متابعة استراتيجية للمشهد السوري : مراجعة الفرضيات، إشكالات بناء الدولة، والتدافع مع الإسرائيلي
بالرغم من كل الهواجس والتحفظات التي صاحبت الثورة السورية منذ نشأتها وحاليا ومستقبلا، ومع المعاناة المريعة التي عاشها شعبنا في سوريا من مذابج جماعية وتشريد وهدم لكل المباني المعمارية والاجتماعية على مدار عقد ونيّف، تبقى مشاهد تحرير الأسيرات والأسرى من سجن صيدنايا، وهذه الفرحة الذاهلة والامتنان اللا محدود تلخيصا لانعتاق شعب من أسر جلاديه، بغض النظر عما قد يحمله الغيب من غيوم وإشكالات.
ولعل جيلي الذي انفعل بمحطات الربيع العربي في مصر وتونس بالأخص – قبل أن تلوثها أدران السياسة، وحجم التدخلات الإقليمية والدولية، ويدفنها غباء وقلة رشد بني العشيرة قبل الخصوم، هو الأضعف نفسيا أمام تلك المشاهد التي تذكره بثورة وأحلام تحرير اندرست – ولو لحين، وتحيي داخله نزوة الشباب عند المشيب.
فبكل تأكيد، تكون المباركة لأهلنا في سوريا، والترحّم على مئات ألوف قضوا، وأضعافهم تشتتوا في البلدان، وقد حلموا بهذا اليوم، وفقط أن يصبح صباح ذات يوم دون تسلط مستبد يرى حاله إلها صغيرا يحسب عليهم أنفاسهم، ويقصف رءوسهم إذا اشرأبت عن حيز أكتافها.
على أنّي في خضم هذه المخضات العامة والخاصة، وتدوينا لبعض الحوارات مع القريبين، رأيت لزاما أن أتناول على عجل ثلاث قضايا، لعل فيها بعض فائدة،
أولا ) قراءة وتفسير ما حصل:
– تهاوي دفاعات نظام الأسد، والاختراق الهائل والسريع لقوات المعارضة – وبالقلب منها هيئة تحرير الشام من الشمال، ثم الفيلق الخامس وانهيار القطاعات في الجنوب، لا يمكن تفسيره عسكريا بشكل أساس. يعني كان هناك تعليق طريف لأحدهم (لو البلد كانت فاضية كانوا أخذوا أيام أكثر من هذا ).
بمتابعة الفيديوهات والأخبار من ساحات القتال، سواء من حلب وحماة، ثم حمص، لا توجد اشتباكات ثقيلة بالفعل حصلت غير بشكل متعجل عند حماة، ويغلب عليها الاشتباكات البدائية skirmishes ،
نعم، واضح أن ثمة تطور مؤسسي وبنيوي وتسليحي حصل عند قوات المعارضة، ولكنه ليس مفاجئا أو حاسما. يعني من حواراتي مع بعض القريبين عسكريا من المشهد السوري المعارض كان أكثر ما كنت مهتما بمعرفته أن أستكشف حدود الدمج التكتيكي والعملياتي للمسيرات، ومضاد مدرعات بحيث يمكن أن تقود لإنكار مدرعاتي وتجاوز تكتيكي لصالح مجاميع عسكرية هجينة أمام كُتل نظامية من المدرعات والأنساق الدفاعية الصلبة.. هذا إذا نحّينا السيادة الجوية للخصم وما تقود له من دعم تكتيكي close air support، وتعويق عملياتي interdiction وقيمة الأخير محدودة مع التشكيلات غير النظامية والهجينة.
وفعلا مثلما أظهر ما ترشحت عنه المتابعة العسكرية، كان وجود مجاميع الشاهين هذه وتوظيفها أقل كثيرا مما هو مطلوب ولازم لهذا التقدم التكتيكي. حتى المجاميع الخاصة من العصائب الحمر لايمكنها تجاوز هذه الكتل البشرية والتسليحية لخمس فرق!
النقطة الجوهرية في تفسير ما حصل، أن جيش النظام لم يقاتل والفرق تفككت بشكل متداعِ وشامل، بما فيها حتى الفرقة الرابعة التي اعتمد عليها النظام لتأمين دمشق ويقودها أخوه.
تناولت بتفصيل في المقال السابق، كيف ولماذا يمكن أن ينهار الجيش السوري وضربت مثالا بالجيش العراقي الذي كانت عنده ظروف أفضل كثيرا كبنية وتسليح ودعم وتماسك مؤسسي. على أن أهم ما أشرت له حينها، هو الاعتمادية القتالية والنفسية على الميليشيات الإيرانية وبالقلب منها حزب الله، وكيف أن عدم حضورها هو عامل حاثّ بشدة لهذا التفكك.
وهنا تأتي النقطة التفسيرية الثانية – لماذا لم تقاتل بل لم تحضر هذه الميليشات؟ أَشيع عن بعض مئات من الحشد العراقي وصلوا، وأن حزب الله أرسل 3000 عنصر لريف حمص، ثم 2000 للقصير، وكل هذا لم يظهر له أثر وتم سحبه أو لم يتم إرساله ابتداء..
ولماذا لم يتواجد الروسي كغطاء جوي، مع ما لذلك من آثار كبيرة، على الأقل تعويقيا لتقدم القوات المعارضة؟
هنا لابد من إعادة إبراز السياق السياسي والاستراتيجي الأوسع.
تحدثنا في السابق، وهذا معلوم للكافة، الظرف المواتي والمقصود لعملية ردع العدوان، وهو انشغال الروسي بأوكرانيا، والضعف والارتخاء الشديد الذي أصاب إيران والحزب بعد متواليات التدافع غير المتوازن مع الإسرائيلي بالعام السابق، وكيف أنه فُرِض عليهم تصعيدٌ هم مُحجّمون استراتيجيا عن التفاعل معه، وهذا أغرى شهية وقدرة الإسرائيلي على الاستنزاف العسكري وكذلك الاستراتيجي لهم كمُقدّرات وصورة وتاليا حرية حركة إقليمية.
ولكن كذلك – ما على المحك هو عال الثمنية لهذه الأطراف، المنفذ البحري للروسي في المتوسط، والقنطرة corridor لحزب الله وهو الأداة الإقليمية الأهمّ لإيران، فضلا عن الجبهة السورية ذاتها،
ونعم، كانت هناك تشنجات بين هذه الأطراف وبشار، تبعا لسلبيته (المفهومة) في متواليات التصعيد لطوفان الأقصى، وكذلك لتحرشاته ورغبته في تقليل التواجد الإيراني والميليشوي كبنية ونشاط – لا أعتقد أنه كان قرار منه بالمفارقة وإلا كان قد قبِل العرض الإماراتي وحمى نفسه، ولكنه مزيج من مسك العصا من المنتصف والقناعة بخفض استفزاز الإسرائيلي وقد تعملق إقليميا. ولكن، كذلك قيمة سوريا أوسع من هذه التضاغطات المؤقتة، وبشار نفسه كان في ورطة شديدة، وكان يمكن أن يتم استغلال الظرف لتكريس التواجد والحشد.
هناك بالتأكيد جملة من العناصر غائبة في تفسير رد فعل الروسي والإيراني،
الروسي – عنده طبع يتكرر كثيرا، وهو كما قالوا أنفسهم (لن ندافع عن جيش ينسحب)، كخبرة تاريخية روسية ترسخت في الثورة البلشفية ثم الحرب الكبرى هناك تقدير جم للتضحية وازدراء Disdain لأي قوات تنسحب، وهذا حصل معنا في 1967. ولكن الأكثر تأثيرا – أنه قد يكون تلقى بعضُ تطمينات وتفاهمات بوساطة تركية على بقاء مصالحه الملاحية وكقاعدة بحرية في طرطوس (هذا ما قد تكشف عنه الأيام المقبلة)، الحقيقة – حتى انشغاله بأوكرانيا لا يفسر عدم تفريغه لبضعة مقاتلات تقوم بدور الدعم التكتيكي والتعويق.
أما الإيراني والحزب، فنعم يبقى احتمال ولو ضعيف بتفاهم حول صيغة ولو متدنية من بقاء ال corridor، ولكن واضح أن أثر الضغط الإسرائيلي والخوف من تأثير التحشيد المضاد على الأخير كان كابحا للإيراني. خصوصا أن الإسرائيلي قد أوضح أنه لن يقف ساكنا أمام هذا التحشيد.
لا بد أن ندرك أن هناك اشتراك بين الأطراف الإقليمية والدولية على تحييد التواجد الإيراني: الإسرائيلي والخليجي والتركي، والأمريكي، وحتى الروسي!
وأختم هذه المسألة بتقرير.. أنا لا أتبنى الطرح الذي يصدّره القوميون أنها حرب إسرائيلية أمريكية بذراع من الميليشيات السورية المعارضة.. هذا الطرح بالمناسبة لا ينفي بالضرورة أن هناك شعبا بكليته يرغب في الحرية وإسقاط نظام بشار ولكن الحكي هو عن الفواعل وحروب الوكالة. ولكن بالتأكيد هناك جوانب غير معروفة عن طبيعة ارتباطات الجولاني، لا نحكي هنا عن تشكيلات معروف بيقين ولاءاتها الإقليمية وحتى دور الأمريكي فيها – الجيش الوطني لتركيا، والفيلق الخامس، وأوضح منه قسد للأمريكي. ولكن الحضور التركي خلف الجولاني لا تخطئه العين كذلك. وأيضا، العجيب أن رجلا مصنف هو و حركته على قائمة الإرهاب وعليه جائزة عشرة ملايين دولار يتحرك هو وقواته بأريحية كاملة وبالعلن في محيط جغرافي يقوم فيه الأمريكي بتسيد جوي كامل. على أقل تقدير – هناك تعايش عن قصد وتهيئة cohabitation بين الأطراف.
الأمريكي والإسرائيلي يرون في سقوط نظام الأسد بهذه الطريقة والسرعة مصلحة استراتيجية لا شك فيها، خصوصا في حال خواء وفراغ استراتيجي ووظيفي للدولة السورية – تبعا للإشكال البنيوي للمعارضة، وهذه نقطتي التالية بعد تقرير مسألة منهجية، ولكن حجم المغامرة من تحريك قطاعات إسلامية جهادية لخدمة نهايات استراتيجية غير مُتحكّم فيها، درس تعلّم خطورته جيدا الأمريكي والإسرائيلي في محطات متعاقبة، ولهذا فالإسرائيلي ذاته بمجرد أن ظهر عنده احتمال سقوط دمشق، قام بحشد القوات في الجولان، وجهّز خطط توسعة نسقه الدفاعي بها والضربات الإجهاضية داخل سوريا.
في المنهج ) هل لصعوبة وغموض بيئة الصراع أننا لا ينبغي أن نبحث في الدوافع، وفقط عن موازين القوى، وهل قيمة الاستراتيجية ليست في التبنؤ؟
الاجتهاد في تعرّف الدوافع مهم، ولكنها بالتأكيد أشد غموضا واستتارا من موازين القوى. ونذكر الخلاف اللطيف بعد حرب أكتوبر في لجنة أجرانات، حين دفع ايلي زاعيرا رئيس أمان أن مسئوليته فقط تحليل القابليات capabilities للخصم، أما دوافعه intentions فهي مسئولية المستوى السياسي لأنها قراءته الشاملة للبيئات والخصوم، ونعلم أن التقدير الاستراتيجي للخصم يرتكز على الأمرين. وقوله خطأ، نعم المستوى السياسي مسئوليته قائمة، ولكن الاستخبارات هي أهم أدواته في تقدير نوايا الخصم.
نقطة لابد أن ندركها ودائما ننظِّر لها – هو ضبابية Fog في الحرب، وأن فيها فرص واختلالات وتحولات دراماتيكية قد لا ندرك في وقتها أبعادها، وكما كان يقول مولتكة (أي خطة عسكرية لا تحتمل أول رصاصة – أو ثلث الحرب) Any war plan does not sustain the first bullet، ولهذا لابد من وجود حساسية وتحفز ذهني مستمر لإعادة قراءة المشهد على حسب تموّج الأمر وتقلبه المستمر ودائما يصنع الخيط التفسيري – الاستراتيجي thread ويعيد صناعته.. وهو قائم على فرضيات قد تتغير.. نعم مهم أن ترجح، ولكن لابد أن نتناول كذلك هذه الاحتمالات البعيدة ونضع لها موقعا خططيا (كبنية ووظيفة) على قدر وزنها كاحتمال وخطورة.. ولهذا – مركز الثقل في الاستراتيجية العسكرية والسياسية ليس الخطة (كما هو الحال في الإدارة الاستراتيجية للشركات والمنظمات) ولكن الملكة القيادية الاستراتيجية كمعرفة ومأسسة ومرونة تطبيق، لأنها ليست كما في الأخير قائمة على منتجات وصفية ثابتة غالبا. كما ذكرنا المقال السابق – تحويل النشاط العسكري نفسه لأثر استراتيجي ثم نتاج سياسي – هو تحويل لعملة دون سعر صرف ثابت.
مثال – في حين كان الأمريكي مرجحا ضعف احتمال سقوط دمشق وبالأخص بهذه السرعة واستمر هذا حتى آخر لحظة.. استمعت حوارا لروبرت فورد – السفير الأمريكي الأسبق في سوريا – في ليلة السقوط كان هذا رأيه ونقل أنه الرأي السائد في واشنطن. ولكن الإسرائيلي بالرغم أن ترجيح السقوط كذلك لم يحصل غير في آخر يومين،– إلا أنه خططيا وكنشاط على الأرض كان مستعدا لسقوط دمشق ولهذا قرر حزمة الضربات التدميرية لمخزونات الكيماوي، ومستودعات الصواريخ والدفاع الجوي، وكذلك توسعة المنطقة العازلة على الحدود.
ولهذا – فمحصلة الكلام هو أن لا نترك حالنا لوضع فوضوي لا يكون عندنا خط تفسيري عام ، ولا أن نكون متيبسين حول خط واحد وقراءة واحدة.
أحد الأصدقاء قال لي: أنت جعلت احتمال ضعيف أن تسقط دمشق هكذا.. والحقيقة أن هذه من البديهيات الخاصة بالمجال- أنت لابد أن تقوم بتقديرات، ولكن في إطار كامل يترسخ فيه مبدأ ضبابية الحرب وأن الاحتمالات قائمة، وفي خارطة السيناريوهات أن تضع هذا حتى لو تراه ضعيفا.
الاستراتيجي ليس مطلوبا منه أن يضع تنبؤا دقيقا مثل ما كان يقول كولن جراي ساخرا في كتابه عن التخطيط الدفاعي: Who has my crystal ball ، خصوصا أن معرفتنا الدقيقة بالبيئات الاستراتيجية والسياسية تتباين بين ملف وآخر.. فقد نحكي بأريحية عن الوضع الفلسطيني والإسرائيلي، ولكن الأمر مختلف في تفصيلات الوضع السوري الذي نعرف مفرداته العسكرية والسياسية عن طريق وسطاء.
الأهم – أن تضع الأسئلة الاستراتيجية بشكل سليم و أن تبحث عن الإجابات بشكل منهجي. أن تحاول تفهم الدوافع والموازين – وكل هذه فرضيات تتباين نسبة تأكدنا منها (مثلا – النسق العسكري لقوات المعارضة، وطبيعة وحجم الاهتراء في قوات النظام، الأخطر – موقف الإيراني والحزب والروسي – أنت مثلا ممكن تستوثق من طبيعة وحجم الضغط الاستراتيجي والعسكري على الإيراني ولكن تأثير ذلك على الوضع الذهني ومواقف المكونات في دائرة اتخاذ القرار أمر أقل وضوحا وتأكدا)، ولهذا لابد من تحفز كامل ومستمر لمراجعتها، وتغيير المخروط الاستراتيجي تبعا لذلك.
ثانيا) ملفات بناء الدولة وإشكالاتها ومتطلباتها
الحقيقة، أن أهم ما يثير القلق والتوجس ما هي مُقدمة عليه سوريا.. هناك إشكال بنيوي في طبيعة وضعف القوى السياسية فيها، الإشكال العميق في هيئة تحرير الشام كقيادة وتركيب وارتباطات وكذلك أيديولوجيا. التحولات الحادة التي تحرك فيها الجولاني دون بالضرورة تمحيص ومراجعة و (وقت) وأن مواكبتها المستمرة للسياق ومتطلباته تشي ببراجماتيتها. وأنا عموما، أرى الأيديولوجيا عنده أداة للسيطرة والتمدد الشخصي والتنظيمي والسياسي، وتتغير على حسب الحاجة منها. وأخطر من كل هذا، الاستلاب الكامل في الإرادة والاستقلال لكل التيارات والمفاصل للقوى الخارجية – إقليمية ودولية، وفوق هذا حجم الجرح الوطني والمظالم الحادة في مجتمع هجين طائفيا.
بطبيعة الحال، لابد من المُضيّ في مرحلة بناء الدولة – الانتقال الديمقراطي (وهذه مفارقة لأن هذا ما نسي أن يحكي فيه الجولاني من ضمن ما حكى بما في ذلك قبوله الضمني لوجود قوات أجنبية إذا كان ضمن تقنين في رده على سؤال السي ان ان عن القوات الأمريكية) ، وأخطره بناء العقد السياسي والاجتماعي مُرمزا في الدستور (نعم – الدستور لا ينشيء العقد الوطني ولكن فقط يحكيه coding) ، التوازن بين الحفاظ على بقاء حد أدنى ومُلِحّ من الوظيفة في حركة الدولة (الأمن، الدفاع، الحاجات الأساسية في المأكل والمشرب والكهرباء والاتصالات والصحة، ثم البنية التحتية والتعليم، القضاء، التواصل الخارجي) مع ضرورات إعادة الهيكلة في كل المؤسسات – خصوصا مؤسسات القوة – إعادة هيكلة قطاع الأمن وضبط العلاقات المدنية العسكرية، فضلا عن مساحات العدالة الانتقالية والمصالحة.
هذه الملفات من التعقيد ومحملة بسلال من المطبات بحيث أن الأصل فيها الاختلال، هذا – كما خبرنا في بيئات مصر وتونس مثالا ، مع وجود تيارات سياسية لها حد أدنى من القِوام والشعبية، والاتفاق المبدئي على قواعد دستورية وحتمية السير الديمقراطي، وبدرجة كبيرة عدم حراجة الخطر الدفاعي، وكذلك درجة ما من الاستقلال عن القوى الخارجية على الأقل في المرحلة الأولى، وكذلك بقاء درجة من المنظومة الدفاعية الأمنية والهيكل المدني كعُرف ووظيفة ومأسسة (نعم في حال فشل التعامل الحكيم معها وعدم إعادة الهيكلة تتحول لعائق أمام التحول الديمقراطي، ولكن تحطيمها مبكرا كما حصل في تجربة العراق يؤثر بشكل كبير عن السياق الأمني والدفاعي والسياسي معا – وأنا لا أحكي هنا فقط عن مؤسسات القوة للنظام ولكن للفصائل كذلك).
وفي ذات الوقت، بالرغم أن مهمة التخطيط والصياغة لإعادة بناء الدولة هي في غاية التعقيد كما ذكرت، فلابد أن تقود كمنتج لصياغات وبرامج سهلة وبسيطة، بالأخص في مراحلها الأولى.
وفي تقديري، أنه بالرغم من الوفرة الكبيرة في أدبيات وتجارب بناء الدول والأوطان، الناجحة والفاشلة منها، فإنها غالبا ما تكون مُعوّقة. لأن أخطر شيء هو التسييق والنجاعة – أي اختيار نموذج مناسب للسياق وخصائصه الثقافية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية، وكذلك مناسبة مفردات للاحتياجات الملحة وطويلة الأمد والتفاعل الإيجابي بين الفعل التعاقدي للأمة وما تختاره كسياق وطني وهوياتي حاكم، والخبرات التخصصية على اتساعها التي تنحاز لسياسات محددة في الهيكلة المدنية والبنية التحتية والنظام الاقتصادي ومساحات التعليم والصحة والسياسة الخارجية والدفاع، ثم التدافع في تلك الخيارات السياساتية policies تبعا للتدافع السياسي على مصادر القوة والتوجيه في معادلة ديمقراطية سليمة. أي التوازن بين بناء الأمة Nation Building، وبناء الدولة State Building ، والتنافس السياسي Political Process ، مع الحفاظ على الترتيب.
والحقيقة – أن Nation Building صارت له عن حق سمعة سيئة لأنه تصور أمريكي فج وأخرق على أحقية وإمكانية أن تقوم أمة بإعادة تأسيس أمة أخرى.. بل حتى المقاربة الأمريكية في نسف ثم إعادة بناء المؤسسات، وهي تختلف بشكل ما عن مقاربة الأمم المتحدة فقط في إعادة تحويرها، قادت بالأخير لكوارث، خصوصا أن البعد التسييقي والمناسبة الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية كانت غائبة، وكذلك – أنها في معرض استراتيجية احتلال ومواجهة (تمرّد) – أي مقاومة شعبية لها درجة من الحقانية. وليس معنى هذا أن كل التراث والتجارب يجب إهمالها؛ بالعكس – هناك لفتات جيدة في البرمجة الداخلية ودروس إعادة الهيكلة، ولكن الإطار الكلي بالتأكيد ملتبس وفاسد.
وهناك ثلاث دوائر لابد من التحرك فيها في المرحلة الانتقالية، مع تقديم إنجاز الدائرة الأولى على ما عداها، ثم يأتي ما بعدها:
1 دائرة المصلحة الحرجة – الأمن الداخلي، الطعام، الصحة الميدانية، الكهرباء والاتصالات، صيغ مرحلية للحكم المحلي والقضاء، وأرى بالوضع السوري تحديدا – النسق الدفاعي لحراجته كما سيأتي.
2 دائرة التخطيط لإعادة بناء الدولة والتعاقد السياسي.. وأخطرها تعريف المجاميع السياسية والاجتماعية، ووضع إطار تمثيلي لها يتوافق على دستور بعد القناعة بمفرداته. ومن الإطار الكلي للنظام السياسي والقضائي وطبيعة العملية السياسية (الديمقراطية) تنشأ حزم تأسيسية تنبني عليها بناء وتحوير المؤسسات وبالأخص كقيم حاكمة وثقافة وعوامل صحة وإنجاز.
3 دائرة التحوير السياساتي والمؤسسي وإعادة الهيكلة، ونحكي هنا على بناء القرص الصلب المهني للدولة، وخياراته فوق السياسية في مساحات الاقتصاد والاجتماع والسياسة الخارجية والدفاعية والداخلية. هي الحركة الفعلية في الفترة الانتقالية لضمانة أن تُبنى الدولة كما يريدها مواطنوها وتحافظ على قدر معتبر من الصحة الوظيفية، تمهيدا أن تقود العملية الديمقراطية التالية لمُفرزات لها تفويض يبقى محدودا ولكن معتبرا من رسم السياسات والتعديل الجزئي في البنى الهيكلية.
وفي الحال السوري بالأخص، ككل بلادنا، فنحن نحتاج نموذجا هجينا يتعامل مع المؤسسات بدرجات هيكلة مختلفة (الهدم الكامل وإعادة البناء، أم التحويرالهيكلي والثقافي ومفاهيم العمل، أم تغيير قيادي ودعم مادي..) على حسب الحراجة، وحجم الإشكال، ووفرة البدائل، وطبيعة الملفات المهنية ذاتها. ولابد أن تُراعى الأولويات ويُعتمد مبدأ التراتبية والتدريج في الانتقال من الدائرة الأولى للثانية للثالثة.. نعم – إعادة إصلاح وتفعيل المؤسسات لابد أن يبدأ مع دائرة التعاقد السياسي ولكن بهدوء ومحدودية تقصد فقط تحقيق الحد الأدنى من الوظيفة.
ولا يسع المجال الآن أن نفصّل أكثر في هذا الأمر ولسبب جوهري، وهو حاكم في موضوعنا، في غياب الإطار الوطني السياسي، ليس فقط أن أي محاولة لتأسيس أمة أو دولة ستكون شديدة الهشاشة ومحكوم عليها بالفشل؛ بل هي لن تحصل أصلا!
وبوضوح أكثر، لو تخيّل البعض أن نموذج إدلب يصلح أن تؤسس عليها دولة سورية فهو واهم أو مُغرض. هذه كانت إمارة محصورة وكان منوطا ملفات إعاشة طارئة ومحدودة، ولكنها ليست دولة ولا حتى شبه دولة quasi-state، ثم إن هناك تلالا من القضايا الجوهرية والتي تؤسس للعقد الاجتماعي والسياسي والدستوري لم تكن هناك محلّ لها بالأساس، ولا يكفي فيها (نحكم على هدي شريعة الإسلام!)، وكذلك – الإشكال الكبير في غياب الاستقلال الوطني وتكريس منطق التبعية والاعتمادية على التركي وغيره.
وأيضا، التكوين العسكري الميليشوي، قد يمكن الاستفادة منه لتحقيق الدائرة الأولى الحرجة (الأمن الداخلي والتسيير المدني)، ولكنه كذلك – وغالبا ما يكون الحال، هو أداة احتراب داخلي، لأن من يقوده يتصور أنه سيعطي له أولوية في تقرير الشأن السياسي العام وحيازة السلطة مباشرة أو عبر واجهات!
ولهذا – فواجب الوقت هو التداعي لتشكيل حكومة مصغرة انتقالية، ترتبط بها دوائر عمل لتحقيق مهام الدائرة الحرجة، وكذلك – تشكيلات أمنية هجينة بين الميليشيات وعناصر الشرطة السابقة لضبط الأمن في الشارع ونزع السلاح،
ثم مؤتمر وطني ممتد بين ممثلين عن التيارات الأساسية سياسيا (الإسلامي واليساري والليبرالي والقومي) والاجتماعي (السنة، والشيعة والعلويين، والأكراد، والدروز) والمناطقي، يتفق أوليا على وثيقة مباديء فوق دستورية حاكمة (ونتمنى أن ينغلق باب التوهم والاحتراب في مسألة الشريعة قبل أن يبدأ!، بتبني ما استقر له العرف الدستوري المصري باعتبار مبادئها – أي ما هو قطعي الثبوت والدلالة – المصدر الرئيسي للتشريع) ، وينتخب من داخله مجلس حكم انتقالي، ومجموعات تنفيذية يكون مهمتها الدائرة الثانية في وضع خارطة الطريق والدستور، ثم الإشراف على الدائرة الثالثة والتي ترتكز على مؤتمرات وهيئات تخصصية تخدم وتمثل العقل الاحترافي للحكومة الانتقالية.
ويتشكل مجلس عسكري-أمني تابع للحكومة والمؤتمر الوطني، ويضم الرءوس المتعاونة للقطاعات العسكرية للنظام السابق ورءوس الفصائل، للقيام بوظيفتين: الشأن الملحّ كما سيأتي في المهمة الدفاعية الطارئة، ثم الدائرة الثالثة (إعادة هيكلة القطاع العسكري والأمني).
ولا يجب أخذ قرار بحل الجيش والأجهزة الأمنية هكذا! نعم هناك أجهزة لابد من حلها وتدميرها وإعادة بنائها أو حذفها كليا (العديد من الأجهزة المعلوماتية المُنشأة ضمن سياسة النظام البعثي في تعقيد وتراكب الجهاز الأمني لإحكام السيطرة فضلا عن ثقافتها المؤسسية الباطشة)، ولكن لابد من كود وظيفي مبدئي، يتم فيه دمج جزئي ونوعي لعناصر الفصائل ضمن الجهاز العسكري والأمني، وكذلك فرز وفلترة القيادات والكوادر العسكرية والأمنية للنظام، وبالأخص ما فوق رتبة مقدم.
والحقيقة – أن هذه المهمة الضخمة نراها أعقد كثيرا ذهنيا وبنيويا وكموارد مما هو موجود حاليا، ولهذا تظهر أولوية الإطار السياسي الوطني لأنه ليس فقط هو العقل الموجه للمرحلة الانتقالية سياسيا واستراتيجيا، ولكنه يقوم بوظيفتين أعمق:
- هو يمثل الرمزية والروح الجديدة للوطن السوري، والذي يكون قادرا على استدعاء وجذب عشرات الألوف من الكوادر السورية في كل التخصصات والذي رأيناهم بالغرب، وراكموا الحقيقة خبرة مهنية عالية فوق ما عندهم من خبرة أولية جيدة.
- التفاعل مع الإطار العربي، ليقوم بواجبه في الدعم المواردي والخبراتي والسياسي للدولة الناشئة، مع ترسيخ مبدأ اللاوصاية، وهذا له قيمة جوهرية كذلك في المآزق الدفاعية التي تعانيها سوريا حاليا ، وسيبقى هذا لفترة للأسف.
ثالثا) السياق الاستراتيجي بخصوص إسرائيل، وضرورات التحول العسكري والحراك الاستراتيجي:
باختصار ، بدأ الإسرائيلي الاستعداد الخططي وإعادة الانتشار تأهبا لسقوط نظام الأسد قبل حصوله.
والمتتبع لسياسته مع سوريا منذ وقف إطلاق النار 1974 يجدها مرت بمحطات؛
الأولى – كانت تحقيق أكبر قدرة من الهيمنة في النسق الدفاعي بالجولان حواليْ الاتفاقية التي أفرزتها رحلات كيسنجر المكوكية، وهي من ناحية كانت انعكاسا نعم لموازين القوى التي أفرزتها الحرب، وللأسف – الانفصام بين مسار مصر وسوريا والذي بدأ بإشكالات في فترة الحرب ذاتها، ثم توقيع مصر على اتفاقية فض الاشتباك الثاني 1975 والذي أخرجت مصر فعليا من الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن كذلك هي كرّست وضعا دفاعيا شديد الانحدار لصالح الإسرائيلي.
والثانية – جمود جبهة الجولان، تمتين الردع الذاتي عند السوري. وبالأخص كانت حرب 1982 شديد الاستعراضية لتكريس الفجوة العسكرية النوعية كردع ذاتي للسوري. هذه الحرب القصيرة والتي تعمد الإسرائيلي فيها استخدام ال state of art weaponry systems ، واستطاع بشكل قياسي تدمير مضادات الدفاع الجوي وتحطمت فيها ثمانون طائرة سورية ولم يفقد الإسرائيلي غير طائرتين عن طريق الخطأ.
والثالثة – بقاء ذات الجمود والردع مع التدخل النوعي للخط الأحمر النووي كما حصل في ضرب مفاعل دير الزور (عملية البستان 2007)، ولكن محاولات هزيلة لعقد اتفاق سلام في فترتي التسعينات وأوباما، ضمن خلفية من الاشتباك المحدود بالوكالة في جبهة لبنان (حزب الله). هذه المحاولات لم تكن على أي قدر من الجدية، عدا محاولة 2000 (فاروق الشرع – باراك – كلينتون) والتي قبل فيها حافظ الأسد بشكل واضح عزل حزب الله وهذا كان هاجسا قويا عند إسرائيل حينها، ولكن دون التطرق للعلاقة مع إيران، المهمّ في هذه الجولة كان قبول الطرفين لكل الترتيبات الأمنية (انسحاب إسرائيل من الجولان، في مقابل الحفاظ على قمة جبل الشيخ (الجزء الإسرائيلي منها في اتفاقية 1974)، واتساع مساحة نزع العسكرة السورية حتى مشارف دمشق. ما أفشل الاتفاقية هي مسألة بحيرة طبرية. البريطاني في اتفاقية 1923 مع الفرنسي – تبعا لاتفاق سايكس بيكو – رسم خط الحدود لصالحه بحيث أن يكون على شرق بحيرة طبرية، للاحتفاظ بمائها، ولكن خط حدود ما قبل 1967 كان يصل لها، وبعد قبول مبدئي للإسرائيلي بالخط الثاني قدم صيغة نهائية مع الخط الأول فرفض حافظ الأسد بشكل قاطع وانهارت المفاوضات.
والرابعة هي فترة الربيع العربي، والاعتمادية الدفاعية لنظام بشار على الإيراني وحزب الله، وهنا اعتمد الإسرائيلي مبدأ توسيع مدى الاشتباك لإعادة رسم الخطوط الحمر بشكل دوري (العمليات بين الحروب وجز العشب)؛ ضرب نقاط نوعية تخص مخازن وتهريب أسلحة دقيقة للحزب، وكذلك منع احتشاد جماعات موالية لإيران قريبا من الجولان. الإسرائيلي موقفه من الثورة السورية تغيّر بشكل ملحوظ : الأول كان مرتابا وعنده هواجس بخصوص أثر تغيير النظام على الصيغة الردعية وجمود الجبهة، ولكن مع تطورات الوضع ومدى علاقة المعارضة السورية المبكرة بالأمريكي وتقديم تعهدات بخصوص القبول حتى بما لم يقبل به حافظ، تبنى الإسرائيلي بشدة مبدأ التقسيم، ولهذا – فكل وفوده السياسية والدفاعية حينها للغرب – وكنتُ في لندن وقتها وحضرت بعض الندوات التي عقدتها هذه الوفود – كانت تسوّق له (كيان سني بالشمال والوسط، كردي في الشمال الشرقي، درزي بالجنوب، وعلوي على الساحل). ولكن بعد ذلك – مع تدخل الروسي واضطراد الحضور الإيراني ولحزب الله (أي استبعاد حصول التقسيم عمليا لوقت قريب) اعتمدت الاستراتيجية السالفة
ونعم – ندرك جيدا، أن التراجع في بنية وصورة وحضور المحور الإيراني تبعا لمتواليات التصعيد العام الفائت، أجبر الأسد على خيارات صعبة؛ اختار منها مسك العصا من الوسط بالتضييق على الحضور الإيراني والتزام السكون التام، وهذا كان له أثره الكبير على الوضع الدفاعي أمام ردع العدوان.
وحين اقترب سقوط دمشق؛ تحرك الإسرائيلي لتحقيق ثلاثة أهداف مباشرة:
الأول) هو تمتين الوضع الدفاعي في الجولان، أو كما هي مقولة الجيش الإسرائيلي من ما قبل حرب 1967 correcting the map errors. مهمّ أن نذكر مركزية أساسية في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي – ليس فقط ما سمّاه مايكل هندل قديما تكتكة الاستراتيجية tacticisation of strategy، أي التعامل مع الاستراتيجية بمنطق الحسم العملياتي وحتى التكتيكي، ولكن ما ذكره Gill Morem الهوس الجغرافي Territorisation ، أي الهوس بالنسق الجغرافي وتوسعه سياسيا ودفاعيا فوق أي حساب استراتيجي.. ولهذه المقولات المستمرة: شرم الشيخ-الجولان بدون سلام، خير من سلام دونهما.
الجيش كان معترضا جدا وقت مفاوضات 2000 على تسليم الجولان، حتى مع كامل الإخصاء العسكري للسوري وصولا لدمشق، وكيف أن هذا مع بقاء الإنذار المبكّر على قمة حرمون سيجعل هناك أفضلية دفاعية للحشد بالجبهة وحيازتها قبل السوري بفترة كبيرة، وهي ما تعتمل عليه من جرف عسكري كاشف فوق ما دونها.
وأذكر أني في 2010 وجدت في مكتبة أستاذي حينها كولن جراي ورقة سياسات Defensible Borders/ Golan Hights لجيورا إيلاند وكان مستشارا للأمن القومي وقبلها مديرا لدائرتي التخطيط والعمليات في هيئة الأركان الإسرائيلية، واحتفيت بها لأنه أهداني إياها، ووقتها لم يكن من المتيسر الحصول على هذا عينيا أو في الانترنت كما الآن. وجيورا ايلاند هذا – يمكن هو مشهور الآن لأنه صاحب خطة الجنرالات في غزة، وهو من الاتجاه اليميني المرافق لنتنياهو في طبقة العسكريين، كان يُفنّد كل المصالح المفترضة للتخلي عن الجولان وإشكالات ذلك دفاعيا، وكان أهم ما طرحه – أن النزول عن الجرف الغربي للجولان- فضلا عن التراجع حتى طبرية الذي سيجعل انكشافا أمام النيران المباشرة – سيُجعل هناك عرضة للتأخر في الانتشار الدفاعي أمام الأخطار غير النظامية، فضلا عن خطر انشغال الطيران بتحييد الأخطار المستجدة في تحييد منظومات الصواريخ ومستودعات الكيماوي فضلا عن مهمتها الأصيلة في تحييد الدفاع الجوي لتحقيق السيادة الجوية ابتداء.
وجبهة جبل الشيخ (تحت السيادة السورية) تعلو تلك الإسرائيلية ب 200 متر تقريبا، وكذلك – كان هناك تخوف قديما من التكتلات البشرية التي من الممكن إنشاؤها في المناطق العازلة وشرق الخط أ في اتفاقية 1974، فضلا عما فيها من تقييد دفاعي لإسرائيل.. وهذه الاتفاقية بالأساس تم نقضها إسرائيليا بدءا من قرار ضم الجولان عام 1981، والمفترض أن ترامب في معرض إقراره لأنه صرّح في 2019 بذلك، وكذلك في كل النشاط العسكري الجوي والبري في الداخل السوري والجولان طيلة العقد الفائت.
الثاني) تجفيف كل منابع التهديد تبعا للمستجدات؛ الصواريخ والكيماوي والأسلحة النوعية، والتي قد تؤسس لواقع سياسي مبهم، أو تقع في يد فصائل لا يمكن التحكم فيها وليست خاضعة لأي معادلات ردع استقرت لأربعين عاما.
الثالث) وهو الأكثر استراتيجية – ترسيخ صورة من الهيمنة والتفوق العسكري والرادع أمام الواقع السوري المستجد، وتطبيع ذلك إقليميا، لأن المرحلة المقبلة بالتأكيد ستتضمن إحياء مشروع التطبيع مع السعودي، والاستفادة مما حصل في سوريا لضرب بقايا التواجد الإيراني إقليميا في لبنان والآن سوريا وبعده العراق، فضلا عما سيعانيه حزب الله في الداخل اللبناني من تهاوي الشرعية الوظيفية وصيغة القوة، وغلق خط الإمداد الوحيد له بسوريا.
والحقيقة – أن صورة نيتنياهو وهو على قمة الحرمون وانتشاؤه وراحته، ذكرتني بمشهد دايان وهو في باحات القدس بعينه الواحدة في 1967.
وبالنظر لكل هذه الأهداف، وما هي مقبلة عليه سوريا من مرحلة انتقالية، حتى بافتراض مثاليتها ونجاعتها، فهناك خطر لازم في انكشاف الوظيفة الدفاعية التي كانت متضعضعة بالأساس، وتكريس إسرائيل لهذه المكتسبات الجغرافية والعسكرية والأخطر منها الاستراتيجية لردح طويل من الزمن.
التضاغط بين مسارين ورؤيتين:
في معرض النجاح الجزئي للثورة المصرية، كان هناك فوران شعبي ضد إسرائيل والحديث عن نقض معاهدة السلام، وتجلى هذا في الشباب الذي تسلق على السفارة الإسرائيلي في كوبري جامعة القاهرة، ونحن كشباب تجازنا مرحلتنا الجامعية حينها كان لهذا ذكريات وشجون جامحة. وحينها كتبت أن هناك تضاغط بين مسارين: مسار التحول الديمقراطي واستعادة بناء الدولة وفيها ضبط العلاقات المدنية العسكرية وما يقدّم لنا ذلك من فرصة الاستعادة الإرادة السياسية ثم تطوير حقيقي للقابلية الاستراتيجية والقدرة العسكرية لنتمكن من التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي وفي قلبه معاهدة السلام بمنطق مختلف، وبين مسار النزوع سريعا استفادة من هذا الإجماع الشعبي للتعامل مع هذا الملف دون تحقيق المتطلبات السابقة. وقد رأيت حينها أن الأولوية بالتأكيد للمسار الأول، ولكن هناك معطيات جوهرية وآنية للتعامل مع خط الصراع، وليس كما فعل الإخوان المسلمون حينها أن أعطوا تعهدات بعدم فتح هذا الملف – سرا في بداية الثورة، وعلنا في أوائل 2012 وشجّعهم هذا مع تغير الموقف الأمريكي منها لخوض انتخابات الرئاسة.
على أن الوضع في الحال السوري أشد حراجة بمراحل! لأننا – كما أسلفنا – أمام واقع عسكري واستراتيجي يتغير لحظيا، لوضع هو بذاته يرسخ التعملق الإسرائيلي ويشي بظلال بائسة على تلك الدولة الوليدة في سوريا بفرض حسن الظن في حضور نزعة الاستقلال ومعاداة الإسرائيلي وعدم التفريط له في فصائلها الرئيسة!
وفوق هذا – الإشكال المبدئي الذي ذكرناه في المقال السابقة في الموضعة، وفي الموقف من حزب الله وبعض مساحات الدور الإيراني الإقليمي، ازاداد، ولن نجد أنفسنا إلا أننا نحقق للإسرائيلي ما يطمح له إقليميا في التخلص من أطراف كابحة ومعادية له، حتى لو بمنطق المتابعة وليس التآمر cohabitation not conspiracy.
وحتى لا يتخيّل أحد، أنني انحزت لما يُسمّى بمحور ومبدأ المقاومة على إرادة شعوبنا في الحرية، وتغاضيت عن جرائم حقيقية تورط فيها حزب الله، حتى لو اضطر استراتيجيا للتدخل في الملف السوري، ففوق ما أوضحته في مقالي القديم 2012 عن نقد خروقات حزب الله في هذا الملف، وأن هناك ضرورة لتعديل الموضعة السياسية للمعارضة السورية لتنحاز بشكل واضح لمبدأ المقاومة وعدم الارتهان للغربي، وأن هناك ضرورة استراتيجية لتفاهمات بينها وبين حزب الله وإيران – وأهمها كما قصدت الكوريدور؛ حتى نظام مبارك وركينه عمر سليمان – كان متفاهما ضمنيا مع المقاومة الفلسطينية على هذا الأمر! وأن هذا من شأنه في الوقت المبكر من الثورة أن يحرم النظام في فترة تداعيه في 2014 وكنا وفّرنا عقدا بأكمله من معاناة سوريا وشعبها.
ومن الناحية الأخرى، كنت كذلك محذرا لحزب الله قديما ونسبيا حديثا، من أن تدخله في سوريا بهذا الشكل، وكذلك تصرفاته في لبنان، ستحرمه بشكل كبير مراكز ثقل أساسية في قوته الاستراتيجية، وأن هذا ما حسم حرب 2006 لصالحه وليس تميزه التكتيكي مع أهميته، وفي ورقة خاصة أوصلتها لقيادته عبر صديق في 2021 – كناصح أمين، حذرته أن قدرته على التصعيد في أي حرب مقبلة ستكون محدودة، وهذا له أثر كارثي عليه استراتيجيا وقد تحقق هذا!
الخيارات المتاحة إسعافيا:
أولا) لايمكن التحرك في أي سياق دون تأسيس إطار سياسي مؤقت مُشرّف ووطني، ويشترط انعزال كل طاقمه عن العمل السياسي التنافسي تاليا. وهناك أفراد لا خلاف عليها مثل معتز الخطيب وغيره، وتمثل كل التيارات. نحن نحكي عن مجلس حكم مؤقت لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، يكون هو العنوان الأساس الذي على أساسه يكون لسوريا حضور دولي وإقليمي فوري!
هذا الإطار ليس فقط ضروري لعملية بناء الدولة، ولكن للدفع للتحرك العربي في مصادرة التحرك الإسرائيلي، والضغط عليه كذلك بمجرد حصوله لأنه سيهدد مساره التطبيعي المقبل، لأنه سيُجرّم من يتحرك معه فيه. فضلا، عن ضرورة التحرك في مساحة القانون الدولي في مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية والجهات ذات الصلة. يعني هذا الحد الأدنى الذي تقوم به جمهوريات الموز!
ثانيا) لابد من الإسراع كذلك في تشكيل المجلس العسكري الأمني، مع حضور مدني وسياسي قوي فيه، للتعجل في مسارات إعادة البناء العسكري، ومنظومات الدفاع الجوي – ما تبقى منها، حتى لو في مستوى متدن تقنيا وتكتيكيا وتفعيلها. هذا له دلالة كبيرة رمزية، ورسالة للإسرائيلي لها معنى ضاف وممتد.
ثالثا) يتساوق مع هذا البحث في مسارين:
- تطوير صيغ للتفاهم مع أطراف المحور (إيران – حزب الله – حماس) ضمن ملفات محددة، وبشكل تدريجي ونسبي – وفي المقابل، هناك ملفات كثيرة في الداخل السوري يمكن لهذه الأطراف أن يكون لها دور إيجابي وداعم لها. الحقيقة – أن منطق التفاهم والمصالحة لا ينفي مرارات الماضي ولا يدفنها، ولا يضحي بالماضي لأجل الحاضر والمستقبل، ولكن في الداخل كما في الداخل، هناك احتياج لمقاربة تعتمد على قدر من المراجعة وتحمل المسئولية، والمصالحة المرتبطة بواقع وأدوار تتغير، وقدر من العدالة الجزئية/الانتقالية وفق صيغ تسويات مقبولة. نظام الأسد كما قال الجولاني – ولعله يُصدّق لقبه – في خطبته بالجامع الأموي قد يكون جعل سوريا لإيران مزرعة تفعل بها ما تشاء، ولكن نحن الآن أمام جعل سوريا لإسرائيل جثة تنزع منها أشلاءها وهي منتشية بعصر جديد من المجد.
- تطوير صيغ من العمليات العقابية ضمن إطار منضبط ومحسوب، سواء في جبهة الجولان وكذلك في ملفات أخرى تشغله كرسائل ردعية، بحيث يدرك الإسرائيلي أن مسلكه التوسعي والمستبيح للداخل السوري لن يقدّم له أمنا دفاعيا؛ بل العكس. والحقيقة – أن استعادة رمزية السيادة الوطنية وبالأخص ضد إسرائيل هو أكبر ما يمكن أن يمثل خميرة للإجماع والحشد الوطني في هذه المرحلة الصعبة. نعم – كرّسته الأنظمة لتكريس هيمنتها وسطوتها، ولكنها إذا استُخدمت بحنكة وتحت إشراف سياسي مدني مباشر، ودعم شعبي مسئول ومُحاسِب يكون لها كل الأثر الإيجابي.
هذا – ما اقتضاه هذا التناول المستعجل لهذه الملفات المُعقّدة دون استقصاء، ولكن فقط ترميز العناوين والأسئلة الرئيسة وبعض مباديء النظر. نسأل الله أن يحفظ شعبنا بسوريا، وأن تعود لما كانت دوما جناح طائر هذه الأمة، حتى ينصلح الجناح الآخر.
تعليق واحد