فكر استراتيجي

مباحث في الاستراتيجية والقيمة والمنطق السنني – حرب غزة

السؤالان المطروحان منك الآن، والأول نظري – والأخر تطبيقي سأجيبك عنهما بإيجاز… لأني أرى فائدة الإجابة عنهما متعدية وشديدة الإلحاح

أولا) النظريات التفسيرية العامة
Big narratives
ليست خاضعة للتجريب، ولم تكن نتاجه، ولكن هي كذلك لن تسعفك للفهم التفسيري للحوادث على مستوى التفصيل، ومستوى الأزمان القريبة والمتوسط.. هذا بإيجاز

بمعنى، شبكة الفعل البشري في مختلف المساحات – سياسة واقتصاد واستراتيجية، وحتى العلوم التطبيقية والبحتة في الفيزياء والأحياء والفلك والرياضيات ووو.. مرتكزة على ديناميات و(قوانين) شديدة التفصيل، بالتأكيد هناك نسبية شديدة في هذه القوانين، المجال الإنساني أبعد/أقل كثيرا في (قانونيته وعلميته) من الظواهر الطبيعية والبحتة (والتي هي ذاتها فيها مساحات ذاتية كما حكى توماس كون قديما في تركيب الثورات العلمية)ـ ولكن تبقى فيه قواعد تفسيرية عامة، أو حتى زمنية وسياقية.

النظريات العامة – وحتى نحكي هنا عن السنن الربانية – تعدد حولها التفسيرات والتعيينات، فمثلا سنة انتصار الحق لها تفسيرات تتفاوت بين الناظرين، فهل هو انتصار دائم – مستقص – دنيوي بكل معالمه,,, (راجع مثلا مناقشة سيد قطب في آخر المعالم في فصل هذا هو الطريق – ليس بالضرورة أتبنى ما يقول، ولكن الشاهد تعدد التفسيرات)
المقصد – هذه النظريات – سواء كانت سننا ربانية لها مسحة الوحي والتصديق الكامل عندنا كمسلمين ، أو نظريات وضعية مثل الديمقراطية أو الحتمية الماركسية مثلا أو أو ،
لن تقدم لك أدوات تفصيلية لفهم كل جوانب الظاهرة، بل لابد من نشاط تجريبي وممارسات لأجل فك شيفراتها.

ربما مثلا – نستوعب من منظورنا الإسلامي، وراجع هذا في محاضراتي القديمة مثل (نقد أسلمة المعرفة، وحتى هل ثمة نظرية حرب في الإسلام) – أن الإسلام ذاته لا يعطي نظرية كاملة تفسيرية وتوجيهية في هذه المساحات، ولكن مقاربة (متكاملة) كقيم ومحددات وقواطع.
وأهم ما فيها، ومايكمل دورها، هو إعلاء شأن التجريب لفهم بنود الظاهرة والتأثير فيها وقيادتها بشكل رشيد (أنتم أعلم بأمور دنياكم – بل هي الرأي والحرب والمكيدة – التمييز بين الفتاوى والأحكام وتصرفات القاضي والإمام /مدونة القرافي)، ويكون فعل الشريعة في هذه الدائرة يدور على المقاصد وأحكام عزيزة ولكن مهمة لأنها ضابطة..

ثانيا) وفي ذات الوقت، العلوم والمعارف التجريبية مع حتميتها في تفسير التفاصيل وصياغة مسارات الفعل فيها، فهي محدودة في تفسير الغايات أو المسارات الممتدة مع الزمن – هي تفسّر الديناميات..
وهذا المعنى تجده حتى في فلسفة العلوم ومعنى القانون.
مثلا – لما ظهرت تجربة نيوتن، ولتخيل التصادم بين القانون الطبيعي وبين الإله، فظهرت نظرية (إله الفجوات) أي أن الله – عز شأنه – في صدام كقدة مع العلم، فدوره في تفسير الفجوة العلمية، وكلما اكتشفنا قانونا، تقلصت قدرته ودوره بالتالي – حاشاه.
لكن كما ذكر عدنان في سلسلته البديعة في (نقد الإلحاد)، أن العلم – وكذا القانون – لا يبحث الغائية، وهناك بالأصل فكرة التسبيب.
أي من وضع وخلق لنا القانون بالأصل؟!
ثم لأي غاية؟

هذا لا يجيب عنه العلم، ليس لقصوره فقط، ولكن لأنه ليست وظيفته!

وحتى في المنظور العقائدي الإسلامي، الخلاف الشهير بين الأشاعرة والفلاسفة في علاقة السبب بالنتيجة، فهل الله وضع دوما للسبب (قوة) في تحقيق المنتوج.. الأشاعرة – لا، بل له الخلق والأمر بكليته، وترتيب علاقة النتيجة بالسبب هي فقط كشاهد على الطريق. ولكنه سبحانه، سطر القانون، أي علاقة السببية، والتي تفعل بمشيئته وحده في كل مرة، وحافظ عليها ليقوم ناموس الكون.
لكن حتى رأي الفلاسفة – وكذلك ما انحاز له ابن تيمية – أنه حتى لو كان للقانون – السبب قدرة ذاتية للفعل، فإنه سبحانه من وضعها، وهو قادر على سحبها.

ثالثا) طيب.. حتى نخلص من هذا النقاش الفلسفي، لموضوعنا تحديدا، في التزواج وحدود التفاعل بين المنظور السنني، والمنظور الاحترافي- العلمي- التجريبي..

  1. في الاستراتيجية كتقعيد نظري وممارسة تاريخية، نجد هناك كثير من القواعد التفسيرية، هناك خلاف بين مدرستي جوميني وكلاوزفيس مثلا على كيفية اكتشافها ومدى حجيتها وحديتها في التطبيق، ولكنها بالأخير موجودة.
    وهناك كما طرح كلاوزفيتس نظريات سياقية (لكل زمن نظريته في الحرب)
    وهناك جزء كبير من التسييق داخل حالة ومساحة خارج إطار القاعدة وهو الفن والخبرة والابتكار.

    لكن – هل هذه القواعد والخبرات كلها تكفي بشكل مكتمل لتفسر لنا ظاهرة الحرب والاستراتيجية؟
    لا. ليس على المستوى العام، أو حتى التفصيلي.
    العام؛ الاستراتيجية عموما معنية بالمسارات الآنية وحتى طويلة الأمد – الاستراتيجية العظمى – ولكن ليس على الخط الزمني الممتد. نعم هناك بعض الدراسات كمثل دراسة كينيدي (في نشوء وانهيار الدول) ولكنها محدودة، والحقيقة لا يمكن أن نضع لها حجية تفسيرية كبيرة.
    علومنا ومعارفنا عاجزة كثيرا عند الإجابة عن الأسئلة الكبرى.. ومن هنا تأتي النظريات التفسيرية الكبرى.
    قد يحصل هناك تنازعا تفسيريا وتوجيهيا – بين هذه النظريات ، وبين الخبرة التجريبية..
    ولكن حله من التعقيد بمكان وليس له خريطة واضحة..
    وهذا تعقيد أثر الأيديولوجيا في السياسة الاستراتيجية.

    وحتى  في المستوى التفصيلي؛ في ديناميات حرب ما ، أو استراتيجيتها العسكرية، ومستويات التدافع التكتيكي والعملياتي والبناء العسكري، وحتى صلتها وتفاعلها مع الاجتماع والسياسة.. ظاهرة الحرب مبنية على الغموض كما يقول كلاوزفيتس، فكثيرا ما لا يقود السبب (ليس فقط قوة العدد والتسليح والروح المعنوية، بل حتى الأطر الأشمل مثل القابلية الاستراتيجية التي بنيت عليها رسالتي الدكتوراة) للنتيجة المرجوة.. لماذا؟ لأن هناك آلاف العناصر البشرية والبيئية والمفاجآت تحصل!
    ما قد يسميه كلاوزيتس الغموض وال 
    Friction / fog of war 
    وحتى باللغة الحديثة..
    VUCA
    قد تجيد استراتيجيا ولكن أقل من المطلوب عموما، أو في مقابل خصمك،
    قد تتحكم في الأثر الاستراتيجي الأولي، ولكن ليس في تفاعلات الآثار الثانوية والثالثية في ظاهرة الحرب اقليميا ودوليا، chain reaction..
    كيف قاد فشل احتواء هتلر في الثلاثينات لتأسيس إسرائيل مثلا، ثم لاستدعاء الفكرة القومية ثم سقوطها – الذي قاد بالتالي لتغييرات بنيوية فكريا وسياسيا في عالمنا العربي.

    يرى المؤمن في عدم الاطرادية وعدم الخطية والغموض فعلا ربانيا؟ نعم 
    والأمر هنا أوسع من (الفجوات) ولكن كما ذكرت..
    من بالأصل قنّن القانون
  1. أنا أرى أنه بالمنطق التكليفي البحت، وهذا يفيدنا في إجابة سؤالك التطبيقي..
    المسلم مكلف شرعا بالأمرين،
    إعمال المنظور السنني و(الشرعي – لأنه هناك تكليفات شرعية تدور بين القطع والظن الشرعي)،
    والمنظور التجريبي
    ولهذا مثلا – نُميّز في مجالنا بين 
    Strategic analysis and Strategy making
    التحليل الاستراتيجي لابد أن يكون موضوعيا بشكل بحت، وبعيد عن أي نظرية سننية وضبط شرعي وقيمة!
    ولهذا قال عنه ماو أنه موضوعي واستخدم لفظا حتى عليه إشكال (علمي)،لكن حين نصنع الاستراتيجية، فهي مبنية بالتأكيد على تحيزاتنا وميزاننا الأخلاقي والقيمي مثلا..
    نعم صنع الاستراتيجية أكيد في أحد ركنيه ينبني على التحليل (سؤال الجدوى)، ولكن لابد له من ركن آخر (سؤال القيمة والشخصانية السياسية والاجتماعية والشخصية) لأن الاستراتيجية بالأخيرة هي ظاهرة بشرية في التطبيق.

3-  تطبيقيا،
نحن مكلفون – كواجب شرعي بالأساس حتى – في مراعاة سؤال الجدوى وفن الحرب (مهمن يكن في ذلك اختلافا ونسبية!) ومدار الأحكام الشرعية في ذات السياق يدور عليها.

مثلا (تحريم الخروج على الحاكم عند الجمهور، وحتى من يجيزه يقعده على الجدوى وتناسب الخسارة والمصلحة!، وحتى في الجهاد كما في النص القرآني واحد لعشرة أم واحد لاثنين، والأمر الحقيقة ليس التحكم الرقمي ولكن مقصود الموازنة!، بل حتى ما استحدثه الفقهاء من تقسيم الجهاد – فالعيني إذا تجاوز مفردة المدافعة أمام العدو في اقتحامه لحشد الجيوش ووضع الخطط والاستراتيجيات المرحلية والعامة فهو يخضع لسؤال الجدوى)


سؤاال الجدوى من يتصدى له؟ ليس الفقيه الشرعي قطعا! ولكن الاستراتيجي.
وكما أشرت في الورقة الخاصة (الإرداة والقدرة سبيلا القيادة ومناط التكليف)،  منطق الفناء في الحق والاقتران بالشهادة دون مراعاة الجدوى والمآل والمراجعة والتصحيح – هو حظ الفرد من التخيير وليس القائد!، وحتى هو في ذلك ليس مطلوقا، كما تجلى ذلك في استشهاد الإمام الحسين وصحبه.
وكما فصلت الأمر في محاضرة الجويني قديما، هناك حالات يتمايز فيها الرأي الشرعي بوضوح (كتعريف الأحكام النظرية)، ولكن قد يتبرع الفقيه ليعطي وسما شرعيا لمسألة عملية، فقط إذا اجتمع أهل الاختصاص الفني (كأن يعطي لتفصيلة في شن حرب بعينها – بما لها من منطق استراتيجي ما – الصك الشرعي)
فأنا الحقيقة – أجد أن التعمق في استيعاب علام ترتكز الظاهرة الشرعية أصوليا وعقائديا، ومنطق الظاهرة التجريبية، يحل كثيرا من الإشكال، وإن ليس كله.
دائما ستكون محطات التباس وتنازع اختصاص على مستوى الأمة والدولة والحركة والفرد، ولكن هذه طبيعة الممارسة الدينية (التي جعلت الفقهاء يتنازعون في تفسير أقوال وأفعال النبي هل فعلا تشريعا أم إفتاء أم قضاء أم إمامة.. كما في مدونة الإمام القرافي)، فضلا عن الممارسة البشرية التجريبية.

  1. أخيرا.. في تجميع كل ماسبق للإجابة عن سؤالك بخصوص طوفان الأقصى..

    أنا أستسخف حقيقة التعبير بمسألة التفسير (الحضاري)، هذا ليس محله، ولكنك تقصد السنني! فنحن هناك نحكي عن تفسير سنني لمادة الصراع بين الحق والباطل مثلا، ظاهرة الجهاد وو.. مسألة لفظ (الحضاري) فيها تمييع وعدم دقة كبيرة، لست أرفضها ولكن ليس محلها. هذه من رواسب مدرسة معينة تعلمها.
    المهم..
    أ) لابد أن نفعّل التفكير الاستراتيجي كما نفهمه، هذا واجبنا، كدول وحركات وقادة ومفكرين، سواء كان تفكيرا استراتيجيا قصير الأمر أو طويله، يحكي عن التوظيفات والممارسات، أو بنى الصراع والقيادة.
    وفي هذا تفهم مناقشاتي لحرب غزة/ طوفان الأقصى ومتوالياتها كما ستجدها مجمعة هنا.
    هل آرائي التخصصية أراها صائبة، نعم
    مقطوع بها ولها حجية علمية قاهرة؟ قطعا لا!
    وهذا في أي تخصص، حتى في مجالي الطبي وأنا استشاري منذ 13 عاما.
    هل أنتظر من مجتمعي أن يقدّرني في هذا؟ نعم
    هل هناك فارق بين المتخصص الأكاديمي، والممارس، والمثقف والعامي؟ نعم، ونجاح كل دولة وأمة أن تستثمر في كل هؤلاء ويحصل بينهما تلاقح.

    ب) طيب، والتفكير السنني؟ له محل 
    قد أرى أخطاء جوهرية في البنية والوظيفة لما حصل في 7 أكتوبر، لكن قد تحصل آثارا بسبب فعل العدو مثلا، تغطي كثيرا عن هذه الأخطاء، ونظرتي الإيمانية والسننية أنه ستر وفعل المولى ودعاء الصالحين والدم المهراق للأبطال والشعب الممتحن.
    مثلا) في أول أسبوعين من الطوفان كان هناك مذبحة في الرأي العام الغربي ضد حماس بل حتى ضد القضية الفلسطينية وتحريم حتى أن ترفع لعلم فلسطين، لأن هناك جملة من الأخطاء الاستراتيجية (من منظورنا الاستراتيجية لا أقول جرائم حرب أو أخلاقية – مثل استهداف المدنيين، لأن مدار أمرنا عندنا في تسييقها وأثرها الاستراتيجي) قادت لذلك.

    ما الذي غيّر تماما الصورة وعكسها حتى على مستوى الشعوب بالأخص؟ استراتيجية إسرائيل الحمقاء (أيضا نقدنا ليس من منظور جريمة الحرب والأخلاق بحد ذاتها ولكن لأنه في سياقها كان لها أثرا استراتيجيا مدمرا)،
    ولكن لم يكن بسبب شيء فعلته المقاومة، كأنها صححت من أخطائها تلك مثلا وأعلنت مراجعة وندما عليها،  ولهذا صفحة حماس لم يتم تبييضها في الرأي العام الغربي)

    ماذا لو تعامل الإسرائيلي بشكل استراتيجي سليم، ومن ضمنه المراعاة الشديدة ألا يرتكب مذابح؟
    كان هذا أدى ضمن أمور أخرى لنتائج استراتيجية كارثية أفدح كثيرا مما حصل.

    ولكن لماذا لم يتعامل بالرغم من نصح الأمريكي، ومقتضى تفكير استراتيجي عند قطاع وافر داخله؟
    نعم – هناك تفسيرات تجريبية، ولكنها لوحدها عاجزة دون التفسير السنني.

    أختم بمسألة بنيوية وفنية استراتيجيا في نقاش 7 أكتوبر.

    أولا) هناك إشكال بنيوي في القابلية الاستراتيجية للمقاومة وطريقة فعلها قبل وبعد 7 أكتوبر، وهذا مهم لنا كاستراتيجيين أن نبينه، سواء لغرض تحليلي أو تصحيحي، وبغض النظر عن المنتوج كممارسة استراتيجية، ومنتوج هذه الممارسة كأثر سياسي واستراتيجي ( ونعم حصل اختراق في بنية الصراع وصيغة الردع وعدم القابلية للهزيمة إسرائيليا، ولكن نتائج وخيمة استراتيجيا على مستوى الإقليم بأسره فضلا عن القضية وحتى حركات المقاومة لفترة من الزمن).
    فلو ليس واضحا عندك أهدافا سياسية محددة
    لو رأيت أن هناك طوفانا سيحصل وتداعي ضغط شعبي، وتحركات وتغيرات في بنية الأنظمة – تقود بالتالي لتغيير خريطة الصراع، مع أن الواقع ظروفه الشعبية والسياسية والأقليمية بعيدة تماما عن هذا..
    لو المستوى السياسي عندك لا يتحكم ويناقش المستوى العسكري في تفصيلات حركته وبالأخص الالتفاتات الكبرى وفرز آثارها المحتملة،
    لو أنت في محور تعتمد عليه بشكل أغلبي، بل تقول أن استراتيجيتك – ولو لها نسخة بسيطة ومهزوزة – تقوم على فتح الجبهات، ثم لا تناقش معه بدقة طبيعة الحرب وآثارها ومساراتها،
    كل هذه أخطاء بنيوية استراتيجياـ قبل أن نناقش ما حصل بالأصل.
    وضحت؟

ثانيا) أما الفنية، فهي في تغيير خط الصراع، ومسألة الرأي العام الدولي..

، فنعم أنا رأيت من أول يوم أن 7 أكتوبر أحدث تحولا في خط الصراع شبيها بما أحدثته حرب أكتوبر، وهذا ليس له علاقة بما قد
يترشح عنه من نتائج لهذه الحرب والجولة، وأنا استفضت في شرح ذلك في أول مقال (نوستالجيا أكتوبرية)، ولكن لا بد أن ننتبه، أو تحول حرب أكتوبر كان ضمن سياق استراتيجي سليم، وأن طوفان الأقصى كان يمكن أن يحدث هذا المنتوج دون أن يتناقض مع سياقه ومبدأه الاستراتيجي.
ثم حتى هذا ليس ضمانة – كذلك كما كانت حرب أكتوبر ، أن تقود – بسبب إشكالات استراتيجية بعد نقطة البدء – في تجييرها لصالح الإسرائيلي وتحقيقه لأهم مكسب استراتيجي في خط الصراع (معاهدة السلام وإخراج مصر).

أما مسألة الرأي العام (العربي والدولي) كمستهدف استراتيجي، فنحن لا نتعامل معه كأهداف صلبة للاستراتيجية العسكرية وحتى الشاملةـ لأسباب يطول شرحها، وتناولتها في ندوة الرياض (عام على الحرب)، وباختصار:
هي من الخطوط الناعمة وليست الصلبة للاستراتيجية،
التراكمية وليست التعاقبية
Accumulative not sequential
نعم لها قيمة، ولكن غالبية مهيئة وليست حاسمة
Enabler not decisive
ونعم لها ديناميات خاصة بها، وحزم تخطيطية وقياسية مهم وجودها والتحرك لها، ولكنها أيضا شديدة السيولة، وسريعة التبخر، وتقتضي دوما منصات فعل وتوظيف استراتيجي وسياسي لها للبناء عليها وتمديدها،
ولهذا مثلا، فكرة ظهور قيادة سياسية وطنية تقود حرب غزة بعيدة عن اللون الفصائلي من أهم فوائدها، فضلا عن قيادة شأن الاستراتيجية العسكرية وتحويرها بشكل مدقق كعُملة تفاوضية وملء الفراغ في اليوم التالي، كان دورها أيضا أن تكون منصة توجيهية ومستفيدة وتتجمع عليها بوصلة الرأي العام العربي والغربي دون تحفظ، بل حتى استدعاء وتحريك وتوظيف الضغط على الأنظمة العربية وتطوّر دورها بالتالي لتحقيق ولو قفزات مرحلية محدودة.

لكن النقطة الجوهرية، انتقاداتنا البنيوية والوظيفية لاستراتيجية حرب غزة، لا تعارض قيمة ما سبق في مسألتي الاختراق الاستراتيجي في بنية الصراع والرأي العام العربي الدولي، بل العكس، كان ستنميه وتطوره وتمدده و الأهم – توظفه!

والإشكال كذلك – أن ما تمتلكه من قدرة بشرية وعسكرية لقيادة الصراع، وفرص من تضاغطات في الرأي العام العربي والدولي، والإحماء الشعبي والروحي وفرص التحريك المجتمعي والسياسي – إذا لم تهيء لها فرص توظيفها بشكل سليم، فأنت بالتالي تضيعها عن وقت وسياق أنسب.
وهذا يوضح نقطة هامة؛ أن الاستفادة من جولات الصراع لإحداث التغيير الاجتماعي والسياسي المطلوب في بلادنا ليست بشكل غير مدروس، وكما تعلمنا الدرس المرير في الربيع العربي، حركة الشعوب وانتفاضاتها إذا لم توفر لها القيادة ذات القدرة والرشاد، والسياق المناسب قد تؤدي لنتاج عكسي، ولا يمكن استدعاؤها كما نشتهي.

وبشكل أخص فيما يتعلق باستراتيجية المقاومة – البديل الذي كان مطروحا ، وليس فقط اكتفاء بالنقد، وليس قطعا الدعوة للاستسلام وعدم الفعل!!، كان مسارا استراتيجيا مضنيا دعونا له للبناء على منجزات والتحولات الاستراتيجية التي دفعت لها (سيف القدس) وتطوير عُقدها الاستراتيجية، يُرجع لها في ندوة عقدناها و عدة مقالات كتبتها حينها.

بل حتى مع 7 أكتوبر طرحت مسارا إسعافيا وتصحيحيا كمنظور استراتيجي، يرجع له في مظانه أيضا.

أتمنى أن تكون في هذه التطوافة المرتجلة إجابات وافية لما طرحت، وعلى الأقل، شحذ مسارك الباحث فيها.


وأنا تعمدت الحقيقة ، ألا أتناول هنا مسألة اتفاق الهدنة الحالي وتبعاتها ومآلاته، وما هي المحطات التالية بالصراع، ليس فقط لأنه نقاش مستقل ومتشعب، ولأني الحقيقة – لا أريد الخوض فيه حاليا لأسباب موضوعية وذاتية، ولا أعتقد أن هناك ما أضيفه على ما كتبته في المقالات السابقة. ولكن لأن ما يشغلني، سواء في مسألة تطوير الوعي الجيلي عندنا كأمة، والتطوير والبعث الحقيقي للحركات السياسية والمقاومة لبلادنا، هي أمور قريبة مما تناولناه على عجل..
التوازن والدقة والمراجعة في التفاعل بين النظر السنني، والتجديد الديني والروحي والمعنوي والاجتماعي من جهة، والتجديد الحركي والسياسي وفي تطوير بنية وقدرة الصراع استراتيجيا من ناحية أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى