على هامش كتاب (عن الحرب) لكلاوزفيتس – الحدس واللمحة الخاطفة في باب السياسة
الامتنان للصديق العزيز مصعب السيار على الاجتهاد في تفريغ هذا الحوار الصوتي
كلما احتدم النقاش حول بقاء أو انهيار النظام المصري، أو حتى النقاشات في القضايا الدولية السياسية يتبادر للذهن مسألة شديدة الأهمية بالنسبة لي -والحقيقة شديدة التعقيد في نفس الوقت- وهي مسألة الحدس- اللمحة الخاطفة
Coup D’Oeil
التي أعارها كلاوزفيتس اهتماما شديدا وجعلها من أهم النقاط الفاصلة بين العبقري
Genius
وغيره وأنها أحد الخصائص الأساسية في القائد على مستويات الحرب المختلفة (التكتيكي العملياتي والاستراتيجي)..فمع كلامه عن دور النظرية في تثقيف عقل الاستراتيجي وإلقاء الضوء على مكونات الظاهرة وفصل الحقائق عن اللغط..الخ إلا أنه في النهاية جعل مناط الأمر متوقف على الحكم الشخصي وأن هذا الحكم في ظل فوضى الحسابات هذه متوقف على هذه الصفة، أي الحدس
لكن اهتمام كلاوزفيتس كان ناحية الحرب بينما أتساءل أكثر حول دور هذه الصفة في المسائل السياسية؟! خاصة وأن كلاوزفيتس ذكر زيادة الإعتماد وأهمية هذه الموهبة كلما صعدنا في الهرم الاستراتيجي والذي أعلاه السياسة. وهل مر بك مثلا موقف ما كانت الحسابات المنطقية فيه توحي بشيء بينما تشعر داخليا بأن الأمور ستسير عكس هذا المنطق رغم كونه غير ممسوك أو ملموس؟
أولا: الحاجة إلى الحدس أو ال
Coup d’œil
تزيد في البيئة السياسية أكثر من بيئة الحرب.. تخيل!
كلما كان المجال المعرفي والتطبيقي تقل فيه حدود النظرية بالفعل وتغيب عنه مساحة القواعد
grammar
كلما كان هناك استدعاء أكبر للحدس وال
trained intuition and creativity
، حتى مع كون هذا الحدس مبني في جزء كبير منه على التطور النظري والإدراكي قبل الخبرة..
والحقيقة ما أراه خاصة من تجربتي الشخصية أن البيئة السياسية أعقد بكثير وأكثر تفلتا واستعصاء على قدرة النظرية على التفسير والصياغة من مجال الحرب؛ فعلى الأقل في الحرب ،في الشق التكتيكي والعملياتي على الأقل، هناك ما يسمى بقواعد الحرب
grammars of war،
و لكن في المجال السياسي الواسع تندر فيه هذه القواعد.
أما العلاقة بين النظرية والحدس، فالأخير جزء من تكوينه يكون بالنظرية، والإشارة لهذا هي أهم إبداعات كلاوزفيتس، وكون النظرية توجّه التأهيل والخبرة الذاتيين للقائد والاستراتيجي
(Praxis)
، أكثر من كونها توجّه بشكل خطي اختياراته
(practice).
والنظرية بنظرة كلاوزفيتس ليست -كماهية ابستمولوجية أو دور – كالعقيدة أو المذهب
doctrine
– أو النظرية الوضعية
positivist
، التي تسعى لوضع علاقات سببية جامدة يُتخيّل قدرتها الجازمة على التفسير فضلا على التنبؤ – كما هو منتشر في العلوم السياسية المعاصرة، ولكن كونها منتوج من التفكير المنطقي المُتلاقح مع التحليل النقدي للحالات التاريخية والواقعية، وتبقى منتجا غير مكتملا بحيث يتفاعل معه القيادي والاستراتيجي عبر خبرته الذاتية تمحيصا ونقدا.. وعمليا – بالضبط كما أشار كلاوزفيتس – تُنمّي القدرات الذهنية والنفسية للاستراتيجي أو المفكر أو القائد لأجل استيعاب البيئات والتطورات الممكنة فيتعاطى معها في التفسير والتحريك بدرجة أعلى، ومن هنا فالعلاقة مركبة ومتداخلة كذلك. النظرية هامة (ولكن بالمنطق الذي حكينا عنه)، وكذا التجربة الذاتية والحدس – وبينهما تفاعل مستمر.
والحقيقة، أن قناعتي بما سبق مبكرا، لم تكن من بنات مخيلتي وتجربتي، ولا حتى بعد دراستي لكلاوزفتيس، ولكن تعود لاحتكاكي الكثيف منذ الصغر بأصول الفقه، والعلوم المرافقة ك القواعد الفقهية، وتخريج الفروع على الأصول، والمقاصد. فمن أهم مايستقر بالذهن، قيمة مايُسمّى بالملكة الفقهية (وهي صفة تنقدح في نفس الفقيه فتكشف له مساحات في الاجتهاد والتأصيل والتفقه).. وقيمة أصول الفقه والعلوم المرافقة له – ليست في التوجيه المباشر لخيارات الاجتهاد والتفقه، ولكن تطوير الملكة الذاتية تلك. هذه مسألة جوهرية تجدها في كتابات أصوليينا (الشاطبي والسيوطي والمقري والرازي وووو ) قبل كلاوزفيتس بقرون. وفوق ماتُضفيه علينا من اعتزاز بتراثنا، فهي تؤكد تلاقح وتضامّ خطوط المعرفة الإنسانية على اختلاف طبيعة العلوم والأزمنة. (وبالتأكيد فحين نحكي عن الخبرة الأصولية والفقهية التراثية، فنحن نقصد تجربة إنسانية وليس وحيا معصوما).
النقطة الثانية: هي مركزية الانطباعات والتحيزات والحالة الذهنية والعقلية
mind-set
للأطراف (أفراد وقوى) في فهم وتفسير والتعاطي مع الظاهرة البشرية.، أكثر من أي قواعد عامة أو علاقات سببية دون تسييق.
إذ أن هناك مشكلة في جزء كبير من العلوم السياسية المعاصرة والتنظير بمعناه السلبي –الذي يرفع النظرية بغض النظر عن مدى الثراء التحضيري والرصدي ووالتحليلي والتمحيصي في بنائها – لمنزلة القانون ويجعلها حاكمة على السياقات لا مُفسرة بها!
هذا ليس فقط يمثل مصادمة منهجية للحقيقة ابسبتمولوجيا وتارخيا وواقعيا، ولكنه كذلك يُمثِّل عائقا أمام الخيال السياسي والاقتراب الدقيق والمعمق لفهم المشهد، ولو أردت دليلا على ذلك انظر لما كان يقوله معظم المختصين في العلوم السياسية من جميع التيارات قبل وأثناء وبعد ثورة يناير.
على المستوى الشخصي، فعلا مررت بهذا الذي تحكي عنه كثيرا جدا.. ولعلك لو نظرت في معظم ما كتبته سواء عن المسار العام أو الأحداث الآنية (مقالات، أو الخط الزمني للفيس منذ أن فتحته في يونيو 2011، وحتى أغلقته في 2013) قد تجد توفيقا من الله في الأصابة في جلها سواء في التوصيفات أو السيناريوهات والترجيح بينها.
راجع مثلا حصرا محدودا لبعض هذه القراءات في وقتها
مراجعة للتطور السياسي المصري مابعد ثورة يناير، ومنطق الحركة استراتيجيا
هههه – حتى أن قصار النظر والورع اتهموني أحيانا أني بالتأكيد على علاقة بالمخابرات لأني (أقول مايحصل وهذا لايتأتى إلا من معرفة مُسبقة بحكم الصلة وليس تقديرا وتحليلا)!
وأتذكر مناقشة مع أستاذ في العلوم السياسية واستغرابه عن كيفية الوصول لهذه القراءات. الحقيقة – بالتأكيد توفيق الله لمن يُريد حاضر وحاسم، وأكيد أن الدرس والتهيؤ العقلي والخبراتي له دور، ولكن الأمر به لفتة منهجية في بابنا.
أخبرته حينها: أن المدخلات النظرية لديكم –بغض النظرعن مسألة الفن والحدس المثقل بالخبرة- هي مدخلات خاطئة وبالتالي منتوجاتها كذلك. وهناك فارق بين فهم المداخل الاجتماعية والسياسية على وجه العموم والتجريد، والمحاولة المتعنتة في اشتقاق قواعد وعلاقات سببية عامة لها – وفي الأغلب تُعاني من عوار شديد، وبين تسييقها واستيعاب موازين القوى والتفضيلات preferences
والتحيزات الشخصية والجانب البشري والنسبي. وهذا الأخير قليل جدا في تركيبة ومنتوج العلوم السياسية المعاصرة أو على الأقل تيارها الغالب، مع أنه الأكثر تأثيرا في التعاطي الواعي مع الواقع السياسي وتفسيره واستشرافه. فتأمل!
ولهذا تجد أن من يتحرك بهذه المنهجية الوضعية –تقنين العلوم الإنسانية بقواعد ومنطق وطبيعة العلوم الطبيعية- غالبا ما يفشل في التعامل مع الواقع السياسي، ويصل لحالة الخرق أحيانا حين يحاول تفسيره أو استشرافه؛ لتغافله عن النسبية والغموض واللامنطقية ومدى عمق التحيزات النفسية والفكرية من ناحية، ولإهداره العنصر الأهم وهو السياق والنسبية البشرية في التحيزات والقراءات – وليس ال
rational actor malady
الذي تعاني منه العلوم السياسية – أي افتراض أن الأفراد والمؤسسات دائما ماتتحرك بخيارات وقراءات منطقية!، وفوق هذا – ضعف الصلابة الذهنية والنفسية حين ينصدم بمفارقة الواقع لاشتراطات النظرية الصلبة.
على المستوى الشخصي ما كان فارقا بشكل حرج:
أولا وبطبيعة الحال كانت للدراسات الاستراتيجية قدر في التهيئة الإدراكية في التعامل مع الواقع السياسي أكثر من الخط العام للعلوم السياسية كما أسلفت. ولكن الأهم كانت الخبرة عن أهم الأطراف التي صنعت المشهد وأثرت في المسار العام.. وهي الاخوان والجيش والطرف الخارجي خاصة أمريكا، فهؤلاء الثلاثة كنت –بحكم تجربتي الشخصية البحتة- كثير الاحتكاك بهم وأفهم بقدر معقول ال
mind-set
ومخططهم النفسي والمؤسسي..الخ
كخلاصة – يمكننا القول ان البيئة السياسية تعتمد ويزيد فيها دور الحدس أكثر من الحرب بغض النظر عن كون الحدس يحتاج للنظرية في تطويره. والنقطة الثانية هي مدى خطورة ومركزية مسألة التحيزات والتفضيلات الشخصية والتي لا يمكن تأتيها بشكل سليم دون الخبرة صحيح؟
لكن هناك نقطة أخرى، هل معرفة الطباع تشترط التواجد في (احتكاك مباشر) مع الطرف الآخر في المعادلة الاستراتيجية؟ أم يمكن الاستغناء عنه بالتقارير الاستخباراتيه أو قراءة المذكرات والتاريخ والدراسة النظرية..الخ؟ أم أن التجربة في ذلك كما في الحرب لا غنى عنها؟ شخصيا أشعر أن لهذا الاحتكاك المباشر والخبرة أثر نفسي ، فهناك فارق في أن تتواجد المعلومة عن شخص ما لديك في كتاب أو تقرير ما وبين الاحتكاك فينشأ (أثر نفسي ما) هذا الأثر يستصحبك أثناء التعاطي مع دينميات وديناميكية الوسط الاستراتيجي وتصير محملا به، أي أنه يصبح انطباعا وليس معلومة
أولا هناك نقطة تفشل فيها العلوم السياسية حتى تلك التي تعتبر الجوانب البشرية وتتعامل بشكل أقل وضعية وهي أنها –بشكل كبير- تنظر حول المأسسة والسياقات والقواعد المعيارية الناظمة للسلوك السياسي ومنتوجاته، دون التركيز على موازين القوى التي تحسم بشكل كثيرا القدرة على تنزّل هذه القواعد وتفسيرها ابتداء.
خذ مثلا ثورة يناير ومابعدها، نعم مهم استيعاب محركات سلوك الأمريكي والجيش والإخوان وبقية الأطراف، ولكن موازين القوى التي تنشأ تدعيما وأخذا من هذا الطرف أو ذاك، تؤثر بشكل كبير على هذا السلوك. فكان أهم مايشغل بال الجيش هو إنهاء الحراك الشعبي ومنعه أن يؤسس لرأس حربة وطنية – لم؟ لأنه سيقلل كثيرا من قدرته على الممانعة وصياغة نظام مستقر يتواجد فيه قدر من الوصاية العسكرية بحد أدنى، وطرف مدني موالي أو تابع فوق ذلك. وكذا عند الإخوان.. وموازين القوى تلك حين اختلت في محمد محمود، دفعت الجيش للتراجع وقرر تسليم السلطة في يونيو 2012، بدل 2013 كما قبل الإخوان حتى بذلك، وكذلك حين اختلت بشكل كبير في 2013 وصولا ل 30 يونيو.. بمعنى – كما نعى هيكل على النضال العربي في أروقة الأمم المتحدة قبيل قرار التقسيم 1947 أنه تعامل بشكل حِرَفي قانوني مع المسألة، وليس صراع دولي وإعادة ترسيم موازين القوى، فهذا يصم كثيرا من المنظور الأكاديمي للعلوم السياسية في الملفات الداخلية.
لكن النقطة الأهم هنا، وهي الخلاصة: لتكون قادرا على تفسير الظاهرة السياسية واستشراف السيناريوهات الممكنة وردود الأفعال، فعليك أن تنظر للفاعلين من حيث التفضيلات والتحيزات والحالة الذهنية وتفهم كيف يفكرون ويتحركون، أو على الأقل تقترب بشكل كبير من ذلك.
Put yourself in their shoes
، كما يقول الانجليز.. دون أن تكون مقيدا بحدود من النظرية –الوضعية- التي تحاول حصر الواقع عُنوة تحت حدوتها، وبشكل أوسع كثيرا من قدرتها وسطوتها – مهما تخيل واضعوها ذلك.
والمشكلة فعلا في هذا المنحى المعرفي، أنها بدلا من الانشغال بالنظرية التي تزيد من فهمنا بطبيعة الظاهرة تنشغل أكثر بوضع علاقات سببية
causal links
وتتخيل سهولة وضع
Independent variables
(أسباب مستقلة) رغم أن ذلك في الظاهرة الانسانية عزيز جدا. فكثير من هذه العوامل لايمكن رؤيتها فضلا عن تعييرها كميا (أمور كالخوف والرغبة والمصلحة الذاتية للسياسي، والهوس الأيديولوجي وإرادة الممانعة والسعي نحو المثال أو الحضيض القيمي، ووو)، وكذلك – هناك غالبا عوامل متشابكة وبينها علاقات معقدة خلف أي فعل سياسي. وذلك نفس ما كنا نذكره في الحرب فكيف بظاهرة السياسة الأكثر تعقيدا ؟!
وكما في المقال أعلاه عن (مراجعة للتطور السياسي المصري) ، محاولة إدخال الواقع تحت النظرية قسرا هو عبث، لأنك لن تجد نموذجا نظريا وحده كافيا في تفسير الربيع العربي وثورة يناير مثلا..فدائما ما تجد ذلك الشخص الذي استقرت عقليت وذهنه على أنماط نظامية وتفكير خطي مرتبط بنسق تنظيري ما..تجده يعجز ويفشل لاتساع الواقع السياسي عن هذا المنظور الضيق.
ولو كان الاهتمام – كما دعى كلاوزفيتس – هو حول تعميق الفهم بالظاهرة والأنماط العامة أو القوانين العامة للحراك السياسي أكثر من وضع علاقات سببية وحتى عند وضع هذه العلاقات السببية تتعامل معها بتحفظ شديد جدا ولا ترفعها لمرتبة القانون ولكن فقط الخيارات التفسيرية المرجحة، أعتقد كان الوضع ليكون أفضل. لكن فعلا هناك مشكلة إدراكية في العلوم السياسية كما أوضحت.
أما النقطة الثانية فهي مهمة كذلك. كما في الحرب، فالتجربة المباشرة مسألة حيوية خصوصا أننا لا نحكي حول علاقة التجربة بالنظرية العامة، التي تقارب ظاهرة ما على امتداد واختلاف وتنوع الأزمنة والممارسة البشرية، ففي الأخير علاقة التجربة بالنظرية العامة لها محدودية شديدة. اذ أن تجربتنا في بيئة وسياق ما لا تكفي لصياغة واختبار وتمحيص فرضيات تصلح لنظرية عامة! الأخيرة تحتاج لخوض تجارب عديدة تتجاوز عمرنا البشري. لكن مثلا لو ستتكلم عن الاسرائيلي لخوضك حربا معه وبعد معرفتك بالأنماط العسكرية وغيره فابالتأكيد التجربة تفرق (بمعنى تسييق النظرية العامة، أو وضع نظرية محدودة أو طوبوغرافية – مع مراعاة ماذكرناه عن طبيعتها ودورها سابقا).
لكن كما انه في الدراسات الاستراتيجية وفكرة الحرب، أحيانا ما يستعاض عن التجربة بالتطور النظري وفهم الحالة والاستخبارات عن البيئات الاستراتيجية..الخ إلا أن وجهة نظري أن التجربة لها تأثير مختلف، وهذا موجود حتى في الخبرة الطبية على سبيل المثال، فمهما قرأت عن المرض –الطرف أو الفاعل الآخر في المعادلة هنا- وأصبح لديك قدر كبير من الثقافة والمعرفة عنه، لكن رؤيتك له متجسدا لها فوائد كثيرة جدا ليس فقط فوائد معرفية وتطوير الإدراك لطبيعة وتفصيلات التجربة.
لكن أيضا هناك البعد النفسي!! فهو يعطيك هذا الاستقرار النفسي الذي يدفعك للتخيل بشكل سلس. تخيل مثلا بلدا لم تذهب إليها سابقا غير أنك قرأت عنها كثيرا، ستجد دائما ما هناك حاجزا نفسيا يدفعك أمام وضعك تفسيرات وانطباعات قبل ان تعاينها بنفسك بملامحها وتفصيلاتها المباشرة فأنا أري أن التجربة مهمة. طبعا أحيانا كثيرة تكون التجربة غير ممكنة فتستعيض عنها بالتطوير المعرفي والمهاري ولكن هذا سيكون بالتأكيد أدني من التجربة. وأنا أري أننا عندما نتكلم عن ظواهر بهذا الزخم والتعقيد فلابد فعلا من تجربة.
وبالفعل كلامك عن الجانب النفسي أراه سليم لكن لابد أن ننتبه أن هذا التأثر أحيانا ما يكون سلبيا من حيث تحملك لبعض التحيزات والمواقف النفسية تجاه هذا الطرف أو الظاهرة بحيث تعيق تحررك الادراكي في التفسير، لكنه تقابله ايجابيات مثل إمدادك بالشجاعة التحليلية والقدرة على التخيل بجانب تعميق الخريطة الادراكية والمعرفة الخاصة بك كما أسلفت.
بالنسبة للنقطة الخاصة بالمشكلة الادراكية في العلوم السياسية كنت طالعت مقال ستيفن والت :
ولفت انتباهي في مسألة الممارسة في السياسة الخارجية الأمريكية انها صارت أسوأ في فترة الطبقة المحترفية التي تعلمت وصارت أكثر ثقافة في الشؤون الدولية من (المنشأة الشرقية” القديمة، مثلما تجسدّت في مؤسّساتٍ على غرار مجلس العلاقات الخارجية، ومجلس “رجال الحكماء” من أمثال جورج كينان، دين أتشيسون، جون ماك كولي وغيرهم من الذّين لعبوا أدواراً أساسيةً في إنشاء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكن، ومع خبراتٍ قليلة، لم يكن أيّاً من هؤلاء يحظى بتدريبٍ عالي المستوى في الشؤون الدولية.) وفي النهاية أوصى والت بأمور مختلفة وأكد كثيرا على قراءة التاريخ وفهم الثقافات والمعرفة عن تحيزات الآخر…بينما في داخلي شعرت أن المشكلة في المقاربة الابستمولوجية نفسها للدراسين في الشؤون الدولية والتي أعاقتهم كما ذكرت حضرتك أكثر من مساعدتهم بخلاف الحرس القديم كما أسماهم
تقريبا متفق مع كلامك وكذلك مع كلامه. ونحن يجب ان نفهم سبب توصيته بالتاريخ ومعرفة الثقافات وذلك لمعالجة المشكلات الناجمة عن الطريقة المعتادة في دراسة العلوم السياسية ومنهجيتها والجانب الابستمولوجي فيها.
بمعنى آخر، هو ينتقل من الوضعية للنسبية ومن جانب المطلق في النظرية لجوانب العلائقية والغموض ..الخ أي يتعامل بشكل أكثر أنسنة
more humanised
، بجانب الفائدة الجوهرية في معالجة خلل كبير لدى الكثيرين منهم في مسألة فهم السياقات والتي يتجاهلها تيار كبير ويكتفي بالنظرية.. ويتعبر أنها قادرة على تفسير كل السياقات دون أن ينتبه ان هذه السياقات هي عنصر حاسم جدا في فهم الظواهر والتعاطي معها من النظريات المجردة بما في ذلك النظرية العامة..فحتى لو هذه النظريات صحيحة فجزء كبير من تنزيلها مرتبط بالحالة الموجودة فهذه النقطة نظريا صحيحة.
لكن هناك نقطة أخرى هامة وهي أن هذا الأكاديمي أو المهني الحائز على خبرة أكاديمية في العلوم السياسية، حتى عندما يأتي خام لكنه لا يظل على هذه الحالة ! ففي النهاية هو يتعرض للتطور و(الصدمة) فيبدأ يتعلم ويحاول التغيير. وأنا فعلا احتككت بكثير من الانجليز بالأخص –الامريكان أقل في هذه النقطة- ووجدت أنهم مع الوقت يبدءون في الاقتراب من هذه المسألة. وهذا نجد فيه أمثلة مثل كولن جراي وبرنارد برودي وكسينجر، فكثير منهم ما يتعرض لهذه الإفاقة وأحيانا مبكرا ولذا الأمور ليست بهذا الحسم.
ختاما هل نجد اهتماما كبيرا بتجنيد المحليين سواء في الاستخبارات أو المراكز البحثية وحتى في الأجهزة الدبلوماسية بسبب ما للخبرة من أهمية في فهم وسبر أغوار الفاعل البشري بتحيزاته وطباعه وكذلك القدرة على التفاعل معه ببنيان نفسي راسخ؟
أكيد وهذا معروف. فأولا تقدّم الأفراد المحلية معلومات في أمور تفصيلية صغيرة لا تنقلها التقارير الاستخباراتية بالطرق الروتينة أو الآليات الإجرائية المنتظمة، وهذه التفاصيل تكون لها قيمة في فهم محركات أفعال الأطراف وتفسيرها وردود الافعال وغير ذلك. .
لكن النقطة الثانية أنه في مستويات الإدراك الانساني تجد أن اللغة التي نتكلم بها، لغة البحث والعلم والنظرية وحتى لغة الاستخبارات، هذه اللغة المقرؤه لها قدرة محدودة في الوصف والتفسير . فهناك جزء كبير من سيال الفهم والمعرفة لا تنقلها اللغة بينما تجدها في التعامل المباشر. وهذا عندنا في الطب حتى في ال
trained intuition
، كيف يتأتي هذا التدريب؟ هناك فعلاجزء كبير من المعرفة المطلوبة لا يمكن قسرها وسحبها تحت اطار لغوي معين!! أشبه بالسيال الغير مرئي، كما في مشهد فيلم
avatar
عندما يصل لشجرة المعرفة ويتوصل معاها ليصل لروح الكون.
وحتى في الناحية العسكرية. لماذا يجب أن تتواجد القيادات في الحدث؟ ليس فقط لتجنب الهدر والفجوة الزمنية
time lag
وانما لأمور من هذا الجانب حيث معرفة وفهم الحالة والذوبان فيها والذي يصعب جدا الوصول لها دون التعامل المباشر والتعاطي البصري دون واسطة. ولذلك كان الإسرائيلي مشهور بذلك مثل دايان وشارون، فكان يذهب القائد بنفسه بما في ذلك من مخاطر أمنية. ورغم أن القيادات العربية كانت أيضا تذهب لمناطق الاحتكاك المباشر إلا أن ذلك كان غالبا للتجييش وتعبئة الروح المعنوية – مثل حالة الشهيد عبد المنعم رياض عندما استشهد على الجبهة بطلقة مدفعية. وهنا تتسائل وتتعجب عن سبب الذهاب هناك؟ وصحيح أنه ربما كان هناك سبب تعميق الاستطلاع والحدس القيادي عند العرب، لكني لم أشعر أنه نمط واضح.
ومجددا أؤكد على مسألة التحرير العقلي من كثير من القيود، ويجب الانتباه فيها إلى نمط العقل وقدرته على التخيل، التخيل الواع وليس التخيل في الفراغ. عندما تكون بمثابة أعمي تجاه هذه الجوانب والمشاهد، تصبح هذه القدرة مكبلة بكثير من الغموض والشك والقلق والتوجس. بينما يذهب جزء كبير جدا من هذه السلاسل عند الاحتكاك بالتجربة. قارن في ذلك بين التحرك في الظلام والنور.
وأخيرا، فيما يتعلق بمسألة الغموض وعدم القدرة العقلية على التحرك بالشكل الأمثل، هو ما تضيفه النظرية الاستراتيجية من تعود على العيش في بيئة الغموض فيتعامل الاستراتيجي مع الغموض كأنه بيئته الأساسية. وللتقريب بشكل معاكس للمثال السابق- ماذا لو كان من في الغرفة المظلمة شخص أعمي فعلا اعتاد على التعامل والحركة؟ حينها لن يكون فقط أكثر حذرا على إطلاق الافتراضات وانما أيضا في عدم الاستغرق في الصدمة عندما يتفاجأ بخلاف افتراضاته، فيعدّل صكها بسرعة ومناسبة، وهذا عينُ الملكة القيادية على التعاطي مع المجهول.
تعليق واحد