قراءات استراتيجيةمقالات منوعة

حول اغتيال القيادة -المنطق الاستراتيجي والآثار، ومسار الحرب

2/8/2024

دعني أولا أن أشير أن هذه النقطة بالتحديد من أكثر النقاط حرجا وإشكالا في البحث الاستراتيجي في العقدين الفائتين، وللسبب المعلوم في تسيُّد نمط حرب مكافحة التمرد والإرهاب والالتجاء لهذا التكتيك بكثافة من قبل الأمريكي بالأخص بطائرات الدرون وصواريخ جو أرض، ونادرا بعمليات خاصة مثل اغتيال بن لادن. ونجد أمامنا بالفعل جسدا متضخما من الدراسات تناقش هذه المسألة. وإن كان مقاربة هذا الأمر بالأخص في معرض السلوك الإسرائيلي في اغتيال القادة الفلسطينيين قبل وبالأخص مع انتفاضة الأقصى سبقت هذه الموجة البحثية.

وبوضوح، فإن مراجعة هذا الركام من البحث والدراسات تشير للعيب المنهجي والميثودولوجي في العلوم السياسية والاجتماعية، أو من يريد أن يستدعي هذا النموذج في الدراسات الاستراتيجية.

نعم – اغتيال القيادات السياسية والعسكرية، وهو ما يوصف بال  
political or military decapitation
قد يهدف أولا لضرب ما يمثل هؤلاء من رمزية وكارزمية فتؤثر على الروح المعنوية للحركة
morale
 وكذا تساعد في الخضوع السياسي خصوصا لو حوّرت في بنية القيادة بإزاحة المتصلب (اغتيال أبي جهاد)، أو إشعال خلاف الوراثة الداخلي. والمنطق الثاني – هو إحداث درجة من الارتباك الوظيفي
disruption
– بالأخص إن كان لهؤلاء القادة رصيد من تراكم الخبرة والتأثير الداخلي (اغتيال فؤاد شكر رحمه الله مثالا). والمنطق الثالث – هو الردع، أي رسالة إيذائية وعقابية للخصم تجبر رأسه أن يعيد النظر في حساباته ليمتنع عن سلوك عدائي أو يعدل لسلوك تفاوضي خاضع.
والرابع هو أوسع، ويمكننا أن نطلق عليه اقتباسا من كلاوزفيس (القرع السياسي –
political percussion
)، أي توظيف الأثر في القتل المستهدف أو الحجز
targeted killing or incarceration
، في توصيل رسائل سياسية للداخل (مكسب حزبي وقيادي، تطمين شعبي ضد ما تحدثه موجة العداء والإرهاب من فقدان ثقة) أو للحلفاء أو للراعين للخصم وهكذا..

المشكل هنا، أنه بالمنطق المعياري، لا يمكنك أصلا اعتبار هذا التكتيك إلا بفرضيات استراتيجية سليمة عن أثره المحتمل، وأن تموضعه في إطار استراتيجي كلي.
وأنك لا يمكنك تخليق هذه الفرضيات إلا بتعمق في فهم بيئة الخصم، ومراكز ثقلها من حيث دينامية اتخاذ القرار وطبيعة مصادر قوتها العسكرية والشعبية والتحالفية.
ولأن كثير من هذه العناصر تبقى غير كمية في ذاتها، والأصعب توقع رد فعلها على حوادث الاغتيالات فلابد من تصور استراتيجي مرن ومتحفز.. وبالتأكيد – يمكنك تقليل مساحة إشكال الفرضيات ذلك بالتعمق في فهم البيئة كما ذكرت، وتمحيص ومحاكمة الفرضيات تلك ابتداء – سواء فيما يتعلق بمراكز الثقل ، أو ردود الأفعال، وصولا لتأثير الاغتيالات.

وأيضا بالمنطق التجريبي (الامبريقي) – ماذا حدث فعلا؟ لابد من وجود النسبية وعدم اليقين السابق، والأهم – البُعد عن صك علاقات سببية حادة ومبسطة. ربما ننحاز لمدرستنا الكلاوزفتسية أنه لايوجد أصلا عوامل مسببة مستقلة لظاهرة الحرب ومفرداتها
No independent variables
، وأن أقصى ما يسعفنا فيه النظر والبحث الاستراتيجي التعرف أكثر على الظاهرة ووجود تصوّر ناظم حول الشروط والقواعدة..

