تحليل استراتيجيمنوعات

تعليقات خاتِمة لملف حرب غزة.. مفهوم وصورة الانتصار، وماذا بعد

لعلّه من الواجب قبل أن أُضمّن هذه التعليقات المُتمِّمة لملف المقالات والأوراق وبعض الفعاليات التي تخص حرب غزة-طوفان الأقصى – أن أؤكّد عناوينا محورية، لايمكن فهم ما سبق وما يأتي دونها:

أولا) انتماؤنا وولاؤدنا الديني والقومي لا لبس فيه، ولا يتغبش لشعرة عندنا معنى الحق والباطل فيه. فشعبنا الفلسطيني وحركاته المقاومة لها كامل الشرعية الأخلاقية، والواجب أن تقاوم بكل ما تقدر عليه لتحرير الأرض، بالأخص ونحن لا نؤمن أن مشكلتنا مع الإسرائيل تتلخص بأرض مهما اشرأبت أفئدتنا لها، ومسجد شريف هو في صلب مفهومنا العبادي، ولكنه صراع حول أمة وحقها في الحرية والسيادة والوحدة، ونُكتت فيها إسرائيل لتشكل عائقا استراتيجيا أمام هذه الأهداف وحصلت بينها والاستعمار الغربي معادلات وظيفية تبادلية، تعددت ديناميتها وأشكالها وأوزانها ولكن بقي المعنى واحدا.

ثانيا) فارق ضخم بين أن يكون لنا تحفظ أو نقد أو حتى رفض لمسارات ما من منظور الأهلية القيادية، والجدوى الاستراتيجية، وحتى الضبط الشرعي والأخلاقي لبعض الممارسات، وبين أن نطعن لحظة في هذا الحق الأصيل لشعوبنا ومقاومتها، وأن يقلل هذا من انتمائنا العاطفي والوجداني وتقديرنا اللامحدود لحس الشهادة والفداء فيها. ولا يجوز هنا، أن يُنظر لهذه المقاربات منا وغيرنا، مهما احتدت بالنقد، وأُشِكلت بعض الدفوعات فيها، بأن لها نسبا بمن ينحاز للعدو، ويُشرعن الاستسلام والخضوع والاكتفاء برغد العيش عن واجب الكرامة والدين والوطن.
وياليتنا نتعلم من عدوّنا برغم كل شيء حتمية المراجعة وحس التصحيح والنقد، وفتح النوافذ لها دون شيطنة وتخوين، خصوصا إن يأتِ ممن تفضّل الله عليه بتكريس جل حياته لصالح أمته وقضاياها واحتمل في ذلك عنتا وكُرها، وحزنا وألما لا يفارقه منذ الصغر بغض النظر عن مساحات الدور والمنتوج وجوانب الصواب والخطأ عنده – وإنما ذلك من فضله سبحانه وحده؛ فلا فلاح لأمة بغير هذا (لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها)، وليس على أمتنا قدر لازم، مهمن تغيرت عناوين وخلفيات وأيديولوجيات وزمن من يحكمها ويتصدر فيها أن يصبح حاكما بأمره، ويُحرّم من يوالونه أي نقد ونصح صادق ولو لم يُجرّح ويقدم بدائلا، فتتكرر فصول المأساة في كل حرب كبرى ومفصل تاريخي، وينسى الجيل اللاحق ما تعلمه السابق بالدم والخسارة.

ثالثا) حسابنا في الأخير فردي أمام الله سبحانه وتعالى، وإنما يكلفنا الله بما آتانا من أسباب موارد العلم والجهاد والسعة والقُرب الجغرافي ومواقع المسئولية، هذه بتلك. وكذلك المسئولية أمام شعوبنا، وأنفسنا. فلقيادة المقاومة، أو الأنظمة العربية، مثلا حظها وواجبها من المسئولية القيادية والأخلاقية، وكذلك لمن ابتلاه ربنا – وتحمل مسئولية مجتمعية – برافد من علم بالدين أو السياسة أو الاستراتيجية. وليس بدور لسوانا – قيمناه إيجابيا أو سلبيا،يعذرنا ألا نقوم بواجبنا – على قدر اجتهادنا وجهدنا، وليس تحسبنا من لوم هذا وذاك بعذر لنا أمام الله وأمام شعوبنا المبتلاة والممتحنة وأمام أنفسنا حين نخلو لفُرُشنا أو يمُن الله علينا بملاقاة له لا عودة منها.

رابعا) لكل طريق أهله، وأعرف الناس بعلم مختصوه الذين أنفقوا شطر أعمارهم فيه – من حيث طرائقه ومزاجه وقواعده. وليس التخصص العلمي بمظنة العصمة، ولكن الصواب وأهلية النظر والتصدي. والحقيقة – كثير ممن يتحدث في الاستراتيجية حاكيا عنها، أو منتقدا لأطروحاتها هو منتحلُ ما ليس له، وأقصى ما يتحصل عليه درجة المثقف لا المتخصص فضلا عن العالم، ويغيب عنه مزاجها العام وفلسفتها، وقيمتها دون مبالغة أو تقزيم في فهم ظاهرة الحرب وقيادتها. ولهذا – تضيع أي ثمرة في ملاحظة أطروحاتها الجادة (وليست المعصومة)، و نضطر لذكر البديهيات فيها كل مرة، ولا تخترق بذلك أذن السامع إلا لتخرج من أذنه الأخرى – كعادة أي غريب على علم ما، وفي ذات الوقت يغيب عنه الرغبة فيه والتواضع له – فهو يُصادر على المطلوب قبل حصوله:

أ. الاستراتيجية هي مظنة النجاح، وليس إتقانها يُحتّمه. لأن ظاهرة الحرب من التعقيد وتعدد العوامل والمتغيرات بما يمنع ذلك. فقد تجيد استراتيجيا، ولكن يفوقك خصمك، وقد تجيد عموما، ولكن تسقط في مفاصل لها قيمة اعتبارية ومتغيرة في رسم منتوج الحرب.

ب. الاستراتيجية ليس قيمتها التبنؤ، وإن كان يحصل فيها، وليس أن تضع روشتات عمل ، وإن كان التخطيط والتصميم مفردة أساسية في تطبيقها، ولكن دورها في تحفيز الذهن القيادي وتطوير الملكة والإلمام بظاهرة الحرب ومنطقها، وتوفية شروطها المؤسسية لحوار غير متكافيء بين السياسة والأداة العسكرية؛ بحيث أن يتمّ طرح الأسئلة البديهية كل مرة ومراجعة فرضياتها: ماذا تريد، وكيف تصل إليه، وحساب الموارد والخيارت والنهايات في بيئة معقدة ومضطربة ومتغيرة‘ على الدوام بحيث لا تصمد معها أي صيغة أو تنبؤ؛ إن بفعل حركة الخصم وما تطرحه تلك البيئة من فرص وتهديدات، والأهم – فشل الفرضيات الأولية سواء في القدرة على تحقيق نهايات عسكرية ما، أو قدرة تلك النهايات على تحقيق الأثر الاستراتيجي والهدف السياسي للحرب.

ج. قد يكون قصورك الاستراتيجي من حيث الدور والمنتوج، يُعوّضه تضافرٌ لعناصر المتغيرات الثانوية والثالثية في بيئات الخصم والحلفاء والبيئة الدولية – بل حتى الطبيعة. ولكن نعم – التميز العملياتي والتكتيكي الفائق – لحاله إلا أن يقود لتفاعلات أخرى كما ذكرت- لا يُعوّض خلل الاستراتيجية، بل كثيرا ما يقود هذا التميّز – بالضبط كما في طوفان الأقصى – مع قصور السياسة والاستراتيجية لنتائج أسوأ من القصور الشامل في كل مراتب الحرب. بينما تميز الاستراتيجية قد يردم فجوة العمليات والتكتيكي (النجاح العسكري) ..
د. ولهذا – فالظاهرة الاستراتيجية، ليست مجرد صياغات وتصاميم، ولكنها عملية مستمرة في صياغة ومراجعة الفرضيات التي تُعنى بتحريك أدوات القوة العسكرية وغيرها لتحقيق النهايات السياسية. هناك جوانب بنيوية فيها – البناء المعرفي والمؤسسي والتطبيقي، وهذا له عناصر صحة ومرض، قوة وضعف، وجوانب وظيفية – الرؤى والتصاميم والخطط. وقد تحوز على نصيب معقول في البناء، ولكن تتعثر الوظيفة لاعتبارات ذاتية أو ظرفية. ولكن مع ضمور البناء لن تنصلح الوظيفة، وإنما كما ذكرنا قد يُعادَل قصورك الاستراتيجي بعوامل أخرى (انهيار مفاجيء في بيئة الخصم لاعتبارات خاصة، تحول في بيئة الحلفاء والخصوم، نتائج غير مقصودة على مستوى الرأي العام والذي لسبب ظرفي قد يصبح له قيمة اعتبارية في لحظة بعينها.. وهكذا). أما كيفية صنع هذه الظاهرة، وقابلياتها المعرفية والمؤسسية والتطبيقية فلهذا سياق آخر.

أخيرا) تطبيق ما سبق على حرب غزة ،


أنا لم أخف تحفظي الشديد من عملية 7 أكتوبر من حيث البناء والقابلية الاستراتيجية (تناولت شطرا من ذلك في المقال الأخير (الاستراتيجية والقيمة والمنطق السنني – حرب غزة)، والمنطق الاستراتيجي، والتبعات السياسية والعسكرية والاستراتيجية وكذلك – المحنة الكبيرة المرتقبة لشعبنا هناك. نعم – قد احتلت أول الأمر في إظهار ذلك بشيء من التؤدة واللغة الرقيقة ولكن الحاسمة، بل حتى شعرا كما في قصيدة (مرثية على شاطيء البحر الميت) .. تقديرا لحال الاستنفار الشعبي والمقاوِم، ولأنه لا شعوبنا أو حركاتنا تعتاد هذه المسحات النقدية وبالأخص في وقت الحرب وتخلط بينها وخطاب متصهين في بنيته ومراميه، حتى مع كل الاعتبارات السابقة.

ولكن في ذات الوقت، رأيت أن ثمة اختراقا على مستوى المستوى النفسي للصراع وقد يكون لهذا مفاعيل إيجابية في أفقه الاستراتيجي أو لا، وكذلك – كما تكشفت لنا محطات الحرب – تقديرا لا محدود لشبابنا المُقاوم والذي ضحى بحياته منتشيا ولا مباليا، وأتقن بشكل باهر تكتيكات حرب المدن والعصابات، وحتى على مستوى العمليات كان هناك رصيد معتبر من الإتقان والبناء. ولعلّني وقد أكرمني الله بحج بيته هذا العام، مدحته شعرا وأنا على عرفات:

أفردتُّ حَجًّا، والقِرانَ فرضتَّه 

                                     إذنُ  القتال  بموصَلِ  الآياتِ

إن يطمرِ الوادي الحجيجُ بوسعه

                                    وتفيضُ تلبيةً ذُرى العَرَصاتِ 

فلَصبيةٌ نفروا بغير غضاضةٍ

                                      خُدُنِ الكمائنِ يُرهِبون العاتي

صالوا حفاةً، بالأديمِ طوافُهم

                                        حلّوا رواجمَ تقذفُ اللعناتِ

بيضُ الوجوهِ وإن تغبّر شلوُهم

                                وكذا الشهيدُ إذا اجتلى الحُجُباتِ



وفي ذات الوقت، استبدت بنا حسرة وألم لا محدود للمذبحة الشنيعة التي تعرض لها أهالينا نساء ورجالا وأطفالا، وبالأخص – الأطفال، وقد ابتلاني سبحانه بمحنة صعبة تعرّض لها أطفالي وكنتُ مستنفرا لحفظ أمانهم ورفاهيتهم وسعادتهم كواجب كل أب حتى عافانا الله.
فكم كثيرا كنتُ أخجل من نفسي ويعتصرني الألم وأنا على هذا الحال، متذكرا أطفالنا بغزة وهم في جحيم يومي من القتل البارد والقصف المُحرق وتهشيم الجماجم وحتى الموت بردا في ليال لا دفء فيها ولنقص الدواء والغذاء. وهذا عنصر أساس في اجترائنا على نقد المسارات والمسئولية القيادية بحدة، وفي تأكيدنا على أن تُحفظ دماء الشعوب إلا لمصالح واضحة لا لبس فيها، ولصالح أمة وأوطان وليس لفصيل فيها، وأوهام وضرب في المجهول دون تدقيق، وإنما هي أمانة على من يتصدر، وعلينا – من نشاهد وننصح.

بكل هذه المعاناة الجماعية والشخصية، كان أشدّ ما يؤلمني هو شعوري الكامل بالعجز أن أقدّم شيئا يرفعُ عني العذر. نعم – شعرتُ أني قمتُ بواجبي في مجال تخصصي تحبيرا لعشرات المقالات والخطابات الخاصة، وتواصلت مع صناع القرار بشكل مباشر وغير مباشر، وقد سبق لي أن قمتُ حتى بشيء من الإعذار التعليمي العام -بما هو منشور في موقعي هذا وقناة اليوتيوب – وكذلك الخاص قبل الحرب بما يرفع عن أي جاد لتعلّم الاستراتيجية بشكل منهجي ومتدرج أي عذر.
وهناك من هو من أنبغ وأصفى طلابي – من فلسطين – وقد تعارضنا شعرا قبل الحرب بشهور (ساحليات شعرية) ولا أعلم حتى اللحظة إن كان حيا يقرأ كلامي، أو اصطفاه الله دوننا بالشهادة.
ولعل ما ننقمه على حركاتنا ودولنا ليس قصورها السياسي والاستراتيجي، فمن يكتمل عنده كل شيء أو يولد هكذا، ولكن الشعور الزائف بالامتلاء، والترفع عن التطوير وإشاعة التعليم في هذا الباب، وهو أمر مضنٍ ويقتضي جهودا ومواردا وزمنا.

ولكن أين شعوري بتقديم المعذرة في باب التخصص الاستراتيجي، من أحلام الجهاد والشهادة التي تأسرُنا منذ الصغر، والتي نشعر بأنفسنا محجوزين عن أهمّ ملحمة خاضتها أمتنا منذ وعَيْنا، في هذا الشق العسكري، وإلا فإن ثورة مصر المُهدَرة – في تقديري – كانت بلا نزاع أخطر من حيث الهمّ والدور والمنتوج.

ونضيف لهذا – أن مردود ما اقترفناه كان محدودا – على الأقل فيما نشاهد ونخبر، حتى مع علمنا أن أدوار التعليم وإشاعة الوعي تقتضي أطوارا وتفاعلات ولن نرى منها ثمرات سريعة، إلا أن حالة من الإنهاك والمرارة، والشعور أن هناك واجبات قد تكون أولى – مثلا في الكتابة الأكاديمية وإخراج مدونات تُحفظ فيها وتنقل ما تعلمناه لسنين بالغرب في هذا الباب لأجيال مقبلة، فضلا عن واجبات أخرى كترميم ونقاهة وشحن ذاتي على إثر محنٍ شخصية حالة ومرتحلة.
وإنما نحن مأمورون بالأخذ بالأسباب وليس التعلق بها لدرجة الهوس والهوى ومعاكسة ما قد تأتي لنا من شواهد في مراد لله منا، وإنما هو اجتهاد متواصلُ واجب علينا في تعرّف مراده منا في الحالتين، كقول ابن عطاء (إذا أقامك في الأسباب فإن طلبك التجريد من الشهوة الخفية، وإذا أقامك في التجريد فإن طلبك الأسباب نكوص عن الهمة العلية).

والحقيقة – أن ما أضمنه هنا من تجميع لتعليقات – ليس بديلا، ولا بالضرورة إضافة جديدة على ما سبق كتابته طيلة العام السابق، ولا يمكن فهم ما طرحتُه إلا بالاطلاع على كل ما كتبتُ في هذا السياق، وقد رتبته في (ملف حرب غزة) من الأقدم للأحدث ليسهل الاطلاع والتقييم ولو بأثر رجعي. ولكن ما يأتي قد يكون مركّزا بشكل تتوضح به بعض المعاني أكثر وتمتد على طولها، وبالأخص التي ترتبط بمفهوم الانتصار ونهايات الحرب وماذا بعدها، مع أنه تفصلنا أشواط عن نهاية الحرب ذاتها!

نصر الله أمتنا وبلادنا، وأيّد مقاومينا ورائمي الحق والإصلاح منا، وأرشدهم للحق وأقعدهم عن الزلل، ورحم شهداءنا، ولطف وأنزل السكينة والبرد والأمان على شعبنا.

————————————————————————————————-

تحليل المسألة هذي شديد التعقيد، ليس فقط بالحس الأكاديمي، وقد أفردت شطرا في أول رسالتي للدكتوراة في تحريره، وضبط مسالكه التحليلية، وقد أوجزت هذا في ندوة (القابلية الاستراتيجية وإشكال الفرضيات: النجاح والفشل في الحروب والأزمات) بالرياض – مايو الماضي، وربما إيجازا أعرض النموذج الذي أتبناه (صياغة وتطويرا وإضافة نوعية على غيري):

أ. الانتصار مفهوم تكتيكي وعملياتي بالأساس كما يقول كلاوزفيتس، ولكن العبرة عندنا بالنجاح الاستراتيجي في تحقيق الأهداف السياسية، أو الاستحقاقات المرحلية للاستراتيجية العُظمى طويلة الأمد. وبهذا اختلفت مع أستاذي جراي في حديثه عن الانتصار في مستويات أربع: السياسة والاستراتيجية العظمى، الاستراتيجية، والعمليات ثم التكتيكي، والاختلاف ليس فقط لفظيا ولكن مزاجي وموضوعي.

ب. هناك مخروط تقويمي: النجاح الاستراتيجي في أعلاه (تحقيق الأهداف السياسية أو الاستحقاقات المرحلية للاستراتيجية العُظمى والمُعرّفة بشكل مقصود)، ثم للتقدم الاستراتيجي النسبي (تحقق أكثر من خصمك)، ثم للتعادل الاستراتيجي (عدم تحقيق الأهداف لأي طرف، أو تحقيقها بدرجة متساوية) والتي نضطر لاعتبار عوامل أخرى (كمثل نتائج غير مقصودة لاستحقاقات الاستراتيجية العظمى، أو التوازن العسكري، أو شبكة التحالف الإقليمي أو أو..) من أجل الحكم لمن له (التقدم الحسابي).

ج. لايمكن اعتبار تقييمنا للنجاح الاستراتيجي إلا بالنظر التقويمي للبدائل – بمنظور رجعي وتاريخ بديل counterfactual history من حيث الثمنية والمنتوج.

د. تعيين الهدف السياسي لكل طرف هو عقبة كبيرة تحليلية وتطبيقية، لأنه كثيرا ما يغيب أو يضمر عند الأطراف، ولو كانت دولا وامبراطوريات (وهذا يخصم من تقييمنا الاستراتيجي لها ابتداء)، ولأن عدة نسخ واصفة للهدف السياسي قد تكون حاضرة في الدولة والكيان (وهنا نعتمد النسخة الرسمية السائدة التي تتلقاها المؤسسة العسكرية)، ولأنه قد يتحوّل أثناء الحرب لاعتبارات مناسبة (من حيث تقييمنا) في معادلة الحساب الاستراتيجي والفرص والتهديدات، أو لتحوّل أيديولوجي وبالحالتين نعتمد النسخة المُعدّلة، أو (غير مناسبة) فلا نعتمدها ونخصم من مخروط الجودة الاستراتيجية).

وفي تعليقي على أحد الأصدقاء بخصوص هذا الأمر أجبتُ باختصار:

لاختلاف طبقات تعيين الهدف السياسي، أصلي أم توظيفي، طويل أم قصير الأمد، صلب أم ناعم، تحولاته أثناء الحرب،

وطبقات الفاعلين، الدولة/القضية، أم الفواعل داخل كل طرف. 

وطبيعة الحرب ذاتها انها غير نظامية،

ومستوى نجاعة الخيار الاستراتيجي من حيث البدائل والثمنية،

والنتائج الأولية أم الثانوية

لكن باختصار، وبالنظر لعدم اكتمالها، الحرب تراجع استراتيجي ضخم من منظور القضية وفواعل المقاومة، وتطور إيجابي في المخزون النفسي للصراع بغض النظر إلام يقود، و بها بعض سمات التعادل الاستراتيجي في ملفات (عدم تحقيق كامل الأهداف السياسية لكل طرف – بعد، مع غموضها عند حماس) والأفضلية في ملفات (طبيعة الحرب غير النظامية التي تنحاز للضعيف في التعادل)، ولكن قصيرة الأمد.

——————————————————————————-

وفي إجابة أكثر تفصيلا، على أحد الأصدقاء، بخصوص إشكال حماس وأخطائها ، أجبت:

أنا طبعا تناولت باستقصاء إشكال إسرائيل الاستراتيجي قبل وأثناء وما بعد 7 أكتوبر في مقال (اغتيال القيادة) فليُراجع، وهناك تناول أكثر تفصيلا لحماس في الورقة الخاصة)..

– أخطاء حماس في 7 أكتوبر الاستراتيجية ، بنيوية (طريقة وقدرة اتخاذ القرار ، بما فيها غياب هدف سياسي واضح، وعدم هيمنة السياسي على العسكري، ومسار دون إدراك بديهيات المشهد سواء في البيئة العامة، والتوافق مع المحور) ووظيفية (خيار يخالف المنطق الاستراتيجي في هذه الحرب لأنها تدفع المحتل للتعامل مع الحرب بشكل وجودي، وهذا يجعله مستنفرا لكل مواره وأكثر صلابة أمام الخسائر، وعدم الاستعداد كتوظيف حتى لما يحصل من انجاز في غياب قيادة وطنية، واستعداد لإنهاء صيغة حكمه لغزة). 

– ⁠بخصوص غياب هدف سياسي محدد (هل الإفراج عن الأسرى لتطوير شرعية؟أم الاستفادة من الضغط العسكري والنفسي لتحقيق منتوج سياسي مرحلي، أم كسر الصورة الردعية وتهديد نظرية الأمن القومي وتقديم فتيل لحرب مفتوحة الجبهات وصولا لنهايات مرحلية أو شاملة؟ أم الدفع لتصور خيالي بخصوص استنفار الشعوب وحركتها للأقصى في ضغط على الأنظمة لتحسين المنتوج؟ أو تغيير سياسي في دول الطوق ؟ هل حتى لو حصل هناك توازن عسكري واستراتيجي يسمح بجولة نظامية في الصراع العربي الإسرائيلي الآن؟ أو مجرد وقف التطبيع مع السعودية؟!).. كل هذه الأهداف تقتضي مسارات استراتيجية وتصاميم عسكرية وعملياتية تتناقض في جلها. ولكن ما شاع منها – وأخذت الحرب اسمها منه .. تصوّر ان البيئة العربية نظما وشعوبا سيتحول لداعم ومشارك في الحرب وتحويلها ل(طوفان) خطيئة وليس عذرا، لأن رجل الشارع العادي يعلم مدى إمكانيته. 

– ⁠تطورات الرأي العام الدولي بشأن القضية، شيء أيجابي وان كان بسبب خروقات اسرائيل وليس 7 أكتوبر. ولكن هي كمنجز، كمثل انتفاضة الوعي بالحال العربي ليست مستدامة كعادة هذه الأمور، ودون وجود أدوات استدامتها وتوظيفها ظرفيا لمنتج سياسي محدد، فتبرد مع الوقت. مثال. مقارنة بين وضع الشعب العربي هذا أول الحرب والآن. 

– ⁠استنزاف الكيان كذلك أمر ظرفي يتم ترميمه، ليس فقط لاعتماديته غربيا، ولكن لقوة الدولة ومواردها. 

– ⁠وكمنتوج – إقليميا تم تدمير المحور وهو بدون ذرة شك مسئول بدرجة غالبة عن قوة حماس عسكريا ، وغطاء سياسي اقليمي. ولهذا حماس بنفسها تخاطبهم بهذا مع مايجره عليها هذا الخطاب من سخط شعبي واقليمي. ونعم – كما أوضحنا في مقالات سابقة (الهجمات الإيراني، والتدافع بين إسرائيل وحزب الله) هذا المحور – بالأخص الحزب- هو مسئول عن خسارة كثير من قواعد قدرته على المناورة الاستراتيجية والتصعيد، فضلا عن الاختراق الأمني والمعلوماتي الذي أخذ سنينا ووصل لنتيجة مرعبة، ولكن 7 أكتوبر فرض على هذا المحور (إيران والحزب) تصعيدا لم يكن مستعدا له ولا تحتمله خاصرته. 

– وعلى هذا، تعملقت إسرائيل كقوة اقليمية ، بشكل لم يحصل منذ حرب 67

– ⁠الشيء الإيجابي الأساسي هو هدم صورة عدم القابلية للهزيمة invincibilty والصورة الردعية لإسرائيل. ولكن كما حصل ما بعد 6 أكتوبر ، لو لم توجد منظومة استراتيجية للاستفادة منها قد تقود لنكسة مثل معاهدة السلام. فضلا أنه في ظل هذا – لا يبرر النكبة للشعب بغزة أخلاقيا. 

– ⁠وكذلك الصمود المقاوم والأبداع التكتيكي والعملياتي، ولكن يوضع بقدره أمام هذه الخروقات الاستراتيجية والمقتلة في الشعب. بل العكس، استنفاذ هذا المخزون في معركة خاسرة وكان محصلة بناء عشرين عامة يزيد من النكارة على القيادة السياسية والعسكرية للحركة.

– ⁠النقطة الأخيرة، أن عدم تحقيق أهداف إسرائيل المباشرة من الحرب يصب في قيمة الحساب الاستراتيجي للقوة الأضعف؛

هدف تحرير الرهائن، وهدم تدمير حماس عسكريا وسياسيا. 

الأول يتحقق جزئيا،

والثاني تحقق جزء معتبر منه، ولكن لم يكتمل.

أما الصيغ الأخرى مثل خطة الجنرالات، أو السيطرة المباشرة على القطاع والاستيطان، فكل هذه كانت صيغا لاتجاه متطرف سياسيا، وما يمثله من مجاميع غير مُتصرّفة في المجتمع الاستراتيجي الإسرائيلي مثل جيورا ايلاند، ولم يتم تبنيها في أي لحظة سياسيا. وبالعكس – مُجمل المجتمع الاستراتيجي (كما أشرنا في مقال اغتيال القادة بأغسطس) كان مع صفقة مايو – والتي هي بالأساس صيغة إسرائيلية وتبناها بايدن – ولكن بشكل عارض لاستعادة القدر الأكبر من الرهائن ثم استئناف الحرب، ولأسباب شخصية يعلمها الكافة لنتنياهو – حاجته للاحتفاظ بالمكوّن اليميني المتطرف – تعثّر الأمر، بالإضافة لحاجة كلا الطرفين إسرائيل وحماس لضغط أمريكي لتليين بعض النقاط التفصيلية للمرحلة الأولى. 

ولكن الحرب لم تنته حتى نقوم بالجرد النهائي. 

ولهذا فنتيناهو ووزير الدفاع مثلا تعمدا بوضوح التكرار ان هدف الحرب الثاني لم يكتمل، وسيتم إكماله.

———————————————————————

الحساب وقيمته؟

وطرح لي أحد الأصدقاء رأيا لأحد الإخوة، أن إسرائيل تعتمد ما أسماه (كيّ الوعي)، وهذا مصطلح خطابي وأدبي وليس استراتيجي، ولكن يقصد أنها تقوم بردات فعل عنيفة ومبالغ فيها أمام أي فعل مُقاوِم لإحباط فكرة وإرادة المقاومة، ولهذا فطبيعي ألا يشغلنا الحساب من أجل إبقاء المقاومة مشتعلة، لأن رد فعل الإسرائيلي دائما ستكون مبالغ فيها،

فأجبته:

يعني بغض النظر عمن يقول هذا الكلام، ففيه مشكل ضخم وعدم إلمام ببديهيات الاستراتيجية كنظريات وتجارب وسياق محدد يرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي، ومسألةالردع، ولا حتى المنظور الفقهي الشرعي.

1 حساب العواقب، ليس فقط واجب تطبيقا للقاعدة الفقهية في اعتبار المآل؛ إذ أنها تحكي عما قد يؤول له الوضع دون قصد، ولكنها في صلب النظر الفقهي في اعتبار الجدوى والمقصود –  وهو ما يعطي للجهاد حجيته وشرعيته. وما لايُعتبر فيه الجدوى هو ما يُدفع به من يقتحم دارك يريد قتلك وسلبك، ولكن ما يتعدى ذلك من حشد الجيوش ووضع الخطط وتقسيم الأدوار والمراحل، مداره على الجدوى والمآل. وللفرد خيار الشهادة وإن لم يترجح له مقصود ومصلحة، ولكن ليس هذا حظ القائد من المسئولية الشرعية.

2 مثلما شاركت معك دراسة ماتينا الحديثة في طرح مفهوم جديد للأمن القومي الإسرائيلي يرتكز على عناصر منها ما سماه Disproportional and nervous coercion ، أن هذا ليس شيئا جديدا؛ نعم كما أشار هو يدخل في منطق الردع بالأساس. لكنه أيضا – ممارسة إسرائيلية قديمة ومعتادة بالأخص مع حركات المقاومة مثل سياستها منذ أول الخمسينات مع الحركات الفدائية – ما تسمى appraisal policy ، وأن فكرة عدم التناسب لا تنفي “التوازن” لأن السياسة العقابية إذا زادت دفعت لما يخالف المقصود من الإكراه (إشعال حرب أو تصعيد عدائيات الخصم)، وإذا قلت لم تحدث الأثر العقابي تحديدا. لماذا هذه السياسة الإسرائيلية كانت تفشل؛ لأنها تتجاوز (التوازن) كثيرا فتدفع لتصعيد وتقديم وقود لحركة المقاومة في الاستفادة من الاحتقان الشعبي في التعبئة (هذا منطق الحركة غير النظامية بالأساس وما يعطيها وقود العيش)، ولأنها لا تراعي أحيانا التداخل بين الحركة ودولة راعية فيتحول إيذاء حركة المقاومة لمعادلة جديدة في إيذاء الدولة الراعية وإذلالها ونقل التصعيد لمستوى آخر (مذبحة غزة 54)، أو التغافل أن هناك أنساقا من الاستيعاب والتوظيف غير المباشر وإحباط المشروع السياسي للمقاومة قد تكون أجدى – وتتم موضعة السياسة العقابية مع سياسة إجهاضية في استراتيجية متكاملة (مثل ما فعلته من السماح لحماس بإدارة غزة منذ 2007 وسياسة التمايز بينها والضفة، وأخطاء إسرائيل الاستراتيجية لم تكن كما أشار ماتينيا في غياب الردع العصبي غير المتناسب، ولكن الضعف الأمني والمعلوماتي، وتكريس نموذج مفاهيمي حول ارتداع حماس، وعدم التهيؤ كما في أي حال ردع لفشله).

3 موقف الكيان المُعرَّض لهذا الإكراه غير المتناسب، وأحكي بشكل عام وليس في الحرب غير النظامية تحديدا، ليس عدم مراعاة الحساب – هذه كوميديا سوداء، خصوصا أن الحساب هنا ليس فقط يعنى بردة فعل الخصم ولكن الأثر السياسي والاستراتيجي، ولكن أن يخلق بذاته مساراتا من الفعل العسكري وغير العسكري، في استراتيجية منضبطة و(محسوبة) ليس فقط لمواجهة الإكراه، ولكن فرض واقع له آثار استراتيجية إيجابية، فالأمر أوسع من مجرد معادلة إكراه وإحباطه..

نظريا – الإكراه يتم إحباطه، بسحب فرص اتساع التصعيد، فحتى الإكراه (غير المتناسب) له حساب عند الخصم! وهذا الحساب بعناصر الإدماء البشري والاقتصادي والسياسي والدولي. قد تريد أن تدفعه لتجاوز حدودا معينة لتستفيد بها في مسار استراتيجي خاص بك، ولكن في الحالتين – لابد أن يكون عندك (مازورة) للحساب!

وكذلك، بنقل المأزق الضاغط استراتيجيا على الخصم بحيث إما أن يصل لقرار أن مساره هذا غير مجدٍ لتحقيق أهدافه، أو أن حجم الخسائر نتاج هذه السياسة لا يمكن احتماله. هل حصل هذا؟ كثيرا. حرب 2006، وسيف القدس أوضح مثال. حملات 2009 و2014 لها سياق مختلف لأنها كانت تجديد للردع في مسار احتوائي لحماس في غزة وفصلها عن الضفة.

4 في الحرب غير النظامية بالأساس، ما يحكمها استراتيجيا هو أنك الحركة غير النظامية بالأساس لا تُهدد الدولة في مصالحها الوجودية وأغلب الحيوية؛ لأنها تعتمد على قلة صبره وتحريكه لموارده حين تستهدفه في أقل من ذلك. فبحساب المصلحة والخسارة – ينسحب، كما في جنوب لبنان وغزة والعراق وأفغانستان، وقبلها فيتنام والجزائر، وكل التجارب حقيقة. لو الحركة غير النظامية هدّدت الدولة (بحساب!) أعلى، تتغير المعادلة الاستراتيجية تماما. هذا ليس فقط يرفع بشدة مستوى الإكراه- السياسة العقابية (خصوصا لو أعطت له الحركة غطاء أخلاقيا أول الأمر بانفلاتها في أخلاقيات الحرب)، ولكن معادلة صبره Resort  وكذلك تحريكه لموارده وإجماعه الوطني تختلف. 

فلو فقد بضعة عشرات في 2014 ووصل لمستوى threshold  حسابي صاغط بما يكفي، بعد 7 أكتوبر أصبح عنده استعداد للتضحية بآلاف عسكريين ومدنيين، ولولا فشله في إدارة بيئته الداخلية وتحقيق واستدامة إجماع وطني سياسي وشعبي (ما حاول نيتنياهو أن يفعله أول الحرب) لاستمر في عملياته العسكرية دون اكتراث بالأسرى.

5 خطأ الحساب، يختلف عن غياب الحساب، يختلف عن محاولة جادة لتدقيق الحساب. 

باختصار، كان هناك بدائل استراتيجية عديدة في صلب خط المقاومة (كما تحدثنا باستفاضة بعد سيف القدس عن تمديد مسارها استراتيجيا)، بل حتى في التكييف الاستراتيجي والعملياتي لعملية 7 أكتوبر تبعا (لحساب) مختلف.

ممكن أن نحكي ساعات ونتناول مئات الأمثلة والتطبيقات، ولكن أعتقد الفكرة العامة وضحت. شيء محزن حقيقة أن هناك من يحكي هكذا وفي هذه المرحلة. ويمكنك مشاركة هذا معه

————————————————————————————-

تحريك (صورة الانتصار) .. المنطق والمحددات

وطرح أحد الأصدقاء مسألة أن الحرب هي على صورة الانتصار، فأليس من الطبيعي أن تسعى المقاومة لتضخيمها، وكذلك العدو؟، فأجبت:

باختصار ، جزء من مادة إدارة الصراع ،بالأخص من هذا النوع الحرب ، هو على مفهوم الانتصار، بمعنى (تضخيم ماتم

تحقيقه، وتقزيم ما حققه الخصم)، هذا يرتبط بالسياق وطبيعة التوظيف،

ولكن غالبا يفيد في:

– تحسين المنتوج التفاوضي

– ⁠تصليب الجسد الداخلي والبيئة الداخلية

– ⁠التأثير في بيئة العدو كنظام وبيئة اتخاذ قرار

– ⁠التأثير في المحيط الإقليمي والدولي بشقيه النظامي – والأخص الشعبي وما لذلك من توظيفات في مسار الصراع. 

والعناصر الثلاثة الأخيرة، فعلها يحصل حتى أثناء الحرب، وفي مرحلة التفاوض، وبعده لجولات مقبلة في الصراع، وهو إما يفيد في التأثير على معادلة اتخاذ القرار والإرادة السياسية للخصم والأطراف الدولية المحيطة، أو توفير موارد للصراع وخصمها من الخصم. 

ولكن كما ترى ، لابد من مراعاة كم (التحريك) handling في مفهوم الانتصار هذا – أي حجم التضخيم، وصيغته (أيّ عناصر فيها) بحيث تحقق أفضل النتائج، ولو حصل تعارض بالأثر ، فغالبا يكون الترتيب من الأعلى للأسفل إلا لعارض، وهذا يؤثر على مجمل الخطاب السياسي والإعلامي. 

لكن، من الضروري ألا يقود كل ما سبق لأحوال سلبية:

1- ألا يقيم أصحاب الشأن الحرب ومنتوجها المرحلي والممتد بشكل (موضوعي) بحت، لأن هذا التقييم هو حتمي للتعامل مع كل ملفات البناء والتوظيف (صياغة الاستراتيجية)، 

بالأخص – لو هناك حاجة لمراجعة جذرية وتطوير شامل للبنية والقابلية الاستراتيجي، والقدرة القتالية، ولمرحلة جديدة. 

2- أن تتجاوز العملية من حيث مستوى التحوير أو صيغته المصالح في المساحات السابقة، فقد تزيد في الجرعة فتفقد المصداقية، وتعزز صيغة الخصم، وهكذا

3- أن تزيد فتؤثر على مستوى الوعي الاستراتيجي العام، والإدراك الموضوعي للبيئة الداخلية، ليس فقط لأن تطوير مستوى الوعي يعطي لك مستوى أعمق من ال discourse في النقاش السياسي والاستراتيجي، ولكنه يحدث تلاحما ومصداقية لك أكثر. 

وبالأخص في غزة، شرعية المقاومة في مجمتع طحنته مأساة الحرب. لو لم يجد عندك هذه المصداقية وتقدير حقيقي لمعاناته واعتراف بأخطاء في التقدير والفعل ورغبة ورؤية لتصحيحها، لماذا يسلّم لك ثانية لتكرر عليه ما حصل. خصوصا أن المرحلة المقبلة بكل تصاويرها الممكنة، التحدي الاستراتيجي هو على ال hearts and minds من كل الأطراف في بيئة لا تقود فيها المقاومة وتقترب من نموذج الضفة. 

4-  مشروع أن يكون جزء من محركك في كل هذا (تسويق وزيادة وزن الحركة في مصفوفة القضية) ولكن لو لم يكن المحرك والأساسي والأهم هو المصلحة الاستراتيجية نفسها، ستضطرب كل الحسابات السابقة. 

وبالأخص ، عند البيئة الداخلية بغزة، وهي بيئة الصراع الحقيقي الفترة المقبلة، لو لم تقم بمراجعة حقيقية (ومضبوطة) وتعيد طرح ذاتك على مجتمع غزة كحركة مسئولة (بمعنيَيْ المسئولية : القدرة على فهم الصراع وإدارته، عن أمن الناس وسلامتهم ومصابهم) فهناك مشكل كبير في استعادة وتطوير الشرعية حتى للحفاظ على ماكان، فضلا عن تطويرها وتمديدها على مستوى الكيان الفلسطيني الأوسع والتعبير عنه. 

أخيرا – كثيرا ما تحتاج لصياغات متعددة لا تختلف بشكل كبير ولكن في إبراز نقاط دون أخرى. (قد تبرز نقاطا كالأثر السياسي، حرمان الخصم، المنتوج والتوازن العسكري، التفوق الأخلاقي، الصمود الشعبي، تعثرات بيئة الخصم). وهذه في نقاط السياسة الإعلامية أكثر منها في صورة الانتصار نفسها ، ولكن طريقة عرضها.

—————————————————————————————————————-

أولا) من طبيعة الاستراتيجية، أن هناك مسارب وفرص واسعة عندك للتخيّر والمناورة، ولكن كلما تتقدم في الخط الزمني وأنت على مسار استراتيجي ملتبس، تضيق أمامك هذه الطرق. فما كان متاحا لحماس قبل 7 أكتوبر – تحديدا ما طرحناه في سلسلة متكاملة أثناء وبُعيْد سيف القدس، أوسع كثيرا من مسار ما بعد 7 أكتوبر. وما طرحناه حينها في المقالات الأولية (نوستالجيا أكتوبرية، واستدعاء الاستراتيجية لحرب غزة، وتقدير موقف لحرب غزة) – هو أوسع مما طرحناه في ورقة خاصة وصلت للمهتمين في مايو 2024 (أفكار أولية حول استراتيجية المُقاومة) وهكذا..

ولهذا – فأكيد ما هو مطروح الآن هو أضيق في الناحية الوظيفية – بالأخص في الملفات الأساسية (القيادة السياسية الوطنية، تطوير الرؤية والتحريك الاستراتيجي لمفردات القوة العسكرية والتنسيق الجبهوي مع المحاور، وصولا لصيغ أفضلية في الترتيب العسكري والسياسي طويل الأمد في غزة، مما يقلل من توغل الإسرائيلي وحرية حركته وكذلك إقليميا، وأيضا – يفتح مساحة للحركة السياسية والتجديد العسكري وفي ميراث الشرعية الشعبية بالداخل الغزاوي)

ولكن – بالتأكيد ليس متوافقا مع هذا التمادى في الظهور العسكري والسلطوي لحماس، لأنه يزيد بشكل كبير من الإجماع الوطني الإسرائيلي لاستكمال الحرب في هدف القضاء على حماس (بعد تحييد ملف الرهائن الذي أحدث شقا طوليا في المجتمع والسياسة الإسرائيلية، وهنا – يكفي فقط إبراز جدية الدولة فيه، ومع هذا الإجماع يقل كثيرا عوامل الحرص على استكمال اتفاق الهدنة، وحتى بعده، توفير عناصر مشروعية داخلية ودولية (عند ترامب بالأخص)، لنقض الهدنة والعودة للعمل العسكري بغزة.

وإنما الأنسب، كان النزوع سريعا للمقترح المصري بخصوص لجنة الإسناد حتى دون موافقة السلطة، لتحضير إطار حوكمة مدنية (حتى في غياب إطار الحكم المدني) لغزة في هذه المرحلة، والعمل على خطوط الاستراتيجية الإسعافية في الملفات الأساسية للتعامل مع مرحلة تجدد الحرب.

وبخصوص مشروع ترامب، فنعم – هو أكيد معني باستكمال الهدنة، ولكن فقط لغرضها الوظيفي في توفير عريضة مناسبة للتطبيع الإسرائيلي السعودي (ومتوالياته الإقليمية والدفاعية والجبائي له)، وكصورة افتتاحية له كقائد متمكن، وليس لغايتها، مع التوازن مع تحيزه الأساسي بخصوص إسرائيل (وإن قل تماهيه مع خط نتنياهو والاكتراث بمصالح الأخير الشخصية) وهذا يشمل بكل تأكيد وقطع – عدم السماح لحماس أن تكون في إطار رسمي يقود غزة، فيجب نفض أي وهم يخص هذا.

وفي ذات الوقت، نعم ترامب قد يتراخى كثيرا في وعوده بخصوص ضم الضفة، ولكن سيطرح (صفقة) ما يسعى أن يُكتب لها القبول بقدر ما لتسويغ تمديد سلام إبراهام، وهي السلام الاقتصادي وإعادة إعمار غزة، ونسق تبادلي في الضفة، وإعادة ترميم وتجديد السلطة بدعم إقليمي.. وربما – فقط إشارات مبدئية على مسار تفاوض سياسي ولكن ليس الشروع فيه.

——————————————————————————–

وهنا الحقيقة أجدني مكتفيا بما نشرته في أول أسابيع الحرب، ضمن ورقة (تقدير موقف لحرب غزة)، ومجال التفصيل هو فقط حين تتوفر إرادة حقيقية ورغبة جادة للمراجعة والتصحيح عند كل الأطراف..

4 كما هو مقرر، بكل ما تقدمه التجربة المقاومة الفلسطينية من بطولات وانتكاسات، تميز وقصور، تاريخيا وحاليا، فإنها كحدود قوة استراتيجية ليس من قدرتها أو المطلوب منها التحرير الشامل، بل الدور النوعي فيه. بل الأصل – أن المشكل ليس صراع على أرض فلسطين وبسببها حصرا، فضلا عن ربطه بمسجد ومسرى مع قيمته الدينية (بل حتى التصور الديني نفسه يقول بذلك)، ولكنه مشكل على سيادة الأمة ووحدتها وتحررها.. فبطبيعة الحال، بالإضافة للمنظور الاستراتيجي فإنها وظيفة الأمة بعمومها .. وهذا يجعل هناك حراجة لملفات التغيير السياسي والاجتماعي بالأساس.

5 كما مرت بنا التجارب المريرة في الربيع العربي (مصر وتونس، سوريا واليمن والبحرين، العراق والجزائر والمغرب والسودان ولبنان ووو)، وصولا حتى لجل مشكلات بلادنا، وليس خليا عنها الحركات الفلسطينية، فإن هناك مشكل ضخم في ضمور النخب السياسية في بلادنا/ ضمورها القيادي والاستراتيجي ومن حيث الرشادة المؤسسية والأخلاقية،
وهناك مشكل في غياب النزعة العلمية والمثالية الأخلاقية وارتقاء الوعي السياسي والديني (الرشيد) في مجموع شعوبنا..
ولهذا – فمهمن يكن نتاج طوفان الأقصى وحرب غزة، فهي بالتأكيد مثلت زلزالا حقيقيا في بلادنا على مستوى الشعور والتناول، وحتى إذا أضحى المنتوج سلبيا – لا قدر الله – فنتأمل أن يكون هذا محثا لانتباهة عامة تعيد قطاعات الأمة فيها التعرف على مصادر الوعي الضروري لإدارة هذا الصراع، الوعي الاستراتيجي والديني والإنساني، وإعادة فرز الأولويات في جوانب التغيير السياسي والاجتماعي، ومواجهة الفرضيات الفاسدة وتجفيف الوعي والحس الأخلاقي الذي ابتلتنا به كل من الحركات المؤدلجة و كذلك غياهب التغييب تحت أسوار الاستبداد التي عاشت فيها شعوبنا أدهرا..


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى