حوار حول الفكر الاستراتيجي وتأثيرات مابعد الحداثة؟
هل هناك أدبيات تتبعت تأثير الحداثة وما بعد الحداثة في النظريات الاستراتيجية؟
هناك ملاحظات مبدئية:
1- لاحظ أن الحداثة وما بعد الحداثة، هي مسالك في التفكير والإنتاج المعرفي والأدبي والفني، ليس بالضرورة هناك اتفاق واضح على مبانيها. وكذلك – هي نتاج رحلات معرفية وتخصصات لها سياق مزاجي ومعرفي وتطبيقي قد يختلف عن الاستراتيجية.
2- كذلك – هناك فارق بين جملة من المفاهيم والأمزجة فيما يُعرف بالحداثة أو ما بعد الحداثة، وبين أن يتم وضعها في أطروحة مستقلة بعنوان واضح (باراديم). فالأولى بلاشك يُمكن ملاحظتها في الدراسات والتطبيقات الاستراتيجية والعسكرية.. أما الثانية – والتي تقتضي تعرُّفا وقبولا للمجتمع الاستراتيجي والعسكري بالعنوان الجديد فهذه أبعد كثيرا، خصوصا بسبب الاختلاف المزاجي والسياقي السابق ذكره، وعنصر المحافظة والتقليدية عموما في المجتمع الاستراتيجي والعسكري والتشكك من أي مستجد (وبالأخص له سمعة سيئة ومنحرفة ههه مثل مابعد الحداثة)
3- كمفهوم مبسط، الحداثة هو مسلك مبني على قيم العلم والمنطق، والتفكير الواقعي، وحقانية المعرفة ووحدتها – وعلى هذا ، فيمكننا النظر إلى مسار التطور مابعد النهضة حتى نهايات القرن العشرين في المجالات المختلفة أنه (حداثي)..
أما ما بعد الحداثة – فهو مسلك نقد ي تشتيتي
Dispersive
كمراجعة للبارايم السائد في أساسه المعرفي فضلا عن النظامي والتطبيقي.. المعرفة نسبية، هناك آثار حاكمة ترتبط بالصياغات التي تفرضها التحيزات البشرية والإنسانية والاجتماعية. وصولا للتشكيك في مسلكية وأفضلية المنطق العلمي والتأطيري بالأساس. كما يُقال – الفارق بين المنهج الحداثي ومابعده – هو المقابلة بين الأوركسترا الكلاسيكية وموسيقى الجاز.
4- في الشأن الاستراتيجي والعسكري.. لاحظنا بالتأكيد المنطق الحداثي سواء في تطور الاستراتيجية والتفكير العلمي العسكري، وهذا بخط مضطرد منذ القرن السابع عشر.. ولكن:
أ – كثيرا ما نجد آراء (مابعد حداثية) إن جاز التعبير مبكرا. مثال – كلاوزفيتس ومنحاه الدافع لأنسنة وتعقيد النظر الاستراتيجي، ولكن في ذات الوقت بالتوازن مع المنطق وضرورة التنظير وإن بقيمة ومسلك مختلف عن الاتجاه العلمي.
ب- هناك تغييرات حادة في البيئة الاجتماعية والسياسية قد تفرز تغيرا في النموذج السائد للحرب كتنظير وممارسة (اضطرام العنصر الشعبي في بنية الجيش وممارسة الحرب، السعي للحسم العسكري والسياسي، ظهور مستوى العمليات لاتساع وتعقد مسارح المعارك وصعوبة حصول معركة حاسمة).. كما حصل مابعد حروب نابليون.
ولكن قد تحصل ثورات تقنية وتنظيمية تفرض كذلك نموذجا متغيرا لممارسة الحرب (بالأخص في جوانب العمليات والتكتيك).. بشكل متوسط في منتصف القرن التاسع عشر مع اختراع القطار وتطوير المدفعية (حروب بروسيا والحرب الأهلية الأمريكية كما تناولناها في سيمنارات استراتيجي)، وبشكل حاد مع الحرب العالمية الأولى.. ومن هنا ظهر ما يُسمى بال
modern system of war.
(التطورات على مستوى التكتيك سواء التبعثر الهجومي واتساع نطاق الدفاع، والاختراق التكتيكي، وقيمة الأسلحة المشركة – الحركة تحت قصف المدفعية، أو العمليات – الهجوم والدفاع على العمق بالأساس وظهور فن العمليات بطبعتيه الروسية والغربية مابين الحربين..)
. ولكن كذلك – مهم إدراك أننا نحكي عن مساحات من التغير – التدريجي
evolutionary
غالبا أو التثويري
Revolutionary
والتي تؤدي لخلخة في النموذج السائد
Paradigm shuttering
وطرح نموذج مستجد (بالأخص في مساحات التكتيكي والعمليات).. وليس مقابلة بين نموذج حداثي وما بعد حداثي. وما طرحه توماس كون في الستينات في (بنية الثورات العلمية) هو ما أقصده، وأشار له جنرال روبرت سميث في كتابه – تم ترجمته عربيا-
The Utility of Force
5- ولكن في فترة التسعينات، بدأ الحديث يكثر على تغير السياق الاستراتيجي – وليس فقط التطور التقني المعلوماتي والمجسات ما قاد لفورة
Revolution of military affairs بالأساس تقني وفي مفهوم القيادة
and Strategic Affairs
، بحيث أن حصل اهتمام في المجتمع الاستراتيجي بمسائل من طبعها النقد الحاد للمنظومة التقليدية للفكر الاستراتيجي:
- أمور مثل تغير السياق والمهام الاستراتيجي مابعد الحرب الباردة (إعادة إبراز نمط الحروب الصغيرة والهجينة والأنماط دون الحرب في استعمال القوة المسلحة..
- ما يُسمى بال
culture turn
في أواخر التسعينات والذي تفاقم مع تجربة الحروب في أقغانستان والعراق.. وهذا مفهوم ومسلك (ما بعد حداثي) في تقديم مبدأ ال
Relativism
وغلبة الانحيازات في الفكر الاستراتيجي والعسكري. - كذلك الأدبيات والمبادرات الخاصة بتحول وتطوير المنظومات العسكرية و
Military Reform
، وتطوير الفكر النقدي الاستراتيجي
Crtitical Thinking .. وهكذا
وهناك فعلا طرح أن القوات المسلحة تحولت منذ انتهاء الحرب الباردة، وليس فقط مطلع الألفية والدعاوي في تعقد البيئة الاستراتيجية
VUCA (volatile, uncertain, complex and Ambigueous)
إلى قوات مابعد حداثية..
مثل هذا الكتاب
The Postmodern Military: Armed Forces After the Cold War . Mokos, Williams and Segal
غير أني لا أرتاح أن أضع ما سبق نمطا (مابعد حداثيا) لأكثر من سبب:
أ. لأنه يصعب علينا إيجاد علاقة سببية بين ظهور هذه الأفكار وبين موجة مابعد الحداثة. لأن المجتمع الاستراتيجي والعسكري بطبعه واهتمامه وتأهله بعيد عن هذا الخط.
ب. كثير من هذه الاتجاهات موجودة بالفكر والممارسة الاستراتيجية التقليدية قبل ذلك.
ج. بعض هذه الأفكار هي استجابة ل خلخلة الباراديم التي تحصل كدورات في كل عصر، ردا على التحولات الاجتماعية والتقنية الحادة، وليست تخيّرا بين حداثة ومابعد حداثة.
د. المشكل التطبيقي – وليس فقط التوصيفي، هو أن هناك خطر في تجاهل مساحات الثبات في المنطق الاستراتيجي والعسكري، أو حتى أن هناك نسبيه في معدل ودرجة التغير. كأن هناك هوسا بالنقد الحاد للمنظومات، وتغليب النسبية ومناقضة المنطق العام، لصالح تغييرات مستمرة تفقد الفكر الاستراتيجي والعسكري- فضلا عن الممارسة – قوام منطقي واضح.
6- أخيرا – هل هناك اتصال – أو محاولة تطبيق واعية للاتجاه مابعد الحداثي؟
نعم. في مساحة ما يسمى بالتصميم العملياتي.
Operational Design>
وهذه ورقة فيها مراجعة لهذا الاتجاه.
“Blending Postmodernism with Military Design Methodologies: Heresy, Subversion, and other Myths of Organizational Change”
https://jmss.org/article/view/58259
وفكرة التصميم العملياتي في حد ذاتها كانت محاولة للبحث عن الأفكار والفرضيات المؤسسة للتخطيط العملياتي العسكري، بما يُقدم منظور كلي – تبعا لتحليل البيئات وإعادة تعريف الأسئلة للمشكل والهدف الذي تتحرك لأجل تحقيقه العمليات وبالتأكيد هو مقاربة لما تطلبه الاستراتيجية وتبعا للسياق المتغير في بيئة العمليات -يتحرك لتحقيقه هذا التخطيط التفصيلي.
وأول ما ظهر بشكل ما كان في إسرائيل في منتصف التسعينات، ثم أصبح ملمحا أساس في العقائد القتالية الغربية وخصوصا الأمريكية.
وفي تقديري – فبالرغم من إيجابية في ضرورة مراجعة النظرة الكلية التي تحكم العمليات وتمحيصها، فلايمكن فصله عن موجة حاولت تعالج المأزق في ضمور الاستراتيجية معرفيا وتطبيقيا، بأنماط مستجدة في التفكير العملياتي.. ويمكنك ملاحظة هذا كذلك فيما ظهر حينها في القوة الجوية الأمريكية ويُسمى
Effect Based Operations.
وعلى هذا فدعوى اتصال التصميم العملياتي بأفكار مابعد الحداثة، لم تظهر إلا متأخرا.
:ولنستوعب طبيعة الاتصال بين التصميم العملياتي ومابعد الحداثة – والإشكال الاستراتجي – سأطرح لك مثالين:
المثال الأول) في إسرائيل، شيمون نافيه أسس مركز التفكير العملياتي التابع لجيش الدفاع
Operational Thinking Research Institute
وفعلا، حاول الربط بين طروحاته ونقاط مابعد حداثية، وإن كنت يُمكنك ربطها بالمباديء العامة بالتفكير النقدي، ونظرية الأنظمة المعقدة، وضرورة الإبداع والتجريب في حل المشكلات التكتيكية والعملياتية، والتملص من حاكمية الثقافة المؤسسة.
وللمفارقة فقد تم اتهامه بأنه قدم أطروحات شديدة التعقيد والتتويه وأثرت بالسلب على القدرة الاستراتيجية والعملياتية في حرب 2006. واستدل بعضهم بغموض أوامر قائد الفرقة 91 (أحد تلاميذ نافيه) لقادة ألويته.
أنا أرى أن في هذا مبالغة،لأن المشكلات الجسيمة في الاستراتيجية (أهداف سياسية غير قابلة للتحقق، الاعتقاد بقدرة الضربات الجوية وعلى حاضنة حزب الله قادرة على إياذئه وردعه قضلا عن تفكيك ذراعه العسكري كما نص هدف الحرب) والعمليات (غياب منطق الحرب المشتركة كفن وتخطيط وتركيب قوات، واللجوء لنمط عملياتي مرجوح في السيطرة على بيئة المعارك – وهذا ما أشار له نافيه نفسه بخصوص رجحان التركيبات الصغرى القائمة على القوات الخاصة والمتشابكة بقوة جوية ومعلوماتية وهيكل قيادة مرن، وأيضا إفساد الانتقاضة لقدرة الجيش على الأداء العسكري الأعلى على مستوى الألوية).. وعلى هذا فنقد شيمون نافيه لدان حالوتس رئيس الأركان ووصفه بالغبي والأحمق مستحق حقيقة.. وهذا حوال جيد لنافيه بعد الحرب بقليل:
https://smallwarsjournal.com/documents/mattmatthews.pdf
ولكن يمكنني تقبل بلاشك أن تجربة نافيه أثارت غموضا ولبسا.. حتى لو هو وصل للخلاصة الاستراتيجية والعملياتية للحرب، فقط وصل لها بأسلوب معقد ومفارق عن إعمال المنطق الاستراتيجي والعملياتي المباشر.
نعم – مفهوم وموديل التصميم العملياتي هو قفزة إيجابية لتُعلّم العقل العسكري أن يقف أولا ويرى الصورة الكلية ويحاول أن يصيغ تصورا كليا للمسارات وال خطوط العمل
Courses of Actions – COA
ولكن المنطق الاستراتيجي (الذي يتحصل من طول الدرس والتجريب والتحليل النقدي للتاريخ كما نعلم) والفن العملياتي (الذي كذلك يرتبط بما سبق وتقويم مفردات القوة القتالية وعلاقة التكتيك بالتقنيات بالعقيدة القتالية ضمن منظومة عسكرية لها خصائص ثقافية ما) هو المادة التي تصنع مفاصل ومنتوج التصميم العملياتي حتى لو تغافل عنها من يقترحه.
بمعنى – التصميم العملياتي كمسار في التفكير الذهني والمؤسسي يساعد عقل القيادة أن تفكر بشكل أكثر جودة وإحاطة
وتركيزا ولكن مادة التفكير هي عالة على خبرات أخرى (استراتيجية وعملياتية).
فحين يُعمِل شيمون نافيه التصميم العملياتي ويصل لنتائج تقييمة سليمة في طبيعة وأسباب فشل إسرائيل في حرب 2006، فإنه بالحقيقة أعمل هذا التصميم على مايحوزه هو من منطق استراتيجي وعملياتي.. وهو يحوز منه على قدر وافر الحقيقة، بالنظر مثلا إلى رسالته للدكتوراة التي عملها في كينجز كولدج هنا في لندن
The evolution of Operational Art
وأذكر حوارا دار بيني وبين كولن جراي حولها، حين طلب رأيي. وأنا احتفيت بها أمامه. هو طبعا كان في هذا الوقت رافض لفكرة مستوى العمليات وأنا كنت متمسك بها، ورأيت عرض نافيه لها وتتبعها في الفكر العسكري الروسي، مُلهما. ولكن لو عاد بي الزمن لكنت عبرت بلغة أرتحت جراي وحلت له إشكاله – لأني مع الوقت نضج تصوري حول حاكمية النظر الاستراتيجي على الفن العملياتي ومستوى العمليات وضرورة تسييق هذا الفن وتنسيبه.
عودة لطرح نافيه حول التصميم العملياتي ونقد حرب 2006: هو أنه حين يقدم هذا الموديل التصميمي لغيره ممن يغيب عنه ماسبق من تأهل استراتيجي وعملياتي، فلن يؤدي لنفس جودة المنتج التصميمي. نعم – سيكون حاله أفضل نسبيا في مساحة مراجعة المسار والتأكد من تبعية التخطيط والأداء العسكري لفكرة كلية ما. ولكنه سيضيع منه مركز ثقل التصور الاستراتيجي والعملياتي.
لكن مشكلة شيمون نافيه كذلك – وهنا نعود ل أساس موضوعنا – أنه قدم موديل التصميم العملياتي بلغة شديدة الغموض وأدخل اقتباسات من مفاهيم مابعد الحداثة مع اختلافها المزاجي والسياقي كما أسلفت عن طبيعة اللغة العسكرية.
وكان يكفيه أن يقدم الموديل والتأكيد على بعض المفاهيم في التفكير النقدي وغير الخطي ومفارقة الطبعة المؤسسية الحاكمة بعزلها عن مصطلحات فلسفية مابعد حداثية.
ولعل هذا ما انتبه له بعض رواد هذا الخط ك ب وأقروا بضرورة تقديم التفهيمات (بغض النظر عن تقييمنا لصحتها أو خطئها) بلغة مناسبة للسياق العسكري ومعزولة عن أصلها الفلسفي.
وهنا أضيف شيء – مفيد طبعا أن ننفتح على ما تتيحه كل المعارف والفلسفات والفنون من فوائد للتفكير الاستراتيجي والعسكري، وتحدثنا عن هذا من قبل، وبطبيعتي الشخصية فإن لي خلفيات ومساحات متعددة، وليس فقط أستمتع بملاحظات الأنماط المتقاربة بين عوالم معرفية مختلفة (وحدة أسس فلسفة ومنطق العلوم وإن بشكل مضبوط)، ولكن كذلك – مهم حين ننقل الخبرة أن نُسيّقها لغة ومفهوم وتطبيق، وأن نُميّز بين وجود هذا المفهوم المقتبس في فلسفة مابعد الحداثة بشكل حصري، أم هو موجود فيها وغيرها.
يعني كثيرا ما طرحه القوم..
التمييز بين المعرفة الداخلية والمعرفة الخارجية، كلام ميشيل فوكو حول (صنع الإشكال)
Proplematization
قيمة التجريد.. كل هذا موجود في معارف وتطبيقات مختلفة – فلم حصره بشكل قصري على فلسفة مابعد الحداثة إلا بغرض التعالم أو بسبب قصر النظر والسذاجة؟!
كذلك – مهم التنبيه دوما على ضرورة التسييق والتطبيع المحلي.. بمعنى أن نُعبر عن الفائدة المقتبسة ونُمَوْضعها بما يناسب البيئة العسكرية وأعرافها البنيوية – ليس تحكيما لأي عرف محلي، ولكن لأن بعض هذه الأعراف – كالتراتبية القيادية – هي ضرورية، حتى ضمن نمط القيادة بالمهام، أو فرد الهيكل القيادي وتعميق التبعثر التكتيكي في حرب العصابات ومواجهتها – تبقى درجة هامة من هذه التراتبية!
ولعل هذا المنطق الذي أعمَلَه
Ben Zwilbenson
ورفاقه حين عرضوا تجربتهم في تصميم قوات الأمن الأفغانية.. وهذا مثالي الثاني:
“DOES DESIGN HELP OR HURT MILITARY PLANNING: HOW NTM-A DESIGNED A PLAUSIBLE AFGHAN SECURITY FORCE IN AN UNCERTAIN FUTURE”
https://smallwarsjournal.com/jrnl/art/does-design-help-or-hurt-military-planning-how-ntm-a-designed-a-plausible-afghan-security-f
الورقة بجزئيها أعجبتني. ونعم – بعض التفكير غير الخطي والممنهج والتجريدي ساهم في الارتفاع بمستوى مقاربة البيئة الأفغانية استراتيجيا، ولكن تشعر أوقاتا كثيرا أن الأسئلة المركزية كثيرا ما تغيب. وأوقاتا أن هناك هوسا بتجريب بعض الأنماط الذهنية في معرض التصميم دون استفادة حقيقية منها.
مثلا – هو وصل أن أساس المشكل الأفغاني بشكل ما هو ضعف وجود فكرة الدولة الوطنية بالأساس، وأن هناك انحيازا لطالبان، ولكنه لم يطور ذلك لفهم أسبابه، وكيفية التعامل معه، وهذا السؤال الاستراتيجي إجابته ستحدد كل شيء (هل فكرة إعادة بناء الدولة ممكنة في السياق الموجود، وعلاقتها بالأهداف السياسية للوجود العسكري للناتو والأمريكي بأفغانستان، وبمكافحة طالبان)، ولكنه قفز سريعا إلى تحديد سيناريوهات التصعيد العسكري والأمني، و التركيبات الممكنة في تشكيلات الجيش والقوة الجوية والأمن الداخلي الأفغاني.
طبعا – بالنظر للتطور الحاصل حاليا قد نقول أننا نحكم بما آلت إليه الأمور أنها مهمة مستحيلة أن تُحل بأي تصميم عملياتي أو بنية لقوات الجيش والأمن الأفغاني. ولكن الحقيقة – هذا الخلل الاستراتيجي الجسيم معلوم عند الكثيرين منذ البدء.. شوف مثلا مقال هيو ستراون
The Death of Strategy
ثم إن حرب أفغانستان تم اعتبارها بريطانيا وحتى أمريكيا حربا خاسرة منذ عقد تقريبا.
كذلك – حين حاول (بِن) إعمال نظرية أسراب الحشرات
Swarm theory
أي اعتماد لامركزية ولا تراتبية التخطيط والاستكشاف – تقسيم فريق التصميم لمحاولات فردية للقيام بالتقييم والتخطيط ثم فلترة هذه الخيارات بشكل ذاتي على حسب الاتفاق التراكمي بين الأفراد على خيارات بعينها.
نعم – هو نجح في تسييق هذا المفهوم بلغة مناسبة وفي نفس الوقت – بالمضي في ذات مراحل وضوابط التصميم العملياتي الموجود بالعقيدة القتالية وتحصيل موافقة القيادة التراتبية.
وبالفعل – كثيرا ما يجب اللجوء لهذا التفكير غير المحدود والمتبعثر في مرحلة الاستكشاف. لكن المشكل أنه يتحتم وجود محطة للتقييم التخصصي وإعمال المنظور الاستراتيجي الكلي (وهنا – الأفراد لا تتساوى! فهذا ليس تصويت انتخابي!).
أعتقد من هذا التطواف يمكننا استخلاص جملة أمور:
– الانفتاح على المعارف والخبرات والفلسفات المغايرة مفيد، مع ضرورة التدقيق والتسييق والحصافة، وممن يُحسن القيام بهذه الأمور لاتساع ونضج خبرته ووضح المنطق الاستراتيجي والعملياتي عنه، وليس للمشاع، وليس أن يتم استيرادها وإلقائها في مجمل الوثائق العقائدية أو الخططية العامة – هذا من شأنه أن يزيد مشكلة العقل العسكري سوءا.
– نعم ، التصميم العملياتي هو خطوة إيجابية ولكن مهم وضع قيمتها في إطارها الصحيح. الفكر الاستراتيجي والعسكري وتطبيقاتهما شهدا (تقليعات) متعددة، سواء نظرية اللعب ومناهج راند في الستينات، وحتى إعمال الذكاء الصناعي بعد الألفية في التخطيط والتقويم الاستراتيجي، أو ال
Effect Based Operations
أو الحلول التقنية بشكل أولى كما حصل في فترة التسعينات
Revolution of Military affairs
والحقيقة أن التصميم العملياتي وموجة التفكير النقدي هو أكثرها جدوى وقيمة.
ولكن المشكلة أنه حتى لو لهذه الاتجاهات الحديثة في التفكير والتقنية لها قيمة فيجب ألا تطغي على أولوية إتقان المنطق الاستراتيجي وفن العمليات ومواردهما في التأسيس النظري والتحليل النقدي للتاريخ والتجربة العملية وتقويمها.. (هذا منهاج كولن جراي في تناوله للمآزق الاستراتيجية وأنه بسبب ضياع البديهيات الاستراتيجية وليس ضعف الابتكار والحلول التقنية).
أنا طبعا أكثر انحيازا لمنهج جراي، ولكني أرى قيمة في إشاعة نزعة النقد والتفكير غير الخطي والبعد التقريبي
Relativist
في كثير من الانحيازات. وهي مباديء مابعد حداثية نعم ولكنها حاضرة في مدارس ومعارف وتطبيقات أخرى!
فالتوازن وعدم تضييع النسب مطلوب.
لكن المشكل، حين يتحول المنهج النقدي الحاد أنه القاعدة والأغلب وليس بنسبة نوعية مطلوبة.
والمشكل أيضا – حين يكون هناك هوس بنقل اصطلاحات واتجاهات من مفكري مابعد الحداثة، ومحاولة تفعيلها في سياقات مختلفة تماما، وحتى بمزاج ولغة وثقافة بطبيعتها شديدة العملانية وقائمة على الجدوى ونسق تراتبي عسكري.. (فهذا تناقض مابعد حداثي – لأنه يتغافل عن طبيعة السياق الاجتماعي والثقافي للمنظومة العسكرية! ههه) وهذا نفس ما أشار له أصحاب هذا الاتجاه بلفظ البيئة لهم وضرورة التسييق كما أسلفت.