مثلا… هل خيار الاغتيالات أصلا ناجح استراتيجيا في إضعاف حركات التمرد و(الإرهاب)؟ هناك فعلا اختلاف حاد بالمنظور العام، وحتى تلك الدراسات التي تناولت الشأن الفلسطيني بالأخص مع انتفاضة الأقصى. فكمّ معتبر يقول نعم، وبعضها يرفع المنتوج في إحباط حركة التمرد والنشاط المعادي وحتى تفككها ل 86% مثل دراسة باتريك جونستون للدكتوراة
The Effectiveness in Leadership Decapitation in Counterinsurgency
، وكذلك دراسة جينا جوردن
Leadership Decapitation of Terrorist Organizations
وإن رأت تأثير استهداف الصف الثاني العسكري أعلى من ضرب القيادة العليا لأن ذلك أقرب للإحباط التنظيمي والعملياتي داخليا. وبعضها حتى في السلوك الفلسطيني يرى أن هناك زيادة مؤقتة في العمليات والغضب الشعبي ولكن تداعي في الكفاءة القتالية والأثر الاستراتيجي بالتالي نتيجة لإضعاف القدرة باغتيال القادة مثل دراسة بيمان
Do Target Killings work?
، ودراسة ستيفن دافيد  
Fatal Choices: Israel’s Policy of Targeted Killing
ولكن هناك من يرى نتائج سلبية تحصل عموما وبالأخص في الوضع الفلسطيني – مثل دراسة مانيس
Testing the Sneak Head strategy
 التي تصف عن حق زيادة العدائية الشعبية والتفافها حول حركة المقاومة، وأهم منها دراسة محمد حافظ وجوزيف هاتفيلد
Do Targeted Assassinations Work? A Multivariate Analysis of Israel’s Controversial Tactic during Al-Aqsa Uprising
، التي قضت نهائيا بالآثار السلبية لهذا التكتيك (الخط العملياتي بالأحرى).
وهناك من يعتبر عناصر أخرى سببية (أو محوّرة) في أثر اغتيال القادة، مثل مدى تسمية خلفاء القادة وسهولة الانتقال القيادي، وكيف أن غياب هذا يؤدي لتفكك الحركة – بول ستانهلي في دراسته
Collapsing Insurgent Organisations through Leadership Decapitation.

وحتى في نسق الحرب النظامية، كما درسنا سابقا في نظرية القوة الجوية، وتصوّر جون واردن في التوظيف الاستراتيجي والعملياتي لهذه القوة
Air Campaign
، وأهمّها ما قصده في إزالة الرأس السياسي
political decapitation
، ولكنه لم يُقدّم لطرحه عن الفاعلية الحاسمة لهذا التوظيف استقراء تاريخيا، في حين قدّمه ستيفن هوزمر في
Operations against Enemy Leaders
وعاكس فرضية واردن.

بوضوح – الاطلاع على هذه الدراسات مفيد، ولكن نزوعها لوضع استنتاجات امبريقية تُعَمَّم، فضلا عن صك علاقات سببية حتمية هو خرق كبير وذهول عن طبيعة ظاهرة الحرب.

قيمة القائد السياسي أو العسكري في حركة ما تختلف بشكل جوهري بين حركة وأخرى، وداخل الحركة من فترة لأخرى وقائد وآخر، وحتى على حسب نوعية النشاط المستهدف إحباطه بإزاحة تلك القيادة (قد تكون في معرض تفاوض فيكون هدفك مرتبط بضرب الروح المعنوية أو إزاحة قيادة متصلبة، وهذا يختلف حين تكون في معرض إحباط عسكري ويكون لهذا القائد وطبيعة النشاط العدائي خصوصية ما بحيث إذا أخذته يؤثر أو لا يؤثر في هذا النشاط).
ثم تأثير هذه الخطوة على مفردة قد تكون مهمة في استراتيجيتك كطبيعة الممانعة الشعبية، أو حجم الالتحاق بحركة المقاومة تختلف بشكل كبير ليس فقط باختلاف طبيعة ديناميات الصلة الشعبية بحركة المقاومة (أو القيادة السياسية والشعبية النظامية) بل بديناميات هذه الصلة بالسياق العام.. فضربات العمق في مصر 56 كان لها تأثير دافع للروح الشعبية المقاتلة والداعمة لقيادتها السياسية التي مثلت وقتها حلما في التحرير والمواجهة، مقابل أثرا معاكسا ومُحبطا في يناير 1970 دفعت عبدالناصر نفسه لضغطه بالاستقالة على السوفيت لأجل أن يتولوا مهمة الحماية الجوية بمنظومات دفاع جوي وأسراب ميج 23، وكأن السوفيتي المسئول عن مصر، وذلك لكل الديناميات الحاصلة بعد 67 بتصور الشعب للنظام وتطور علاقته الاعتمادية على السوفيت.. وهكذا

ولهذا – فالنظر الاستراتيجي الحصيف هنا لا ينبغي أن يضع لنا وصفات حاسمة وعلاقات سببية مراهقة، ولكن أن يعطيك منظومة للنظر والتحليل، وإلحاح على مستويات وضع وتمحيص الفرضيات في:

أ. تحليل الكيان المعادي – سواء كان دولة أو حركة من حيث منظومات القرار، وديناميات مصادر ومراكز الثقل السياسي والعسكري.
ب. تحليل الديناميات الحاصلة والمتوقعة بين مفردات القوة والقرار وبين بقية عناصر البيئة الاستراتيجية والعملياتي للخصم والواقع المحيط.
ج. وضع فرضيات وتقديرات مبدئية على جملة هذه التفاعلات، والسؤال الحاكم: كيف تقود هذه التفاعلات المتوقعة لآثر ما ضمن استراتيجية مواجهة كلية ومرحلية..
د. ولأن هذه فرضيات، مهما تطور الأساس المعرفي العام والتحليلي وفهم البيئة، فلابد من المرونة والمراجعة بشكل دءوب وتعديل كل عناصر المنظور الاستراتيجي تبعا لذلك.

وأختم بما ذكرته في حوار سابق من صنع داعش؟ لسنين عن سيمينار حضرته مع جنرال مكريستال في معهد القوات المشتركة بلندن وكنت عضوا به، عن حجم التحدي في الحساب الاستراتيجي والعملياتي قبل اتخاذ قرار وتنفيذ عملية استهداف أبي مصعب الزرقاوي… وأعتقد أنه كان ليستسخف – من عمق المأزق الواقعي – كل الخلاصات الحادة للدراسات سالفة الذكر مع قيمتها – لو وعي أصحابها ذلك – في إثراء بؤرة النظر وتنوّع التحليل حين نتعامل مع هذا السؤال.

طيب، بالاعتماد على ما أسسناه نظريا، فهناك تصوّر مستقرّ إسرائيليا على أهمية هذا النوع من الاغتيالات في تحقيق أهداف عملياتية واستراتيجية ترتبط بإحباط قدرة النشاط المعادي، وحتى إرادته السياسية وتدعيم الردع.

نعم – هذا جزء من تصور استراتيجي وحسابات قد تتعقد، منها مثلا عدم تصفية هذه القيادات في دول حليفة له وللأمريكي (وكلنا شاهدنا حجم الإحراج الشديد الذي تعرّض له في محاولة اغتيال خالد مشعل بالأردن، أو اغتيال خالد المبحوح في الإمارات)، وقد يكون إرجاء العملية خاضع لحسابات استراتيجية بإبقائها ورقة في ظرف يمكن استخدامها أفضل في معرض تصاعد عسكري أو مائدة تفاوضات مرتبطة باستراتيجية الخروج أو الإنهاء لحرب ما
Termination strategy
بحيث تتضاعف قيمتها وقتها، أو حسابات استراتيجية وعملياتي لحماية مصادر استخباراتية بشرية أو تقنية، أو إحباط مسار عدائي تاليا بعد كشفه بمنتوج أفضل، وهكذا.. وقد يحسبها بشكل متزن حين تمنّع عن الاشتراك في اغتيال سليماني (إذا صحّ ما ذكره ترامب)، أو يندفع بشكل أخرق دون مراعاة الحساب تلهّفا للثمن العملياتي المباشر ومكسب سياسي داخلي مثل ضرب المبنى التابع للقنصلية الإيرانية بدمشق، أو قبله بسنين اغتيال عماد مُغنية وكان في معرض تهدئة دقيقة وتوازن ردع ولم يُراهن كثيرا على ارتداع حزب الله بشكل أكثر، وإن حصل هذا.

ولهذا فلايمكننا تصوّر طبيعة فعل الإسرائيلي الآن إلا بعد إدراك وضعه الاستراتيجي أو مأزقه بالأحرى وكيف يراه!

الإسرائيلي كان يتحرك ضمن تصور مستقر – وفعّال حقيقة، يعتمد على حيازة والدفاع عن المناطق الحيوية (ليس فقط فلسطين 48، ولكن الضفة والجولان)، وإنهاكي للخصم غير النظامي لتدعيم صيغة الردع. وتم هذا عن طريقة سياسة التمايز بين الضفة وغزة (حيازة ودعم سيطرة أمنية على الأولى، والسماح بحكم حماس للثانية ورؤيته كمكسب ولكن بشرط إخضاعه للحصار الدائم، وتدعيم الردع بموجات عسكرية، وعمليات مابين الحروب – جز العشب). هذه استراتيجية بدأت منذ 2005 واستقرت بعد حسم غزة 2007.

ولكن على المستوى العسكري – كاستراتيجية وبناء – كان عنده غموض وارتباك شديد. هو نعم كان يتحرك في استراتيجية إقليمية ضد إيران تقتضي عسكريا تطوير الدفاع الصاروخي الطويل، واليد الجوية الطولى، وإطار إقليمي مشترك للدفاع، ولكنه في مواجهة الخطر غير النظامي المتمثل في حزب الله ثم حماس، كان يتحرّك من ناحية في تدعيم أنشطة جزّ العشب، عن طريق قدرات عسكرية شديدة النوعية والتراكب، وليس الكسح النظامي، وظهرت حتى تصورات تدعو للانتصار الكافي – أي احتمال قدر من النشاط المعادي ولكن فقط تسكينه بالاستراتيجية العسكرية سالفة الذكر، وما تقتضيه بنائيا من الدفاع الصاروخي والتنسيق بين البنى الجوية والخاصة والدمج المعلوماتي. وحين أتى رئيس الأركان آفيف كوخافي، طرح المفهوم العملياتي للانتصار
Operational Concept of Victory
، وبالرغم من أنه يقصد البقاء في ذات السياق الاستراتيجي، ولكن فقط تدعيم القدرة النوعية والنارية للموجات العسكرية بحيث تحدث تعجيزا أكبر لحركة المقاومة، فقد تم توظيفها سياسيا – نتنياهو بالأخص، أنها تقصد الانتصار الشامل عسكريا وسياسيا! الأخير كان يقتضي نقضا لسياسة التمايز، وحيازة غزة، وتفكيك البنى الشعبية والقيادية لحركة المقاومة لصالح نسق سياسي أمني مستدام (على الأقل مثل الضفة). ولكن لا أفيف ولا حتى الحكومة قصدت هذا.
وحين تبنت الحكومة خطة رئاسة الأركان في بناء القدرة العسكرية – اسمها تندوفا (الزخم)، كان في ذات السياق الذي يتحرك لتميز عملياتي نوعي وليس الحسم. حتى الخطة التي تبنت تدعيم القدرة على التراكب بين المكونات العسكرية بحيث تصبح القوة قليلة العدد ولكن بطاقة نارية وقدرة على الاستهداف النوعي عالية، واعتمادا على ال
AI
، وتطوير القدرة على تجفيف الأنفاق بشكل تكاملي، لم يتحقق إلا القدر اليسير منها. وأهم ماطرحته كان قوات تجريبية (متعددات الطبقات أو
Ghost Forces)
لم يحصل فيه إنجاز معتبر قبيل 7 أكتوبر.

والإسرائيلي في 7 أكتوبر كان عنده إشكالان استراتيجيان:

الأول) صار معلوما للكافة، وتناولناه في أول مقال لنا يوم 7 أكتوبر حول العَمى الاستخباراتي وأسبابه، وبالطبع الفشل الأمني والدفاعي الذي تكشّف فيما بعد، والتركيب الدفاعي بالأخص الأخرق الذي لم يترك غير 400 عسكري في مهام الدفاع عن هذا الخطّ الحيوي، بالأخص حين صاحبه مشكل ضخم ذاتي، ودفعت له المقاومة، في جاهزيته العملياتي للاندفاع لساحة الاشتباك والتراكب والتنسيق العسكري والقيادة والسيطرة.

الثاني) وهو الأخطر، أي نسق ردعي لابد بنيويا وحتى في استراتيجية الردع التقليدي ذاتها- أن يصاحبه استعداد وجاهزية كاملة إذا ما فشل الردع. ماذا إذا فشلت سياسة التمايز؟ ماذا إذا لم ترتدع حماس؟ هل هناك تصورات وقدرات استراتيجية وعسكرية لإعادة السيطرة على غزة وتحييد بنيتها العسكرية الحيوية (بالأخص سلسلة القيادة العليا وقوات النخبة والأخطر شبكة الأنفاق)، والدفع بسياق حوكمة أمنية ومدنية بديل؟! كما أسلفنا، لم يوجد. ومن السهل نسبيا أن تُطوّر استراتيجيات وتصاميم عملياتية
Operational designs
 أثناء الحرب، ولكن كيف لك أن تُطوِّر بنية وقابلية على مستوى الاستراتيجية والقدرة القتالية
fighting power>

والحقيقة – كما تناولنا سابقا، وسأتناول في الجزء الأخير، فهناك إشكالات استراتيجية واسعة قامت بها حماس في 7 أكتوبر، وتعرّضت لها تبعا لذلك، ولكن الإشكال الإسرائيلي ما بعد 7 أكتوبر أوسع كثيرا من قبله:

أ. التصوّر الاستراتيجي المبدئي كان جيّدا.. هناك إدراك أن ماحصل يعني إنهاء لسياسة التمايز، ولابد من حيازة غزة والوصول لحسم شامل، وهذا سيقتضي ليس فقط حربا ممتدة وخسائر عسكرية ذاتية واسعة، ولكن حتى التضحية ببعض أو كل الأسرى لأنه ما حصل يُمثّل في التصور الاستراتيجي إسرائيليا – بغض النظر عن مدى صحته – تهديدا وجوديا. هذا يستوجب حكومة وطنية أو على الأقل مجلس حرب مُصغّر ويتم استبعاد العناصر المارقة سياسيا وكقدرة على النظر الاستراتيجي، ووضع تصوّر لاجتياح شامل لغزة، وتحييد منظومة القوة العسكرية الحادة لحماس سالفة الذكر، انتقالا لليوم التالي.

ب. هذا كان يقتضي، تصميما عملياتيا يفتح تفريغا سكانيا للشمال، مبدئيا لأنه الحلقة الأكثر تهديدا ومباشرة، والقيام بعمليات نوعية بشكل قاضم وتدريجي تجمع بين حرب المدن وتجفيف الأنفاق، مع عمليات شاملة كنسق عسكري عازل، وكذلك نوعية من الاغتيال الاستهدافي، ولكن أخطر شيء – تقليل التدمير المدني، وبالعكس – تطوير نطاقات أمنية ومدنية واعدة للكتل المدنية – بحيث أن يتم عزل المقاومة شعبيا وإظهارها كخصم مارق عن شعبها.
وعلى المستوى السياسي – وهذا مهم لأن البنية الشعبية الفلسطينية لا يصلح في استيعابها فقط صيغة سلام اقتصادي، لابد من قبول صيغة ما لتسوية سياسي – ستبقى منزوعة السيادة والأمن!
والحقيقة، أن هذا ليس نصيحة للإسرائيلي بأثر رجعي، ولكنه بحذافيره كان التصوّر الأمريكي، الذي نضج مع الوقت بلاريب، ونتاج معاناته السابقة في العراق وأفغانستان وما توفّر له من درس استراتيجي معقول.

ج. طبعا ندرك أن الإسرائيلي حطّم تماما كل بنود هذه الصيغة وتصرّف بخرق غير معهود، ونيتنياهو وحساباته الخاصة حجر الزاوية في هذا بالإضافة لما أشرنا له من الاهتراء الاستراتيجي والدفاعي لسنين سبقت، سواء من نقض صيغة حكومة الحرب الوطنية، والتصميم العملياتي الذي قاد لكوارث في التدمير المدني ومستوى المجازر، والأداء العملياتي البائس كتصميم وتركيب قوات كما ونوعا، وتنفيذ.
نعم – بحكم القوة العسكرية، والمأزق الاستراتيجي الذي وقعت فيه حماس كما سيأتي، أنهى صيغة التمايز وجعل فرص حماس شديدة الصعوبة أن تبقى رقما مهمّا في إدارة غزة المراحل المقبلة، وأحدث مستوى من التدمير العسكري والبنيوي يصعب قياسه ولكنه بلاشك عاليا، ولكنه في مأزق استراتيجي شامل.

من ناحية، لم يفكك معظم شبكة الأنفاق، وبقيت حماس فاعلة عسكريا. ليس عنده صيغة واضحة على مستوى التصوّر أو القدرة لليوم التالي في ظل نزق واضح لنيتنياهو وحكومته المدنية. نعم – هناك صيغة تفاهم مضمرة حصلت بفعل الواقع بينه وبين حزب الله وإيران إقليميا – وأوضحنا ذلك سابقا، ولكن الجبهة الشمالية في خطر أمني ومدني جسيم ويصعب حلها بأي صيغة ما لم تُحل أزمة غزة. هناك تصاعد في التململ الشعبي إسرائيليا تبعا لمشكلة الاقتصاد والأمن والنزوح من النقب والجليل الأعلى والأهم – الآن الأسرى مع تأخر أي حسم واضح في غزة.
ولكن من أخطر الأمور حقيقة، هو تحويل وضع إسرائيل دوليا على مستوى النظم وحتى الشعوب، من مستوى متقدم جدا بعد 7 أكتوبر من الدعم والشيطنة ليس فقط لحماس – بل حتى للقضية الفلسطينية – إلى النقيض تماما، وصولا لأحكام بالإدانة والمطاردة الجنائية.
وهذا لاينتبه له معظم الرائين، هذا التحوّل الكبير لم يكن بسبب 7 أكتوبر، ولكن رد فعل الإسرائيلي على 7 أكتوبر، وإلا كنا في معرض تصفية للقضية وشيطنة لها مؤبدة دوليا.

باستيعاب هذا التطواف المتوسع لوضع إسرائيلي استراتيجيا ومأزقها، يظهر أن اغتيال القائدين هنية، والضيف، إن صح، يُمثّل من ناحية أمرا مفهوما، وله أثر إيجابي بالمنظور الإسرائيلي:

1) استهداف الضيف هو أمر مستمر خاضع بشكل جوهري للقدرة التكتيكية، أم استهداف هنية، فالأغلب كذلك أنه لم يكن متاح عملياتيا إذا اعتبرنا الحساسية السياسية في عدم استهدافه في قطر أو تركيا مثلا.

2) هناك منطق كتوظيف استراتيجي، الضيف بالطبع يرتبط بمنطق إحباط الحركة
disrupting
، ولكن هنية بالأخص – وكذا الضيف – كضربة نفسية للممانعة، والأهم كجزء من تركيب صورة انتصار داخلي تسمح لنتنياهو بما يقرره النظر الاستراتيجي السليم – ويطرحه الأمريكي وجزء معتبر من المجتمع الاستراتيجي لإسرائيل- من التوقيع على صيغة وقف إطلاق نار، وتأتي بعدها صيغ لحكم غزة فلسطينيا وبدعم عربي بشكل لا تكون حماس فاعلة في مستوى القيادة، وإدارة فيلادلفيا بشكل معقول ولكن غير مباشر، في مقابل إطلاق سراح الأسرى، ثم تتطور بعض ذلك الصيغ الأمنية وحتى إعادة التوغّل العسكري على حسب تطوّر الظروف وهذا حتما سيحصل إن بقية معطيات الواقع الاستراتيجي كما هي فيما يخص الوضع الفلسطيني والعربي.
ولا أعتقد أن مشكلة تسمية الوريث حاضرة بشكل أساس في الذهن الإسرائيلي وواقعية، مهما تكن هناك اختلافات موضوعية وغير موضوعية داخل أجنحة حماس، وذلك لعُمق نضجها المؤسسي في هذه المساحة وغلبة الروح الوطنية والجماعية عند قيادتها، ولكن قد يؤدي تقدمبعض الأسماء بعينها لصعوبة في التواءمات المطلوبة للمضي في هذا المسار أو ذاك، ومدى إخضاع الجسد العسكري للقرار السياسي.

ومسألة ضربه في إيران أراها توافقا عملياتيا بالأساس، وأن ما يستتبع ذلك من متواليات رد إيراني يُمكن تقديره في ذات السياق التفاهمي بخطوط حمر للطرفين، وقد تتجاوزها وتستدعي دفاعا إقليميا تحت تنسيق أمريكي لتعود تحت ذات الخطوط تاليا، هو عرض لاحق
consequence
أكثر منه غرضا أصيلا، وإن كان بالتأكيد سيأخذ من وزن إيران الردعي وصورتها كقائدة ل (محور المقاومة). بمعنى أدق – العملية بالأساس غرضها يرتبط بحرب غزة ومتوالياتها بالداخل الإسرائيلي.

3) بالطبع تصفية السنوار إذا حصلت – لا قدر الله – ستكون بشكل كامل مهيئة لمسار إنهاء الحرب بالصيغة السابقة، ولكن حتى ما حصل يُقرّب نيتنياهو لهذا المسار بالنظر لإشكالاته الاستراتيجية والحزبية، ويدفع الأمريكي لمستوى أكبر بالضغط عليه بالتالي، بالأخص إذا قام بذات الدور من الدعم الدفاعي وتطوير حلقة الدفاع الإقليمي ضد الهجوم الإيراني المتوقع مثل ما حصل المرة السابقة.

الحقيقة أني أوضحت رأيي بجلاء في أول ثلاث مقالات مع 7 أكتوبر مباشرة، وبالأخص – مقال (تقدير موقف والاستراتيجية العاجلة) كنت شديد الوضوح والحسم في حديثي مع أنه كان خارج السياق الحشدي والعاطفي الذي كانت تعيشه جماهير بلادنا، وأن هناك مأزقا أنك تتحول لحرب متماثلة من حيث مستوى التهديد، دون أن تمتلك تماثلا من حيث مستوى الفعل العسكري أو الاستراتيجي الممانع والحاجز للخصم (حرب إقليمية مفتوحة، أسلحة شاملة، ضغط دولي وإقليمي شامل) والتهيؤ لانتهاء صيغة السيطرة على عزة.

وبالرغم أني مهّدت عاطفيا وفكريا لضرورة أن تكون قراءتنا الاستراتيجية المعنيّة بسؤال الجدوى وليس الشرعية والحقانية والانتماء والعاطفة على هذا النحو، ولكني كنت أعلم أنه سيكون صادما. والحقيقة أن هذا لم يكن يفرق معي شعرة، لأنه واجب يفرضه التخصص والتصدي لهذا الأمر. جزء جوهري من معنى التخصص وإفناء الأعمار فيه، هو المسئولية الاجتماعية
social responsibility
، وقبله عندنا كديّنين، المسئولية أمام الخالق، وليس حصد التشجيع والانتصاب مثل جنرالات الفضاء الاجتماعي.

وأنا أدعو الجميع الآن بعد ما تكشفت خطوط المسارات لحد كبير أن يُعيدوا قراءة ما سبق. هذا ليس تقليلا من اعتزازنا بكل التأكيد ، وحتى انبهارنا بمستوى الفداء والتضحية لمقاومينا، وشعبنا المبتلى والمنتحب.. وبكل ما نحن فيه من عنت شخصي ومكابدة همومنا الخاصة، فقد قطعت محنة شعبنا وآلاف الشهداء من أهالينا والأطفال بالأخص، وما يعانيه الأحياء من ظروف أشبه بالموات في المخيمات عنا أسباب الالتذاذ بعيش أو الأنس بولد.

وبعد أداء الواجب الأوّلي – على الأقل في سياق الكتابة العامة، اكتفيت مراعاة للروح القتالية لمقاومينا، وليس قطعا مراعاة لنقد الناس أو حمدهم! وإن كنت كما أسلفت، ما نحكي فيه لا يمكن بأي حال أن يُمثل طعنا في شرعية مقاومتنا بالصورة التي تراها مناسبة، لأن كلا منا محاسب بعد ذلك أمام الله ثم شعوبنا من حيث سلامة النية والسلوك، والقدرة على السواء.
وحتى ما رأيناه أخطاء من منظور أخلاق الحرب يوم 7 أكتوبر وهذا مشكلته قيمية واستراتيجية معا، هذا لا يأخذ بأي حال من شرعية الحرب ذاتها – كتصور ديني وحتى قانون دولي! ولا يُقارن بآلة البطش والإجرام للعدوّ، ولا يمكن بأي حال تحميل المقاومة مجازر العدو وإن خالفناها بمنطق النظر الاستراتيجي ابتداء! ومن يفعل ذلك فهو خارج روح الدين والوطن والقومية والإنسانية!

هذا وجب عليّ ذكره بوضوح. ونعم للأسف – تخبرنا الاستراتيجية أن ما كان متاحا قبل 7 أكتوبر، أوسع كثيرا من بعدها مباشرا، وكلما نتحرك في خط الزمن، دون أن تحدث اختراقات جوهرية في قابلية وفعل المقاومة الفلسطينية استراتيجيا كما أسلفنا في ورقة تقدير الموقف، تقل كذلك الخيارات وهامش المناورة تباعا.

مثلا – أفكار مثل التداعي لإنشاء رأس قيادي فلسطيني مؤقت لإدارة الحرب استراتيجيا وكنتوء يتجمع عليه الضغط العربي الذي كان مُمكنا أول الحرب خصوصا مع بعض إصلاحات في (الصورة) التي تكونت يوم 7 أكتوبر واستفادة من الضغط الشعبي الجارف، كانت لها معطيات قوية، ولكن كذلك تأثيرا ممكنا يمكن أن ينقل مستوى الصراع، لمستوى أعلى.

حين تحصل الآن بصيغة حكومة وطنية برعاية الصين، وتبقى في دائرة البيان والمشروع الأولي وعليه هواجس وإرث تاريخي سلبي لأن المشكل بالأساس في مساحة الثقة البينية وفي بنية الفصائل الفلسطينية ذاتها مع الفارق بالطبع بين حماس وفتح، هذا يختلف كلية – بفرض وقوعه – عما كان مطروحا وممكنا وله دور حاسم أول الأمر.

ودون الدخول في تفصيلات/ ولأعطي تصورا موجزا عما أراه ممكنا، فيمكننا أن نستوعب أن هناك ثلاث مستويات – سيناريوهات كلية للصراع الحالي من منظور المقاومة:

الأعلى) تحقيق منجز سياسي بدولة فلسطينية بحدود 67، بحيث أن تصبح نتوءا متقدما، وبالرغم من عدم خوضها صراعا مباشرا، ولكن تساهم في تطوير البنية الوطنية وأدواتها تحسبا لمرحلة الحسم المرتبطة بتغيّر إقليمي تفصلنا عنه أشواط.

الوسيط) بناء مقومات حكم ذاتي، وصيغ تمترس موضعي شعبي وسياسي وعسكري بالضفة وغزة، مع امتلاك القدرة على المبادرة على الفعل – قريب من حالة غزة ما قبل 7 أكتوبر، ولكن بتصحيحها عبر وجود رأس سياسي فلسطيني، وتحرر حركة المقاومة من العبء المدني والوظيفي، وإصلا التواصل الإقليمي والصورة الدولية، وتطور قابليتها الاستراتيجية لتكون حركة السلاح تحت ضبط محكم ومدقق وشامل.

الأدنى) الخوض في حركة تمرّد داخل غزة، بمقتضياتها البنائية والوظيفية، تمهيدا لتحوّل نوعي في مستوى إدارة الصراع. وبالرغم أن مآل الأمور تتجه لهذا المسار ولكن هناك فيه مستويات بينها اختلافات واسعة من حيث الأمان السياسي والأمني للمقاومة تحت الصيغة الحاكمة للقطاع، ومدى قابليتها الاستراتيجية والعسكرية.

علام يعتمد التنقل بين مستوى وآخر؟

أولا) في الدائرة السياسية والاستراتيجية الأوسع – مستوى الإنجاز سواء في القيادة الوطنية وترميم الصورة، والتواصل بعد ذلك لبناء ضغط إقليمي وإصلاح ما عقّدته سياسة المحاور.. وهناك اعتمادية وتبادلية بين كل ما سبق.

ثانيا) في الدائرة الاستراتيجية الأضيق.. مستوى الإنجاز الواقع أو الممكن في تطوير واستدامة حرب العصابات كتوجيه استراتيجي وتجنيد وتعبئة وفن عمليات ونسق تسليحي وتركيبات مرنة، أي تطوير روافدها الشعبية واللوجستية والفنية، وقيادتها استراتيجيا. وهذا يشمل مساحات بنائية في تطوير القابلية الاستراتيجية، وكذلك في السلوك الداخلي من تحرر الحركة المقاومة من فكرة السلطة، ولكن الانخراط الكامل في الدعم المدني وتخفيف المعاناة الشعبية، وترميم مكوناتها الوظيفية فقط عبر رصيف وطني جماعي.

والحقيقة، كثيرا ما تكون الدماء الذي فقدها الشهداء والقادة ، مع أنها عزيزة علينا وكنا ندعو الله بحفظها، دافعا إيجابيا لكثير مما سبق، إذا تعامل الجميع مع حصل بنفسية رائقة ومحتسبة، وإرادة جادة وغير متهيبة من المراجعة والتصحيح، ورؤية لا ينقصها النضج والحِرفية والرغبة في التطوير، والتوكل على الله أولا وآخرا، وإنما اليأسُ كفر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى