تحليل استراتيجيقراءات استراتيجيةمقالات منوعة

هل ثمة خيار عسكري لأزمة سد النهضة، ومنطق التعامل استراتيجيا

https://www.bbc.com/arabic/middleeast-50148319

 هل هناك جدوى من حرب عسكرية مباشرة مع أثيوبيا .. وهل قصف السد جويا مُجدٍ، هذا على فرض أصلا توفر الامكانيات لذلك؟ 

بداية، مهم أن نموضع خطاب آبي أحمد في خانة الاستهلاك السياسي المحلي، ولايخلو من السخافة والتدليس (أي حرب يحشد لها تلك ولاتوجد حدود مشتركة؟ جيشه بإمكاناته المتواضعة سيطير في الهواء؟! وأي صواريخ أرض-أرض عند مصر تصل إليه، وقنابل عنده؟!)،
وكذلك – مايمثله مشروع سد النهضة من أداة للشرعية السياسية بدأت مع مليس زيناوي وتطوير حلم شعبي يتجاوز بشكل ما استحقاقات التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي المنهجية – في تشابه ما مع حالة السد العالي في العهد الناصري، وإن كانت الأخيرة أكثر جدية كنظر استراتيجي وتنموي بغض النظر عن تقييم مآلها.
دعني أوضح إجابتي في نقاط محددة، من الأخص للأعم:
1- هل هناك إمكانية عسكرية لضرب سد النهضة؟ بالتأكيد، مع وجود طائرات الرافال ووضاعة الدفاع الجوي الأثيوبي (سام قديمة)، أو عمليات سرية تخريبية، مع ضعف إمكانية عقابية للخصم، وعدم وجود تماس جغرافي يمكن أن يقود لحرب مباشرة..
لكن!
2- الجدوى التكتيكية والعملياتية ليست هي فقط ماتحكم الخيارات الاستراتيجية؛ لا يوجد سياق استراتيجي أصلا يسمح بتلك الخطوة التصعيدية، لا وضع إقليمي أو دولي، ولا غطاء قانوني، أو حتى نضال قانوني وديبلوماسي متصاعد يقدم غطاء ما، أو دراسة موضوعية لحجم الضرر الإنساني المصاحب لهكذا عملية، ولا وصول مستوى التهديد لمصر لحيز الخطر الذي يُمكن أن يضمن تأييدا شعبيا، ولا تماسك للدولة المصرية وقوة حركتها داخليا وإقليميا ليسمح بإدارة هذا التصعيد ومتوالياته(وهذه النقطة الأخيرة هي عصب تفسير تلك الأزمة بالأصل كما سيأتي).
3- كما أسلفت في تعليقات قديمة في عامي 2013، وعام 2015، المشكلة الأساس هي أن انهيار وزن الدولة المصرية وقدرتها على التحرك الإقليمي في المساحات المختلفة (السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستخباراتية)، بالأخص بعد ثورة يناير 2011، أعطى الضوء الأخضر لأثيوبيا لحسم الإشكال المزمن مع مصر منذ السبعينات حول نقطتين: أن الاتفاقيات السابقة التي تضمن حصة ثابتة لمصر من النهر لاقيمة لها، وأنه بالتالي لاقيمة لموافقة مصرية على أية مشاريع سدود..
4- هل انهار وزن مصر وقوتها الإقليمية بعد ثورة 2011 – كما يقول الرئيس السيسي؟!
بالتأكيد!!
ولكن السبب ليس كما يدعيه أنه الثورة ذاتها!!؛ فالثورة بالأساس قامت على نظام مترهل وفاسد وفاشل وظيفيا (الفشل الوظيفي تحديدا في ملف أفريقيا بدأ منذ السبعينات مع السادات وتفاقم مع سلوك مبارك كما أوضحت سابقا)، ولكن حساسية المرحلة الانتقالية في التحول الديمقراطي كانت تفرض نشأة حكومة وطنية انتقالية، ليس فقط لتنجز الحد الأدنى من ملفات التغيير وإعادة الهيكلة المؤسسية وتحقيق الحد الأدنى من ملفات الدمقرطة وتتفق على العقد السياسي الجديد وتصيغ البيئة السياسية بما يمنع العودة للاستبداد مثل ما حصل – كما تنص أدبيات وتجارب أي تحول ديمقراطي، ولكن لأن الخلخلة الوظيفية المتوقعة في تلك المرحلة – خصوصا مع إعادة هيكلة المؤسسات وهو أصلا ما لم يحصل – تقتضي الحكومة الوطنية والدعم الشعبي والخبراتي الجارف خلفها، بما يُقدم تعويضا وظيفيا، وكذلك في الصورة الإقليمية لقوة الدولة!
لماذا لم تحصل هذه الدينامية الضرورية ودخلنا في حكم المجلس العسكري والاضطراب السياسي الحاد، والذي قاد لنظام شديد التشوه كشرعية سياسية ووظيفة (فترة مرسي)،
تلاه وأد التجربة الديمقراطية وما لذلك من آثار استراتيجية؟!
المسئول كما نعلم القوى السياسية المدنيةـ وعلى رأسها الإخوان، ولكن المجلس العسكري – وكان في القلب منه وأداته في التعامل مع الوضع المدني الرئيس الحالي- وطريقة إدارته العقيمة عديمة الخبرة لمصر هو المسئول الأكبر.
فترة حكم د. مرسي الله يرحمه، كذلك أسهمت بشكل فعال في تداع أكثر لقوة البلد، وخصوصا في طريقة التعامل مع ملف السد كما فصلنا حينها،
ثم فترة السيسي ضاعفت هذا الانهيار، بكل مااعتملت على ضرب الإجماع الشعبي، وخنق القوة السياسية والقابلية الاستراتيجية للدولة، وضعف أكبر في الحركة الإقليمية للضعف الذاتي وأيضا للتبعية والالتصاق بالخليجي والأمريكي (ترامب) والإسرائيلي!
من سخريات الأقدار، وهذا مايؤكد الغباء النكد للقيادة المصرية الحالية أكثر من مجرد فساد ضميرها الوطني، هو الالتجاء للإسرائيلي كوسيط في سد النهضة، مع أنه وإن أفاد في تفصيلات فرعية هنا أو هناك في تلك المرحلة، فإن الخنق الاستراتيجي لمصر بهذا الملف وغيره، هي أساس (استراتيجيته الطرفية) الذي بدأها منذ الخمسينات!

(هذا كتب جيد ليوسي ألفر، الضابط في المخابرات العسكرية الإسرائيلي، وأحد مهندسي تلك الاستراتيجية فترة السبعينات

Periphery: Israel’s Search for Middle East Allies

والسيسي الذي ينعي على القوى المعارضة – بحق بالمناسبة – عدم فهمها للدولة (التي يدرسها منذ خمسين عاما)، وبالتأكيد هي دولة مبارك الفاشلة و حتى لم يفهمها بشكل دقيق ويحافظ على أدنى سمات الوظيفية والأهلية السياسية لها، هو أهم علامات العبث والضعف لما وصلت له حال رأس الدولة المصرية (ما يبزّ الملهاة التي حصلت في عهد مرسي في اجتماع القوى السياسية الحليفة له والذي أُذيع على الهواء دون عملهم، هو طلب السيسي من آبي أحمد أن يُقسم له أنه لن يمس مصر بأذي!!!)
5- إذن هل الحل مع أزمة سد النهضة وماتحمله من هواجس ومخاطر، أوسع من الآثار الجانبية للسد نفسها، يرتبط بملف التحول السياسي الجذري في مصر، والاستعادة
المنهجية لقوة مصر الداخلية أولا، لأنها الضامنة لقوتها الإقليمية؟
بشكل جذري، نعم..
ولكن – مجرد التحول الديمقراطي كما شرحنا سابقا، بحد ذاته ليس ضمانة، دون وعي استراتيجي وسياسي مصاحب، لتعامل شامل يُزاوج بين أدوات الاستيعاب والضغط (الردع الدفاعي المُبطن والحصار الجيواستراتيجي الهادي) والتفاوض، وبناء القوة الناعمة الداعمة اقتصاديا وشعبيا داخل أثيوبيا، ثم التصعيد الدولي والقانوني، مع فرض خط أحمر واضح للتصعيد العسكري وفقط يرتبط بحد المجاعة المائية. فضلا، عن استراتيجية البدائل المائية والترشيد كأمر مطلوب في ذاته كسياسة حكومية وأمن قومية، وأيضا لبناء الصورة الدولية قانونيا ودبلوماسيا التي قد تدعم أي تصعيد مستقبلي.
ولكن حتى النظام الحالي، بكل إشكاله كان أمامه خيارات، وأعتقد  لاتزال.. 
منطق التهاوي في التعامل الديبلوماسي المُراهق مع الملف لابد أن يتوقف، ويتم المزج بين التعاطي الإيجابي واليد المدودة، مع الحسم في
التعاطي مع عنصر الوقت والمطالب المحددة مع أثيوبيا، والتصعيد القانوني والدولي الفوري، ورسالة ردعية غير تصعيدية ولكن واضحة
explicit
(هناك خط أحمرمُحدد، كل الخيارات عند تجاوزه متاحة) ،
مع وسائل أكثر تصديقية وإتاحية لهذا الردع (عمليات تدريبية مشتركة وطلعات جوية قريبة، وتداخل في قواعد عسكرية في دول جوار ومنها لأنظمة  حليفة ^_^!!!)، و بناء ضغط في مساحة التحالف الإقليمي (الأفريقي والروسي والخليجي – وترك تلك السياسة المُقززة فيما يتعلق بالوساطة الإسرائيلية)..
فضلا – عن كذلك فتح الملفات لنقاش خبراتي ومجتمعي وسياسي (شيء طبعا شبه مستحيل حاليا بالنظر لطبيعة النظام الحالي، ولكن على الأقل كحد أدنى) للمضي في استراتيجية مائية بديلة، وفعلا النظام بدأ في بعض جوانبها، ولكن ليس هناك في يدنا أي مؤشرات صادقة وموضعية (بسبب غياب المؤسسية والرقابة السياسية والبرلمانية) عن مدى نجاعتها.

مقالات ذات صلة

‫6 تعليقات

    1. أعتقد أنها فرصة كبيرة لمصر فعلا أن تفتح لها مسار قوة وقدرة أكبر للتعامل مع الملف، لسببين: أهمية موقف السودان من مشكلة السد وأزمة النيل عموما – وهو للأسف لم يكن في صالح مصر طيلة السنين الفائتة ولأسباب سياسية وتنموية خاصة بالسودان. وكذلك – التغير السياسي الحاصل، حتى وإن لم يظهر بوضوح مآله بعد، يفتح مساحة كبيرة لمصر لزيادة وزنها وعلاقتها بالسودان، والتأثير على سياسته بالتالي.
      نعم، النظام طبعا بينه وبين المجلس العسكري السوداني تعاضد – بشكل ذاتي وتبعا للحليف الخليجي، وأيضا قام بدور وساطة معقول بالفعل.
      لكن:
      يبقى أنه بالأخير في صف المجلس العسكري الذي يقصد بالفعل لتفريغ التحول الديمقراطي من محتواه، وهذا ليس فقط بسبب حساسية النظام المصري من هذا التحول عموما، ولكن استحقاق تحالفه الخليجي كذلك.

      لو نحكي بشكل براجماتي بحت،
      الخيارات كالتالي..

      الأول هو تعميق التواصل مع المؤسسة العسكرية ورعايتها (شبيه بالحال الليبي)، وهذا يقتضي تشجيعها ودعمها في أي خطوة التفافية على الديمقراطية، مما سيؤدي لقدرة أكبر على التأثير في الموقف السوداني الإقليمي؟ خيار طبعا مطروح، ولكني أعتقد أنه مفيد على المدى القصير فقط – أعني فيما يتعلق بملف السد تحديدا.

      والخيار الثاني، دعم حقيقي وصادق للتجربة، ومحاولة إنجاح الخيار الديمقراطي، والوساطة الموضوعية لحل الإشكالات العالقة، وهنا ستستوعب النخبة السودانية – المدنية قبل العسكرية – محورية دور مصر لأمتها، قبل أن تكون للسودان تحديدا.. وهذا بلاشك الخيار الأنجع، ولكن يبقى بعيدا جدا بالنظر لطبيعة النظام المصري وبنيته وحساسيته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى