلك بوجود مفهوم عملياتي
Operational Concept
 يغلب عليه الغموض، والمفهوم الأمريكي
Effects Based Operations
الذي يلقي عبء المنتوج الاستراتيجي وليس فقط العملياتي على حسابات كمية لضربات الجو (وهذا تحيز رئيس الأركان الإسرائيلي حينها دان حالوتس، وتبنيه لعقيدة الضاحية – ضرب القاعدة الشعبية لبناء ضغط على الخصم وتحوير سلوكه).
ولهذا – حصل توسع أولي في الشق النظامي البري وترسيخ الحسم التكتيكي كما كان المفهوم العملياتي الذي ارتكزت عليه خطة تينف في عهد شاؤول موفاز 2008. ومع تنامي الخطر غير النظامي في غزة، وبعدها الأزمة السورية وتطور في مكونات معادية فيها، ظهر مفهوم العمليات بين الحروب
(CBW)  Campaigns Between Wars
، وفيه يقصد الجيش ضمن استراتيجية  استهداف متكرر ومحسوب القضم من البناء العسكري المعادي، وضربات لتمتين حاجز الردع التقليدي ورسم خطوط حمر للعدو، مما يحجّم الحاجة لاشتعال حرب شاملة على الجبهات. ولو تم وضع هذا المفهوم العملياتي في المنظور الاستراتيجي الخاص بترك غزة لحماس وسياسة التمايز، فهذا منطقي. وهذا ظهر في مفاهيم عمليات طرحها رئيس الأركن بيني جانتز، ثم غادي إيزينكوت في وثيقته حول (توظيف القوة
Force Employment
) وخطة جدعون 2015، ثم حتى تطويرها في وثيقة 2018 والتي حاولت التجميع بين أدوار الحسم العسكري والوقاية والعمليات بين الحروب.
لكن بمجيء آفيف كوخافي حدث تحوّل في النظرة الحاكمة – دون بالضرورة أن تأخذ مداها في تطوير البنية والقدرة والفاعلية. بعد استنفار قيادي داخلي، طرح كوخافي مفهوم الانتصار
Concept of Victory
، كنتيجة ليس فقط للنتيجة الملتبسة التي أدى لها
CBW
خصوصا في الجبهة السورية وبالعكس تمدد سيطرة الإيراني وعبر تماهيه مع المكون العسكري السوري، ولكن أيضا استعادة للنظرة التقليدية .. الجيش لابد أن ينتصر في أي مواجهة مفتوحة أو حرب جبهات، بغض النظر عن استدعاء الاستراتيجية لهذا السيناريو من عدمه. من الممكن فهم كثير من خطوات تدعيم القوات البرية والتشابك في الحرب المشتركة خصوصا مع الجو، والاستخبارات والدمج المعلوماتي والذكاء الاصطناعي (حلقة إدارة المعركة في تحديد مصادر التهديد الصاروخي والتعرضي وتصفيتها)، وعلى كانت الخطة العسكرية تندوف أو الزخم
Momentum.
المأزق هنا – أن الحرب الشاملة هي كذلك على حركات غير نظامية، بتشكيلها وتركيبها ومنطقها العملياتي
modus operandi
وترسخها في حرب المدن، تقتضي نمطا مختلفا عن الحرب المشتركة التقليدية على مستوى الأولوية، بل لابد من مطّ الهيكلية العسكرية للجيش الإسرائيلي وترسيخ الحرب المشتركة على قوات أصغر، ولكن لها قدرة تدميرية هائلة وذكية
Smart
، ولهذا طرحت الخطة مفهوما وتركيبا تجريبيا يسمى
Multi-Layer Forces أو Ghost Units.
ولكن من الواضح أن الجيش لا يزال بعيدا عن هذا المأمول.
ولكن في ذات الوقت – سيلجأ الجيش فضلا عما له من اعتبارات تقليدية في النشاط العسكري، وبعض الوحدات التي تدربت على النسق النوعي المحدود عددا ولكن المتسع كتشابك تسليحي وقوة نيران، على خطين تكتيكيين في حرب غزة.. ما يعرف قديما بالتفجير الفراغي
Hollow Explosions
– أي الانتقال الخطي في مسرح العمليات داخل التجمعات السكنية ذاتها عبر ما يقدمه سلاح المهندسين من خطوط داخلية. وكذلك ما راكمه بإنجاز ما في استهداف الأنفاق.. والأخير مسئول عنه عملياتيا وحدة العمليات في سلاح المهندسين
Yahalom
، والتي تدير مساحات تقنية متكاملة في اكتشاف الأنفاق وتحييدها صاروخيا وأرضيا – وبالأخص الوحدة التقنية
Samur
، وبمساندة تقليدية من قوات النخبة
Sayerat Matkal.

خامسا) من هذه التطوافة في المنطق العملياتي الحاكم للجيش، وبالنظر إلى تشكيل مرجح لقوات احتياج غزة واعتمادها على التشكيل التقليدي غالبا للقوات.. فيظهر لنا:
    أ.    ضعف الحساسية التي كانت تكبح الجيش في القيام بعملياته البرية وتقضم من معادلة التوازن العسكري.
   ب. الجيش فيه حالة ارتباك كثيفة على مستوى العقيدة والتركيب والوحدات، وطبيعة السلوك التكتيكي والعملياتي السائد، ولهذا – فالمرجح لجوؤه لمنطق القوة النظامية التقليدي
Brute Force
، مع إمكانية أوسع للتقدم بالأخص في مساحة التجويف المعماري، وتجفيف الأنفاق.
ج. كل هذا عالة بالأخير على عمق الدفاع العسكري المُقاوم، واستعداداته المسبقة، والتجائه لنمط غير تقليدي في الكمائن والفخاخ واستقلالية المسار الصاروخي عملياتيا وغيره.. ولكن كما أسلفت في سياق استراتيجي مختلف عما سبق.

ثالثا) استراتيجيا.. وهو الإشكال الأوضح، وربما أشار له الأمريكي مبكرا، وهو استراتيجية الخروج، وبمعنى أدق كما يراه الإسرائيلي لأنه هنا ليس في معرض خروج، استراتيجية مستجدة للتعامل مع مشكل غزة بعد الاجتياح وبافتراض تحقيق هدفه العسكري… وهنا يظهر أمام الإسرائيلي خيارات:
1  استدامة الاحتلال بتكلفة عالية، وقد يبحث مع الوقت عبر أقنية يقلل بها هذا العبء، كاختيار جزئي لما يأتي.
2 إعادة السلطة الفلسطينية، خصوصا مع التكلفة البشرية والمعاناة الإنسانية لغزة، وخسارة حماس عسكريا وكشرعية سياسية عبر تحميلها ما حصل، وبافتراض قبول السلطة ذاتها ودعم مصري وعربي. وفيها سيحصل غالبا إعادة انتشار لبعض قوات الاحتلال في شمال وشرق القطاع لتنتصب حاجزا دفاعيا أمام غلاف غزة.
3 صيغة أكثر تشاركية – عبر إشراك المصري، خصوصا إذا احتمل جزءا من عبء التهجير الغزاوي، ويظهر له هذا كبديلا أكثر قبولا من فكرة التوطين.
4 فكرة التوطين بالرغم من قدمها في ذهن الاحتلال، إلا أن هناك رفضا قاطعا مصريا، ويبدو أن الإسرائيلي لا يضعها الآن في أعلى سلم شغله استراتيجيا.. هي جزء من حل ممكن – بشرط قبول المصري – لمرحلة مقبلة. ولكن حاليا – كل ما يشغله وعلى هذا دفع لنزوح شعب غزة جنوبا ألا يعيق العمليات البرية.
5 بالطبع فكرة القبول بدرجة من الموضعة الحمساوية في صيغة إدارة غزة ممكنة نظريا، ولكن تقتضي خضوعا سياسيا من الأخيرة مستبعدا، وفي ذات الوقت – الهياج الداخلي في إسرائيل ضدها.

وكما نرى، في كل هذه الخيارات، بافتراض إسنارها بالمنتوج العسكري سالف الذكر، تبقى هناك مشكلة ضخمة إسرائيلية على المستوى الاستراتيجي. خيار الاحتلال بلاشك أكثرها كارثية خصوصا إذا استوعبت المقاومة الفلسطينية الدرس وصاغت حراكا مختلفا برؤية سياسية واستراتيجية مستجدة، وتطوير خطوط متكاملة بين حروب العصابات وإعادة بناء الهيكل التحتي والداعم، والاتكاء على مخزون الاستنفار الشعبي نتاج اجتياح غزة لتطوير النشاط المقاوم بالضفة وتوسعة الأطر الشعبية للمقاومة السياسية فيها والقدس والداخل.

حتى المسارات الأخرى – فدون انهيار الحس المقاوم فلسطينيا وتطويعه بنسق تنازلات سياسية وأمان اقتصادي، وإعادة الاعتبار للسلطة الفلسطينية بدعم عربي (إعادة أجواء أوسلو وما بعدها)، وهذا وضع بعيد حاليا عن التكوين السياسي الإسرائيلي ولكن ليس بالضرورة أن يبقى كذلك، فضلا عن تجريم حماس وشيطنتها داخليا، فقد يتجه بشكل تدريجي للمسار الأول (الاحتلال).

المنظور الاستراتيجي والعملياتي فلسطينيا:



أولا) بتقرير الأخطاء الاستراتيجية سواء في البنية أو المنظور والتي حكمت 7 أكتوبر، فالمقاومة الفلسطينية، وجدت نفسها في واقع كذلك مغاير للفرضيات التي اعتادت عليها كما أسلفت:  الدور الرادع للفعل المقاوم التعرضي، حساسية الإسرائيلي تجاه الخسائر البشرية والأسرى، وجود كابح دولي لحد ما ضد اعتداءاته على المدنيين، وإشكاليته كسياسة داخلية، ونفوره من التدخل البري، وقبوله بإبقاء معادلة غزة لأنها أقل تكلفة له.

ثانيا) في ذات الوقت، فهناك تضخم لعناصر قوة بيئية لم تحصل في تاريخ الحراك الفلسطيني المقاوم بالأخص في الوضع الشعبي العربي (بما قد يقارب معركة الكرامة، والتي بالتأكيد لها سياق تاريخي مختلف أشد محاباة لها وتداعياتها في توسع الدعم الشعبي والنظامي العربي للمقاومة).
الأنظمة العربية التقليدية وضعها لايزال إيجابي لحد ما بالنظر للدفن (المؤقت على الأقل) لمشروع التطبيع مع السعودية، وخفوت صوت أطراف موجة تطبيع 2020، وتصلب للنظام المصري في نقد إسرائيل والدفع لمحور إنساني ورفض مطلق لمسألة التوطين، وفي ذلك الوقت عدم تجريم صريح للمقاومة (نظرة لموقف مبارك لحرب 2006 وهي كانت أكثر قبولا أخلاقيا دوليا تشي بالفارق)، وبالعكس تحميل التعنت الإسرائيلي المسئولية عن التصعيد الحالي والخسائر في المدنيين.

ثالثا) المأزق الاستراتيجي الحالي عناصره كالتالي:

1  غياب المتطلبات الوظيفية والبنائية للاستراتيجية ليس فقط حرمت المقاومة من ضبط بوصلة وحدود 7 أكتوبر، وتسكين نتائجها ضمن مخروط واضح من التدافع السياسي والعسكري وصولا لنتائج مرحلية أو بنائية، لكن هي تبقى عقبة الأن في طريق إدارة مرحلة الاجتياح وما يليها. وكما رأينا، هي شديدة التعقيد من حيث الخيارات والفرص والتهديدات، وهناك عدد هائل من الاعتبارات التي لابد من المفاضلة والمزاوجة بينها ضمن رؤية استراتيجية واضحة – كذلك اتكاء على المنتوج العسكري، وما قد يترشح عنه التدافع الاستراتيجي من وضع لغزة (احتلال، احتلال جزئي مع سيطرة وسيطة، أو صيغة تشاركية، أو حتى استعادة جزئية لمعادلة سابقة).

2 هناك ضرورة بالتأكيد للتصلب العسكري الدفاعي في غزة، وزيادة فاتورة الخسائر عند الإسرائيلي. وحقيقة – لايوجد بين أيدينا معطيات صلبة كما هي الحال عند تحليلنا لجيش الاحتلال تشي بالقابلية العملياتية والقدرة التكتيكية، خصوصا في ظل نمط عسكري يختلف في تقييداته الاستراتيجية عما سبق. ولا نعلم على وجه الدقة، حجم الخسارة البشرية والنوعية في القوة المشاركة في 7 أكتوبر. ولكن بالنظر لحجم الإشكال العملياتي والتكتيكي كذلك لقوات الاحتلال فإن حجم الخسارة ستكون واسعة عند الأخير، وهذا يزيد من حراجة وقيمة تشكيل رأس سياسي وطني يتولى مساحة التفاوض.

3 كما أشرنا على عجل في آخر المقال السابق، هناك خيار إسعافي لابد من التحرك فيه قائم على بناء تقارب مع السلطة الفلسطينية وبقية الفصائل، وتأليف هيكلية مشتركة لإدارة هذه الحرب بأبعادها السياسي والتفاوضي والإنساني على الأقل.
وهذا ضرورة استباقية كذلك لتحصيل متطلب أفضلي في مرحلة مابعد الاجتياح وإدارة غزة.
وأكيد كان هناك مطلب ضخم لحماس تحديدا لاستعادة شرعيتها الأخلاقية كحركة مقاومة في الفضاء العام – لايكفي فيه الخطاب الإعلامي، أو تبيان زيف الرواية الإسرائيلية في بعض النقاط، ولكن بتحييد المدنيين مطلقا والإفراج عن المختطفين منهم وإدانة أي سلوك متفلت حدث سابقا وتحمل مسئولية سياسية وإن ليست أخلاقية عن بعض ماحصل.
وهذا جوهري لتوسعة الحركة السياسية مع السلطة والنظام العربي الرسمي ودوليا في مرحلة تالية.
وبحصول ما سبق، يتساوق معه خيار استنفار شعبي في الضفة والقدس والداخل، وبالتأكيد الترميم الأخلاقي يساعد الأخير، وعلى مستوى الشعوب العربية وخصوصا دول الطول،
وكذلك التواصل مع النظام العربي الرسمي بفرض ترشح هذا الرأس الفلسطيني ولو بشكل مؤقت، ضمن مطالب محددة، وتفعيل أدوات ضاغطة فيها.. بالتأكيد – الأولويات هي في حماية المدنيين وحضانتهم، ومسألة إدارة غزة، وتبادل الأسرى.

4 خيار الحرب متعددة الجبهات يبقى كما أسلفت خيارا نظريا حتى الآن، بسبب مأزق حزب الله الاستراتيجي في الداخل اللبناني (مشكلة الشرعية السياسية والشعبية بدءا من 2008، وصولا للانهيار الوظيفي للدولة والعنت الشعبي) وكذلك في فقدان جزء كبير من شعبيته في الواقع العربي تبعا لحركته الإقليمية خصوصا في سوريا. وكذلك جبهة سوريا تبقى مرجوحة كقدرة إيذاء فعلي وكذلك ديناميات نظام الأسد نفسه وأمانه. فضلا عن إيران بكل إشكالاتها الداخلية وتوقيها انفراط صيغة الردع المتحسس مع الأمريكي.
ولكن مع ذلك – فإن تصاعد أدوار اشتباكية من هذه الجبهات – الشمالية بالأخص – تبقى مطلوبة كحيز إشغالي.

الحيز الإقليمي والدولي:


على عكس ما يتخيل البعض، فإن المنطق الحاكم أمريكيا بالأخص هو تقليل التداعيات الإقليمية، ولكن تقديم الدعم الكامل للحرب الإسرائيلية على غزة، وتأمين إطارها الردعي ضد دور إيراني محتمل.
علاقة التحالف العضوي استراتيجيا معلومة، ومهم أن ندرك أن إرسال حاملة الطائرات جيرارد فورد كانت توفية سياسية ومعنوية لهذه العلاقة وكذلك لاعتبار السياسة الداخلية وصورة القوة الكبرى دوليا مع تعرض حليفتها لمحنة في منظومة أمنها، دون بالضرورة أن يصل التعدي كميا وجغرافيا لمراكز الثقل في الدولة (شبيه بالدعم الذي تلقته أمريكا نفسها بعد أحداث 11 سبتمبر).
ولكن كما أشرت – كتوظيف استراتيجي بحت يبقى لتدعيم الرسالة الردعية ضد إيران، وأقل منه كثيرا تدعيم التواجد في شرق المتوسط، إذ أن الأمريكي متواجد بالفعل عبر أسطوله السادس بما فيه من 40 سفينة و 175 طائرة و20 ألف مقاتل ومساند، ووجود حاملة الطائرات هو بالأخير بشكل مؤقت كرادع ، ومشارك في الحرب الجوية ضد الجبهة الشمالية أو إيران إذا اقتضى الأمر.
كنتيجة معاكسة، فهي بالتأكيد تقلل من اعتبارات استعادة الردع والثقة في قدرة الدولة ذاتيا على ضمانة أمنها القومي، وبشكل متناقض أيضا، فرصة أوسع للضغط الأمريكي على إسرائيل في محطات تالية ترتبط بالصيغة السياسية المطروحة. تناقض حصل كذلك بعيد حرب أكتوبر 73، وساهم في إرغام الإسرائيلي للقبول بضغط أمريكي على صيغة لا تتواءم مع طبعته الاستراتيجية بعوارها، وإن ظهر فيها تاليا المصلحة الأكبر لكليهما.

كوضع إقليمي أوسع، فكذلك لا يظهر تحول عريض فوق نتيجة تأخير التطبيع وتقزيم تمظهر موجته السابقة لحين. وأعتقد أنه مع عدم تطور الوضع الفلسطيني لشكل أكثر حيوية في الرأس القيادي والخطاب العام، فلن يجد النظام العربي الرسمي الحاجة غير القيام بأدوار محدودة مراعاة للسياسة الداخلية، أو تعامل أكيد مع ملفات العبء الإنساني الغزاوي ومشكلة سيناء وبالتأكيد أدوار الوساطة وتوليد نسق نظامي لحكم غزة محابي كالنظام المصري.

متساوقا مع هذا الإطار، فتيقى تدافع وتلاقي المصالح الدولية ضمن معادلة محاولة تقييد كل طرف لنفوذ الآخر (الصين/الروسي – الأمريكي)، وهذا أربك مثلا معادلة الحساسية التي كانت قائمة بين الروسي وإسرائيل، ولكن كذلك دون اختراق في الأمر. وأيضا إمكانية الاستفادة غير المباشرة لتحويل ثقل الدعم العسكري الأمريكي إسرائيليا عن أوكرانيا (مع محدودية أثر ذلك على مسار الحرب).

وفي الأخير, لا يسعنا غير الدعاء لمقاومتنا على خط النار مع العدو، وأن يلطف بشعبنا وأهالينا في غزة، وألا يدعهم حين يتسلط العدو، ويتقاصر الأخ والشقيق، وينكث كل موثوق به ثقته. وغفر الله لنا جميعا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى