نقاش حول شرعية وجدوي العمل المسلح في التغيير السياسي.. ومنطقه الاستراتيجي؟
أولا) أقدّر لك حرصك الشديد على تحرّي كل ماله علاقة بهذا الأمر الحيوي.. ومن أشد الأمور التي جعلتني ناقما على كثير من الكيانات والأفراد، في محيطنا الإسلامي والوطني.. ليس الجهل أو قلة الوعي والإدراك، فمن منا الذي يعلم كل شيء وفي كل شيء، ولكن الترفع عن طلب المعرفة وتمحيص الآراء في الأمور المفصلية التي يتوقف – وتأثرت بها – مصائر البلاد والعباد.
ثانيا) رأيي القديم – شرعيا وحركيا – في مسألة التغيير السياسي المسلح ، أو الذي يكون العمل المسلح أحد مساحاته – كما يشي به فعلا حواري مع القيادي الشرعي الإسلامي – هو منطق الجواز مبدئيا ولكن ضمن شروط هامة..
————–
كنظرة شرعية، بالفعل أغلب الفقهاء المتأخرين، وكثير من أهل الحديث كانوا مع منع الخروج المسلح (ورفعوها حتى لمرتبة الاعتقاد.. كما في العقيدة الطحاوية: ولا يخرجون على أئمة الجور!!)
ولكن هناك قطاع واسع عند الأحناف (رأي الإمام أبي حنيفة على الأخص) وبعض فقهاء الشافعية (أهمهم الجويني، ونقلت رأيه تفصيليا وناقشته في محاضرتي عن الغياثي.. فراجعها – لأنها أهم محاضراتي على الإطلاق)
ورأي عن مالك، وموقف عملي لأحمد في تأييده لثورة أحمد بن نصر الخراعي مع شيوع رأيهما المُعلن بالتحريم.
وفعل فقهاء التابعين والقراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث، وقبلهم الإمام الحُسين، وهو رأي الإمام علي، وأبي ذر.
لكن.. بلاشك أن التجربة العملية – سواء في النظر لحجم الدماء (كما حصل في الحرة وكربلاء – خصوصا الحرة التي حكى عنها ابن الأثير وابن كثير – بمبالغة كما هو واضح أن هناك ألفي امرأة حبلت مع استباحة المدينة!، ولكن استباحة المدينة والمقتلة هو قطع تاريخي)
أو الخسائر الضخمة على مستوى الأمة (بالأخص تقويض مستوى المنعة وعدم استباحة الحياض، أو حتى مارآه الفقهاء وقفا لحركة الفتح – بكل مافيها من إشكالات معقدة كما نعلم) وهيبة الديانة (ضرب الكعبة بالمنجنيق، ومجرد استباحة المدينة، والمقتلة في الصحابة وآل البيت والنكالة بهم)،
أو تقييم هل قاد الخروج في حال نجاحه لنتائج إيجابية (كالدعوة العباسية التي قادت لدولة باطشة مُحرّفة).. جعلت فعلا المنحى الفقهي يتجه للتحريم غالبا، وهناك أيضا عنصر تأثير السياسة للأسف – وهو عنصر حاضر.
وهذه إشارة ابن حجر في التقريب (أن السيف كان مذهبا للسلف قديم، ثم لما رأوا ماحصل في الحرة تركوه)
وكانت مشكلتي في مع هذا الرأي الغالب – خصوصا المنبني على تقييم للتجارب والظروف السياسية والاجتماعية – ليس المنع كإفتاء عام مرحلي، ولكن تغيير أصل الحكم.
وكنت أرى من الأولى لهم تبني مسألة (إفتاء عام لزمان بعينه) وليس تغيير الحكم، ولكن يصعب عليّ أن أحاسبهم على هذا لأن هذا التقسيم كان خارج خارطتهم الإدراكية والأصولية حينها!
وهذا أيضا ينسحب على رأي ابن حزم الذي قال بالنسخ (أن الشريعة حرمت الخروج أول الأمر، ثم أتت النصوص بالتجويز)، وفي رأيي أن ذلك مرتبط بالمرحلية والقدرة، وليست بالنسخ.
لكني لاحظت مع الوقت أيضا – أنه حتى ألمع الفقهاء وأوضحهم في التجويز – الجويني كما نقلت عنه كلامه – استخدم كلاما شديدا في التحذير من أخذ الأمر بتساهل..فراجعه.
مع الوقت والتجربة والدرس.. حصلت تطورات هامة في رأيي من ناحيتين:
الناحية الأولى – أني بدأتأقدر عنصر العوامل السياسية والاجتماعية وموازين القوى التي تجعل أي مخالفة للخط السياسي للدولة والرغبة في تغييره، لابد أن تنحو للمسار المسلح وبناء العصبة القبلية في مرحلة زمنية (مفهوم الشوكة عند الجويني)، ولكن حين تتعقد الأنماط الاجتماعية والسياسية وشكل الدولة ومؤسساتها، وتظهر أنماط (قويت أو ضعفت) من التشكيل والممارسة السياسية.. هنا يتغير الأساس الواقعي التي صدرت عليها أحكام (وفتاوي) المنع والإجازة ..
فكرة أن الأحكام (مادون القطع) تتغير على حسب العوائد والأعراف والسنن، وليس فقط الفتاوى، طرحها الإمام شلتوت، وهي مامارسها عمر بتمامها في أحكامه المشهورة.. فهو لم يغير فتاوي ولكن أحكاما.. الفارق هنا: أن هذه الأحكام مبنيه في انطباق شروطها على علل تتغير زمنا، وليس بين حالة فردية وأخرى!
بمعنى أن هناك أنماطا من الشوكة وحيازتها والتعبير عنها وممارستها أوسع من القوة العسكرية والقبلية..
(هذا تناولته باستفاضة في محاضرة الجويني)
ولأن الجويني مثلا بنى كثيرا من خياراته وتأسياساته على علة الشوكة، فظهر لي كيف أن التجديد الزمني والعُرفي في تكييفها، يُمكن أن يفتح بابا لتجديد في مفردات الفقه السياسي، ومنها الخروج المسلح تضييقا أو توسعة.
بمعنى – أن مسألة القوة الشعبية مثلا، والقوة العسكرية النظامية المساندة (كفصيل من الجيش مثلا) للحركة الشعبية.. هي من أنماط الخروج السياسي، ولكن ليس الخائض في العمل المسلح والقتال.
ولأن العمل المسلح فيه من الإشكالات الشرعية (خصوصا في مفهوم الدولة الحديثة والتجنيد الإجباري والعمل الشُرطي – مايجعل هناك حائلا شرعيا أمام الاستحلال الشرعي لدماء القوى العسكرية والنظامية للدولة لخفوت المسئولية الفردية وحيز العدوان في حقهم!) بل حتى في طور الدفاع مافيه من اختلال لموازين التسلح والقدرة القتالية لصالح الدولة، ولكن الأخطر: هو رد الفعل الذي يتعدى حيز الدفاع ورده لمظالم متعدية أوسع كثيرا من مصلحة رد الاعتداء!
ونقطة خطيرة استجدت في مقاربتي الشرعي لأي عمل عسكري يستهدف مدنيين (حتى لو ضد المحتل العدو)، أو تكون هناك حصيلة مدنية مُقدرة في التوظيف الاستراتيجي والعملياتي هو التحريم المطلق.. ولا عبرة لأي تكييف لايستقيم شرعا أو قانونا حول قبول شعبي إسرائيلي مثلا بسياسات الدولة، أو غلبة نظام الاحتياط والاستيطان (من لايحمل سلاحا فليس له أن يُقتل، وإن كان مغتصبا، وإنما يُدفع بما دون القتل).
وهذا يجعل أي عمل إرهابي – بتعريف القانون الدولي- هو محرم بالضرورة شرعا سواء كان في الداخل أو الخارج.
تكملة لتلك النقطة وإن كانت خارج الموضوع.. فيما يتعلق بالعمل العسكري (ضد العدو والمحتل بالأخص) الذي يكون له حصيلة مُقدرة مدنيين، فهناك خلاف معتبر في القانون الدولي وكتابات شديدة التعارض.. وهل العنصر المدني يُمثل ثقلا في التخطيط العملياتي والفائدة الاستراتيجية للعملية؟ وهل جرى الحساب بين الضرورة العسكرية وحصيلة الضحايا المدنية؟ وهل تم بذل كل وسع ومراجعة خطة العمليات لتقليل هامش الضرر المدني؟
ولكن للإنصاف – فهناك أيضا عنصر عدم التناسق بين القدرات العسكرية للحركة غير النظامية (الصواريخ ضعيفة التوجيه مثلا) أمام قوة الدولة (ذات الصواريخ والقنابل الموجهة والمجسات الحاسة)، وهذا جعل بعض الكتابات تتساهل في مستوى الضرر الجانبي (الاستهداف غير المقصود للمدنيين) إذا صدر من حركة المقاومة (منهم للمفارقة كاتب إسرائيلي!) وكان هذا بشكل وآخر بعض منطق من أجاز الضربات الاستراتيجية قانونيا ما بين الحربين.. ولكن الأصل العام للأسف – هو العكس: أي التساهل في حق الدولة، وإدانة القوات غير النظامية.. تبعا لاتفاقيات جنيف.
وبالإضافة لكل تلك الإشكالات الشرعية والأخلاقية فهناك أيضا الإشكالات العملية كما سيأتي ذكرها، وهي الأكثر حسما لأنها مرتبط بفكرة الجدوى التي بنى عليها المجيزون حكمهم.
كل هذا – يجعل أنماط العمل السياسي الاحتجاجي (الخروج غير المسلح)، أو الإصلاحي.. هي الأولى في الاعتبار.
الناحية الثانية– أن هناكاشتراطات لم يعتبرها الفقيه القديم، وإن كانت من مفردات الجدوى (ليس فقط العملية ولكن الرسالية والقيمية) ورأيتها بحكم التجربة، والدرس التاريخي أخطر من مجرد الحساب الضيق لفاتورة الدم والخسارة مقابل المصلحة العامة..
أ. وضوح الهدف السياسي وسلامته
ب. قدرة القيادة واستقامتها.
لا أقول أن كلا الشرطين لم يكن لهما محل في اعتبار الفقه القديم.. بالعكس – لو حللنا خروج القراء والفقهاء مع ابن الأشعث مثلا، أو حتى خروج محمد ذي النفس الزكية أو الإمام زيد.. لظهر لنا قيمة الشرطين جليا.
فابن الأشعث كان رائم سلطة بالأساس؛ فالهدف السياسي الذي يُخاض من أجله في مخاضة عويصة لم يكن على هذه الدرجة من الصفاء.
والقدرة والاستقامة في حالته كانت منقوصة أيضا لطيشه، والقدرة القيادية (أي المُكنة في التقييم الاستراتيجي وعدم الاندفاع) كانت منقوصة في حالة الإمامين للأسف.
ربما يدفع أحدهم أننا لم نضع الثقة في قدرة القيادة واستقامتها اشتراطا منفصلا عن تقييمنا للجدوى (كمنتج خططي استراتيجي)؟
لأن حساسية ملف الخروج المسلح ومافيه من تعقيدات للقياس الأخلاقي والاستراتيجي المُدقّق يجعلنا – منذ أول الأمر – قبل انتظار لأي تجديف في بحر مهلك لا طائل منه.. نسد الباب إذا افتقد أي من الشرطين السابقين.. خصوصا أن علاماتهما تكون جلية في الغالب.
مثلا قدرة القيادة واستقامتها: إذا كانت قيادات الإخوان والإسلاميين مفتقدين غالبا لشرطي الاستقامة والقدرة والمعرفة أمام استحقاقات وظروف ومهام أيسر كثيرا في جوانب الحساب الأخلاقي والسياسي : (كالتفكير في مسألة التغيير السياسي قبل الثورة، أو عدم التشويش عليها كخط سياسي، أو بناء توافق وطني و استفادة من ثورة شعبية حاضرة، و طريقة التعامل السياسي مع المؤسسة العسكرية، أو معالجة سياسات حمقاء مستأثرة تسمح بتكتل الخصوم وتضييع السلطة من أيديهم، والمقامرة بآلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المسجونين والأسر التي تعاني في مسار عبثي دون وضوح بوصلة سياسية أو حساب مُدقق بعد 3 يوليو، وإدمان التصريحات التخديرية للأتباع على غير الحقيقة في كل المحطات، أو التسبب في إفشال مرحلة التحول الديمقراطي على الجملة، وفشل الحساب الأخلاقي والاستراتيجي في ملفات العلاقة مع الأمريكي وملفات الصراع العربي الإسرائيلي والسياسات الاقتصادية العليا)
فهل يُتوقع من مثل هذه القيادة أو بناتها، أن تؤتمن على خيار شديد الخطورة.. الأصل فيه صعوبة الضبط الأخلاقي والقيمي، فضلا عن الاستراتيجي كالعمل المسلح؟!
من أشد المهازل الشرعية والأخلاقية مثلا ماسُمي بفتوى (القصاص) التي فقط لم تُدرك المآل المُهلك في حساب الدم والسياسة للقيام بهذا (القصاص)، بل جهلت أبسط جوانب الفروق بين الفتوى والقضاء! ولم تر أي مسئولية ولو يسيرة في الطرف الذي سمح بمظاهر سلاح في فعالياته من أول يوم وغرر بآلاف الشباب للوقوف أمام آلة البطش لدولة كاملة في مسار كان ظاهرا عدم جدواه.
القصاص هو حكم قضائي، ليس فقط من حيث أنه لايُترك للعوام إنفاذه وإلا سقط النظام العام وابتلي الناس بفوضى ومقتلة وسلب، ولكن لأنه لايُمكن إنفاذه إلا عبر استنفاذ أدوات التحقيق الجنائي والنظر في الأقضية والأدلة على حسب كل حالة!!
أيضا وضوح الهدف وسلامته.. لأن هناك إشكاليات ضخمة ليس فقط في مدى الشرعية السياسية لنظام الإخوان السياسية بكل النواقص المبتدئة فيها أو الطارئة :عليها، ولكن حتى في سلامة ووضوح المشروع السياسي ذاته
الأسئلة البديهية حول الدولة وشكلها ومدى دمقطرتها؛ فك الإشكال بين النظام الديمقراطي والمقاربة السياسية للإسلام بما تقتضي من تجديد زمني، والخلط بين شمول الإسلام وشمول وظائف الجماعة المهيمنة على الحكم الذي يقود لشمول سياسي، وتسييس الجيش والقضاء، مفهوم الدولة الوطنية والمواطنة، والعلاقة بين العقد الاجتماعي المحلي للدولة الوطنية والترتيبات التنظيمية والسياسية في الحيّز العربي والإسلامي، والاستقلال والتحرر – حدود الثابت والمتغير فيه، والعدل الاجتماعي أم نهج نيوليبرالي في الاقتصاد يلتحف برداء ديني، وعلاقة المرجعية الإسلامية بالمنطق الدستوري وتجنب الممارسة الثيوقراطية والاستخدامية في ذات الوقت، ومنطق العدالة الانتقالية (القصاص!)..
هل الهدف السياسي هو عودة جماعة للحكم (التمكين)؟ أم تأسيس نظام ديمقراطي ليس عليه وصاية عسكرية أو لتنظيم شمولي أو توظيف لنمط ثيوقراطي في الحكم؟
ليس معنى هذا أن وضوح الهدف السياسي وسلامته ليسا مطلوبين في أي عمل سياسي، ولكن لخطورة هذا الملف وعُمق الإشكال الشرعي والاستراتيجي فيه، فلابد أن تكون الراية السياسية في وضح ليس فيه أي غبش، وإلا فليقر الناس في بيوتهم ويحفظوا دماءهم ودماء إخوانهم في الدين والوطن!
الخلاصة: في نظرتي الشرعية الحالية.. أن الأصل في الممارسة هو التحريم كإفتاء عام للمرحلة، مع أن الأصل في الحكم هو الجواز بعد اعتبار الجدوى والمصلحة، إلا في حالات شديدة الخصوصية، يكون حاضرا فيها قيادة ذو استقامة وقدرة، وبوضوح الهدف والمشروع السياسي مما ليس فيه لبس، وبعد استنفاذ أو استحالة كل أنماط التغيير والإصلاح السياسي.. والأهم: حصول التقييم الاستراتيجي – المُرجح..
وهذا نقطتي التالية
—————————–
رأيي الحركي منذ الصغر، كان كما تعلم منحازا أيضا لتصور الشيخ البنا عن القوة العملية.. وإن كنت ميزت حينها أيضا بين رفضه لمنطق الثورة – بمعناها الانفجار الشعبي العفوي، وبين الثورة المنظمة التي قد يكون العمل المسلح أو العنيف أحد مظاهرها.
وبالطبع – كنت أتفهُم المعيار المرحلي والاستراتيجي في اعتبار هذا الخيار..
فمرحليا – استخدام القوة العملية لايكون إلا بعد استكمال البناء الحركي، وفترة من التغيير الاجتماعي والنظال السياسي والتثوير الشعبي (بنص ماقاله: لابد من فترة تنتشر فيها مباديء الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب المصلحة العامة على الخاصة).
والبنا بالطبع ألحّ أيضا على اعتبار المصلحة والجدوى كشرط عام.
بمضي السنين بدأت تحصل عندي إشكالات ضخمة في رؤية البنا الفكرية والحركية نفسها، ومافيها من إشكالات جوهرية – سواء في توهين الفارق بين حيز الدين المعصوم وبين الدعوة الإخوانية كمجرد مقاربة بشرية (وليست دعوة الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري!)، بين شمول الإسلام والتنظيم الشمولي والدولة الشمولية، وبين قبوله للنظام النيابي من ناحية ورفضه لفكرة الأحزاب إلا أن تكون تابعة للجماعة القائدة (كنت أمرتكم بالبعد عنها والآن ندعوهم للانضمام إلينا!)، الخرق الشديد والانفعالية والتساهل في تعامله مع تجربة النظام الخاص مما قاد لكوارث واستحلال دماء (وسمها هو نفسه – أيضا بعدم ضبط شرعي: ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين)، ومشكلة الدولة الوطنية.. ثم مُجمل التجربة كلها كحصيلة سياسية وفي سُنة التغيير الاجتماعي والجيلي والفكري (مع ما أثمرت من خير وفير على مستوى نشر التدين وزيادة الهم بالقضايا الدينية والقومية والانحياز للبعد الاجتماعي ورفع مستوى الروح الحركية الدينية) .. ماعبُر هو نفسه عن ندمه الإجمالي عليها – كما في حواره مع د. عبدالعزيز كامل (ولهذا خلق الله الندم ياعبد العزيز!)
وخلال هذه السنين، كان جليا أمامي – ليس فقط أن الإخوان كقيادة ومسار بعيدين عن الرؤية التغييرية للبنا – ولو حتى بمعنى التغيير السلمي الذي لاينضوي تحت مظلة النظام السياسي، ولكنها بسلوكها كانت أداة استعابية تُعوّق من إنضاج مستلزمات التثوير الشعبي – لولا غباء النسخة النهائية من نظام مبارك الإبن في آخر محطاته، لما حصل عندنا فعلا شيء اسمه ثورة يناير.. وكان أقصاها مظاهرات شبابية – قد تكون في حد ذاتها إيجابية (لو عادت بنا الأقدار!) ولكنها لم تكن لتصبح ثورة.
حين درست الاستراتيجية – خصوصا العسكرية – بدأت تتضج أمامي إجابات أسئلة كانت مستترة، أو على الأقل كان لها عندي من قبل إجابات مبهمة..
كان استدعاء (القوة العملية) في التغيير السياسي .. شيئا ما حاضرا نظريا، ولكن التدقيق الاستراتيجي في ماهيته، ونمطه الاستراتيجي واشتراطاته كان مُرحلا.
أول درس.. كان التأكيد أن حالة الثورة – على اختلاف أنماطها، ليس فقط تقتضي توفر ظروفها من إنضاج الحالة الشعبية، واضطراب مراكز قوى النظام، وتهيؤ الوضع الإقليمي والخارجي أو صعوبة التدخل المعاكس، ولكن أيضا – وجود قيادة سياسية وعلى المستوى الاستراتيجي.. ليس فقط هي من تقود حالة التثوير والمناورة والتفاوض، ولكن إدارة مرحلة مابعد الثورة لبناء عقد اجتماعي مستجد وتوافقي، ومعالجة إشكالات المرحلة الانتقالية (تنفيذ أجندة التغيير الثوري، دون الطغيان عن مهمة إعادة تأسيس منطق الدولة ومؤسساتها، الحفاظ على مستوى نشاط وظيفي معقول في ظل مرحلة إعادة الهيكلة، ترسيخ القواعد الديمقراطي في السير العام والممارسة…).
ثاني درس.. أن أنماط العمل العسكري لاتخرج عن نطاقات محددة.
فحرب العصابات تقتضي – استراتيجيا – بالأساس دولة ضعيفة المركز، أو شعب تضعف فيه فكرة الدولة وهيمنتها، وتوافق عريضة الحراك التمردي وأيديولوجيته مع مخزون الاحتقان الشعبي، ووجود عوازل جغرافية وشعبية تمثل حماية لحركة التمرد ومنصات لعملياتها، وطرف إقليمي حدودي داعم، وخبرة فنية متصاعدة.
وكما في الأدبيات والتجارب في هذا الباب.. يمكن إنهاء حرب العصابات بإحدى الطريقتين:
الأولى – هي التطور العسكري وصولا لحرب المواقع (نظامية) .. وهذه في حال الدولة ضعيفة المركز – كما حصل في أمريكا اللاتينية، والصين.
الثاني – مسارات الإدماء مما تدفع لانهيار مركزي (تحول أطراف نظامية، أو تخلي الداعم العسكري الأجنبي) كما فشل في المالايو ونجح في فيتنام والجزائر ولبنان..
وهو منطق حروب المقاومة التي نعرفها.
أو خليط – كما حصل في أفغانستان الأولى.
وكما هو واضح – فهذا النمط مكتوب عليه الفشل في دولة كمصر (قوية مركزية بجيش ضخم،
وفكرة الدولة قاهرة شعبية وليس أدل على هذا أكثر من فترة 18 يوم – فمع اختفاء الدولة عمليا، وقيام المواطنين بوظائف الأمن والرعاية، ولكن عادت فورا دون مشكلة بعدها.
وغياب عريضة تحريضية مؤدلِجة لطبيعة الشعب المصري (قد يقوم بانتفاضة خبز مثلا، أو مشاركة في ثورة ضد الظلم الاجتماعي والسياسي، ولكن لايمكن أن يشترك ضد أي تهديد قد يتصل بتهديد لوضع الدولة إجمالا.. وهذا أهم ماأفشل خطة الجماعة والجهاد بعد مقتل السادات)
وغياب الداعم الإقليمي الحدودي (إلا في حال سيناء لفترة، وانفلات الحدود الغربية والجنوبية مع صعوبة كبيرة في سلامة خطوط اللوجستيك).
بالعكس – الوضع الإقليمي والخارجي وحساسية الدولة المصرية في سياقها.. يضيف تمتينا أشد لسياق الدولة (وضعية الربيع العربي كان فيها اختلاف لأننا كنا نحكي عن ثورة شعبية لها سمعة إيجابية دوليا)، وفي ذات الوقت يهيء رد فعل شعبي شديد التحسس من أي مقاربة للتجارب التي فتت دول المنطقة : سوريا وليبيا واليمن.
وغياب التطور الفني والتسليحي – إلا بالتواصل والانغماس ضمن هيكل داعشي.
وعدم وجود المناسبة جغرافيا – إلا في سيناء لمُعوقات الانتشار التسليحي ليس أكثر، وللبعد التضاريس نسبيا.
قديما كان هناك مزارع القصب في الصعيد، أو الآن الواحات، ولكن هذه فقط كانت نقاط انطلاق لعمل إرهابي وليس تمرد مسلح.
أماالانقلاب العسكري فهو غير مطروح أيضا.. لعدم انفتاح الجيش أمام التأدلج السياسي، ولقوة القبضة الأمنية، والضبط التشريعي ومعايير الترقي والأقدمية، وللترتيبات في الفصل بين الأسلحة – والمركزية الشديدة في التحرك والأوامر العملياتية (هذا يُضعف بشدة القدرة العملياتية للجيش في الحروب المشتركة وحروب المناورة كما هو معلوم، ولكن هذا النمط بالأخص تم تبنيه عربيا لمنع الانقلابات).
أما الجناح العنيف- المسلح على هامش ثورة شعبية.. فهو كذلك مرتبط بالسياق الاستراتيجي الأوسع الذي يحصل فيه، ومدى توفر مفردات وشروط حصول الثورة الشعبية بالأخص..
وهل هو عنف وممارسة خشنة عفوية تستطيع أن تُبطيء من فعل الأداة الأمنية في فترات فقدان الاتزان النظامي – وليس أن تُقود هي إليه في وضع دولة قوية كمصر، دون تحريك الرأي العام ضد الثورة؟
أم هو عنف مسلح – في وضع كمصر وشعبها – حتما سيثير ردود فعل وتوجسات عامة، تفصل بين القاعدة الجماهيرية وفعل الحراك وتُرجح سؤال الأمن والاستقرار على التغيير.
أم هو جناح مسلح يقوم بعنف منظّم، لإتمام عملية السيطرة على مفردات حيوية – فقط على هامش ثورة شعبية كاسحة أفقدت النظام توازنه بالأصل؟ فهذا ممكن، ولكن وظيفته ثانوية ومُكملة.. وهذا شبيه بماطلبه للمفارقة عبدالناصر من النظام الخاص للإخوان في حركة الضباط، ولكن ترك لهم مهمة ثانوية ليحرمهم من طلب المكسب السياسي لاحقا.. والحق أن دورهم فعلا كان محدودا.
=====
المشكلة الجوهرية في حراك تحالف الإخوان بعد 3 يوليو هي أكثر من نقطة:
أولا) لم تكن هناك فعلا معطيات ثورة من حيث التأييد الشعبي الكاسح، وانهيار أو شبه حياد أجهزة البطش، وسلامة القضية السياسية المُعلنة، والوضع الإقليمي المُلائم. ليس أن تُعلن أن ماتقوم به ثورة يجعله مستحقا لهذا الوصف استراتيجيا! ولا أحكي هنا عن الحق السياسي.
ثانيا) كل مظاهر السلاح العفوي المُبكر، ساهمت ليس فقط في رفع فاتورة الدم، لأنها واجهت قوات شرطة بالأساس (الجيش فقط تعامل في الحرس الجمهوري وكان نطاقا خلفيا في الفض) غير احترافية في التعامل مع تجمع شعبي فيه بعض مظاهر تسلح، والأهم – أنها معبأة بالانتقام والرغبة في التصفية.. ولكن هي أكّدت من شرعية خطاب النظام وأثره في شيطنة حراك الإخوان وتجريمه..
خصوصا – الربط الغبي الذي حصل مع أحداث سيناء (ارتفعت العمليات الإرهابية من 7 عمليات في يونيو 2013، إلى 700 في يوليو 2013).
ثالثا) الخطاب السياسي المُعلن للحراك (سواء في الدعوة للتدخل الخارجي، أو شق الجيش، أو ادعاء حرب على الإسلام،) وكذلك استمرار المظاهرات في الشوارع والميادين بما في بعضهما من مظاهر انفلات – دون ارتباطها بخطة واضحة المعالم من التصعيد أو التفاوض.. أحدث حالة نفور شعبي (شبيهة بما حصل في 2011 مع موجات احتجاج الشباب) استغلها النظام لتكريس فكرة حماية الدولة في محيط إقليمي تفتت دوله.
رابعا) عدم الاستقامة الأخلاقية والوطنية – سواء في تمييع الرفض الكامل للإرهاب مبكرا واتهام النظام بالقيام به! مع أنه أكثر الخاسرين بحدوثه، أو إطلاق السلمية الفاعلة مع بدء عمل عسكري بدائي ثم محاولات احترافية، مع اتهام النظام للإخوان بالإرهاب الاحترافي – الذي حمل بصمات داعش بوضوح – من أول يوم.. جعل تهمة الإرهاب شيئا لايُمكن إزالته بسهولة لمدى زمني مقبل.
المشكلة هنا.. أن الإرهاب قد يكون وسيلة تكتيكية أو خط عملياتي مقبول استراتيجيا – لا أحكي هنا أخلاقيا أو شرعيا كما بينت- إذا كان ضمن استراتيجية تمرد واضحة لتحقيق أهداف متعددة أهمها تحريك النظام لرد فعل باطش أو إفقاده بعض اتزانه لكسب وقت تعبوي، أو إزالة الرأس السياسي، أو كان هو في حد ذاته استراتيجية لتحقيق أهداف سياسية نوعية ضد عدو خارجي للابتزاز والإدماء بشرط دعمه شعبيا (أيرلندا) أو فرض تنازل سياسي على حكومة ضعيفة (أيرلندا وفورك)، أو تمهيدا لثورة شعبية بهدف كسر هيبة النظام وإزالة حالة الاعتياد الشعبي على وجوده – بشرط عدم مصادمته شعبيا أيضا (كحالات الإرهاب النوعي في استفتاحات التمرد الشيوعي في أمريكا اللاتينية).
ولا يوجد – أو يمكن أن يوجد – شيء من هذا في الحالة المصرية.
خامسا) كل الأنماط التي تنحاز للعمل المسلح بكل أشكاله، ليس فقط لايوجد معطيات استراتيجية لتفعيلها وتأثيرها، ولكن هي مثلت – أو تُمثل – أداة مُهمة في تكريس أجندة النظام في التوغل العسكري والأمني، وقتل الحياة السياسية وأي فرصة للحراك الاجتماعي والسياسي المستقل.. وهذا كان واضحا من أول يوم!
ومع كل الإشكالات البنيوية التي حكيناها مرارا عن الحالة السياسية المصرية، وكل السيناريوهات المستقلة.. تبقى إعادة تشكيل النخبة السياسية المصرية هي أولى الواجبات، ويظهر أن أي مسار يعزّز من شرعية النظام – والاحتياج الشعبي له – ويسمح له بمزيد بطش وغلق للمساحات هو ضار استراتيجيا بشكل لايُتصور.
سادسا) إذا حصل أي احتكاك طلبا للدعم بقوى خارجية هنا أو هناك، ففيها هذا كارثة أخلاقية واستراتيجية أيضا.. ليس فقط بسبب مشكلة توظيف النظام لها في تخوين وشيطنة أي حراك معارض – بغض النظر عن كونه مسلح أم لا، ولكن لأن منطق الدعم الخارجي في حد ذاته ضد دولة محورية كمصر – هي الوحيدة الباقية في أمتنا العربية، سيكون إما من دولة إقليمية حدودية لها مطامح توسعية لانقاش في وجودها، أو دولة خرقاء تريد توسعة نفوذها الإقليمي ولا يوجد أي شك في ارتباطها بالنسق الدفاعي والسياسي الأمريكي بالمنطقة للمفارقة!
بمعنى – هذا فعليا يطعن في الشرعية الوطنية لأي حراك! و التي هي مطلب استراتيجي لأي تحريك شعبي أو لأطراف في مؤسسات الدولة ولو كان سلميا.
2 تعليقات