حوار حول العلاقة بين السياسة والاستراتيجية
كيف نفصل بين السياسة والاستراتيجية وآثارهما وماهو التداخل بينهم؟
الحقيقة أسئلة شديدة الأهمية وصعبة التناول
بخصوص العلاقة بين السياسة والاستراتيجية، فهي بالفعل أكثر المساحات تعقيدا وغموضا في الدراسات الاستراتيجية.. وأذكر لأستاذي – المعروف بهيامه الشديد بكلاوزفيتس، مقولة أنه (لو شيء لم يقله كلاوزفيتس، فلأنه لايستحق أن يُقال!)، ولكن مع ذلك كان يأخذ عليه عدم تناوله المدقق لتلك المساحة الفاصلة بين الاستراتيجية والسياسة..
دعني أولا أميز بين أمرين: السياسة بمعنى عملية الحوكمة العليا في الدولة (وفي مساحة الدفاع والأمن القومي تحديدا) أي السياسة العامة.. وهي الخاصة بوضع الأهداف، والمسئولية والإدارة السياسية لكل المساحات.. وبين السياسة بمعناهاالتنافس بين البنى السياسية والمجتمعية على توزيع مصادر القوة والتأثير في الدولة.. ومنها بالطبع مساحة وضع السياسة العامة.
في العربية والألمانية للأسف نستخدم نفس الكلمة للتعبير عن المفهومين، ولكن في الإنجليزية هناك كلمة لكل مفهوم..
Policy – Politics
بالنسبة لمساحة البوليتيكس: فهذه شديدة التنوع على حسب طبيعة النظام السياسي.. هل أوتوقراطي، أوليجاركي، ثيوقراطي، ديمقراطي… حينها تكون للقوات المسلحة مساحات تداخل أو تأثير تتسع وتضيق..
كما تعلم فالشائع في الأدبيات المؤسسة للعلاقات المدنية العسكرية – أن الجيوش بطبعها الاحترافي بعيدة عن العملية السياسية (طبعا الخلاف بين صمويل هنتنجتون و جانويتس.. هو أن هذا الانعزال عن السياسة يرتبط بالنزعة التخصصية والاحترافية كما يقول الأول، أم بالتزاوج القيمي مع المنظومة المجتمع ودرجة النضج السياسي الديمقراطي وتطوير أدوات الهيمنة المدنية كما يقول الثاني؟).. ولكن واقعيا – حتى في النظم الديمقراطية.. تمارس الجيوش أدوارا غير رسمية وغير مباشرة ترتبط بهذه المساحة.. لأنه ببساطة – العملية الديمقراطية والتنافسية سيتحكم منتوجها في وضع سياسات الدفاع والأمن القومي.. ومن أفضل الدراسات في هذا الباب، وبالتطبيق على الحالة البريطانية المعروفة بمبالغتها في منع الجيش عن التدخل في السياسة.. فإن صح ذلك فيها فهو حاضر بشكل أولى فيمادونها !:
The Politics of the British Army… Hew Strachan
وأعلم أن سؤالك تحديدا في المعنى الأول للسياسة..
وبإجابات شديدة الوضوح:
السياسة هي من تضع الأهداف العليا للأمن القومي والدفاع، أو للنزاع العسكري.. لكن الاستراتيجية ليست هي من تطبق الأهداف!!!! لا – هي من تربط بين الأهداف (السياسية)، والطرق الكلية (الخيارات الاستراتيجية) والأدوات (العسكرية وغير العسكرية).. الاستراتيجية هي (جسر) وليس محطة تالية! ولأنها جسر، فهي شديدة الارتباط بين طرفين –
هي – 1 – تحاول ضمانة ألا تطلب السياسة ماتعجز القدرات والوسائل على تحقيقه
و – 2– تحاول ضمانة ألا تتحرك الأدوات – عبر الطرق والخيارات الاستراتيجية – بشكل يضر بتحقيق الهدف السياسي..
هذا بالحس السلبي.. وبالحس الإيجابي:
هي – 3 – نحاول ضمانة أن يقدم المستوى السياسي لمستويات التنفيذ العسكري والديبلوماسي (الاحتياجات والموارد الكافية – وليس المتاحة. لأن المتاحة هو خيار سياسي-)
و – 4 – تحاول ضمانة أن تتحرك الخيارات ومسارات العمليات – في ظل الدينامية المعقدة والمتغيرة لطبيعة الصراع والحرب من حيث مبادرات وردات فعل الخصوم والأطراف المحيطة والبيئات وماتفرضه من فرص وتهديدات – بشكل يحقق المنتوج السياسي ..
هذه هي الوظائف الأربعة للاستراتيجية في التوصيل بين السياسة والأدوات..
ولأنها (عملية) مستمرة، وليست مرحلة خططية أو تنفيذية تالية لوضع الهدف السياسي.. فلايمكن التعامل مع مستويات الحرب بشكل منفصل وتعاقبي..
هناك تراتبية بالطبع. فالحصان يسبق العربة.. ولكن لطبيعة وعورة الطرق، فقد تفرض نوعية وقدرة العربة على الحصان أن يعدل مساراته، وأحيانا حتى النهايات التي يريد الوصول لها..
وهنا طرح كلاوزفيتس مسألة في غاية الأهمية – مع أنه ألح كثيرا على علوّ الهدف السياسي وأسبقيته الزمنية والتحكمية على الاستراتيجية:
But political aim is not a Tyrant!
بمعنى – التفكير الاستراتيجي لن يضع لك الهدف السياسي، لأن الأخير يرتبط بلاشك برؤيتك الكلية بنواحيها الأيديولوجية والجيوسياسية وإرث التاريخ وطبيعة النظام السياسي ومدى تعبيره عما يراه الشعب من دور وجودي للأمة والوطن..
ولكنه لابد أن يكون حاضرا في مرحلة تخليق السياسة، فقط ليجيب عن سؤال (الإمكانية).. لأنه لو كان الهدف السياسي مبدئيا لايمكن تحقيقه استراتيجيا (بأي وسيلة) فلابد أن يتغير، أو يتم تقسيمه لمراحل متعاقبة أو تراكمية (هنا يأتي دور الاستراتيجي طويلة المدى)..
المشكلة التي تحصل، أنه كثيرا مالايمكن إدراك هذا الأمر مسبقا، ولكن يتم تكشفه جليا في المراحل الوسطى للصراع، فحينها يقوم التفكير الاستراتيجي بدفع الهدف السياسي أن يتغير… وهذا بالضبط ماعناه كلاوزفيس.. أن الهدف السياسي ليس طاغية..
هنا أخلص من الشق النظري للمؤسسي…
إذا اتفقنا أن الاستراتيجية هي جسر يربط بين طرفين (السياسة والأدوات العسكرية – وغير العسكرية)، وإذا اتفقنا أن الاستراتيجية ليست مرحلة خططية ولكن عملية مستمرة شديدة التعقيد وتقتضي متابعة دءوبة في محاولة تجسير الفجوة بين مساحتين شديدي التنافر من حيث اللغة والمزاج وارتباط الوسائل بالنتائج (فكرة الاستراتيجية كمانعلم هي تحويل النتائج العسكرية – التدميرية والمادية – إلى تأثير نفسي في بيئة الخصوم والأطراف المحيطة) ولهذا يسميها أستاذي
Currency Converter
إذا اتفقنا على هذا – فأي هيكلية مؤسسية تريد أن تضعها لتحقيق هذه المتطلبات النظرية والتطبيقية لوضع الاستراتيجية؟
هذا سؤال محوري وشديد التعقيد، تعلم لماذا؟
لأن هناك عوامل أخرى – غير الضرورة الاستراتيجية – شديدة الأهمية تتحكم – أو تفرض علينا أن نراعيها – ونحن نضع مأسسة للعلاقات المدنية العسكرية .. وأعني مثلا المسائل الديمقراطية والتأكد من خضوع العسكريين للساسة في النظام الديمقراطي..
فضلا عن تأثير الإرث التاريخي والمجتمعي والسياسي على ترتيب العلاقات المدنية العسكرية بشكل قد يظهر شديد الشذوذ ولكنه كان مطلوبا لمرحلة تاريخية – ثم تم وراثته حتى مع تغير كوني في طبيعة السياسة والمجتمع (وأعني هنا مثلا الفصل بين خطين للقيادة العسكرية في الحالة الأمريكية – بين خط الأركان والقيادات العملياتية – التي يسمونها الاستراتيجية! – ولم يتم التقريب إلا حديثا نسبيا تبعا لجولدن ووتر آكت – حين تم تضخيم صلاحيات رئيس هيئة الأركان المشتركة، وجعلها المستشار العسكري الأول للرئيس ومجلس الأمن القومي.. بمعنى توسعة دوره في إدارة الاستراتيجية العسكرية والعمليات العليا)
النموذج الذي طرحه هنتنجتون مبكرا، وهو مايحكم النموذج الأمريكي – هو كارثي في رأي الكثيرين – وهو الفصل الكامل بين المستويين، والتفويض الواسع للعسكريين في إدارة الشق العسكري .. أين الجسر؟؟ غير موجود بالأصل.. ولهذا فليس غريبا أن يسموا رأس الأداء العسكري ب(الاستراتيجي).. رئيس الدولة يضع أهداف سياسية، فتتحرك المؤسسة العسكرية لتطبيقها!!! هذا مناقض تماما للنظرية الاستراتيجية والطبيعة التطبيقية لها.. الجسر غير موجود، لا في مرحلة وضع الأهداف، ولا بالتأكيد في مرحلة الأداء العسكري والتطبيق!!
النموذج الذي طرحه جانويتس في المقابل، قال بالاندماج، ولكن الهيمنة السياسية على كل التفصيلات العسكرية..
وهذا ربما ماطرحه بقوة كوهين في
Supreme Command: Soldiers, Statesmen and Leadership in Wartime. Eliot Cohen
وهذا ما دفع البعض حتى لإلغاء مستوى العمليات في الحرب، لأنهم رأونه عائقا أمام تحريك المسارات العسكرية بشكل غير متصلب – وليس نحو نهاية عملية واحدة (تحقيق الانتصار العسكري في الميدان) ولكن نحو نهايات شديدة التنوع والنسبية ترتبط بالمقايسة المستمرة للهدف السياسي وهو ماتقوم به الاستراتيجية..
طبعا هؤلاء لم ينتبهوا أن المشكلة ليست في وجود مستوى العمليات في الحرب (لأنه ضرورة ترتبط بالتطور في الحرب الحديثة واتساع مسارح العمليات وتعقيد طرق تخليق النهايات العسكري في معركة أو اثنتين، مع وفرة أدوات الاتصال والسيطرة للحديث للجمع بين نثريات وتفصيلات عسكرية بشكل تعاقبي وتراكمي)، ولكن في النموذج الأمريكي سالف الذكر.. الذي ينقطع في جسر الاستراتيجية..
المفترض أن مجلس الأمن القومي الذي أُنشيء عام 47 ليعالج الإشكالات في هذه المساحة التي أظهرتها الحرب العالمية الثانية وسلوك روزفلت فيها – كان خطوة للأمام، ولكن فعليا – القرارات كانت تؤخذ في دائرتين منفصلتين، الهدف السياسي تضعه مؤسسة الرئاسة، والخطط العسكرية (التي يسمونها استراتيجية!) تضعها القيادة العسكرية .. بشكل شديد التناثر والعشوائية قبل جولدن ووتر آكت، وبشكل أكثر تنظيما (ولكن يغيب فيه الجسر الاستراتيجي ودينامية المراجعة والتوصيل) بعده على مستوى هيئة الأركان المشتركة.
النموذج البريطاني – نظريا وتاريخيا – لايعاني من هذه المشكلة، خصوصا مع وجود مجلس وزراء الحرب في الحربين العالميتين (والذي انقضى بعدهما) وبسبب نضج الوعي الاستراتيجي إجمالا عند القيادات السياسية والعسكرية عن مثيلاتها الأمريكية..
ولكن الكتاب الذي أوصلته لك
The High Command: British Military Leadership in the Wars of Iraq and Afghanistan. Sir Christopher Eliot
سيوضح لك بجلاء.. أن الجسر الاستراتيجي كان غائبا تماما في وظائفه الأربع سابقة الذكر..
بالتأكيد سبب هام لذلك كان بسبب أن الاستراتيجية البريطانية (إن كانت هناك واحدة! كما ينفي ذلك هيو ستراون في دراسته الشهيرة: موت الاستراتيجية) كانت أسيرة تماما للأمريكية ولم يكن لها حرية الحركة – طبعا بفعل أن بريطانيا في الأخير قوة صغيرة تابعة للأمريكي، ولكن إليوت أوضح كيف أن هناك مشكل مؤسسي عنيف:
فلم يوجد رصيف يجمع بين المقاربة بين الفرضيات السياسية والعسكرية، ويتابع تلك المقاربة بشكل دائم تبعا لتغير ظروف الحرب (هذه بالضبط هي الاستراتيجية)، ولا حتى رصيف يجمع بشكل احترافي بين المقاربة العسكرية المشتركة بشكل يجعل تأثير التحيزات للأسلحة (برية وبحرية وجوية) محدودا والتنسيق شاملا ودقيقا، ولا رصيف يجمع ويضبط العلاقة بين مستوى الاستراتيجية العسكرية الذي غالبا يوضع في لندن وذلك العملياتي الميداني، ولا حتى رصيف يجمع بين الأدوات العسكرية وغير العسكرية لاستراتيجية مكافحة تمرد تعتمد بشكل محوري على هذا الجمع والتعاضد، ولاحتى رصيف يجمع بين خط الفن والقيادة الاستراتيجية، وذلك الإداري (توفير الموارد والأدوات) داخل وزارة الدفاع…
هذا الإشكال الكبير المؤسسي، الذي غالبا مرده لمشكل نظري في مقاربة الاستراتيجية أو تحكم إرث تاريخي غير مناسب (في الحال الأمريكي)، أو في الإرادة السياسية لتوفير مقتضياتها سواء في طبيعة الحلف العسكري الأعلى أو في هيكلة العلاقات المدنية العسكرية وهيئة الأركان (في الحال البريطاني).. قاد بالتالي لكوارث استراتيجية:
فلا أهداف سياسية أو خيارات استراتيجية واضحة
ولا مناسبة بين الأهداف والأدوات، ولامتطلبات عسكرية للنجاح الاستراتيجي قابلة للتحقق، أو حتى يُعطى لها الموارد المناسبة
ولا متابعة دءوبة للفرضيات الاستراتيجية مع تغير الظروف والأوضاع
ولا حتى وضوح لمسئوليات النصر أو الهزيمة.. هل السياسي بحكم أنه صاحب التفويض الأعلى وهو من وضع الأهداف ولم يقدم موارد؟ أم العسكري لأنه لم يحقق النهايات العسكرية المطلوبة؟ أم لم يحقق النهايات السياسية؟!!
أصلا – هل النهايات العسكرية المطلوبة متناسقة ويمكنها تحقق الهدف السياسي؟ وهل هذه العلاقة الدينامية تتم مراجعتها باحترافية؟ بل هناك أصلا هيكلية مؤسسية تسمح بذلك النقاش الاستراتيجية ولها سلطة في فرض نهاياته؟!!
أليست تلك وظيفة الاستراتيجية..؟!!
Hi, this is a comment.
To get started with moderating, editing, and deleting comments, please visit the Comments screen in the dashboard.