حوار حول: العقيدة القتالية بين النظرية والتطبيق
الشكر الوافر للصديق العزيز علي الجهني على جهده في تفريغ هذا الحوار وتهذيبه..
العقيدة العسكرية بين النظرية والتطبيق
د/محمد بريك
- مقدمة:
لفت نظري من خلال التقييم المبدئي للكثير من الكتابات العربية التي تناولت العقيدة القتالية Military Doctrine (أي كيف يفكر الجيش ، أو المنحى المُتبنى في الفن العملياتي والتكتيكي وإدراة القدرة العسكرية لتحقيق الغرض منها؟) الفقر المعرفي والتطبيقي في ادراك ماهية العقيدة القتالية في أذهان شريحة عريضة من المهتمين وحتى العسكريين نفسهم. عفوا عن من يفسرها مثلا على أنها معنية بالروح القتالية أو معرفة العدو من الصديق ممن هم غير مختصين لا بالمعنى الأكاديمي ولا بالمعنى العسكري .
وكما تعلم، فلي تحفّظ قديم على ترجمة الدوكترين أنه عقيدة، وكنت دائما أحبذ ترجمتها بالمذهب العسكري (وهكذا كان ينحو اللواء محمود شيت خطاب رحمه الله في كتاباته)، لسبب جلي، أن الدوكترين نعم له صيغة حاكمة على التفكير والتخطيط والتنفيذ العسكري للجيش، ولكنه متعرض لتغيرات وتحديثات واجبة تبعا لتغير البوصلة السياسية والبيئات الاستراتيجية والعملياتية وأنماط التسليح وهكذا. فضلا أنه – كما في التعريف الرسمي للناتو Authoritative but requires judgement at application، أي خاضع للمرونة ونسبية التفسير في تطبيقه، وهذا ما لاتشي به لفظة العقيدة – في عرفنا على الأقل.
والعسكرية العربية في فترة مابعد السبعينات تعاني من تدهور احترافي في العلم والفن العسكري، بالأخص في الجيوش الأساسية – ولأسباب متعددة (أوضحها غياب الضرورة وخبرة الحرب الحديثة) وبعضها خاص بكل حالة. وبالرغم من تمددها وتحديثها التسليحي، وبقاء نزعة احترافية خصوصا في حال الجيش المصري والأردني، وإن انهار السوري وقبله العراقي. ومقارنة بسيطة بين ما أفرزته هذه العسكرية من خام قيادي ونقاشات عقائدية وفنية قديما وحاليا تسطع بهذا.
هناك عنصر مهم وهو الانقطاع عن التواصل والاندماج التعليمي الجاد مع الشرق كما كان سابقا، أو الغرب (مع وجود البعثات في كل مستويات التعليم العسكري سواء على مستوى الأركان أو الحرب العليا، ولكنها تبقى في إطار العلاقات الخارجية والترقي الشخصي ولكن بعيدة أن تؤثر في الجسد المحلي أو تقود لتطوير ثلاثية العقيدة/التعليم والتدريب/ودروس الحرب كما سيأتي).
من ناحية أخرى، يظهر لنا اندماج التعليم العسكري الخليجي مثلا في المنظومة الغربية (الأمريكية بشكل أغلب)، ولكن تظهر لنا مشكلة أخرى ضخمة وهي من بديهيات فهم ماهي العقيدة القتالية: أنها لا يمكن أن تُستنسخ أو تُعتمد كترجمة من دولة أخرى. لماذا؟ لأنها كما سيأتي – فضلا أنها من أخص خصوصيات السيادة بمعناها السياسي، ولكن الدوكترين هو نتاج تلاقح بين الأهداف الدفاعية الممتدة وما تفرضه من صيغة استراتيجية حاكمة، وهذا هو المصدر الأعلى للدوكترين ولكنه ليس مادته، وبين النظريات العسكرية الملائمة ودروس الحرب واعتبارات العنصر المواردي والاقتصادي، والبيئة الذاتية وللخصم وعناصر الثقافة المؤسسية وفلسفة القيادة وثلاثية (الجغرافيا، والآلة، والتكتيك)،، وهكذا. فكيف تستنسخ هذه العقيدة؟!
نعم – الاستفادة مطلوبة، ولكنها تقتضي تعمق معرفي وخبراتي لرد القواعد الدوكترينية لمصادرها، وتحديد الثابت والمتعدي الذي يمكن اقتباسه وحتى توطينه بتعديلات طفيفة، وبين تلك العالة على عناصر سياقية مختلفة لابد أن يحصل لها إحلال بما هو عندنا. وما يُقال عن الدوكترين يقال حتى على مناهج التعليم العسكري والاستراتيجي وإن كان بشكل أقل (الدوكترين كما أسلفت مساحة فيها الخصوصية البيئية عالية جدا).[1]
- العقيدة القتالية بين الرسمية والعملية:
ويهمني الأن أن أوضح نقطة هامة قبل الدخول في صلب الموضوع: هل الدوكترين هو فقط الشيء المكتوب والمُقرّ رسميا، أم هو يشمل الدوكترين العملي (الصيغ السائدة في الجيش ويتم توارثها ولكن يغيب عنها التوثيق والتدوين)؟
طبعا أنا مُقدّر من يتبنى الرأي الأول حتى لا يضيع منا قوام ما نحكي فيه؛ إذ أن أي باحث يتطوع بتقدير العقيدة غير الرسمية لجيش ما مثلا فهو في الأخير يُعطي ثمرة تحليله هو. ولكن لابد أن ننتبه لأمور، وهذا يجعلنا نتبنى التعامل المختلط للعنصرين معا:
- نحن ندرس الدوكترين ونحلله سواء لغرض التحليل الأكاديمي أو لفهم كيف يفكر ويتحرك العدو والصديق مثلا فنصيغ استراتيجياتنا وتصاميمنا العملياتية بناء على ذلك. وفي الحالتين، ما يهمني هو القواعد والتحيزات والعوامل التي تؤثر على تطبيقها، بغض النظر إن كانت مكتوبة أم لا.
- هناك جيوش لم تتبن بالأصل فكرة الدوكترين إلا قريبا جدا، مثلا البريطاني والإسرائيلي.. تبعا لتصور أنها تضع قيودا على فكر القائد العسكري بما لا يتناسب مع طبيعة الحرب المتغيرة. نعم الإجراءات والتكتيكات النمطية وقواعد تشغيل المعدات شيء آخر، ولكن قواعد تضبط فن القيادة العسكرية بروشتات ما فهذه دوجما. ولهذا كان البريطاني يعتمد ما يُسمى Ethos أو القواعد المتوارثة كروح وليس رسوم. السوفيت والألمان كانوا بالتأكيد من رواد كتابة الدوكترين والاعتماد عليه. ولكن هناك فارق هام مرتبط بالعنصر الخاص بفلسفة القيادة ودرجة التطور الاجتماعي والتقني والمرونة المُعطاة للقادة الأصاغر وعدم انغراس التوجيه السياسي للنشاط العسكري الأدنى (كما في حال الجيش السوفيتي) – هذا أثر على طريقة كتابة الدوكترين والهدف المرجو منه؛ كتابة فضفاضة وفقط توجيهية عند الألماني مما يسمح للقائد بدرجة كبيرة يملأها بنفسه، وكتابة تفصيلية وإحداثية ولغرض إملائي عند السوفيتي.
وهذا ما جعل البريطاني مع الوقت يدرك قيمة الطريقة الألمانية، ويُصدّر أول دوكترين له في 1988 باسم حرب المناورة Manoeuvre Warfare .
الإسرائيلي متحفظ من أيام الهاجانه ولأسباب عديدة ولكن أهمها حفظ المرونة والإبداع القيادي والتكتيكي الذي يناسب حرب المناورة. وحاول أن يستعيض بالنقاش العقائدي كما كان في مجلة (معارشوت) في فترة الخمسينات والستينات، وبمنظومة للتعليم العسكري والاستراتيجي وإن بقيت طوال عمرها ضامرة. والحقيقة، أن أهم عنصر في التفوق العسكري الإسرائيلي وعدم ظهور مشكلة الفقر المعرفي أو ما سماه آفي كوبر في دراسته الشهيرة anti-intellectualism ،[2] هو تضعضع المقابل العربي في كل شيء تقريبا. ومع ذلك، فظهرت مسودة الدوكترين الاستراتيجي لجيش الدفاع في 2017 واعتمادها مبدأ (العمليات بين الحروب)، ولكنه لم يتم تصديقه فضلا أنه بشكل كبير في المساحة الاستراتيجية.
الشاهد من كل حديثي السابق، هذه الجيوش كيف ستفهمها وطريقة حركتها إن فقط اعتمدت على وجود صيغة رسمية حاكمة لتقول أنها دوكترين؟ - وأخيرا، هذه الصيغة الرسمية الحاكمة بالأساس هناك معطيات تؤثر على طريقة تفسيرها وملئها وتطبيقها. فلن يفيدنا بالأساس القراءة النصية textual وإن كان لها قيمة مرتبطة بفهم المنظومة وكيف تعمل أكثر من كونها تحكمية فيسهل التنبؤ عن طريقها.
- مصادر العقيدة القتالية:
من المهم التمييز بين مصادر العقيدة القتالية وبين مكوناتها. وهذه المصادر بعضها (كالتوجيه السياسي والاستراتيجي) هو الذي يعطي للدوكترين وجهته وشرعيته ومحدداته ولكن ليس بالضرورة له دلالة مرجعية لمادته غالبا وإن كان يؤثر على كثير من تفصيلاته وإن دقت.
وبعض المصادر مثل النظريات العسكرية ودروس الحرب وتحليل البيئات العسكرية والقدرات له ارتباط وثيق ومرجعي بمادة الدوكترين.
وهناك مصادر أخرى لها تأثير ثانوي ولكن هام على مادة الدوكترين وتشكيلها وتحويرها.
- التوجيه السياسي: بطبيعته هو الذي يحدد طبيعة الاهداف العليا والمخاطر المحتملة والعناوين الاساسية لتوظيف الاداه العسكرية وغير العسكرية بمعناها الشامل. وكذلك تحديد طبيعة الاعداء والخصوم والتهديدات.
- بينما التوجيه الاستراتيجي مرتبط بطبيعة الحرب التي تتخلق على أساسها العقيده العسكريه وطبيعة الحرب هنا لاتأتي على شكل عناوين عامه مختلفه مثلا ( حرب الابادة أو الحرب غير النظامية أوالحرب الهجينة ) ولكن يجب ان يتضح ما هو المنطق الاستراتيجي بحيث يظهر تنويع وتفريع واشكال متعددة وغير مقيده بنمط معين لاستخدام القوة العسكرية بمعناها الشامل لتحقيق الهدف السياسي. بسبب طبيعه العدو البشري التي لايمكن التنبؤ او الجزم بها وأن هذه الأنماط قد تتداخل مع بعضها البعض كما في حرب 2006 على سبيل المثال وماقام به حزب الله بالتحول الى نمط الحرب الهجينة. في مستوى التكتيك وكذلك في المستوى العملياتي في لحظة معينة وفي سياق معين (المدافعة عن الأرض، نسق نظامي تسليحي كمضادات دروع وأرض بحر، تشكيلات كثيفة..) وذلك لأنه وجد أن هذا هو الاكثر إجادة وتمكينا لتحقيق الأثر الاستراتيجي في هذا النوع من الحرب: من خلال إفقاد الثقة الشعبية في الجيش وفي القيادة السياسية نفسها أو مدى امكانية تحقيق هذا الهدف السياسي وكذلك في قدرة الجيش نفسه على تحقيق أهدافه العسكرية وهكذا. لذلك فإن المنطق الاستراتيجي كان لابد ان يتم توضيحه بشكل ما في طبيعة الحرب. لكن النقطة الاساسية ان التوجيه السياسي ثم التوجيه الاستراتيجي هو ما يجب ان يتم ادراكه ابتداءً .
وحين نقول أن التوجيه الاستراتيجي قد يتنزل على أدق مفردات الدوكترين، ومع ذلك يخرج عن سياق تكوينه الطبيعي. مثلا راجع الدراسة الرائعة التي أعدّها داني آشر ، وكان المسئول عن الجبهة المصرية في حرب أكتوبر بالمخابرات العسكرية الإسرائيلية أمان، Egyptian Strategy in Yum Kibbur War، واعتمد على الوثائق التعليمية والخططية التي تمت حيازتها من الجيش الثالث بعد العبور المضاد وفيه أوضح بجلاء حجم التعديلات التي قام بها المصريون على العقيدة السوفيتية بوعي وإبداع بما يناسب طبيعة المهمة الاستراتيجي للحرب المحدودة (هنا لن يتحرك المصري لهجوم حاسم، بنطقه الثلاث، ولن يسع لحيازة السيادة الجوية مسبقا، ولن يكون جادا في التمهيد بالعمليات الخاصة لتعويق النسق الثاني المعادي.. وهكذا).
بل إني مثلا تتبعت حتى تعديل حمل جندي المشاة الذي تحرك في العبور، وكان عالميا في حدود 18-20 كجم، لما يزيد عن الثلاثين. لماذا ؟ لأنه ضحى بالسرعة لحساب المُكنة الدفاعية خصوصا ضد المدرعات لتحقيق الأثر العسكري المطلوب والذي سيتوقف عند بناء رءوس الكباري. وهكذا.. فالتوجيه الاستراتيجي لابد أن يكون دوما حاصلا في كل مراحل صياغة الدوكترين، قد يظهر له أثر ويكون حاسما وقد لا يظهر.
- المرجعية للتفكير العملياتي والتكتيكي: لكن صلب مادة الدوكترين تأتي بالتأكيد من استلهام ماتقوله النظريات العسكرية وتطوراتها وتلاقحاتها مع التجارب العسكرية بشأن القواعد والسبل الأمثل في تطبيق القوة العسكرية سواء على مستويات التكتيك والأهم منها العمليات، وسواء في فرع تخصصي بعينه (برية، بحرية، جوية، عمليات خاصة، دفاع جوي وصاروخي…) أو بنمط الحرب المشتركة.
النظريات العسكرية بطبيعة الحال سواء على المستوى العام أو الخاص بسلاح بعينه هي عرضة للتغير الزمني، والتلاقح والتدافع المستمر بين التكتيك والتقنيات التسليحية ومضاداتها والعائق الجغرافي الذي تسعى التقنية لتحييده وتوظيفه. ومع ذلك، تبقى دراسة تلك النظريات حتى بطبعتها الكلاسيكية مفيد لتفهّم بعض قواعد الحرب، والأهم فك شيفرة العلاقة الثلاثية السابق مما يوثق في العقل العسكري مفاعيل التطور التقني والتكتيكي ومحدداته فيقترب من القدرة على بناء نظرية عسكرية مناسبة له.
حينها لن يقول مثلا ما تناولته في مقال سابق بانتهاء عصر الدبابة انخداعا بنمط تكرر كثيرا في التغالب بين التقنية ومضادتها والتكتيك، أو عدم التمييز بين مشكلة عملياتية ما وبين معطيات استراتيجية تحكم ذلك وتخرج عنه.[3]
أما دروس الحرب، فهي أكثر صلة ومرجعية لكتابة الدوكترين من النظرية العسكرية بتجريديتها، لأنها اختبار للمعطيات النظرية والعقائدية في ساح التطبيق، ولأنها – خصوصا لو نحكي عن خبرة الحرب الحديثة لجيش بعينه نريد كتابة عقيدة له – تسييق للمعرفة العسكرية في نفس البيئة التي نريد كتابة العقيدة لها (التوازن العسكري، الجغرافيا، الثقافة، الموارد، النظام السياسي ووو) وهذا يجعلها معرفة ذات ثمنية عالية وتختصر لنا جهدا تنظيريا كبيرا. وكما أشار كل من جون نيجل في دراسته Learning How to Eat Soap with knife: Counterinsurgency Lessons from Vietnam and Malaya ، وكذلك فينكل الإسرائيلي On Flexibility: Recovery from Technological and Doctrinal Surprises) ..
فقدرة منظومة عسكرية على التطور وبناء أعراف نظرية وتطبيقية مناسبة تعتمد على وجود بيئة ومنظومة لاستخلاص دروس الحرب. والحقيقة أن أهم أداة في هذا الشأن، هو التعليم العسكري الأعلى ومنظومة البحث العسكري إن كانا احترافيين وفيهما روح نقدية وصرامة أكاديمية. يضحى دوره هو مختبر لتوليد تلك الدروس من قيادات عسكرية وثيقة الصلة بالتجربة المعاصرة أو القريبة، وكذلك النقاش الدوكتريني المحيط بها.
النقطة المهمة في هذا الامر أنه لابد من إيجاد حلقة واضحة في تنمية العقل العسكري وربطة بالعقائد العسكرية بشكل غير مقيد ولا يتعارض مع مبدأ القيادة خصوصا في مسائل البحث والتأليف ، وعلى هذا الأساس يكون التطوير المستمر للعقائد العسكرية.
- وهنا تأتي أهمية تحليل البيئة الذاتية وللخصم في كل مفردات القدرة القتالية – بالأخص الدوكترين وعلاقته بالتقنية والجغرافيا لتشكل معادلة التفوق والمواجهة العملياتية counter-operability (في الهجوم والدفاع) .. لأن خلاصة التنظير العسكري ليس لها قيمة إذا لم تتحرك لخصم عسكري بعينه، بما له من نقاط قوة وضعف وانحيازات وثقافة عسكرية ودوكترينية محددة.
- المصادر الثانوية: ثم تأتي هنا كل المعطيات التي تحكم القدرة القتالية من حيث البناء والتمظهر، وبالأخص القواعد العسكرية الأكثر مناسبة للبيئة التي ينشأ ويتحرك فيها الجيش. أمور كطبيعة النظام السياسية، والعنصر الاقتصادي والتنموي، السياق الاجتماعي والشعبي، عناصر الثقافة والدين – وبالأخص الثقافة العسكرية، منظومات التسليح والموارد، فلسفة القيادة والترقية .. كل هذه العناصر إما أنها تمثل عناصر قوة أو ضعف، وكثيرا ما ترجّح أنماطا معينة في التشكيل والأداء العسكري لابد من مراعاتها وإلا يحصل أزمة Conflict/tension تقود لإحباط ذاتي عسكري. مثلا – حين يدرك القائد العربي سواء كان الشاذلي في حرب 67، أو صدام وقياداته بدءا من 85 وصولا للحملات الخمس الحاسمة في 88 عدم قدرة الجيش على المبادأة والمرونة التكتيكية ومستلزماتها التسليحية واللوجستية وفي الحرب المشتركة ونمط القيادة والترقي وتكوين الجيش (نتاج عناصر متعددة بدءا من طبيعة النظام السياسي وصولا للسمات الاجتماع-تقنية للقيادات الأصاغر)، فيختارون عقيدة تعتمد التخطيط التفصيلي للحملات – وهذا يجعلها قفزات هجومية محسوبة يتبعها تحول سريع للنسق الدفاعي حتى اكتمال دروة التخطيط والتعبئة، نجدهم ينجحون في المطلوب منهم عسكريا. ولكن إذا طلبت منهم الاستراتيجية نمطا عسكريا (يتشاكل) مع المعطيات السابقة، فتنحاز العقيدة مثلا للقيادة بالمهام وحرب المناورة وتعزيز الحرب المشتركة (دون إحداث التعديلات في المعطيات البيئية السابقة وهذه تأخذ وقتا!) حينها يحصل الفشل العام.
هناك سؤال عقائدي هام في هذا السياق: هل نبني على ما هو قائم من معطيات بيئية (مصادر ثانوية) بمراعاتها والاستفادة منها؟ أم نسعى لتغييرها؟
بالطبع مبدئيا يجب البناء على ماهو قائم، ولكن سؤال تغيير بنى يرتبط بها التركيب العسكري ليس من استحقاق القيادة العسكرية وقدرتها فضلا عن المجموعة التي تدوّن العقيدة. ولهذا – فمهم أن تبقى كتابة وتعديلات العقيدة خاضعة ومتلاقحة مع المستوى السياسي والاستراتيجي، ليس بمنطق التبعية فقط ولكن المراجعة العكسية! وهناك بعض المبادرات التي تطرحها القيادة العسكرية وتقبلها القيادة السياسية – حتى في نمطها الشمولي – ويكون لها آثار فارقة. مثلا- مزيد من الاحترافية والاستقلال على مستوى التخطيط العسكري والترقي القيادي (حصل مع عبد الناصر وصدام بعد 67 و 82 على التوالي، ظهور فرق الحرس الجمهوري العراقي بالأخص)، مثلا ما تحرك فيه الشاذلي من تطوير التعليم العسكري ليتيح إخراج ضباط مهمة من حاملي الشهادات العليا بعد تعليم لايتجاوز 6 أشهر.. وهكذا
- تكوينات العقيدة القتالية:
تناولنا في حديثنا عن مصادر الدوكترين الكثير من مكوناتها. وهي بالتحديد قواعد وبنى الفن العسكري من حيث المفهوم والسياق التي تتحرك فيه القوات، وبنائها وقيادتها وتحريكها واستدامتها.
- وهو على هذا يتم تصنيفه أولا – تبعا للسلاح (بري، بحري، جوي،،،، أو وظيفة نوعية أو داعمة كاستخبارات أو لوجستيك أو تعبئة) ثم المستوى المشترك. وثانيا – تبعا للمستوى تكتيكي وعملياتي (أدنى – وسيط – أعلى)، كون أن هناك عقيدة على المستوى الاستراتيجي فهي مسألة خلافية.
رأي أستاذي كولن جراي كان معارضا بشدة لهذا الأمر تبعا لقناعته أن الاستراتيجية لا تصلح كوصفة ثابته، ولكن هي نتاج التعليم الاستراتيجي (وليس التدريب أو الدوكترين)، أو تكون توجيها استراتيجيا وهذا بطبيعته يتغير تبعا لحساسية متغيرات البيئة الاستراتيجية.
وهناك رأي يؤيد التعبير بلغة مبسطة عن البيئة الاستراتيجية التي تتحرك فيها وتُنشأ لأجلها القوات المسلحة وطبيعة مهتمها (كأنه توثيق للتوجيه الاستراتيجي)، وينضم لهذا الحديث عن دينامية اتخاذ القرار الاستراتيجي الأعلى والعسكري.
وأنا طبعا أنحاز لرأي جراي، ولكن ليس هناك مانع من وثيقة تحكي عن الشق الخاص بدينامية أخذ القرار، أما البيئة والمهام والخيار الاستراتيجي فهذا يحصل في وثيقة الاستراتيجية الدفاعية والأمن قومية في بريطانيا وأمريكا مثلا، ولكن لا يُعبّر عنها كعقيدة استراتيجية !!
- يبدأ عادة الدوكترين بالحديث عن السياق السياسي والاستراتيجي الذي يوضح بالأساس طبيعة المهمة الاستراتيجية للجيش، وبشكل نوعي السلاح الذي نحكي عنه، ومحددات توظيفها، وطريقة قيادتها من الطرف السياسي والعسكري الأعلى.
- ولكن مهم الحقيقة وضوح انحيازات العقيدة الأساسية ما تسمى بال Fundamentals أو التوجهات الرئيسة، دون طيها في التفاصيل الأخرى. مثلا – العقيدة البريطانية للعمليات البرية تعتمد على الثلاثي الخاص بالحرب المشتركة والقيادة بالمهام وحرب المناورة. ثم تأتي بعد ذلك قواعد بناء القوات، وتنظيمها للمهمة، وأنماط المهام العملياتية، واستدامتها، ومواجهة المخاطر.
- توظيفات العقيدة القتالية:
ما أدركته القوى التي كانت ممتعضة لحد ما من فكرة تدوين وتوثيق العقيدة القتالية إلا بشكل متأخر، أنه مهمن يكون هناك عنصر قيادي فذ وقادر على الإبداع وأعطته قيادته تفويضا، وهناك تجذر لأعراف وخصائص عسكرية بالمؤسسة، فقيمة الدوكترين لا تعوض:
- هي يوجد لغة مشتركة، ويوحد الحد الأدني الأساس في فهم ظاهرة الحرب، والوظيفة النوعية لكل فرع مسلح، وطبيعة المهام العسكرية وأطرها العامة، وقواعد القيادة والتنظيم والسيطرة، والأهم – التوجه الأساسي الذي يحكم حركة الجيش ويميزه عن غيره في صراع محدد ويحقق له أفضلية.
- وهو على هذا مستند تعليمي أساس لتشكيل القيادات وبناء أطقمها، ويختصر شوطا طويلا في تطبيع الوافد المستجد وتعريفه بالنظرية العسكرية المتبناة في سلاحه والتي تم تسييقها لواقع بعينه ونمط صراع محدد.
- ولأن الحرب تحولت للنسق المشترك وتظهر آثار ذلك حتى في مستوى التكتيك، فلابد من صيغ تعريفية تُمكّن كل أفراد فرع تسليحي من معرفة ماذا ينتظر من الآخر ويُنتّظر منه.
- والدوكترين فوق هذا هو وثيقة سياسية، لأنه نتاج توجيه سياسي واستراتيجي محدد تضعه القيادة العليا، وفرصة كذلك لتطوير الحوار التبادلي بين المستوى العسكري والسياسي في جوانب الأدوار والمهام وتوفير الموارد والموازنة. وكذلك – هو مستند تقويمي يُسهّل عملية المحاسبة والمتابعة لأنه يطرح معايير إنجاز في الممارسة يُمكن مراجعة أداء القوات عليها سواء ضمن النشاط التقويمي في المؤسسة والتلاقح مع درس الحرب، أو بالمعنى السياسي كرقابة لسلطات التنفيذ والرقابة والقضاء بالدولة.
- كتابة العقيدة القتالية:
لن أخوض في الإجراءات العملانية والمؤسسية لكتابة الدوكترين، ولكن يهمني التوكيد على نقاط بعينها:
- الدوكترين كما أشرت لابد أن تسبقه وثيقة محددة من التوجيه السياسي والاستراتيجي، والأخير بالأخص سيحدد طبيعة مهام القوات المسلحة والموارد البشرية والتسليحية المُسخرة ضمن أنماط استراتيجية مختلفة. وهذه الأنماط قد تضيق مثلا فتسمح للدوكترين بدرجة من التفصيل والتحديد، وقد تتعدد وتتسع فتُجبر واضعي الدوكترين على تبني نمط agile أي مرن وبلغة بها تعميم وتجريد دون أن تبهت الانحيازات الأصلية.
- الدوكترين سيتناول مفردات القدرة القتالية بما فيها مثلا تنظيم القوات ونمط اللوجستيك، ولكنه يحصل بالتحاور التبادلي مع أفرع المؤسسة العسكرية المعنية بهذه الاختصاص. ويبقى النسق المركزي في كتابته هو الاتكاء على النظريات العسكرية ودروس الحرب، وبالأخص ثلاثية الدوكترين ودروس الحرب والتعليم والتدريب والبحث العسكري. ولهذا فالنمط الحاصل بريطانيا هو أن مكتب DCDC تطوير المفاهيم والعقيدة هو ضمن قيادة القوات المشتركة بالمجاورة لقطاعات التعليم والبحث العسكري ودروس الحرب. أما أمريكيا فهناك TRADOC الذي يجمع بين الدوكترين وقطاع التدريب ويبقى وثيق الصلة كذلك بالتعليم العسكري والاستراتيجي
- لابد أن يحسم واضعو الدوكترين أي نمط قيادي يتناسب مع التوجيه الاستراتيجي والاعتبارات والإمكانات البشرية والمؤسسية والخصائص الاجتماعتقنية؛ هل هو قيادة مركزية أم قيادة بالمهام. قد تتجه مؤسسة عسكرية للتحول من النمط المركزي للقيادة بالمهام مثلا، ولكن يلزم ذلك إجراءات وتعديلات تطال كل مفردات القدرة القتالية وحتى الإطار السياسي الحاكم لحركة الجيش وليس فقط وضعها في الدوكترين.[4]
- مفهوم الحرب المشتركة او العمليات المشتركة لابد من إبرازه بشكل قوي في جميع مستويات العقائد العسكرية حينما تكون مبنية عليه .
- الوثيقة الدكتورينية في طور الإعداد تحتاج لحوارات مكثفة بشأنها نظرا لتأثرها وتأثيرها على مجمل قطاعات القوات المسلحة، وأحيانا أجهزة الدولة. وهناك دائما إشكالات خاصة بالتنازع بين الأسلحة، والموارد والموازنة، وحدود التفويض القيادي والعسكري. ولكن حتى بعض تصديقه، فلا بد من تعرضه للمراجعة الدورية، ويكون مادة للنقاش في ساحات التعليم العسكري الأعلى والمؤسسي.
- ملحق – مناقشة لكتاب (فهم العقيدة القتالية – مقاربة متعددة الطرائق)
لعل واحد من أهم الكتب التي تحدثت عن العقيدة القتالية هو كتاب (فهم العقيدة العسكرية ) Understanding Military Doctrine: Multi-Disciplinary Approach ) لمؤلفه ( Harald Hiback ) ويعتبر الكتاب محاولة لنقل وتهذيب وإعادة الصياغة لمفهوم العقيدة العسكرية وفيه الكثير من الابداع والتميز البناء والمستقل كقراءة موضوعية ابتداء.
السؤال هنا: هل ماطرحته الفكرة المركزية للكتاب أن مدخلنا في فهم الدوكترين هو التلاقح بين ( السلطة ، الثقافة ، النظريات ) مفيدة عمليا؟
الجواب: لاحظ أن قيمة الكتاب الأساسية أنه من أحدث وأعقد ما كتب في هذا الموضوع، ولهذا ففيه فرشة معرفية وببلوجرافية واسعة. ولكنه كما يعبر عن نفسه – هو مقاربة ابستمولوجية. ففكرة الثلاثية التي طرحها مفيدة لفهم أعمق للدوكترين ولكن إن أردت تنزيلها بشكل عملاني وتحديدي ستتعثر، كمثل ما هو الحال في ثلاثية كلاوزفيتس في فهم الحرب حين تحدث عن ثلاثية (العاطفة والغريزة، والحساب الدقيق، والصدف والمغامرة بالمجهول) والتي يُمكن تنزيلها ولكن ليس بشكل اعتسافي على (الشعب والحكومة والجيش).
هنا كذلك، يقصد بالسياسة ليس بالضرورة كما نفهم التوجيه السياسي والاستراتيجي، ولكن المحددات والاعتبارات السياسية(داخليا وخارجيا) التي قد لا تتواءم من المنطق العسكري والاستراتيجي للمفارقة. كذلك – الثقافة، التحيزات الأصيلة في الجيش والشعب الرافد له والتي لا يمكن فهمها سياسيا ولا كفن عسكري، ثم عنصر النظريات التي تدرس قواعد الفن العسكري. هل هذا مفيد؟ لحد ما، ولكن سواء معرفيا أو عمليا فالعقيدة القتالية كمصادر وتكوين وتوظيف أوسع من هذا.
سؤال: ما تصورك عن العقيدة القتالية كمسألة ثقافية وعلاقة العنصر الديني بها مثلا؟
الجواب: تأتي على مستويين.
الاول هو تأثير المركبات الثقافية الاصلية سواء كانت ايدولوجيا سياسية او ثقافة مجتمعية او ثقافة ذاتية وارتباطها بفن الحرب. وقد سبق لي إعطاء محاضرة بعنوان (هل ثمة نظرية للحرب في الإسلام) فراجعها.
باختصار – المركبات الثقافية لها تأثير، ولكن معقد ونسبي ومتحول على الأداء العسكري والاستراتيجي. في حال افتراضنا ان هناك عقيدة دينية معينة مثلاً تحرم استخدام السلاح نووي فهذا سيؤثر على بناء و توظيف هذا السلاح ابتداء. ولو كانت طبيعة العقيدة الدينية تؤدي الى بعض التحيزات الايجابية التي تدفع الى المسارعة في توظيف نقاط معينة من النشاط او الخيارات الاستراتيجية كحرب العصابات لانها اقرب الى المساحة العاطفية والوجدانية وحركة الشعب ذاتها وهكذا كالتأثيرات الماركسية مثلا في نظرية الحرب او حتى على المستوى الاستراتيجي تكون واضحة جدا. ولذلك نجد ان العقائد العسكريه بمعناها السوفيتي كان جزء كبير منها مرتكز على جوانب في العقائدية والايديولوجية وهذا كان له تأثير سلبي على كتابة العقائد العسكريه وتخيلات فن الحرب لم ينج منه لا توكاتشيفسكي ولا حتى سفيشن.
ثانيا التثبيت الثقافي للعقائد والخيارات العسكرية، وهذا بالأخص ما تُعنى به أدبيات ال strategic culture and military culture . حيث نجد انه اصبح هناك بعض الخيارات
الاستراتيجيه وحتى العسكرية لها درجة من الثبات والجمود. بحيث تصبح ثقافة متجذرة وموجودة كقيمة ادراك ثقافيه لدى الطبقات المعنيه . حتى ولو كانت غير منطقيه بمعني انه لا يمكن تفعيلها واقعيا ليس لانها غير منطقيه ولا ترتكز على نظريات الحرب ولا على دروس الحرب وتحليل التاريخ النقدي كأي جيش محترف .
[1] الحقيقة أني سمعت هذه الملاحظة المُستهجِنة للتجربة التعليمية الخليجية من عسكريين إنجليز وكنديين في بعض المؤتمرات، وكانوا على احتكاك بها، ولكن ليس من أمريكان طبعا لأنها تُفسد بضاعتهم. وهناك عرض استقصائي جيد، وقد نجد هذا التحفظ على استحياء في دراسة أحدها لكارنيجي أستاذ فرنسي في كلية الدفاع الإماراتية:
Jea-Loup Saman, The Strategy behind New Gulf War Colleges, Carnegie March 2019
[2] Avi Kober, “The Intellectual and Modern Focus in Israeli Military Thinking as Reflected in Ma’arachot Articles, 1948-2000”, Armed Forces and Society Journal, Fall 2003
“,
[3] https://strategic-exploration.org/2020/10/05/%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A8%D8%A7%D8%A8%D8%A9%D8%9F-%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D8%B3/
[4] Eitan Shamir, Transforming Command: The pursuit of Mission Command in the US, British and Israeli Armies, Standford 2011