متابعة للأزمة الأوكرانية – خيارات روسيا والناتو ومنطق التدافع الاستراتيجي
في متابعة لمسار الأزمة الأوكرانية، ومع تصاعد الاجتياح العسكري الروسي، يهم التنبيه على قاعدتين تفسيريتين قبل أن ندلف لطبيعة الخيارات أمام الروسي والناتو والتطورات المحتملة في مسار الأزمة.
أولا) الاستراتيجية مُعقدة عموما – وبالأخص في هذا الأزمة. نعم – قد يسهل علينا إدراك خلفية الصراع وبدرجة أصعب – مُحددات الخيارات الاستراتيجية أمام الأطراف، ولكن يصعب بشكل كبير التنبؤ الحاسم بأي خيار سيتم اتباعه. وكما أسلفنا في مقال سابق، فإن المنطق الذي يحكم بوتين روسيا هو التعامل مع أوكرانيا كجزء من أزمة أوسع لاستعادة وضع الأمان الجيواستراتيجي لروسيا والذي حصلت تعديات كبيرة فيه بعد انتهاء الحرب الباردة. وبالأخص – المفارقة بين الصعود السياسي ومحاولة ابتعاث قوة الحركة الإقليمية والدولية لروسيا ، وبين تفاقم أزمة توسع الناتو، وضرب قاعدة النظام الدولي القائم على اعتبارات العدالة وهيمنة القانون الدولي (حتى مع تحيزاته ومساحات قصوره الفجة المعروفة).
بمعنى – تظهر الأزمة على المسرح الدولي ليس فقط بتجاوز منطق العدالة والقانون والتعدي على مصالح وأمان الأطراف المقابلة، ولكن بصعود قوة مضادة من حيث الإرادة والقدرة ترى في هذا التعدي أزمة وتتحرك لصدها.
ولهذا فبعد تبني روسيا لمنطق صراع وتطويرها لقدرة على المضي فيه، كان الخيار الاستراتيجي المُعتمد على الديبلوماسية القسرية والردع التقليدي (بوسائل هجينة) لتطويع السلوك السياسي لأوكرانيا والناتو بشكل أوسع فيما يتعلق بدفن خطة توسع الناتو لأوكرانيا، وكذا لدول أخرى وبالأخص جورجيا ومولدوفا والبوسنة، وكذا دفعه للتراجع في البنية التحتية للصواريخ الدفاعية في المحيط القريب لروسيا بما لها من قدرة لضرب الصاروخ الاستراتيجية الروسية ومعادلة الردع النووي بالتبعية أو تحويرها لأنساق صواريخ بالستية، ثم الوصول لحل بخصوص دانباس بأبعاده الشعبية والسياسية والعسكرية.
ولكن كما أسلفنا سابقا، فإن خطورة هذا الخيار هو احتمالية وضرورة تفعيل الأداة العسكرية إذا فشلت عملية التطويع تلك، وبالأخص – صعوبة تبريد الأزمة دون تحقيق المطلوب. والأخطر – أن كل الخيارات العسكرية – وإن كانت قابلة للتنفيذ – بما فيها حتى الغزو الشامل واحتلال كييف – إلا أن المأزق بها ليس فقط كيف أن تُترجم لنهايات سياسية مقبولة (وهذا مأزق الاستراتيجية بالأخص)، بل ما قد ينتج عن العمليات العسكرية من بيئة استراتيجية وأمنية لعوامل مختلفة هي غير مُحابية لروسيا.
ثانيا) الاستراتيجية تدافعية، وهذا له أكثر من انعكاس. فإن بنيتها الأساسية ومسارها يعتمد على مبادرات وردود فعل الخصوم، وهذا ليس فقط يجعل من البيئة الاستراتيجية وتقديرات ماسيحصل تاليا أو كمسار أبعد شديد الصعوبة، بل كذلك يجعل مركز ثقل الإجادة الاستراتيجية ليس الخطة المُحكمة؛ إذ أي خطة للحرب – كما ذكر مولتكة الأكبر رئيس أركان حرب بروسيا ثم ألمانيا في حروب التوحيد – لا تحتمل ثلث الحرب أو حتى أول رصاصة فيها. ولكن هناك جملة من الأفكار لمسارات استراتيجية ممكنة، ويتم التحرك بينها لتطويع المسارات العسكرية والديبلوماسية والتلاقح بينها بما قد يقود لأثر استراتيجي على إرادة الخصم السياسية وطبيعة بيئة مابعد الحرب، ثم إعادة تدوير وتعديل هذه المعادلة على حسب مبادرات وردود فعل الخصوم بشكل دوري مستمر. وهنا يصبح مايعتمد عليه الإنجاز الاستراتيجي ليس الخطة أو حتى الأفكارالمؤسسة لها، ولكن حساسية القائد الاستراتيجي للمتغيرات وقابليته في المقايسة المستمرة بين الأدوات (بالأخص العسكرية) ومسارات تفعيلها مع الأدوات الأخرى وبين الآثار والنتائج مع التحفز الشديد لردات فعل الخصم.
ومن الممكن القول، أن بوتين عنده درجة ما من الحساسية تلك، وهذا مثلا يتضح في مسارات سابقة سواء في جورجيا – بالتصعيد المفاجيء ثم التوقف المحسوب على خط الأزمة بعد توصيل رسالة ردعية وتوسعة مساحة الأمان الدفاعي، وكذا في ضم القرم ولكن التوقف أمام التدخل المباشر في دونباس لثماني سنوات. ومثلا في حواره المتلفز مع قياداته الأمنية، وبالأخص إلحاحه في تقويم مايصدر من فم رئيس استخباراته – بما يُظهر قاعدة جوهرية عنده: هناك تصعيدات محسوبة ومتدرجة بالمعنى السياسي والعسكري، وجزء منها قائم على الآثار وردود فعل الخصم (الناتو بشكل أساس) .. (رئيس المخابرات: عندي استعداد لضم الدونباس للاتحاد الفيدرالي الروسي – بوتين: ليس ضم – ضحكة، تقصد فقط اعتراف باستقلال. – نعم اعتراف باستقلال. بوتين: عندك استعداد مستقبلا أم تقصد الآن. -–الآن)
ولكن في ذات الوقت، فخطوة تفعيل مساحات الاشتباك العسكري لها مخاطر واسعة وأكثرها هو في بيئة مابعد الحرب، وأن ميدان التفاعل الاستراتيجي هو مفتوح لجوانب الإجادة والقصور لكل الأطراف، وأن الأصل في السلوك الاستراتيجي هو القصور لأسباب متعددة، ولهذا فكما قال أستاذي كولن جراي في أحد كتبه: غالبا من يتفوق هو أقل المتصارعين قصورا وليس أكثرهم تميزا، وفي قول آخر (النجاح الاستراتيجي هو ليس بإجادة فعل كل شيء، ولكن الأمور الكبيرة التي تؤثر على مجمل المسار). ونعم – فالإجادة الاستراتيجية (في التوصيل بين الأدوات العسكرية وغيرها والنتيجة السياسية) هي المظنة الراجحة للانتصار، ولكنها لا تقود له بشكل حتمي. لماذا؟ لأنها قد تتقاصر عما يقوم به الخصم، وللتغيرات المفاجئة في البيئة الاستراتيجية التي تفتح وتقفل فرصا لهذا أو تُنشيء معوقات لهذا الطرف أو ذاك.
وبالاستفادة مما سبق: تعقيد الاستراتيجية والتعامل مع أوكرانيا كجزء من سياق أزمة أوسع، والتركيز على خيار الديبلوماسية الإكراهية والردع التقليدي ولكن اقتضاء كليهما لقفزات عسكرية محسوبة، وكذلك اعتماد الاستراتيجية كبنية ومسار ونتائج على مبدأ التفاعل، ووجود بعض الحساسية الاستراتيجية لبوتين، ولكن في ذات الوقت ليست ضمانة على تفوقه في كل محطة أو مجمل المسار، فيمكننا فهم أن خيارات روسيا والناتو يُمكن أن تكون على هذا النحو.
خيارات روسيا في هذا التصعيد العسكري:
من الواضح سواء من خطاب بوتين الذي ألح بوضوح على إخصاء القدرة العسكرية لأوكرانيا، ونزع (نازيتها)
Denazification
أي عدائيتها القومية للروس، وحتى محاكمة الأفراد الذي لهم دور في ما وصفه اعتداء وحرب عرقية، فضلا عن خطوط العمليات من الشرق بالأساس والشمال والوسط واتساع الضربات لكييف ومدن كبرى، أننا أمام غزو شامل. ولكن مهم الانتباه لما ذكرناه في النقطتين المؤسستين: هذا جزء من سياق إدارة أزمة أوسع من أوكرانيا وأن منطق الديبلوماسية الإكراهية والتصعيد المرحلي عسكريا وسياسيا هو الحاكم، وكذا تفاعلية الاستراتيجية بحيث أن الروسي سيتحرك في مخروط الأزمة كتصعيد وخيارات تبعا لردود فعل الناتو وبدرجة أقل البيئة الأوكرانية. ومن هنا – نرى أمامه ثلاثة خيارات أساسية:
أ. الاجتياح العسكري للدونباس مع ضربات عقابية جوية وصاروخية، وبغرض تنعيم الأداة العسكرية النظامية المواجهة. وهذا سيقصد من ناحية أوكرانيا (نظامها الحالي) للوصول لاتفاق بوساطة دولية لأجل حل شامل يمنع دخول أوكرانيا الناتو، وحينها سيمكن إدماج الدنباس بمنطق دستوري معطل لأي تحول جيوسياسي، فضلا عن الاستيعاب العرقي وتفعيل شراكة سياسية ودفاعية (بدرجات مختلفة) واقتصادية مع أوكرانيا. ولكن تبني هذا الخيار يعتمد بشكل كبير على رد فعل الناتو والوضع الأوكراني الداخلي كما أسلفت. نعم ستكون هناك مبادرة بحزمة عقوبات ولكن الأهم – هل سيتحرك الأوروبيون والأمريكي في مسار فك الأزمة لتصل للنهاية المطلوبة – ولو بقدر معقول – روسيا.
ب. إذا تمنع الأوروبيون وأوكرانيا عما سبق – فأمام الروسي إما ضم الدونباس وتوسيع نطاقها الدفاعي، ولكنه سيكون أمام أوكرانيا تنضم للناتو، وهذا سيُعيد منطق الحشد العسكري التقليدي بشكل قريب مما كان في الحرب الباردة، بما له من تكلفة اقتصادية وسياسية داخلية كبيرة، بالأخص مع تفاقم العقوبات. أو – بشكل أرجح:
ج. توسعة الاجتياح العسكري للدخول في كييف، وتغيير النظام السياسي، أو توجهه بشكل جذري بحيث أن يكون تابعا، ومعاهدة ثنائية وبقاء قوات عسكرية روسية كحامية. في حال تقبل الوضع الأوكراني لهذا، فهذا سيقلل من متطلب الحشد العسكري في هذه الساحة، ولكنه بالتأكيد سيُفاقم منطق التصعيد العسكري والاقتصادي والسياسي للناتو ضده في مجمل الساحة الأوروبية.
ويزداد المأزق هنا في مسألة توسعة الاجتياح لكييف، أنه سيستدعي بدرجة كبيرة لمنطق الاحتلال الكامل، وهذا ليس فقط سيفرض الحشد العسكري، ولكنه سيُعرّض الجيش الروسي لحرب غير نظامية تبعا لتصاعد العداء والفاعلية ضده من الشعب الأوكراني، ويُضاف على ذلك دور الناتو إذا أراد استغلال هذه المساحة
أما فيما يتعلق بخيارات الناتو:
فلابد أن ندرك بوضوح، أن هناك أزمة كبيرة في الناتو، ليس فقط كخيار ومسار ولكن كبنية في عالم ما بعد الحرب الباردة. نعم، في حال روسيا ضعيفة كما كان في التسعينات، فهناك مُسوّغ – استراتيجي وليس بالضرورة عدالي أو أخلاقي – للتوسع في محيطها القريب وقضم مواطن نفوذها، ولكن مع تراجع بنية الناتو ذاتها (مايُعرف بظاهرة تقليل العسكري
Demilitarization
لشعوبه تبعا لانقضاء الحرب الباردة وعدم القدرة الاستراتيجية والأخلاقية على استبدالها بما كان يُطلق عليه بلير الحرب لأجل
النظام والخير
Force for Good
كما حصل في حروب العراق وأفغانستان وليبيا ) وكذلك صعود روسيا بوتين، فيكون من الحماقة الاستمرار بل التوسع في النهج العدائي والقاضم كما حصل. ويزيد عليه، التضعضع أمام الروسي في محطتي جورجيا ثم القرم. وفي الأزمة الحالية، فكذلك – قرأ الناتو المسار بشكل غير دقيق حتى الآن، بالإلحاح أن الروسي عنده نية أساسية في الغزو، ولكن التمنع عن الاستجابة الديبلوماسية لمخاوفه الأمنية الأساسية في أوكرانيا مع تصعيد خطابي، وهذا جعل نذارة السوء واقعا بالتبعية!، وعدم القيام بخطوات مضادة لكسر مسار الأزمة التصعيدي من ناحية أخرى.
نعم، قد يُدرك الناتو أن خطوة اجتياح أوكرانيا عسكريا قد تُصبح توريطا لروسيا، ولكن المُضي في خيار ما قبل الهاوية الذي يتبعه بوتين، حتى بافتراض نجاح الناتو في الاستفادة منه، سيكون بثمنية عالية تقتضي تحويرا عسكريا وسياسيا بنيويا في تمظهر وجوده الأوروبي، فضلا عن الثمنية البشرية والاستراتيجية في خسارة أوكرانيا، وهذا كان يُمكن تجنبه.
وفي الوضع الحالي، فيبقى أمام الناتو ثلاثة خيارات بالتفاعل مع ما للروسي:
أ. العقوبات والتدخل الديبلوماسي لحل الأزمة.. وهنا الروسي سيكتفي بمساره الأول، ونعم تنفك أزمة أوكرانيا، ولكن سيُعيد بشكل أو آخرتفاقم وضع روسيا كقوة مهيمنة في محيطها. هذا ليس بالضرورة سلبيا للوضع الأمني الأوروبي، ولكنه تغيير المعادلة القائمة منذ أول التسعينات.
ب. خيار مدافعة وسيط، بحيث يفك الأزمة ولكن بحيث تنتهي لوضع مُحابي. هنا، سيتحرك الناتو باستغلال الأزمة كغطاء دولي لتوسعة إطاره وبنيته: ضم جورجيا ومولدوفا والبوسنة بشكل عاجل، تفاقم العقوبات الاقتصادية وغلق خط الغاز الشمالي بالأخص، وحشد قوات في بولندا ودول البلطيق، ثم السعي الجاد لخيار ديبلوماسي أو الاكتفاء باستعادة منطق الحرب الباردة، مع توسعة خيار العمليات غير النظامية في أوكرانيا. وهذا – بالفعل سيجعل موقف روسيا صعبا إجمالا في المحيط الأوروبي، وكذا في أوكرانيا، وهذا سيقود لردع عكسي على المستوى الاستراتيجي (إدراك روسيا أن خيار الديبلوماسية الإكراهية المصاحب لقفزات تصعيدية هو ضار استراتيجيا).
ج. خيار تصعيدي لاستعادة مسار الحرب الباردة بكل مساحاتها الخاصة بالحشد التقليدي الشامل، والتصعيد في معادلة الردع النووي والاحتواء السياسي والعسكري والاقتصادي ضد الروسي دوليا. هذا بالطبع سيقود لنتائج حاسمة، ولكنه يقتضي بشكل كبير استغلال الأزمة في صنع عنوان سياسي وتجييشي لدول وشعوب الناتو لتعود ثلاثين عاما للوراء، والاستعداد للتعامل مع المشكلات المعقدة بالمعنى السياسي والاقتصادي والشعبي الداخلي.
في قول لنابليون، (القائد العسكري إما تصنعه ممارسة الحرب، أو استلهام قدر من الخبرة من قراءة التاريخ). وكذلك، فإن جزء معتبر من الفن الاستراتيجي يتم بناؤه من خلال الممارسة، أو قراءة التاريخ بشكل نقدي – كما ذكر كلاوزفيتس، بما في ذلك الواقع المعاصر. ومن هنا، مع فداحة الثمن الإنساني لأي صراع وحرب، بما في ذلك ما يحصل الآن في أوكرانيا، فإن فيها جملة مفتوحة من الدروس التي تقدح الذهن الاستراتيجي، وهذا ما تحتاجه أوطاننا في مسارات الصراع التي تخوضها، وليس فقط فيما يتعلق بتعاملها مع الصراع الدولي الحالي، بشرط التفاعل المستمر والتمحيصي بين الفكرة الاستراتيجية ومسارات الحوادث، دون استسهال للقفز للنتائج، والكفر بذهنية اليقين، وتقدير قيمة الاستراتيجية في ضبط مسارات الصراع لنهاياته بشكل أعقد كثيرا مما تقود إليه القوة المفرطة والحسم العسكري.