استكمالا للحوارات السابقة… هل تبقى المراجعة الفكرية وتطوير الرؤية الاستراتيجية شيئا نظريا أم يمكن الانطلاق منها لخط أدوارنا الفردية؟
وهل يمكننا الاحتجاج أن النظام يمنع أي حراك سياسي للتخلي عن أولوية تشكيل نخبة وحركة وطنية جديدة؟
الحديث عن الرؤية الفكرية والاستراتيجية ليس فقط مهم نظريا، ولكنه أيضا في صلب تحديد الخيارات العملية.. وعدم إدراك هذه النقطة المفصلية هو سبب نكبة الإخوان تحديدا- كجماعة تحصلت على رصيد كبير في البناء التنظيمي، وإتقان في كثير من الجوانب (العملية) في النشاط السياسي والاجتماعي..
الرؤية الفكرية والاستراتيجية هي ماتحدد الطريق، والخطأ فيهما – ولو يسير – مُهلك ومن الصعب تصحيحه، على عكس المواقف التفصيلية والعملانية..
بل العكس – أستاذي كان له مقولة مشهورة: أن الدولة والجيش ذات القدرة العملياتية والتكتيكية الفائقة مع ضعف الاستراتيجية (يقصد ألمانيا في الحربين العالميتين)، تصل لأوضاع كارثية بالمقارنة بالدولة محدودة القدرة التكتيكية والاستراتيجية معا.
ولكن مشكلة الاستراتيجية – وقبلها الفكر – هو كونهما بالأساس إطارا نظريا (تجريديا)، ولكننا نرى أثره في تحريك آلاف الخطوات ونثريات المواقف لمسارات كلية ونهايات محددة. —————
دون إطناب – الرؤية الاستراتيجية العامة للحراك الوطني والتغييري في مصر – وفقا لمعطيات المرحلة والمستجدات التي حصلت وتراكمت منذ 30 يونيو حتى الآن – لابد أن ترتكز على تطوير نخبة سياسية مختلفة، وكتلة وطنية جديدة، وأن تجمع بين مسارات العمل السياسي الاحتجاجي من خارج النظام، والعمل الإصلاحي المعارض (ولكن المتدافع على المساحات) من داخله..
والحراك السياسي المعارض سيستفيد في مساره من تراكم إفلاس النظام وتصاعد الاحتقان الشعبي..
في كل سيناريوهات تطور وضع النظام في مصر – ولا يمكن أن تضع رؤية استراتيجية ما قبل تحديد ماهي تلك السيناريوهات، وهل هناك فكرة استراتيجية تصلح للتعامل معها كلها، أو مع أكثر السناريوهات رجحانا..
أقول – مع كل السيناريوهاتالممكنة (سواء استمرار الوضع الحالي بفشل النظام وتكريس استبداده، أو انفجار شعبي مفاجيء على مستند اقتصادي، أو غياب الرأس وتحرك المؤسسة العسكرية لتوفير البديل، أو فتح النظام تدريجيا لمساحات العمل السياسي والتراجع أمام تصاعد الاحتقان الشعبي – أو توقيا له)..
مع كل هذه السناريوهات الممكنة – حتى لو حصل أمامنا انفجار شعبي غدا – فالنتائج ستكون إما وخيمة أو فرصا ضائعة دون وجود نخبة سياسية وكتلة مدنية مختلفة!
يمكن أن يُحتجّ أن النظام غالق باب الحراك السياسي وحتى الاجتماعي.. نعم يغلقها الآن وليس بالضرورة غدا.. ثم أن هناك كثير من الملفات الحيوية في إعادة تأسيس النخبة وكتلة المعارضة الوطنية – النظام لايستطيع أصلا أن يقترب منها فضلا أن يمنعها.
هل منع النظام الإخوان، أو التيارات الشبابية الإسلامية، أن تقوم بمراجعات حقيقية في الأفكار والتنظيمات والرؤي الاستراتيجية والأدوار؟
هل منع النظام أجيالا من الشباب المُحبط الآن، أو الغارق في وهم وهلاوس الثورة أو الشرعية المغدورة وسقوط الانقلاب، أن تُطور وعيها وقدرتها، وتمتلك أبسط المقومات الفكرية والفنية والاستراتيجية التي تفتقدها، مع حتميتها لأي مشروع وطني ورسالي – بغض النظر عن مرحلته؟
هل يمنع النظام – في حال توفرت رؤى حقيقية مختلفة وضغط شبابي من كل التيارات نحو وجهة وطنية وناقمة بشكل جذري على النخب والمسارات الآسنة – تطوير نواة لحراك وطني مجمع نحو أهداف واحدة، واستراتيجية منضبطة؟
ثم – هل يمنع النظام التيارات السياسية كلها (وليس فقط الإخوان) أن تطرح سياسات بديلة نقدية حقيقية لايغلب طابع الجهل والتشفي والسقوط الأخلاقي وانعدام المهنية والتخصص؟
هل يمنعك النظام أن تغلق الباب تماما أمام أي موضعة لأجندة الإخوان المشكلة قيميا وسياسيا بأهدافها ووسائلها ، أو إعادة ضبط البوصلة الأخلاقية والوطنية لبقية التيارات فلا تعطي الشرعية لمستبد و لاتصمت على انتهاكات دم أو تفتيت وطن من أي طرف كان؟
حين ينشأ عندنا حد أدنى من طليعة سياسية مختلفة، حينها يمكن أن نفكر في مواقف سياسية، وخيارات احتجاجية أو صراع على المساحات..
نعم – جزء مهم من تطوير هذه الطليعة وبناء الحركة الوطنية لايمكن أن يحصل في المكاتب، بل لابد أن يتحرك في مسارات الاحتجاج والتنافس الإصلاحي وتطوير البديل ومخاطبة الشارع والاحتجاج به، وفق مسار تدريجي ينتزع مساحات حركته بنفسه في معارك جزئية صغيرة، ويستفيد من وصلات مفاجئة سواء بإحباطات النظام أو حلحلة في مراكز قوته في توسعة الانجازات وتغيير إحداثيات الخريطة السياسية بشكل أعمق.
مثلا – لعلك تذكر حراك (الأرض مش للبيع) .. طيب شوف النظام كان منكشف إزاي؟ شوف كيف أن القضية كانت خطيرة لضربها في جذر شرعيته وتسميعها شعبيا؟ وكيف أنها أجبرته على التعامل بفجاجة مع القضاء بشكل أيضا نسف عريضته السابقة أنه يحمل الدولة المدنية وأزاحها من خطابه؟ شوف إزاي حينها كان هناك مساحة أوسع كثيرا للحركة؟
من الممكن أن نحدد معها خطوات عملانية تفصيلية – تخدم الرؤية الاستراتيجية في تطوير الكتلة المدنية، ومحاصرة النظام وفرض تنازلات عليه، واكتساب ثقة الشارع كنقلة لما بعد..
ولكن من ينفذ؟هل تحالف الإخوان بكل هوسه ومشكلاته الضخمة ومصادمة أهدافه ومساره – أخلاقيا واستراتيجيا ووطنيا – لأي مشروع معارض حقيقي وإعادة تأسيس دولة، فضلا عن عجزه ومشكلاته الذاتية وتشظيه وانسحابه شعبيا؟
أم التيار المدني بكل انهياره القيمي والقيادي وانعدام وزنه في الشارع؟
أم الحالة الشبابية المفتقدة لأبسط جوانب التأهيل للتعامل مع قضايا وطنية وسياسية معقدة، ولاتزال في مسلكها الطفولي وتخيلها أن الفيسبوك وتويتر قادر أن يصنع ثورة في أي وقت لأنها سمحت بذلك مرة؟ فضلا أن ينشيء مشروع حقيقي ويعيد تأسيس دولة؟
إذن ما الحل؟
أولا – لابد أن نتفق على الرؤية الاستراتيجية
ثانيا – ندرك أن الواجب الحيوي الآن هو فيتأهيل الحالات الشبابية فكريا واستراتيجيا، وحثها لتدشين مراجعات حقيقية في التيارات الأساسية – وخصوصا الإسلامي..
وهي تقوم بكل ذلك – لاتنعزل عن الشأن العام، ولكن تتخذه معمل تجريبي للتدريب القيادي والاستراتيجي، وأيضا لإعادة التشبيك الوطنيالمتعدي لسيطرة التنظيمات الآسنة، والأيديولوجيات السقيمة..
حينها – نعلم أن تصعيدها الإعلامي أو السياسي أو حتى على الأرض – في ظروف وأوضاع معينة – غرضه (استراتيجيا) ليس أن يحدث بذاته تغييرا جوهريا في معادلة النظام ومعارضته لأنه لن يفعل حتى لو تم السماح له، ولكن يقربنا أكثر من المطلب الاستراتيجي المرحلي في إيجاد نخبة وقيادة ومشروع.
قد تنشأ كما ذكرت فرص استراتيجية (كما حصل في 25 يناير ذاتها) – حينها يمكن اقتناصها بشرط وجود هذه النخبة والقيادة والمشروع.
فإن كان هذا مطلوبا في حال دولة – لاتزال على الأقل قائمة كدولة وجيش، فمابالك بأراض محروقة وشعوب مهجرة ومنقمسة أو تحت ظروف قاهرة جيوسياسيا وعسكريا (سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، فلسطين، الخليج..).. نعم على مصر دور محوري – ولكن إعادة تكوين نخبة جديدة في أمتنا، تمثل بحد ذاتها نواة للتجديد الفكري والحضري، قبل أن تقود هي وتتحرك في مسارات التغيير السياسي، والصراع الإقليمي والقومي سياسيا وعسكريا ومدنيا…
—————
وعلى هذا يمكننا رؤية أدوارنا الفردية – وخصوصا للمقيمين في الخارج. وكل ميسر لما خلق له..
أدوار لاينبغي أن تغرز في خيارات ومسارات مُهلكة بالمعنى القيمي والاستراتيجي، بل هي أصلا جُرّبت وثبت فشلها ونتيجتها العكسية (الحديث عن ثورة ميادين، أو عنف بدائي، أو حتى إرهاب احترافي!)، ومشكلتها في الأهداف (عودة الشرعية، دولة إسلامية، تمكين) لاتقل عن الخيارات والخطاب والمواقف!
ولكن أن نموضع أنفسنا في مهام التأهيل وإنضاج الحالة الشبابية، والدفع الحازم نحو المراجعات وإعادة تقديم التيارات التي قد يكون لنا بها صلة وثيقة (كالتيار الإسلامي) شعبيا وسياسيا بأشكال وعناوين ورؤى واستراتيجيات مختلفة!
لايمكن الآن عمل ثورة مسلحة أو سلمية على النظام، ولو يمكن فلن تكون مفيدة أصلا.. لأنها ستلقي على ظهر الوطن كيانات في غاية التشوه الأخلاقي والوطني، ومعها ميراث كارثي تكوّن في الخمس سنين الماضية من الثأر والمرارات واضطراب بوصلة الوطن والقيمة، وانهيار أي مقدرة على التفكير الموضوعي والعلمي في أي ملف!
الخلاصة – نحو أمام مسار بنائي بالأساس، وإن كان يتعلل في كثير من محطاته بممارسات احتجاجية وتدافع على المساحات ومحاولة طرح بديل سياسي..
هذه الممارسات هدفها بالأساس تأهيلي وإنضاجي للوحدة الوطنية، وتشكيل قيادة حقيقية، والتقدمة لها شعبيا.. وإن كان لايمنع هذا تحصيل تنازلات تدريجية من النظام (وفق خارطة إفلاساته المتوقعة)، أو إمكانية الاستفادة من فرص مفاجئة.
تعليق واحد