مقال – اتفاق المصالحة والخرق البنيوي بالحركة الوطنية الفلسطينية: تقويم استراتيجي
11/3/2021
مع التطوّر الأخير تبعا لاتفاق المُصالحة الفلسطينية بالقاهرة والذي يقضي بانتخابات تشريعية ورئاسية على التوالي، تتباين التقديرات حول مدى جدية الأطراف في تنفيذ كل مراحله (خصوصا طرف السلطة)، ثم قدرته فعليا على إنهاء الانقسام وتبعاته المتضخمة، أم العكس – ترسيخه بتطوير فواعل الشحن الفصائلي والتنافس على مقدرات سلطات زائفة – يسيطر الإسرائيلي على قطاع منها حرفيا وأمنيا، ويستوعب الأخر بمُحددات الحصار والخنق الاستراتيجي.
ولايُمكننا مُقاربة هذا الشق الفرعي إلا بإعادة النظر لطرح تقويمي شامل للحركة الوطنية الفلسطينية ومسارها التاريخي والحالي، لفهم طبيعة الإشكال – وهل هو فقط في كيفية حل مشكلة تنازع الصلاحيات وشرعية التعبير عن الداخل، أم يتعداه للمساق السياسي والاستراتيجي وبشكل أكثر بنيوية.
ومبدئيا، تبقى القضية الفلسطينية في نظر أجيال متوالية بأمتنا لها مركزية في السبك العاطفي والفكري بل والاستراتيجي لها، مهما تراكمت على قارعة أمتنا كوارث ضربت بناها الوجودية والحيوية، كملفات ومراكز ثقل جغرافية – انهيار سورية والعراق وتهاوي دور مصر، وتصاعد الاستلاب الإقليمي والدولي لمقدراتنا، وبالأخص تعملُق النفوذ الإسرائيلي وحرية حركته بالإقليم.
وهذا لأن النظر الاستراتيجي بذاته يقضي بالوحدة الموضوعية والتبادلية بين الملفات. فلسطين تمثل بؤرة ومورد الصراع على بناء أمتنا والسيادة على فضائها، والتعبير الأساس عن الصعود والانخفاض فيه. وفي ذات الوقت، فلايمكن تصوّر أي صيغة للحسم لهذه القضية المركزية دون تحول نوعي في كل من الإرادة السياسية والقابلية الاستراتيجية لهذه الأمة بدوائرها في دول الطوق ومايردفها بالخلف من طبقات جيواستراتيجية مساندة.
وعلى هذا، فبالرغم من اعتزازنا الأصيل بكل حركات نضالنا في فلسطين، سواء المتقدمة زمنيا (فتح والجبهتين بالأساس) ثم الطبقة التالية (حماس والجهاد الإسلامي)، وبغض النظر عما قد يقود تقييمنا القيمي والاستراتيجي لمسارها التاريخي الفائت من تباين، فإن الاشتباك المباشر في محاولة اقتراف هذا التقييم وتطويره لصيغ من التصويب وطرح التصورات، ليس تطفلا فضلا أن يكون تعاليا. فمن جهة هو واجب وطني ورسالي لايمكننا التقهقر عنه توقّيا للوم، وثانيا – الوحدة الموضوعية والتبادلية المُشار إليها، وثالثا – ضرورة إرساء العُرف التقييمي والنقدي كقيمة مُحورية لتصحيح المسارات وتطوير الموارد البشرية والمؤسسية الضخمة لأمتنا أن تقود لقابلية حقيقية في الصحة المؤسسية والقدرة على صياغة الرؤى والاستراتيجية محاولة للتفلُّت من تحكمات ميراثنا التاريخي النكد بنتائجه المعلومة.
ولا يُمكن في هذا الحال التعلُّل بأن أهل مكة أدرى بشعابها، لأسباب: فهناك تشابك الملفات كما أسلفت، كذلك فإن ضعف القدرة التحليلية بالمنظور القيمي والاستراتيجي للدول والحركات العربية لم يكن غالبا بسبب المُشكل المعلوماتي ولكن ضعف الجدية والمُكنة الاحترافية والنزعة النقدية، بل كثيرا ما يُصاب أصحاب الشأن بالعمى التحليلي تبعا للانحيازات أو التخبط في طوفان الأحداث الآنية. كذلك، فإن ما نطرحه بالأخيرهي آراء بشرية وتصورات تُضاف لماكينة النقاش داخل أمتنا، وليست تحكمية. وبالعكس، كلما تم إثراء هذا المخزون التحليلي أمام عناصر صنع القرار بالدول والحركات، وحتى في الإطار العام بشكل أوسع، كلما كان هذا في صالح قضايانا. بل إن من مظاهر المأزق الإدراكي والنفسي الذي نعيشه هو الاضطرار بشكل غالب إلى إعادة التذكير بتلك البدهيات قبل أي تناول نقدي لمسار حركاتنا ودولنا.
الفكرة الأساسية هنا، أنه بالرغم من تثمين أي جهد ومنتوج يُظَنّ منه تقريبا لحل الانقسام بين غزة والضفة – فتح وحماس، فإن الاتفاق الأخير بالقاهرة حول البدء بالانتخابات التشريعية ثم الرئاسية، هو أبعَد ما يكون من منطق الحل، فضلا عن علاج الخلل البنيوي في جسد الحركة الوطنية الفلسطينية وعجزها التاريخي والمستمر عن تطوير رؤية سياسية واستراتيجية فاعلة، وعلاج الوضع الكارثي الذي يدفع بنا فعليا لنقطة تصفية القضية الفلسطينية في ظل واقع عربي متهاوٍ بالأصل، بالأخص مع الاختراق الإسرائيلي استغلالا لما نتج عن مرحلة الربيع العربي من تهاوٍ لسوريا ودور مصر (الذي اقترب بشكل فادح من الإسرائيلي تبعا للمشكل السيناوي)، واختراق للخليج (تبعا لتطور النفوذ الإيراني الإقليمي وقد مكّنته السياسة الخليجية المنفلتة في سوريا ثم اليمن).
وبشكل جلي، فإن حالة الانقسام الحادة تلك، تمثل أفضل وضع استراتيجي لإسرائيل عن أي خيار آخر، كما يُدرك بسهولة أي متابع للمجتمع الاستراتيجي بها، ليس فقط لأنها تضمن الضفة لصالحها بما لها من ميزان جوهري سياسي واستراتيجي للصراع، ولكن التقليل بشكل مُعتبر من مشكل غزة ضمن صيغة ردعية يتم إعادة ترميمها من حين لآخر بمنطق العمليات بين الحروب كما تنص العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلي 2015، ودون الاضطرار لتحمل تكلفة احتلال عسكري كإدماء بشري ومواردي. خصوصا مع اضطرار حماس دوما للرضوخ لمنطق الإكراه – مهما تطورت قدرتها العملياتية على الإيذاء – تبعا لخنق غزة ومسئولية إعاشتها. وبالنظر لافتقاد إرادة وطنية فلسطينية تبعا لهذا الوضع (ارتهان السلطة ومكونها الفتحاوي في صيغة التبعية الأمنية والاحتلال المباشر لإسرائيل، واضطرار حماس للتموضع بالمحور الإيراني والقبول بالابتزاز المصري مع التفاتات – تبعا لتركيبتها القيادية – لوهم محور قطري تركي/إخواني انقضى بعد مرحلة الربيع العربي)، وأيضا لما تراكم مع هذا الانقسام مع مخزون من المرارة والاحتراب تبعا لتصفية وخروقات أخلاقية تبادلية في كل من الضفة وغزة، فضلا عن تكرُّس واقع مُعيق لأي اتفاق مصالحة كما حصل في كل المحاولات السابقة بدءا من 2007 حتى 2017 :أعني ملفات كالقوى الأمنية وتسكين الفصائل بها، وهيكل الموظفين الذي تضخم لصالح حماس في غزة وفتح في الضفة، ثم أيضا وضع حماس في الضفة خصوصا مع التنسيق الأمني، ووضع أي فصيل عسكري ممكن لفتح في غزة مع سيطرة حماس.
غير أن مشكلات الانقسام وماتبعها هي في الحقيقة عارض ومحصلة عن مأزق أعمق له مساحتان: الأولى في الإشكال السياسي والاستراتيجي في سلوك المقاومة الفلسطينية كرؤية وخيارات، والثانية في بنية الحركة الوطنية ذاتها وهي الضرورة الوجودية لتخليق وتطبيق هذه الرؤية ابتداء، فضلا عن التكامل والتنويع بين مساحاتها التي قد تتناقض في التمظهر ولكن يُمكن الجمع والمناورة بها على مستوى الاستراتيجية الأعلى.
مأزق الرؤية السياسية والاستراتيجية:
بالرغم مما مثلته فتح من إعادة لمركزية القضية الفلسطينية ووعد – لم تقدر على الالتزام به بسبب ضغط مسارات الحوادث التي فاقمتها خيارات استراتيجية خاطئة بأكثر منه نية مسبقة – بعدم الانشغال بالاحترابات الداخلية والبينية، إلا أن الإشكالات الفكرية والمؤسسية والتطبيقية في مسارها الاستراتيجي كانت فادحة. النقطة المركزية أن المنطق الاستراتيجي لحركة المقاومة، هو تكرسه في الشق الدفاعي بمتوالية عمل غير نظامي تتحيد به القوة العسكرية النظامية للخصم، وتتوسع مع الوقت القاعدة الشعبية اللازمة للتعبئة والحماية – بمنطق الإنجاز وردود فعل الخصم، مما يُمكّن من إدماء قوة الاحتلال على مسار زمني، فيدفعها للتنازل عن أهداف – ليس وجودية ويتحقق إنجاز سياسي. وهذا يقضي أن أقصى ماتطمح له المقاومة استراتيجيا في حال إسرائيل هو القيام بدور نوعي أو أهداف سياسية غير راديكالية، وأن يكون مركز الثقل الاستراتيجي هو الشعب تحت الاحتلال، والعملياتي – الأرض المُحتلة. ولكن هذا لم يأخذ نصيبا من اهتمام فتح إلا فترة واهتمام محدودين بُعيد حرب 67.
وحين تبنت مبكرا فتح – والمنظمة عموما – منطق حرب الحدود المحدودة، كانت قائمة أول الأمر على فرضية استراتيجية مغلوطة، وهو استقدام الحرب النظامية، الفرضية تحققت، ولكن نتاجها كان كارثيا كما هو معلوم. وبعدها، كان منطق التعبئة السياسية والعسكرية والمواردية لتكريس فكرة (الدولة!)، والضغط على المجتمع الدولي هو الحاكم خلف هذا النمط، وكذا الإرهاب الاحترافي كما حصل في حملة خطف الطائرات، ولم يكن هذا متناسقا مع جملة الأهداف السياسية المطروحة التي تقتضي نسقا استرايتيجيا وأخلاقيا مُغايرا، ولا متناسقا مع احتكار الإسرائيلي للفضاء الجيواستراتيجي في هذا النمط من الحرب الذي يُمكّنه من التصعيد العقابي دون حاجز خصوصا بعد 75، كما فعل في 82 عند حصول بعض التقارب بين المنظمة والأمريكي.
وكان يقتضي كل هذا من المنظمة، سلوكا استيعابيا وتفاهميا مع الأنظمة والشعوب التي تحل فيها (الأردن ثم لبنان)، لأنها في الأخير مادة الأفق السياسي والاستراتيجي في هذا النطاق، وكان من الممكن خلق ظروف سياسية وشعبية، بغض النظر عن الإرادة السياسية للنظم، بجعل عمّان وبيروت أشبه بدور لاجوس، إن كان من المستحيل والسخيف – اعتبارهما هانوي، وفتحلاند (إذا استعرنا بعض المفردات من حرب فيتنام التي سادت في الخطاب الفلسطيني المقاوم تلك الفترة) .
ولكن بعد كارثة بيروت، رجع بعض المنطق الاستراتيجي الفائت وبدأ الاهتمام ينصب على حركة الداخل، وبالفعل – أشعلت فتح الانتفاضة، والتي شهدت مولد حركة حماس من رحم الإخوان المسلمين كذلك. وأحرزت الانتفاضة أثرا استراتيجيا ضخما، وعجز الإسرائيلي فعليا عن التعامل معها لأنها نمط شديد الجدة على منظومته، ولكنها فقدته سريعا بسبب الانهيار الإقليمي لأي مَنَعة عربية متبقية، ودور فيه بعض الاستقلال القومي بعد حرب الخليج. وهنا يتبيّن أكثر، طبيعة العلاقة المتداخلة والارتجاعية بين ماتحدثه الوحدات الوطنية من آثار استراتيجية ما، يُمكن توظيفها بشرط وجود سياق تحالفي ونظرة استراتيجية فوقية لبناء حيز من السيادة، واحتياج الأولى بالأساس لهذا الإطار القومي من ناحية أخرى لاستدامة مكاسبها الاستراتيجية وتكثيفها كمنتوج سياسي ملموس.
أما حماس فقد انخرطت مبكرا في سياق استراتيجي للحرب غير المتماثلة مع افتقادها للقنطرة الاستراتيجية الداعمة وحرية المجال السياسي والتحرك العسكري كحالة حزب الله، وإن استفادت من تحويل الدعم الخليجي عن المنظمة بعد موقف الأخيرة من حرب الكويت، وبقيت الجهاد مدعومة بالكامل إيرانيا. وكلاهما اضطر لخوض مسار بنائي عصيب، من ناحية كان عليه التملص من الضربات الأمنية لسلطة أوسلو، ولكن أيضا – خصوصا قبل هدم إسرائيل ذاتها لاستحقاقات أوسلو – ضرب الشرعية السياسية لمشروعها حيث أن هناك مسارا بديلا وقليل التكلفة لتحقيق هدف الدولة. ولكن مع انفجار انتفاضة الأقصى،
وبالرغم من عدم وجود رؤية استراتيجية طويلة الأمد لحماس– غير القيام بدور تجذير المقاومة انتظارا لمتغيرات غيبية في الفضاء الإقليمي كما نص ميثاقها القديم، إلا ان استراتيجيتها تجاه الأهداف قصيرة المدى كانت أفضل كثيرا من المنظمة وفتح، وكانت أكثر تعبيرا عن فلسفة حرب المقاومة التي تدرك أن مركز الثقل الاستراتيجي والعملياتي يبقى الأرض المحتلة وشعبها. وبالفعل، اجتازت فترة التسعينات الصعبة، وقادت انتفاضة الأقصى – بما فيها كتائب فتحاوية انحازت لخط حماس، وبدعم من عرفات قبل استشهاده، ونتج عن هذا إنجاز واضح بانسحاب شارون من غزة.
ولكن بعد 2005، قاد افتقاد الرؤية وعدم تطويرها مع الوضع الناشيء وكذلك افتقادها لنخبة قيادتها، الى سلسلة من المواقف شديد الخطورة على منطق استراتيجيتها العسكرية قصيرة الأفق.. فبدل أن تستفيد حماس من الانجاز الاستراتيجي واللحمة المُستجدة بين فصائل المقاومة – وفيها قطاعات فتحاوية – لتطوير زخم سياسي ضاغط لتعديل هيكلي في منظمة التحرير ومايتبع ذلك من شق استراتيجيات شاملة وعسكرية مناسبة (وتلك فرصة أُهدرت في لحظة فارقة) – اختارت مسارا فجر مأزق الاستقطاب الحاد.
دخول الانتخابات المحلية ممكن تسويغه، ولكن دخول انتخابات البرلمان وعلى كل المقاعد، ثم التورط في تشكبل الحكومة، ثم الحسم لماهو متوقع من صدام سلطوي مع فتح، وبهذا السيطرة على غزة والمسئولية عن إعاشة مليوني مواطن في وضع جيوسياسي واستراتيجي يتحكم فيه اسرائيل مع نافذة محدودة على مصر، وكذلك الاضطرار للانضواء في محور إيران لضمان الإعاشة المادية والعسكرية بما له من آثار سلبية على مستوى الإقليم، وترك الضفة بالمقابل بعد سياسة اقصاء فتح في غزة.
هذا الوضع سلبي من ثلاث نواح.. أولا) ترك الضفة لصالح غزة والأول هي الأخطر ألف مرة في القيمة الاستراتيجية وأفق الصراع، ثانيا) استنسخ نفس وضع المنظمة في لبنان ومعه انهار منطق حرب المقاومة ليصبح حرب حدودية مع قوة عسكرية أدني وزاد سوءا عليه ان حماس هي من في خانة الابتزاز وليس إسرائيل بسبب المسئولية الجفرافسياسية والإعاشية، وثالثا) بناء مواقف إقليمية بناء على هدف بقاء سلطة غزة وليس بالضرورة المصلحة الاستراتيجية لمشروع مقاوم له رؤية واضحة.. وكذلك ذلك الاهتمام الأكبر بتمكين السلطة في غزة أكثر من الدوران حول بوصلة المقاومة.. ظهر هذا جليا في حملة 2009 التي صوّرتها انتصارا لتحافظ على رصيدها الداخلي وهي بالكاد تقدم استراتيجي لأن هناك عدم تحقق لهدفي حماس في الحملة : تمديد الهدنة للضفة وفتح المعابر بالرغم من بؤس الاستراتيجية الإسرائيلية حينها، ولكن لأن القيادة الثلاثية طرحت أهدافا راديكاليا – كاستهلاك انتخابي – بحيث يقود الفشل المتوقع في تحقيقها لتقدم استراتيجي لصالح حماس بالضرورة.
وبسبب هذا المأزق الاستراتيجي في غزة، فأي تطوّر جزئي للطرح الاستراتيجي إسرائيليا، كما حصل في حملة 2014 حين تمظهر الهدف السياسي بشكل معقول لترميم حاجز الردع، وبالرغم من تطور نوعي حقيقي تكتيكيا وعملياتيا لحماس (عمليات الأنفاق والكوماندوز ومديات الصواريخ)، يُصعّب إمكانية ترجمة ذلك لمكسب استراتيجي واضح. انتهت الحملة بشبه تعادف: قبول إسرائيل لمبدأ التفاوض تحت الصواريخ على غير ما قرّرت، وتنعيم جزئي للحصار، ولكن بقاء معادلته الأساس وتكريس شريط عازل.
يظهر من هذا الاستعراض الموجز عُمق إشكال الرؤية السياسية والخيارات الاستراتيجية، والذي قاد لهذا الوضع البائس وتكريس الانقسام، مع التناقض الحاد بين رؤيتين تغيب عنهم إمكانية وفرصة التحرك للأمام: خيار التفاوض للدولتين في واقع إقليمي تم اختراقه إسرائيليا، وحتى مع حكومة بايدين وغياب الكابوس الذي مثلته حكومة ترامب، فإن الإسرائيلي أبعد تماما عن أي تفاوض حقيقي فضلا عن التنازل لمكتسباته في الضفة وغور الأردن (السيطرة الأمنية، والمستوطنات) فضلا عن القدس. وخيار حماس بإبقاء إمارة غزة مع التعرض المستمر لحملات استعادة الردع الإسرائيلي وبقاء معادلة الحصار والابتزاز من المصري.
مأزق بنية الحركة الوطنية الفلسطينية:
لكن القضية الأخطر، هي غياب جسد حقيقي للحركة الفلسطينية، فضلا عن أن تتطوّر معالم قابليته الاستراتيجية في البُنية المعرفية لفهم الصراع ومنطقه، والمأسسية (صنع بيئات اتخاذ قرار بشكل نقدي وشامل وديمقراطي، ويُمكن التوازن فيها بين الخيارات السياسية والعسكرية، والتوظيف الاستراتيجي لخطوط العمليات والتكتكيك)، والتطبيقية (جودة الخيارات ذاتها والقدرة على تطبيقها ومراجعتها).
قد يظهر نظريا أن الفرصة المُثلى لإعادة تكوين هذا الجسد هي في موجة يقظة للفصائل الفلسطينية – خصوصا فتح وحماس – لمراجعة المسار السابق بكل إشكالاته الأخلاقية وتكرس الفصائلية – حتى داخل كل فصيل!- والخيارات السياسية والاستراتيجية الخاطئة، وصولا لبناء عقد سياسي مُستجد للحركة الوطنية وجسدها، وحينها يُمكن تطوير أهداف سياسية مرحلية، واستراتيجيات ترتكز على الوحدة والتكامل بين الضفة وغزة والخارج وداخل الخط الأخطر– مع التنويع والتوظيف لخطوط عمليات مُقاوِمة مسلحة وشعبية ونضال ديبلوماسي.. وحينها يُمكن إعادة تعريف حدود التحالف مع القوى الإقليمية والتعاطي معها على قاعدة أكثر استقلالية واستفادة للمشروع الوطني. وبلاشك – ستبقى القدرة على تطوير نمط لحسم الصراع أسيرة للتغيرات السياسية والاستراتيجية في الساحة العربية بكل إشكالاتها.
ولكن ربما يتبدى لنا، بالنظر للضمور الهائل في بنية وموضعة حركة فتح (خصوصا تياري عباس ودحلان) وارتهانها لمنطق السلطة تحت الاحتلال، ضرورة شق خيار آخر ينحاز لفكرة الحركة القائدة ومركزية حركات خط المقاومة (حماس والجهاد والجبهتين، واستمالة فصائل بفتح)، بما يقتضي تطوير وحدتها السياسية والاستراتيجية، ثم الضغط على فتح لتحوير بنية منظمة التحرير، أو إنشاء قيادة مرحلية جديدة لا تكون بديلا عن المنظمة وإن تقود السياق الحالي حتى تتغير الأوضاع. من النقاط الإيجابية لحماس ما انحازت له وثيقتها المُستجدة من إعادة الاعتبار لمركزية المنظمة. وفي هذا السياق تبقى جملة من الخيارات الاستراتيجية العُليا والعسكرية:
- إما حل السلطة رسميا في غزة، ودعوة أبومازن للدخول ولكن ضمن صيغة تفاوض ضاغطة للحفاظ على الأسبقية الأمنية لحركات المقاومة.
- تفويض حماس السلطة الذاتية للجنة محلية توافقية لإدارة القطاع. وقد تلجأ لهذا الخيار حتى يحصل الخيار الأول.
- بمعنى – أن تعود كحركة مقاومة صرفة، وجناحها السياسي لاينشغل بغير ملف النضال السياسي للتحرير، وملف إعادة تشكيل منظمة التحرير لضبط البوصلة السياسي، وإعادة تعريف حدود ومنطق التحالفات الخارجية.
من منظور الاستراتيجية العظمى – أقصى مايُمكن تحقيقه مرحليا هو وضع يسمح بتطوير الكيان السياسي الفلسطيني، ويُصقل إمكانات ودور المقاومة – في كل من الضفة وغزة معا – لتحقيق قدر من توازن ردع يحتفظ بمساحة للمناورة والمبادأة بحيث يفرض على الإسرائيل التعايش مع صيغة سياسية (غير نهائية) وأيضا عسكرية عبر تهدئة طويلة الأمد – بعد تراكم لحس الخسارة والخطر عند الأخير في تجربة أو اثنتين.
وكاستراتيجية عسكرية – وبتحررها من الضغط السياسي والاقتصادي عليها، وبعد تحسين العلاقة مع النظام مصري عبر ضبط الحدود (وهذا حصل بشكل ما) وتحويل تركيز الفصائل المتشددة لأجندة نضالية ماأمكن، يمكنها حينها أن تُصعّد في الضفة وداخل الخط الأخضر بعمليات نوعية تُحرم استهداف مدنيين (من الضروري إعادة صياغة صورة المقاومة دوليا وإقليميا، وتطوير صدقيتها من حيث القدرة والالتزام السياسي والأخلاقي) ، وتتهيأ لماقد يُسفر ذلك بالضرورة عن حملات على غزة – دون استدعائها إعلاميا – مع التحضير للاشتباك البري غير النظامي وتطوير الرادع الصاروخي كفرصة استراتيجية في هذا الوضع وليس ثمنا يُدفع – للتخديم على خارطة أهداف سياسية تصاعدية وفق المنتوج الاستراتيجي خصوصا إن توافق ذلك مع تصعيد في الجبهة الشمالية.. أقلها تهدئة مشروطة في الضفة وغزة معا، وتتصاعد لانسحابات في الضفة مع الوصول لتسويات طويلة الأمد ذات وضع سيادي – غير نهائي – مع فتح معابر دائمة مع الأردن ومصر، ووضعية أكثر تماسكا مع عرب الداخل.
وكتركيب عسكري وفن عمليات – أن تعيد النمط غير النظامي بحيث يكون هو الأساس في عقيدتها وتشكيلاتها، مع قدرة على التراكب النظامي خصوصا كنسق دفاعي مرن اعتمادا على مهيئات جغرافية وتقنية، وبما قد يناسب التحرك في بيئة متنافرة، وأن تفصل تماما عملياتيا ولوجستيا بين وحداتها المقاتلة، ووحدات العمل النوعي، وجناح الصواريخ – مع توفير مصادر إعاشة وتفويض للقيادة التكتيكية في المفارز الطرفية (كما في تجربة حزب الله).
وبالتأكيد أن أي حسم للقضية الفلسطينية، والتي لا يمُكن تمظهرها والتحرك فيها ومقاربتها إلا بالمنظور القومي والرسالي الأوسع، يقتضي تطورا جذريا في بنية الصراع وأهدافه مآلاته، وفيه تتموضع المقاومة الفلسطينية ضمن إطار قومي كدور استراتيجي نوعي. وهذا يقتضي تغير بنيوي في مراكز الثقل العربية (خصوصا المصري) لتكون راغبة في هذا المشروع ودافعة فيه ومستوعبة لمحطاته ومستكملة لشروطه البنائية والاستراتيجية. قد لاتظهر فواعل ذلك حاليا لأنها تقتضي تغييرا جيليا وتشكيل نخبة عربية ، بعناوين فكرية مستجدة وبامتلاك المُكنة الاستراتيجية والفنية للقيام بمتطلبات التغيير السياسي لاستعادة الإرادة السياسية للنظم أولا، وتطوير القدرة على إدارة الصراع تاليا، ولكن حركة الأمة بمداها القدري غالبة.
تعليق واحد