تحليل استراتيجي

حوارات على هامش حملة (سيف القدس) -1- الاستراتيجي والعملياتي والتكتيكي في عملية الصواريخ

هذه سلسلة لحوارات على هامش مقال (هل تُعيد عملية سيف القدس المبادرة الاستراتيجية لحركات المقاومة)، وفي جُلِّها تحاول إبراز المنطق الاستراتيجي – قيمته وطبيعته وتطبيقه – في حملة (سيف القدس). وبطبيعة الحال فهذا واجب تكليفي لمن تخصص في هذا الأمر، ولكنه درس تعليمي هام كذلك.
فالاستراتيجية – بطبيعتها النظرية – تبقى كثير من معانيها مبهمة دون توضيح عملي. كذلك – فكما قال كلاوزفيتس (كل شيء في الحرب بسيط، ولكن أبسط شيء يبقى صعبا)، والاستراتيجية هي أعقد ما بالحرب لأن العِبرة ليست فقط في فهم وتقدير أهمية وجودها، ولكن الحساسية المعرفية والنفسية والإجهاد الذهني والصلابة القيادية لتنزيلها على تيارات الحوادث محاولة لسوْقها، دون الاستغراق في تجاذبات العمليات والتكتيك (ولهذا فأستلطف ترجمة استراتيجية عربيا – بالسوْق). فإن كان الضمور الاستراتيجي أفشل حروب خاضتها قوى عظمى، بحيث يمكنها بعض التعويض القوة المفرطة والحسم العسكري، فإن رأس مال القوة الأضعف بالأخص هو التعويض بالمناورة الاستراتيجية!

في المقال تمت الإشارة أن من أهم أسباب إنجاز حماس في عملية الصواريخ كانت المفاجأة الاستخباراتية (حيث كان تقدير الإسرائيلي أن الحد الأقصى للإطلاق سيصل ل 200 صاروخ يومي في المتوسط)، وعلى هذا – فلم يكن هناك استعداد لمنهج حماس في إطلاق عدد ضخم في موضع ووقت محدد لإغراق
Saturation
بطاريات القبة الحديدية التي نعم لهم سعة عالية (كل بطارية بها 3-4 قواذف، لكل منها سعة عشرين صاروخ تامير) ولكن محدودة. ألم يحصل في بعض التصعيدات في 2015 و 2018 تجاوز هذا العدد بكثير في يوم واحد؟

١- التقدير 200 باليوم هو في حملة تصعيد لابد أن تقتصد فيها حماس لتصل لوضع مستدام من إطلاق الصواريخ لمدة معقولة إسنادا لبناء صيغة ردعية حتى نهاية الحملة (هذا ملمح استراتيجي). وليس في قذفة تصعيدية ليوم أو إثنين.
مثلا في 2014، حماس أطلقت 4000 صاروخ ولكن معدلها اليومي الأقصى كان 200. ومن هنا كان التقدير.

2- لابد أن نميز بين الصواريخ والمورتر ذات المدى القصير جدا. في التصعيدين الذي أشرت لهما لم تكن كلها صواريخ.

3- النقطة الأخطر، والأكثر التصاقا بمبدأ التشعب
saturation
هو إطلاقها في وقت قصير ومركز على ذات (البطارية)، ولكن كذلك في التصعيدات الاي أشار لها كانت على مدن متنوعة على مدار اليوم ، فلم يكن المقصد هو إنهاك منظومة القبة الحديدية وتجاوزها (وهذا ملمح عملياتي).

ولكن أليس للصواريخ آثار تكتيكية تتجاوز التدمير المباشر ومايرتبط بها من خسائر بشائرية، إلى الآثار الاقتصادية والنفسية والسياسية؟!

لابد أن نفهم ماهو التكتيكي والعملياتي والاستراتيجي هنا.. هذا ليس فقط ضرورة نظرية، ولكنها ضرورة عملية وإلا لم نميز بين الوسائل والنتائج، النتائج الوسيطة والنهائية، وفشلنا بالضرورة في مراجعة هذه العلاقات وخسارة القيمة الاستراتيجية لتوظيف هذا السلاح بالتالي.

باختصار- التكتيكي هو التأثير التدميري المباشر للصاروخ. كل مايتعدى ذلك، هو عملياتي (لو ارتبط بمسارات عمليات عسكرية أو حتى اقتصادية ونفسية وسياسية – بحجم كاف)
. واستراتيجي (حين تتداخل هذه الآثار العملياتية مع الضغط على الحساب السياسي للخصم)
فلو هناك مثلا شلّ لحركات الطيران والمواصلات الرئيسة بسبب الحملة الصاروخية، الموقف النفسي للحالة الشعبية من حيث الذعر والقلق، الآثار الاقتصادية.. كل هذه آثار (عملياتية) مُحصّلة لاستخدام سلاح الصواريخ جُملة ..
فإذا أثّرت على الحساب السياسي والإرادة السياسية لصانعي القرار بإسرائيل – فهي آثار استراتيجية.
الفكرة هنا – أن لكل آثار عوامل متنوعة تتحكم فيها، وعلاقة سببية مع استخدام الوسائل وطريقتها لكي تحصل – فهي لا تحصل بشكل تلقائي (ولكن بفن تكتيكي أو عملياتي أو استراتيجي ما – على حسب المستوى الذي نحكي فيه).
فإذا لم يتضح عندك هذا التقسيم.. لن تستطيع أن تفهم أو تحقق هذه الآثار، أو تعيد مراجعتها.

بالمعنى التكتيكي والتقني، القبة الحديدية، تتفوق على صواريخ القسام عشرات المرات. (90% إصابة لصواريخ شبه منعدمة التوجيه، وب
threshold
عال للتشبع، نسبة ممتازة جدا!!!)

ولكن ماصنع الأثر العملياتي القوي لحملة الصواريخ – كان فنا عملياتيا لحماس، وليس قدرة تكتيكية بالأساس هنا.. (الوصول لحالة التشبّع للقبة، والمقدرة على استدامتها عملياتيا ولوجستيا – وبالأخص في وجه القدرة الإجهاضي لإسرائيل وهذا اقتضى ضبط أمور كثيرة في التقسيم القيادي والجغرافي والتوفية اللوجستية لسلاح الصواريخ مع جوانب الاستخبارات والتخفي والسرعة – بحيث تضمن استقلالية في النشاط العملياتي بقدر الإمكان وصمت
Silence
تواصلي فلا يمكن كشف مواقع الإطلاق.. كل هذه ملامح عملياتية لهذا المسار بأكمله، وليست تكتيكية أو تقنية)

أما أن يقود ذلك لأثر استراتيجي فهو عالة على ماقد تقوم به إسرائيل في مستوى العملياتي للدفاع الصاروخي، أو استراتيجيا بتغيير سياق الحملة أو البنية الداخلية. مثلا هناك أثر للمفاجأة، يزول مع الوقت. وكذلك الاضطراب النفسي وفقدان الثقة في الحماية الدفاعية.ولهذا فقد يبادر بزيادة ال
resilience
بجوانبه السياسية
(رفع ال stake، وال bi-partisanship)
والنفسية (الطمأنة للفعالية التكتيكية الدفاعية، وجوانب الإنجاز الاستراتيجي والعملياتي العام والخاص بمواجهة الصواريخ. ) والاقتصادية والدفاع المدني.
هذا فقط مثال.

لاحظ أن الإسرائيلي مشهور بتنويع خطابه ورسم صورة بشكل متغير على حسب السياق.
ففي السياق الداخلي يركز على جوانب المنعة والقوة الدفاعية، ولكنه كسياسة وخطاب خارجي يرتكز على التهويل في آثار الصواريخ وتمثل دور الضحية لضمان شرعية دولية وسياسية لضرباته العقابية، وحتى استراتيجيا في عزل حماس وشيطنتها، واختراق الوضع الإقليمي والدولي.
هناك دراسة جيدة لراند في 2016. رأت أن القبة الحديدية لها نتائج إيجابية باهرة تكتيكيا. وهذا حقيقي.
ولكن قد تقود لتعثر استراتيجي. نعم التقرير أشار لخطورة الانشغال بالإنجاز التكتيكي والعملياتي عن الاستراتيجي في هذا النمط من الصراع، وهذا ماتجده في خطاب الكثيرين من الشباب تبعا للنزعة العاطفية خصوصا مع غياب الحد الأدنى المعرفي بالاستراتيجية والعمليات وحاكميتهما على التكتيك.. مع أن التفوق التكتيكي والمواردي هو هائل في حال إسرائيل، وإلا لم تختار حركات المقاومة خيار الحرب غير النظامية وغير المتماثلة، لتُعوّض الفقر التكتيكي وعدم تناسبية القوة، بالمناورة العملياتي، والأهم – الاستراتيجية.

لكن النقطة التي لها صلة بال
strategic effect
لهذا الصراع، وهي أساس إشارة تقرير راند – أن نتاج ذلك هو تقليل الأضرار البشرية للصواريخ في مقابل الخسائر البشرية في غزة،
وهذا سيزيد من الصورة التجريمية للنشاط العسكري لإسرائيل -ولها سياسيا أصلا- دوليا،
ويحبط من جهود شيطنة حماس دوليا وأقليميا.
فتخيّل بالمقابل، أنك حين تُهوّل في الخسائر المباشرة من أثر الصواريخ، فأنت تُساعد الطرح الإسرائيلي خارجيا.
طبعا – الخطاب الإعلامي والسياسي لا يرتكز على جُملة واحدة أو منطق بعينه، فهناك توازنات بين أهداف قد يكون من طبعها التناقض ولابد من التوازن بينها والتنسيب، فضلا عن دمجها والتوفيق بينها مع مسارات النشاط المسلح والصاروخي مثلا ضمن استراتيجية الحرب أو الحملة. ولكن يهمني توضيح هذا كمثال على عدم المباشرة والخطية بين التكتيك والأثر العملياتي، وبينه وبين الأثر الاستراتيجي. خصوصا في الحرب غير النظامية.


هناك مسارات وتقييمات للمسارات العملياتية قد تتناقض في المصلحة، ولابد من التخير بينها ضمن رؤية استراتيجية ما.. كما أشار كلاوزفيتس (التقييم العسكري الصرف هو شيء سخيف، لأنه لايمكنك المفاضلة بين الخيارات بدون الرؤية الاستراتيجية).. مثلا – قد يتناقض مسار بناء الشرعية الأخلاقية والسياسية لاختراق الواقع الدولي والإقليمي، وتجريفها عند حماس، وهذا سيقود للعزل السياسي والشعبي والاقتصادي تاليا.. مع مسار عملياتي خاص بالدفاع الصاروخي أو تحييد القدرات العسكرية عند الخصم.
كيف توازن بينهما – أو تضع توليفة لتنسيب كل مسار وكيف تفك نقاط الاشتباك بدون رؤية استراتيجية عامة ومرحلية?!

النقطة المهمة هنا.. أن الأثر الاستراتيجي في الحرب غير النظامية ليس منحصرا غالبا بالإنجاز العملياتي العسكرية، ولكن جزء كبير منه مرتبط ببناء الصورة وبناء أو نزع الشرعية، ومايتلوها من عناصر مادية تساعد في تصفية حركة المقاومة..
والعكس صحيح – حالة الإدماء والضغط الدولي والإقليمي، بما يُغيّر من منطق الحساب الاستراتيجي لدولة الاحتلال.

طيب نرجع تاني لتحديد ماهو تكتيكي وعملياتي واستراتيجي في عملية الصواريخ..أنا أفتكر إن حضرتك قلت سابقا إن ما يحدد مساحة التكتيكي والعملياتي هو مساحة وطبيعة الحرب نفسها. في حالة الصواريخ كسلاح بذاته مش عارف أحسبها الصراحة. بس العمليات هيكون التنسيق بين الهجمات (الرشقات) الصاروخية ومجمل أثرها العسكري على الخصم عسكريا. التكتيك هو الأثر التدميري للهجمة الواحدة، أما الاستراتيجية فهي مرتبطة بالتأثير السياسي سواء الهجمة الواحدة أو مجمل نشاط الصواريخ -صحيح؟

التكتيكي هو الآثار المباشرة للاشتباك العسكري (بمعنى كفاءة واتساع ودقة التدمير لحزمة الصواريخ، وفي المقابل تحييدها)
عملياتيا- هو تصميم الإطار الكلي لإطلاق الصواريخ بكل مراحله وباتساعها على مسرح العمليات -وقد يشمل بالتأكيد مسائل تقنية وتكتيكية ولكن على مستوى الحملة.. (بكل محطاتها الحقيقة بدءا من التصنيع أو الاستيراد، للتدريب، للعقائد، لمراحل التوجيه والإطلاق واللوجستيك وتجاوز الدفاع الإيجابي أو الإجهاضي)
وعند المقابل (كذلك عملية الدفاع الصاروخي بمراحلها الردعية والإجهاضي، والدفاع الإيجابي والسلبي)..
ويرتبط بذلك آثار العملية ذاتها (قوة تدميرية، آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية – خارج إرادة الحرب ولكن تؤثر عليها -.. وهكذا).
أما الاستراتيجية – فهي أولا .. مدى توصيل هذه الآثار العملياتي – ضمن مخروط التفاعل التعويضي والتعاضدي أو التقابلي – مع خطوط العمليات الأخرى (الإعلامية السياسية العسكرية المدنية…) للتأثير الإرادة السياسية والحساب الاستراتيجي.
ولكن كذلك – ستتصدى الاستراتيجية للتصميم العملياتي الأعلى وتوفية موارده الكلية على سبيل الإجمال والقرار السياسي.

من هذا يبين لك حجم السخف والقصور في تقييم مسار عمليات الصواريخ (كما العمليات الاستشهادية في عقد الألفية) تبعا للمنطق التكتيكي. وكما ذكرت.. تكتيكيا صواريخ القسام – مع كل التطور الحاصل فيها – لا تقارن بأي شكل بالقبة الحديدية.
لكن عملياتيا بالشق العسكري الصرف، هناك عناصر قوة، آثار معقولة. الأولى – كما أسلفت في المقال. ولكن الآثار – نعم جزء منها نفسي واقتصادي وشعبي.. وهذا هام.
ولكن أن تقود تلك الآثار العملياتية لأثر سياسي يتحكم فيه عناصر متعددة – سواء مبادرات للخصم لأجل تخفيف احتقان السياق ذاته مما يقطع على حماس المستند السياسي والشرعي للقيام بهذه العملية، أو استعادة الردع الإنكاري والعقابي – داخل الحملة وليس بخصوصها، أو تحوير في البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية عنده لتقليل الآثر العملياتي في هذه المساحات، أو تقليل كونه ضاغطا على بيئة اتخاذ القرار السياسي.

طيب – مزيد توضيح حول مستوى العمليات هنا.. النوع الحالي من الحرب كل اللي بيحصل أثناء القتال
warfare
رشقات صاروخية مفيش مسرح عمليات.. حضرتك ذكرت تجاوز الدفاع الايجابي بس ده
battle matter
عشان كده بحاول أخرج من كل ده وأعتبر إن المستوى العملياتي في الحروب الصغرى والمحدودة ديه هو مجمل تنسيق النشاط العسكري ونتائجه العسكري، أو إننا أفصل بين التكتيكي والعملياتي بحاجة كمية (عدد من الفرق أو الألوية أو الكتائب) زي ما حضرتك ذكرت في مثال الحرب العالمية الأولى

انت عارف أصلا أن مسألة مستوى العمليات معقدة وعليها اختلاف حاد.

العمليات – كما أتبناها – وتتبناها العقائد الغربية الآن، هو مستوى وظيفي يجمع بين مفردات التكتيكي – سواء عسكري أو غير عسكري أو هجين – لتحقيق أهداف متماسكة وظيفية أو جغرافية، مطلوبة لتحقيق الأثر الاستراتيجي.

فالأمر ليس مرتبطا بوجود مسرح (جغرافي – فضلا أن يكون أرضي)، فهناك عمليات برية وبحرية وسيبرية وإعلامية واستخباراتية وسياسية واقتصادية على حسب طبيعة الحرب – خصوصا غير النظامية.. وهذا واضح جدا في عقيدة ال COIN الأمريكية.
حتى لما نيجي ندرس كتاب روبرت تومسون في مكافحة التمرد الشيوعي، وضع مسارات عمليات تتجاوز كثيرا المنطق العسكري – الذي اتفق هو مع جالولو أنه محدود وإن كان حيويا.

فلو تحكي عن حركة مقاومة كحماس، فعندك مسارات عمليات – حتى داخل النطاق العسكري.. فهناك مسار للصواريخ (هو منفصل فعلا وظيفيا وقياديا عن الأخرى) وخط عمليات الدفاع النشط، وخط عمليات الاشتباكات النوعية، وخط عمليات العمليات الاستشهادي..
وفي الأدوات غير العسكرية.. هناك خط عمليات النشاط الإعلامي، وتماسك البنية التحتية والحوكمة، والاستخبارات، والنشاط الاجتماعي المباشر، ووو..
كل هذه الخطوط هي ماتشكل استراتيجية حرب العصابات..
كيف تجمع بينها وتوازن وتنسب؟ هذا الفن الاستراتيجي
هذه نقطة.

الأخرى – أننا فعلا قد نُغيّر من مستوى العمليات على حسب الحرب. فقد يكون الإرهاب (وقصدي بالإرهاب هنا مفهومنا الاحترافي عنه وهو استخدام القوة غير النظامية النشاط العسكري على أهداف مدنية ، ولانحكي بالمنطق السياسي فيكون أيضا هناك إرهاب دولة، ولا الأخلاقي مع أو ضد) خط عمليات وقد يكون استراتيجية إذا كان هو الأداة الأساس للحركة، وفي الحالتين قد ينجح كما في الدراسة البديعة لريتشارد إنجليش. حتى مكافحة التمرد في بيئة صراع قد تكون فقط خط عمليات، إذا كان بجوارها خطوط أخرى مثل مكافحة خطر نظامي، وبناء دولة وهكذا..
ومن هنا نفهم كلام هيو استراون حين قال أن مكافحة التمرد هي عملية وليس استراتيجية.. ولكنه لم يدرك نسبية التعامل معها – فضلا أنه حتى لو عملية، فتصميمها الكلي من اختصاص النظر الاسترايجي..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى