تحليل استراتيجي
أخر الأخبار

في استفهام الاستراتيجية العسكرية الروسية


https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d9%81%d9%87%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84

كما قال كلاوزفيتس قديما، “فإن أول وأعلى تقدير – والأكثر إحاطة – الذي ينبغي أن يصل له القائد السياسي والقائد العسكري يتعلق بطبيعة الحرب التي يريدان شنّها (بفحص مدى خدمتها للغرض السياسي منها)، كي لايخطئا في هذا، أو يحاولا تبديلها لشيء آخر مغاير لطبيعتها. هذا هو السؤال الأول والذي يسبق ماعداه في الاستراتيجية”.

وهي تدخل أسبوعها الرابع، تبقى الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا مصدر جملة من الإشكالات. روسيا اختارت مسار التصعيد الشامل عسكريا ضد أوكرانيا بنسق إحاطي من الأطراف واستهداف مبكر لكييف من الشمال على جانبي نهر دنيبرو. الهدف السياسي الواضح أنه محاولة لتغيير بنية النظام السياسي في أوكرانيا، وعلى الأقل تغيير سلوكه السياسي فيما يتعلق بقضيتين جوهريتين: منع التوجه غربا بالأخص الانضمام للناتو وبدرجة أخرى الاتحاد الأوروبي، وكذلك استيعاب معتبر للدونباس داخل الإطار السياسي والدستوري – بنسق فيدرالي – وكذلك ثقافيا واجتماعيا، وبالتأكيد الإقرار بتبعية القرم لروسيا.

المأزق الأكثر مباشرة، أن سلوكها العسكري في الأسبوع الأول ليس فقط قاد لجملة من الخسائر على المستوى العسكري ؛ بل والاستراتيجي. مهم تذكُّر أن الخط الاستراتيجي العام لموسكو بعد صحوتها في الألفية كان فعالا بشكل كبير في حماية أمانها الدفاعي في محيطها القريب
Near Abroad
، وتمثّل في تطوير البنية العسكرية (بالأخص مشروع التحديث العسكري الذي بدأ في 2008 بعد أداء تكتيكي متواضع في جورجيا)، وفي ذات الوقت – مسار يدمج ما بين الديبلوماسية الإكراهية والردع التقليدي (تهديد واستخدام محدود ورمزي للقوة العسكرية التقليدية مع قفزات عسكرية محسوبة كما في جورجيا والقرم) للتأثير على السلوك السياسي للناتو وأطرافه المحلية، وحرب معلوماتية وتموضع ديبلوماسي يهدف لتفكيك وحدة الناتو بما يشمل تعميق الخرق الحاصل به وتسهيل تحوّل أنظمة حكم في دوله لأنظمة (التيار اليميني المتشدد) تكرس العزلة الوطنية على حساب تمتين التحالف، وبقاء وتحسين وتوظيف الردع النووي لكفح مستوى التصعيد
De-escalation.

لكن طبيعة المأزق الاستراتيجي الحالي تتلخص في نقطتين:

أولا) محدوديات خيارات العمل العسكري التي كانت متاحة أمام الروسي ابتداء وتناولناها في مقال (تعقّب استراتيجي للأزمة الأوكرانية: مأزق ومحدودية خيار الحرب)، ليس من حيث قدرته العسكرية على إنفاذها، ولكن فاعلية هذه الخيارات في تحقيق الأثر الاستراتيجي والسياسي المنوط بها؛ فإن التعثر العسكري يزيد التورط الاستراتيجي الروسي إشكالا!
سواء: أ) احتلال الدونباس وتوسعة نطاقها الدفاعي والذي سيدفع أوكرانيا للناتو أكثر، أو ب) مزج ذلك بضربات عسكرية (جوية وصاروخية وكوماندوز عقابية) للضغط السياسي على نظام كييف وقد يعطي ذريعة للتصلب السياسي الذي يؤدي لتصعيد عسكري بثمنية عالية وتفاقم العزل الاقتصادي والدولي لروسيا،  ج) الحملة العسكرية الشاملة التي تقصد احتلال كييف وإسقاط نظامها وزرع نظام موالي) والذي ليس فقط سيورط الروسي في احتلال عالي التكلفة وتطوير حرب مقاومة ضدة، بل يقدم للناتو فرصة لإعادة الحشد السياسي والشعبي تقدِمة لتغيير بنيوي في تطويره كحلف دفاعي كموارد وتوظيف وعنوان مشروعية وتكريس تفكك وتشقق الناتو كان في مركزية الخيار الاستراتيجي الروسي طيلة العقدين الفائتين.  نعم – المنتوج الاستراتيجي يعتمد بالأساس على التقابلية بين طرفين الصراع كما أشرنا في مقال (خيارات روسيا والناتو)، والناتو قد يعجز عن انتهاز الفرصة لتطوير بنيته ووضعه في أوروبا بشكل يقلب طاولة الصراع لصالحه، ولكنه على الأقل – حتى اللحظة – نجح في عزل روسيا، وتطوير بنية وقدرة المقاومة المسلحة الأوكرانية لإدماء الروسي في هذه المرحلة وما قد يعقبها من احتلال سيتم جعله بثمنية عالية.

ثانيا) الخسائر هنا ليست تكتيكية بالأساس، ولكنها – حتى باعتبار خسارة روسيا للفضاء الشبكي والإعلامي والذي كان عنصر تميز في المسار الروسي السابق وما فيه من مبالغات تخصم من كفاءة الجيش الروسي– فالصورة الردعية لروسيا كقوة سياسية قادرة على المبادأة الحاسمة
 Aggressive Initiative
لتفعيل الأدة العسكرية الكفؤة – ضمن خيارات القوة الشاملة – قلّت كثيرا. وفوق هذا – تصاعد الضغط الاقتصادي الخانق،

التفسير الظاهري ليعض جوانب التعثر العسكري تكتيكيا سهل نسبيا، فالتمدد العسكري كان عبر وحدات متناثرة من الدروع بخطوط ضيقة ونمطية
Methodical
، أثّر غياب وحدات المشاة المساندة والدعم الجوي أو مضادات الطيران بشكل واقعي على أمانها
convoy security
، وهذا قاد لخسائر واسعة في المعدات والأفراد بضربات جوية وكمائن. هذا المشكل تفاقم بالطبع تبعا لتنامي القدرة الأوكرانية على هذا النمط بفعل طبيعة الدعم العسكري في المعدات والخبرة من الناتو كما سيأتي.
كذلك ظهرت مشكلة اللوجستيك (عدم شق واستدامة خطوط دعم معقولة بالأخص في الوقود)، وضعف للروح القتالية عند قطاع من الجنود.

لكن وإن كانت هذه تبدو مشكلات تكتيكية، فهي بالأساس انعكاس لمشكل عملياتي :

أولا) في تشكيل وتوظيف مسارات الفعل العسكري
force structure and employment.
لأن المشكلة التكتيكية تلك تشمل جلّ القوات المشاركة في الحملة. كذلك – غياب منطق الأسلحة المشتركة بالأساس هو مشكل عملياتي.

ثانيا)  بعد تفعيل جيد للقوة الجوية والصاروخية في استهداف الرادارات والدفاعات الجوية الأوكرانية أول يومين، حصل شبه كمون للقوة الجوية الروسية (حوالي 300 طائرة حواليْ أوكرانيا) وتقاصر عن استكمال تحقيق السيادة الجوية أو الدعم التكتيكي.

ثالثا) ثم مشكلة التعامل مع المدن ومسارات العمليات
lines of operations
، وهي من أهم بنود التصميم العملياتي المُفترض للحملة
Operational design
؛ ولكن عدم وضوح منطق التوظيف الاستراتيجي لها يجعل المشكلة أكثر تعقيدا.. محاولات اقتحامها واستهدافها جويا والتقدم البطيء حواليها لا يتناسق مع أي غرض عسكري (فضلا عن توظيفه استراتيجيا)، هل المقصود هو تجاوز المدن (عدا المخانق الاستراتيجية أو ذات قيمة كرمزية سياسية أو عزل أوكرانيا بحريا والوصلة البرية بين القرم والدونباس: كخاركيف وماريوبول وأوديسا) وصولا لكييف؟ أم الإحاطة بالمدن وحتى اقتحامها بغرض الإكراه السياسي؟ أم اقتحامها والسيطرة عليها تبعا لمخطط أوكرانيا بديلة؟ – في كل هذه الأحوال – من وجهة نظر تصميم وتوظيف القوات عملياتيا – فإنه يقتضي:
         1  تشكيلا أوسع من حيث القوات المسخرة للعملية. فالتقدير العددي يتراوح بين (80-160 ألف مقاتل تتراوح كثيرا نوعياتهم، ولكن الواضح أن هناك قدر لابأس به من قوات تجنيد غير محترفة)، وهذا أقل كثيرا مما تتطلبه هذه العملية بمنطق معادلة التكافؤ العسكري البحت بين قوات الهجوم والدفاع (نحكي عما لايقل عن 200 ألف مسلح أوكراني)، فإن وضعنا معايير أخرى مثل المفارقة بين النسق النظامي وغير النظامي الذي لجأ له الأوكراني دفاعيا وتعطي أفضلية للأخير، وأيضا الاحتياج لمهام حشدية وتحريكية وسيطة (سواء حصار المدن، أو اقتحامها، أو تأمين الأرداف والمخانق ومناطق الارتداد)، فالعدد أقل كثيرا مما هو مطلوب.
       2  تكريس مبدأ الحرب المشتركة كبنية وتوظيف وبحيث يكون التشكيل الأدنى قائما على كتيبة مدرعة مدعومة Augmented Battle Group – ABG
– كما ينص المذهب العسكري
Doctrine
 الروسي، في خطوط التمدد النظامي والالتحام المباشر، ولكن عندها قدرة على التفتت المنهجي دون فقدان السيطرة، للقيام بأدوار الانتشار واشتباكات المدن والتحكم في نقاط السيادة المدنية. 
      3 وحين يكون اقتحام المدن عاملا مركزيا في التصميم العملياتي فهذا يفرض التشبيك بدقة بين الكتائب المدرعة والضربات الجوية والصاروخية (بالأخص تحويلها للدعم التكتيكي أو التادخلي
Interdiction
 بضرب مصارد البناء والتحريك العسكري داخلها، أكثر منه الضرب العقابي والنفسي
moral bombing
، خصوصا في السياق الاستراتيجي الذي على الأقل يدرك الروسي مدى حساسيته لأي فاتورة خسائر مدنية كما يتضح من بعض قواعد الاشتباك المتحفظة خصوصا لقوات المشاة والأمن داخل المدن!
    لكن بوضوح، يظهر أن هناك قصورا في الفرضية الاستراتيجية التي على أساسها يتأسس التخطيط العملياتي.

بمعنى:
أ. لو الخيار الاستراتيجي يقتضي سرعة حيازة كييف لتحقيق هدف سياسي مرتبط بتغيير النظام (الهدف الذي أعلنه بوتين بخصوص تغيير بنية وتوجه النظام يشي بذلك)، فهذا كان يقتضي مسارا عملياتي مختلفا يتم تصحيح ما سبق ذكره، وفقط ينشغل بحيازة السيادة الجوية، وتكثيف المسار العسكري من الشمال، مع أو بدون حيازة بعض المناطق الحيوية في الجنوب وتأمين الدونباس دفاعيا.

ب. لو الخيار الاستراتيجي هو وسيط، بتوسعة النطاق الدفاعي للدونباس مع ضغط عسكري شامل، فهذا كذلك يقتضي ذات التطوير العملياتي العام، مع محاصرة المدن دون اقتحامها، مع مسارات دعم إنساني وانفتاح ديبلوماسي، وضبط مفرط لقواعد الاشتباك والضربات الجوية لتجنب أي خسائر مدنية، مع الاستعداد لطول مدة العمليات.

ج. لو الخيار الاستراتيجي هو فقط توسعة نطاق الدونباس دفاعيا، فهذا معناه التهيؤ الاستراتيجي والعسكري لأوكرانيا تلتحق بالناتو، وحينها يتم تفعيل أدوات أخرى ترتبط بتطوير الردع النووي، والتحرك على مستوى العقاب الاقتصادي والتكتل الدولي. ولكن الحقيقة، أن هذا أسوأ الخيارات لأنه يعني هدما للصيغة الردعية، وفي ذات الوقت تقديم ذريعة لخسارة أوكرانيا.

هذا لايعني أن الخيار الأول، والثاني ليس بهما معوقات استراتيجية -كما أشرنا، أهمها ليس فقط العقوبات الاقتصادية، ولكنه يعطي للخصم (الناتو) فرصة للحشد وتعديل بنيته الدفاعية وعنوانه السياسي وقابليته الاستراتيجي بشكل جذري وتجاوز كثير من مشكلاته السابقة في الخلاف الداخلي وفقدان الإرادة السياسية والشعبية خلف تطوره كمؤسسة حلف عسكري، والتي استغلها وفاقمتها الاستراتيجية الروسية خلال عقدين. ولكن نحكي هنا عن كيف تتدخل الاستراتيجية في هيكلة وتحوير بنية وتوظيف العمليات العسكرية.

والمأزق الأدق هنا هو تحليلي، في استفهام منطق التعثر العسكري وآثاره الاستراتيجية وكيف حدث؟ هل المشكل في مستوى الأهداف السياسية، أم الخيار الاستراتيجي، أم القدرة العملياتية في تحقيقه؟

وكما هو واضح، فإن الأهداف السياسية الخاصة باستدامة فائض الردع النووي والتقليدي وتحوير السلوك السياسي الأوكراني هي ممكنة استراتيجيا، سواء باستدامة الخيارات الاستراتيجية السابقة، مع إضافة الحشد العسكري مع خيارات الضغط الاقتصادي والاستيعاب السياسي والتكتل الدولي، وحتى الخيار القائم على توسعة الضغط العسكري الشامل دون دخول المدن أو كييف مع تغيير في بنية المسلك الإعلامي والديبلوماسي لروسيا لنمط أكثر استيعابا وحساسية للعنصر الأوكراني، وإن كان يقتضي التطوير العملياتي السابق ذكره لجعله ممكنا.

لكن اللغز هنا يقع في تفسير الخلل العملياتي الفادح، هل هو عالة على مشكل بنيوي عسكري، أم خلل في الفرضيات الاستراتيجية. حتى لو الأول، فالاستراتيجية عليها مسئولية بلاشك، لأنها  توصيل بين تلك القدرة العملياتية وأنماطها وما يترشح عنها من آثار استراتيجية تحقق الهدف السياسية.

لكن بالإضافة إلى اضطراب مسار التصميم العملياتي وعدم انسجامه مع الخيارات الاستراتيجية الرئيسة، فإذا كان مأزق القدرة العملياتية شاملا  وبالأخص -يخالف مستوى التكييف والكفاءة التي تقرره العقيدة القتالية والتجارب السابقة، فهو بيقين عالة على خلل في التكييف الاستراتيجي ابتداء. نعم، قد يحصل الاضطراب العسكري بسبب المفاجآت في بيئة العمليات التي تُدحض صوابية الفرضية الاستراتيجية المبدئية التي أسست لبنية وتوظيف المسار العملياتي – من حيث إمكانية تنفيذ الخيار عسكريا، هذا من طبيعة أي حرب..  ولكن حتى في هذه الحالة، فواجب الاستراتيجية أن تعيد تعديل مخروط الخيار الاستراتيجي (الصلة بين الأهداف، والخيارات، والأدوات).

نعم، هناك مشكلات بنيوية في الأداة العسكرية الروسية، وربما حتى السوفيتية قبلها، ونتاج أسباب أعقد في طبيعة النظام السياسي، والبنية الاجتماعية والتقنية للجيش والدولة عموما، وما يُعرف بالثقافة الاستراتيجية (أثر المركبات والتحيزات الثقافية على بنية القابليتين الاستراتيجية والعسكرية).. مشكلات: كالمركزية المفرض، والضعف الأصيل في المبادأة التكتيكية وحرب الأسلحة المشتركة والقيادة بالمهام، والتراجع التقني-اجتماعي في بناء وتوظيف منظومات التسليح، واللوجستيك. ولعل كتاب
Armies of the Sand
من أوسع الدراسات في هذا الشأن، ولكن بالأخص بعد اهتراء الممارسة التكتيكية في حملة جورجيا 2008، قام الروسي بما أشرنا بمشروع واسع للإصلاح العسكري في كل مفردات القابلية القتالية (عقائد، ومنظومات قيادة وسيطرة وحرب مشتركة، وتقنيات). ونعم، هناك شواهد على تركيز على مساحات الردع النووي، والتقنيات، وبقاء بعض المشكلات الهيكلية قائمة. ولكن كما في أوكرانيا 2014، وسوريا، والعديد من العروض التدريبية ومشاريع الحرب، فهناك تطور كبير في بنية والقدرة التوظيفية للأداة العسكرية، بشكل يناقض بفجاجة الأداء العسكري في الأسابيع الثلاث الماضية.

بل أوضح من هذا، ماحصل يخالف المذهب العسكري الروسي، وال
Order of Battle
 في الحرب المحدودة. في التصور الاستراتيجي الروسي كما نصت وثائق متعددة، هناك مستويات للتصعيد العسكري ضمن المخروط الاستراتيجي؛ بدءا من نزاع عسكري دون الحرب، وحرب محلية، وحرب إقليمية (قد يتم توظيف السلاح النووي التكتيكي ردا على التقدير الروسي للفجوة العسكرية التقليدية لصالح الناتو والخشية من ضربات عالية الدقة على مراكزه الحيوية السياسية والعسكرية
Comprehensive high precise strikes
، ولكن الاستعداد للرد النووي الاستراتيجي في مواجهة نزوع الناتو لهذا الخيار تبعا لمذهبه العسكري بالتالي)، وحرب شاملة نووية. وعلى مستوى الحرب المحدودة، فهي كتكييف عملياتي وقواتي مبدئي قائمة بالأساس على حرب عالية القوة والتشكيلات المشتركة، ولكن الواضح أن عملية أوكرانيا تقع روسيا تحت عنوان (العملية مادون الحرب)، وهذا التفسير الوحيد الذي يفك اللغز السابق: (لماذا تحركت روسيا عملياتيا – بغض النظر عن مأزق الخيارات الاستراتيجية في توظيف الأداة العسكرية – بشكل أقل كثيرا كما وكفاءة مما هو مطلوب فضلا عن تفسيخ مجمل ومنطق التشكيل التكتيكي والعملياتي المُقرر مذهبيا).

المسألة ليست أن هذا ما أعلنه بوتين، أنها (عملية أمنية) وليست حربا، أو أن معظم القيادات التكتيكية لم تعرف بأنهم مقبلون على حرب إلا ليلتها!، وبقيت معظم القوات من الجنود وضباط الصف تتخيل أنها في تدريب أو عملية حفظ سلام! وهذا أثر بالتالي على انخفاض حاد في روحها القتالية في الأسبوع الأول كرد فعل للدفاع الشرس من الأوكراني. ولكن للخلط الشديد في تكييف هذه الحرب حين يربط بين (عملية أمنية) وتشكيل وأداء عسكري مهتريء، ونزع سلاح أوكرانيا والحيازة السيادية عليها (كما يقتضي مطلب محاكمة المتورطين في استهداف الروس ونزع النازية) فضلا عن ضمان عدم التوجه للناتو. هذا الخلط لايأتي إلا من فرضة قللت كثيرا من قدرة الأوكران على الفعل العسكري، وتلمس الناتو في هذا المسار الدفاعي المُربك والمُورّط للروسي في التزام عسكري عالي الثمنية – في طريق الوصول لكييف وبعد السيطرة عليها، حتى إذا لم يقم بالتطوير الممكن في بنيته ووظيفته. وهنا نستحضر ما استفتحنا به المقال من قول كلاوزفيتس حول أن تعريف طبيعة الحرب وتوظيفها لخدمة الغرض السياسي هو أساس الاستراتيجية.

والتناقض الشديد بين مايقصده الروسي سياسيا وخياره الاستراتيجي وتنزيله في مفردات الوجه العملياتي والتكتيكي للحرب، ظهر نقيضه في وضع الناتو. نعم هو حتى الآن لم يقم بالتطوير الممكن في بنيته ووظيفته كحلف عسكري استغلالا لما حصل، ولكنه بتنى الدعم النوعي للمقاومة الأوكرانية لمسار من الدفاع المرن والمرتكز على نمط غير نظامي وقليل الحدة
low intensity operations
، وعلى هذا كان دعمها بتقوية النشاط الدفاعي والإدمائي للمجاميع الصغيرة بالأسلحة المضادة للطائرات والصواريخ والدروع، والحرب الالكترونية وتطوير دائرة القيادة والسيطرة والاتصال، وليس مثلا الأسلحة الثقيلة والطائرات التي تصلح لنمط عسكري مختلف سيتفوق فيه الروسي قطعا، فضلا عن سهولة ومعرفة نقل المعرفة والخبرة الفنية في النمط الأول.

الروسي بلاشك قام بتحسينات شديدة بدءا من الأسبوع الثاني للحرب على مستويات التكتيك والعمليات، وهو يتقدم على الأرض، وسيحوز كييف وإن بدرجة من المشقة وتراكم الخسارة العسكرية والإنسانية وفي صورة الردع، وهذه التحسينات هي ليس بناء تجديديا ولكن عودة لخطه التقليدي الذي أزاحه عنه فرضيات استراتيجية خاطئة في طبيعة المواجهة التي هو مقبل عليها. ولكنها لن تزيح المشكلات الاستراتيجية في التوظيف والتداعليات الاستراتيجية للحملة بالأخص بعد سقوط كييف. هذه المشكلات جعلت فرصة تميزه الاستراتيجي الممكن، والأصعب، مرتهنة بمدى الخلل الممكن وتهالك الإرادة السياسية للخصم (الناتو)، بأكثر منه قدرة ذاتية على رسم مسار الحرب والسيطرة على مفاصلها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى