فكر استراتيجيقراءات استراتيجيةمقالات منوعة

على هامش كتاب (الاستراتيجية ومحترفوا الأمن القومي) – 1

بالرغم من أن هذا الكتاب ليس أفضل الكتب في الاستراتيجية، وليس حتى في أول شريحة منها، ولكنه أفضل المتاح ومترجم عربيا، ويقدم مفاتيح مهمة في النظرية الاستراتيجية مع مقدمات (قد يراها المتخصص بديهية، ولكنها مهمة لغير المتخصص) في التطبيقات والمأسسة لعملية صنع الاستراتيجية الدفاعية والخاصة بالأمن القومي.

هذا رابط الكتاب

https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfQzVWUlR6QnpuaFk

وهذه أول حلقة من النقاش مع أحد الأصدقاء حول أول ثلاثة فصول بالكتاب، وتتناول التمييز بين المصالح العليا والأهداف السياسية، وأيضا مراتب الاستراتيجية.

 

السؤال الأول: عن المصالح العليا والأهداف السياسية العليا:

 هل عملية الفصل والتحديد بين المصالح العليا وبين الاهداف السياسية مهمة؟

كيف نعرف المصالح العليا للدولة (أو أي كيان سياسي) ونحدده؟ وهل تحديدها أصلا مهم؟ وهل هي في مرتبة أعلى أو

أدنى من الهدف السياسي؟ أخشى أن تعقيد التقسيم يكون عائقا أمام تفكيرنا الاستراتيجي وليس مسهلا له؟

الإجابة:

الفرق بين المصالح العليا والأهداف السياسي .. هو أن الأولى تشمل الغايات النظرية المرتبطة بوجود الدولة (أو أي كيان) ووظيفته..

أما الثانية فتحويل هذه الأهداف العليا لأهداف قابلة للتحقق في ظروف جيوسياسية واقتصادية وعسكرية بعينها..

الهدف السياسي هو مهيمن نعم على الاستراتيجية، ولكنه يتأثر أيضا بها عن طريق اختبار (قابلية التحقق).. بمعنى – هل الأهداف السياسية ممكن تحقيقها؟ وعبر أي استراتيجية؟

أعطيك مثالا حتى يقترب المعني: 

نفترض أن نظام عبدالناصر كان يرى المصلحة العليا هو في تكوين أمة واحدة، ذات سيادة كاملة، وتنمية شاملة..

قبل 67 – كان يرى جملة من الأهداف السياسية.. أهميها تدمير إسرائيل.. كيف؟

استراتيجية خنق استراتيجي عبر إطار وحدوي بين دول الطوق، استعدادا لمعركة مواجهة شاملة مباشرة و(سريعة) قبل تدخل الدول الكبري..

هناك مفردات مختلفة في هذه الاستراتيجية .. سواء بمشاريع التصنيع النووي والصاروخي، أو إجهاض استراتيجية الإسرائيلي المقابلة في التطويق…وهكذا.

 ومتسق مع هذه الاستراتيجية العسكرية.. هناك أيضا استراتيجية ديبلوماسية وأهمها عدم الانحياز (الإيجابي).. بمعنى الاقتراب قليلا من السوفيت – خصوصا كقاعدة دعم تسليحي وتنموي، ولكن عدم الدخول في معسكرها.

وكذلك – التضاد مع الكتلة العربية المتحالفة مع الأمريكي (خصوصا السعودي).

جاءت 67 – فتغير المشهد وإحداثياته، وحدود القوة والإمكانات، وتغير هائل في الوضع الجيوسياسي والعسكري بتحطم الجيش المصري، واحتلال إسرائيل لسيناء والبقية، وانهيار هالة نظام عبدالناصر وألقه القومي..

هل تغيرت المصالح العليا؟

المفروض لا..

ولكن الأهداف السياسية لابد من تغييرها..

فلايمكن تدمير إسرائيل في هذه المرحلة، ولكن هناك هدف تحرير الأرض المحتلة.

عبر أي استراتيجية؟

في الأول استراتيجية حرب الاستنزاف، كستار ووسيلة كلية لإعادة بناء القوات المسلحة ،ولكن الأهم: إدماء الإسرائيلي وإشراك الدول الكبرى لتحقيق تنازل سياسي ما منها.. 

ولكن في تصوره كذلك – حرب تحرير شاملة للأراضي المحتلة إذا فشلت استراتيجية الاستنزاف (وهي فشلت فعلا على الأقل في هدف الضغط لتنازل إسرائيلي لأسباب مختلفة )، خصوصا مع ثمرات استعادة القدرة والثقة العسكرية.

والدبلوماسية؟

انخرط فورا في المعسكر السوفيتي، لأنه بذلك يضمن حماية ضد مغامرة إسرائيلية جديدة، وأيضا جدية عند السوفيتي في إعادة بناء القوات.

وحين انكشفت الجبهة الداخلية مع ضربات العمق وانهيار حائط الصواريخ، هدد السوفيت باستقالته إذا لم يتدخلوا أكثر! وحينها بعث السوفيتي بفرق دفاع جوي وأسراب طائرات اشتركت فعلا في القتال في 1970.

ولكنه أيضا التقط فرصة بناء علاقة إيجابية مع الأمريكي – بعد رحيل جونسون، وقبل مبادرة روجرز – أيضا لأسباب مختلفة.

الخلاصة: المصالح العليا نظريا لاتتغير، إلا إذا حصل تغيير شامل في توجه الدولة ودورها في الوجود الإقليمي (كما فعل السادات بعد 73)، ولكن الأهداف السياسية لابد أن تتغير مع تطور المراحل، وأكثر منها في معدل التغير الاستراتيجيات بتنوعها وترتيبها.

طبعا التعقيد في الاصطلاح والتقسيمات غير مطلوب – خصوصا لغير المتخصص ولغرض الممارسة.. ولكن النقطة الجوهرية أن نفهم أن وجود المصلحة العليا لايعني كونها هدفا سياسيا، لأن الأخير معتمدا على اختبار الإمكانية

وأن الهدف السياسي هو الذي يحدد ماهية الاستراتيجية وليس العكس، وإن كان التفكير الاستراتيجي مطلوب مبدئيا في وضع الهدف السياسي ومتابعة صوابيته لأنه يخبرنا عن إماكنية التحقق، وأن الاستراتيجية هي الأكثر تغيرا في هذه العناصر.

ماقبل ثورة يناير مثلا، كان الإخوان غير مستحضرين لهدف التغيير السياسي بالأصل، وبالتالي بعيدين عن تبني أيٍ من الاستراتيجيات التي يمكن تقود له: ثورة شعبية؟ حرب عصابات؟ اختراق انقلابي؟ تصعيد مطلبي ونزع شرعية؟ الدعوة لتدخل أجنبي (لا أحكي هنا عن التقييم الأخلاقي والوطني)؟مزيج بين هذا وذاك؟

بعد 30 يوليو، كان هناك هدف سياسي وهو العودة للحكم (الشرعية)، وعبر استراتيجية (هي أبعد كثيرا من حيث النضج أن نسميها استراتيجية)، ولكن مجموعة من أفكار العمل تحت عنوان اسمه (ثورة)، وكانت هذه الأفكار (أولا استنفار الحالة الشعبية، استنفار انشقاق في الجيش، استدعاء التدخل الأجنبي، ثم في مرحلة تالية:

مزيج من الحراك الشعبي وإرباك النظام بعنف بدائي، ثم أفكار عن عمل مسلح ما…)

ولكن منذ 30 يونيو، لو واحد قعد يمشي مع الإطار النظري البسيط في كيفية ترجمة المصالح العليا مرحليا بوضع هدف سياسي قابل للتحقق وترجمته لاستراتيجية متغيرة وقابلة للتحقق أيضا ومنتجة.. سيكتشف كارثية المسار وليس فقط فشله من أول نقطة.

 

السؤال الثاني: 

مقولة إن الاستراتيجية تخضع لبنية هرمية، وتقسيمها : ١- الاستراتيجية العليا ٢- استراتيجية الأمن القومي ٣- الاستراتيجية العسكرية الوطنية  ٤- استراتيجية مسرح العمليات

هناك التباس في الفهم الدقيق لاستراتيجية الأمن القومي وأيضا لاستراتيجية مسرح العمليات:

* في الكتاب يقول عن استراتيجية الأمن القومي: “يشار إليها أحيانا بالاستراتيجية العليا او الوطنية (هذا أول التباس)، وهي فن وعلم تطوير وتطبيق ادوات القوة الوطنية والتنسيق قيما بينها ( الدبلوماسية منها والاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية) لتحقيق اهداف تخدم الأمن القومي.

فماهو الفهم الدقيق للأمن القومي، وأيضا الفارق بين استراتيجية الأمن القومي وبين الاستراتيجية العليا؟

* في الكتاب عن استراتيجية مسرح العمليات: “فن وعلم تطوير مفاهيم استراتيجية متكاملة ووضع مسارات العمل الموجه نحو تحقيق أهداف السياسة الأمنية والاستراتيجية الأمنية لكل من الدول المعنية وحلفائها والأطراف المتحالفة معها، وذلك باستخدام القوة أو التهديد باستخدامها، أو بتنفيذ عمليات لا تتضمن استخدام القوة ضمن مسرح العمليات (!!؟)”

كنت أتصور استراتيجية العمليات بطريقة عملية أكثر تتعلق بمسرح عمليات محدد لمعركة محددة مصلا لو في اطار عسكري مثلا او غيره؟!

الإجابة:

بخصوص مراتب الاستراتيجية..

الأمن القومي هو حماية الوظائف الحيوية للدولة بمواجهة مايهددها..

ولهذا فاستراتيجية الأمن القومي تشمل الأخطار العسكرية وغير العسكرية، وباستخدام كل مصادر القوة للدولة (عسكرية أو غير عسكرية) بغض النظر عن قطاع العمل.

بمعنى – قد يتم الاستفادة بالأداة العسكرية مثلا في أدوار غير عسكرية ولكن خادمة للأمن القومي (مثلا الدور الديبلوماسي في التعليم العسكري الغربي، أو شركات السلاح أووو) – وقد يتم الاستفادة من قطاعات غير عسكرية في استراتيجية عسكرية (مكافحة التمرد بالأخص، أو التصنيع العسكري…)

الشق العسكري من استراتيجية الأمن القومي، هو الاستراتيجية الدفاعية.

في وقت الحرب (خصوصا الشاملة لأن كل مصادر الدولة ومقوماتها عادة تكون مسخرة لها)، نستخدم تعبير الاستراتيجية العليا أو الشاملة 

Grand Strategy

كبديل عن استراتيجية الأمن القومي، وهو استخدام كل مصادر القوة عسكرية أو غير عسكرية لتحقيق الأهداف السياسية في الحرب.

والشق العسكري نسميه هنا استراتيجية عسكرية

Military Strategy

استراتيجية العمليات، هو اصطلاح مستجد ، واستخدامه أمريكيا ملتبس.. لماذا؟

لأن الأمريكان يستخدمون لفظ (استراتيجية) ليصفوا به كل ماله علاقة بالجيش بأكمله.. حتى لو أداء عسكري صرف.

الاستراتيجية العسكرية لابد أن تربط بين المسار والنتائج العسكرية وبين الهدف السياسي..

أي مستوى يقتصر بالأساس على تحقيق هدف عسكري ما (حتى ولو على مستوى الجيش بأكمله) هذا يعتبر عملياتي.

لكن الأمريكان يسمونه استراتيجي.

هنا خلط بين الأداة (القوة المسلحة) والهدف (الأثر الاستراتيجي)، فتصبح الأولى تتحرك بشكل مستقل وغير واع بشكل كامل عن الثاني.

ولعلك الآن تدرك – كيف أن منظومة شديدة الضخامة والتعقيد كالأمريكي، تخوض حروبا كبرى كالعراق وأفغانستان، دون أن تفكر جيدا في البعد الاستراتيجي الحقيقي لها (الربط بين المسار العسكري والنتائج العسكرية وبين الهدف السياسي).. هل الهدف السياسي يقتضي هدفا عسكريا وحيدا وهو تحطيم القدرة العسكرية المضادة في ميدان الحرب؟

أم هناك مخروط واسع وجملة متنوعة من الأهداف الممكنة ولكن مايجعلنا نختار هذا أو ذاك هو فكرة استراتيجية ما.

فإذا أضفنا هذا الخلل الجسيم في النظرية الاستراتيجية عند الأمريكي، للفصل الوظيفي والإداري بين مستوى القيادة السياسية والقيادة العسكرية، حتى مع خضوع الثانية المطلق للأولى.. تتضاعف المشكلة.

وهذا مادفع بعض المنظرين إلى طرح فكرة راديكالية وهي إلغاء مستوى العمليات في الحرب (المختص بوضع الأطر النظرية والتطبيقية لحركة الجيش وأسلحته تحقيقا للأهداف العسكرية) .. وهذا مستوى استراتيجية العمليات.

لأنه في نظرهم أن التطبيق يجعل مستوى العمليات حائلا إداريا وواقعيا أمام الربط بين التفكير السياسي والتفكير العسكري.. هذا الربط هو بالضبط ماتقوم به الاستراتيجية.

والاستراتيجية هنا كما هو واضح لاتتحرك فقط من فوق لتحت، ولكن من تحت لفوق أيضا، عبر تباديل وتوافيق، وحوار دائم بين الخيارات العسكرية – وغير العسكرية – وبين الهدف السياسي.

أخيرا – التعريف المنقول عن كلية الحرب الأمريكية هو تعريف يمكننا فهمه إذا عرفنا أن استخدام (استراتيجية) في أوله (تطوير مفاهيم استراتيجية متكاملة) يُقصد به مفاهيم تضبط وتؤسس لحركة الجيش بأكمله وبمختلف أسلحته. بمعتى الانطلاق من وضع فن وقواعد للعمليات الأعلى.. (أي الأسلحة المشتركة)

Operational Art

ولكن إن قصد بها الاستراتيجية كما نفهمها، فهو تعريف خاطيء (هذا معتاد جدا .. ماتتخضش)ـ لأن هذا بالضبط هو دور الاستراتيجية الدفاعية (في وقت السلم)، أو الاستراتيجية العسكرية (في وقت الحرب)..

أيضا مثال:

توقفنا في المثال السابق، أن هناك استراتيجية تحرير شاملة للأراضي المحتلة 67 تبناها عبدالناصر.

السادات – مع القيادة العسكرية، أدركت أنه لايمكن هزيمة الإسرائيلي في حرب مناورة بسبب تفوقه الحاسم جويا (قدرته على سحق القوات البرية، والأخطر تهديد الجبهة الداخلية كرادع) وفي سلاح المدرعات..

ولهذا نشأت فكرة استراتيجية أن المصري لن يلجأ لتلك الحرب إلا إذا امتلك طائرات طويلة المدى وصواريخ طويلة المدى، بحيث تقوم بردع متبادل..

ولكن يبقى مسرح العمليات مكشوفا أيضا أمام التفوق الجوي وفي المدرعات.

هناك تطورت فكرة استراتيجية مبناها القيام بحرب تحرير محدودة (لاحظ هنا تغير الهدف السياسي المرحلي، عبر استراتيجية مواجهة محدودة ضمن مدى حائط الصواريخ (هنا يتم تحييد الذراع الجوي الإسرائيلي) وتعتمد على الانتقال السريع لساتر دفاعي (هنا يتم تحييد سلاح المدرعات)..

وهنا تم تعديل جوهري (وسليم جدا) لفن العمليات السوفيتي الذي كنا نتبعه يقول باستغلال الموجة الأولى لأجل تطوير سريع للهجوم باستخدام نسق المدرعات (النسق الثاني).

هذا التعديل في فن العمليات هل سببه تغير بيئة العمليات أو الشق العسكري الصرف، أم المنطق الاستراتيجي؟ الثاني طبعا.

ولكن كيف حصلت المشكلة إذن؟

لم يتطور التفكير الاستراتيجي المصري حينها ليضع لنا أولا كيفية الانتقال من الهدف السياسي المرحلي، للهدف السياسي العام (حتى المعدل بعد 67) وهو تحرير الأراضي المحتلة.. وهذا قاد السادات (بالإضافة لعنصر شخصي طبعا) أن يتخلى عن الهدف السياسي العام، وصولا لتغيير دور مصر الإقليمي (المصلحة العليا) بسبب إدراكه المستمر بتراكم الفشل (وعدم الإمكانية) من مستوى الاستراتيجية للسياسة للمصلحلة العليا.

وفوق هذا –  فشلت الاستراتيجية المحدودة، والتي حصل فيها لغط كبير أيضا حين تبنت الخطة الرسمية مسألة تطوير الهجوم حتى المضائق بمايخالف منطقها الأصلي في الدوران حول نقاط قوة الإسرائيلي، في حماية الهدف السياسي المعدل لثاني مرة (الوصول لتفاوض ضاغط على الإسرائيلي لتحرير الأرض المصرية).

وحتى مثال من واقعنا السياسي..

لعلك تذكر ماتحدثنا فيه، أن انخراط المجاميع السياسية في مسارات عمل احتجاجي أو تنافسي يظهر لنا كمسار عمليات..

ولكن التوظيف الاستراتيجي له، يؤثر على مفاهيم العمل الضابطة.

فهل هو انخراط لتحضير لثورة مثلا عبر رفع وتيرة التصعيد المطلبي وقد يشمل استفزاز النظام للقيام بخطوات تزيد معدل الاحتقان الشعبي؟

أم لدفع النظام لتنازلات سياسية وأمنية – وبهذا لابد من وضع خطوط واضحة وحدود دنيا للتفاوض وقصوى للتصعيد؟

أم لتطوير نخبة سياسية؟

أم لتطوير جبهة عمل وطني مشترك؟

فتحديدك للاستراتيجية.. سيضع لك مفاهيم عمل تتحرك بها (كاستراتيجية عمليات – وإن كنت لاأحب هذا المصطلح بسبب الخلط كما هو واضح)..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى