فكر استراتيجيقراءات استراتيجيةمقالات منوعة
على هامش كتاب الحرب لكلاوزفيتس – ذروتا الهجوم والانتصار
هل مايقصده كلاوزفيتس هنا ضمن النظرية العامة للحرب، أم يمكن فقط فهما تبعا لمُعطيات زمنه؟
-لكل اشتباك نقطة ذروة يُصبح عندها محسوما.
-وافتتاح اشتباك بعد هذه النقطة يُصبح بمثابة اشتباك جديد.
-غالبا ما تُضحي بقطاعات جديدة دون طائل باشتباكات فات أوان استعادتها.
كلاوزفيتس طرح مفهومين، وهما لايزالان صالحين للتطبيق في كل أنواع الصراع العسكري، إن لم يكن الصراع عموما.. نقطة ذروة الهجوم (ترجمتها بالاشتباك غير دقيقة)
Culminating Point of Offence
، ونقطة ذروة الانتصار
Culminating Point of Victory
بخصوص الأولى (نقطة ذروة الهجوم)، فبطبيعة الحال أن أي هجوم عسكري له مقومات داعمة ومُكونة.. مادية ومعنوية.. القطاعات العسكرية، – كأعداد وروح قتالية وقدرات بدنية، القيادة العسكرية كمبادأة نفسية ومادية، والتنظيم العسكري على المستوى التكتيكي والعملياتي، خطوط ومواد اللوجستيك (في الطعام والشراب والذخائر، وبنزين المعدات، والدعم الطبي، والصيانة…)، وفوق ذلك الجغرافيا الطبيعية والبشرية التي يتحرك فيها الهجوم في بيئة محببة أو محايدة أو مُعادية..
من المنطقي إذن أن لكل هجوم عسكري (طاقة احتمال) حتى يُستدام ويتطور من حيث التمدد الجغرافي، والوقت، والمهمة العسكرية المنوطة.. فالتخطيط العسكري السليم (بالحس العملياتي أو التكتيكي) لابد أن يُحدد مُسبقا ماهي نقطة الذروة في ذلك الهجوم (وبحيث يتم إبقاء زخمه حاضرا على قوات الخصم) بحيث تتوقف عندها.. وبالتأكيد – كما ظاهرة الحرب تشي – فكثيرا مايفرض الواقع العسكري والتطورات، تعديلا جوهريا – بما يحمله من فرص وتهديدات – على نقطة الذروة تلك..
فلابد أن يتحلى القائد العسكري بحساسية فنية ليدرك ماهية هذه النقطة وعوامل وعلامات الوصول لها، حتى في ظل التطورات الحاصلة.. وبصرامة نفسية – ألا يُغيرها تحت الضغط والرهبة بتقديمها، أو نشوة انتصارات تكتيكية أو عملياتية (وهنا يقترب المعنى هنا من مفهوم نقطة ذروة الانتصار) فيقوم بتأخيرها..
مايكل هاندل في دراسته الشهيرة (سادة الحرب) شرح وفصل في هذه النقطة كثيرا، وضرب لها مثالا توضيحيا مشهورا من حملة بارباروسا – (الهجوم الألماني على روسيا).. وكما نعلم فالمشكلة الجوهرية هنا هي تجاوز الجيش الألماني كثيرا، لنقطة ذروة الهجوم.. الطريف – أن حسابات هتلر وقيادته قبل الحملة – كانت شبه معقولة، طبعا أنا أحكي بالمعنى العملياتي واستدامة العمليات لوجستيا، وإلا فإن الحساب بالحس الاستراتيجي كان كارثيا.. ولكن هناك عنصر جوهري ترك أثرا وخيما على دقة هذه الحسابات: الشتاااااااء!
تجمد المعدات، وانسداد حركتها، والأثر على القدرة البشرية للقوات، وعدم جهوزية خطوط اللوجستك والإمداد والصيانة.. ووووو
وكل هذا ترك أثارا كارثية على مجمل عناصر القوة العسكرية..
بالتأكيد التفكير الاستراتيجي العسكري والعملياتي الأعلى بما فيه من أخطاء افتتاحية، وماأثرت عليه هذه الصورة البائسة التي أدت لها تجاوز نقطة ذروة العمليات، كان له أثرا متبادلا سلبيا عليها كذلك..
أعني عدم تحديد مركز الثقل العسكري – استرتيجيا وعملياتيا – واستدامة استهدافه: التحرك العبثي بين مركزية الجيش الروس – وموسكو – والقوقاز – والمدن الكبري (التي مثلت بالتالي منعطفا استراتيجيا وعملياتيا حادا لم يكن الجيش النازي مؤهلا له)، وكذلك التهوين كثيرا مما يُعطيه عامل الزمن كذلك (الذي طال للفشل والتعثر العسكري بالمقابل) للجيش الروسي من تطوير تعبئته وقدرته العملياتية للمواجهة..
وهكذا!
الخطأ في العناصر الافتتاحية للتخطيط الاستراتيجي والعملياتي مؤثر بشكل جوهري، ولكن كذلك – الفشل في قراءة المتغيرات البيئية وفي قوات الذات وبيئة الخصم – وماتفعله هذه المتغيرات على ركائز التفكير الاستراتيجي والعملياتي للحرب، يؤدي لتضاعف عوامل الخطأ والخسارة.. بحيث تتقافز بعيدا عن مُخيلتك أي فرص لإصلاح الوضع تدريجيا أو معالجة الفشل.
———————————————
فيما يتعلق بنقطة الذروة للانتصار.. فجزء منها ذكرناه بالأعلى، وهو أنك حققت قدرا من الانتصار العملياتي والتكتيكي (قد يكون بحد ذاته كافيا لمتطلب النجاح الاستراتيجي أو العملياتي على الترتيب)، ولكنك تتجاوزه، غالبا – لشهوة الانتصار التي تفتح شهيتك لاقتضام قطعات أوسع أو عدم وضوح لحجم وطبيعة ومستوى الانجاز العسكري المطلوب استراتيجيا، أو لسبب كآخر كما أمر السادات بتطوير الهجوم (14 أكتوبر) نحو المضائق بالرغم من النصيحة العسكرية الحاسمة للشاذلي ضد هذه الخطوة ومع إدراك السادات السليم – طبقا لفكرته الاستراتيجية للحرب ذاتها – أنه حقق المتطلب العسكري ببناء رءوس كباري ثابتة شرق القناة وتدمير القوات المدرعة الإسرائيلية وإفشال الهجوم المضاد يوم 8 أكتوبر، واضطراره لتلك الخطوة تسببت فيه سياسة تحالف مخادعة مع السوريين قبل الحرب بالالتزام بتطوير الهجوم لإبقاء الجبهة الجنوبية نشطة – كما فصلنا سابقة في الدورة.
نتيجة تجاوز نقطة ذروة الانتصار غالبا أمر من ثلاث:
1- نفس عواقب تجاوز نقطة ذروة الهجوم، بما يقود ليس فقط لإهدار قوات وموارد عسكرية دون طائل، ولكن قد تكون حجم الخسارة العسكرية ذات أثر استراتيجي كافٍ لعكس الطاولة. كما حصل في حرب أكتوبر.
فقد تدمرت القوات المصرية المدرعة مما أحدث فراغا عسكريا – كان من الصعب ملئه حتى انتهاء الحرب. وهذه القوات لم تتجاوز نقطة ذروة الهجوم بالمعنى الخطي اللوجستي – كما في وضع حملة بارباروسا مثلا – ولكن بالمعنى العملياتي والاستراتيجية العسكرية (فكرة استراتيجية الحرب ومنطقها العملياتي كان تحييد الذراع الجوي والمدرعي الحاسم لإسرائيل بالبقاء تحت مظلة الصواريخ، والتحول سريعا لدفاع ثابت مستقر ضد المدرعات، وعدم تعريض القوات للخطر الجوي أو لحرب مناورة بالمدرعات)
2- قد تؤدي لخسارة غير كافية لعكس الأثر الاستراتيجي.. ولكن يبقى الأمر خسارة بالمعنى السياسي، لأنك حققت نجاحا عسكريا واستراتيجيا بخسارة موارد وبشرية أعلى كثيرا من المطلوب
3- إهدار عنصر الوقت، وهذا له قيمة في تشكيل أثر استراتيجي حاسم على بيئة اتخاذ القرار عند الخصم.. حتى لو لم يقوم الخصم باستعادة زمام المبادرة والسيطرة العسكرية (كما فعل الإسرائيلي في العبور المضاد وحصار الجيش الثالث والسويس)، فالوقت هو أحد البيئات الاستراتيجية المهمة (كما أشار كولن جراي).. كثير من الإسرائيليين يقولون – ومعهم حق – أن حرب 2006 لو طالت حتى دخلت القوات البرية لاختلفت نتيجة الحرب عسكريا واستراتيجيا… وهذا صحيح.
العُقدة هنا – أن استراتيجية حزب الله بما أحدثته من آثار عملياتية واستراتيجية (إفقاد القيادة السياسية والشعب الثقة في القدرة على تحقيق الانتصار وفي الجيش، وإفقاد الشعب الثقة في القيادة السياسية، وبناء ضغط إقليمي ودولي على إسرائيل وأمريكا) حصلت بالضبط في 33 يوما!! هذا هو مساحة الوقت الذي -كإسرائيلي – لابد أن تنتبه لها وتستخدمها!! أنك في حرب ذات طبيعة خاصة.. ليست حرب صحراء معزولة، ولكن جزء محوري في بناء الأثر الاستراتيجي الحاسم لك أو خصمك هو أثر (نفسي) في مساحة من الوقت محددة!!
لكن نظرية دان حالوتس (الغبية) – رئيس الأركان – حول استخدام الضربات الجوية لأثر استراتيجي (ضرب الروح المعنوية الشعبية للحالة الشعبية والدولة اللبنانية المساندة للحرب) – قادت للعكس!، والأثر العملياتي الذي قصده: قطع أوصال السيطرة والقيادة على التشكيلات المقاتلة بالجنوب، وضرب مواقع إطلاق الصواريخ وتحديدها.. غفلت عن البناء العسكري والعملياتي الذي اعتمده الحزب قائما على اللامركزية، حتى بمعناها اللوجستي، واعتبار قطاع الصواريخ قطاع عملياتي مستقل له أدوات إخفاء وتحريك لحظية!
الخلاصة .. أن المفهومين هما من أهم إبداعات كلاوزفيتس في النظرية الاستراتيجية، وفي اعتقادي هما من المفاهيم الاستراتيجية التي لاتتغير بالسياق الزمني والجغرافي، وقابلة للتطبيق في كل أنواع الحروب، وحتى في كل أنواع الصراع – بما فيها أشكاله السياسية والاقتصادية!
رائعه بكل المقاييس يادكتور محمد
أكرمك الله أخي العزيز