قراءات استراتيجية
مرة أخرى: مواجهة داعش
30-5-2016
أولا)
هناك ثلاثة خطوط استراتيجية (أشبه بمباديء) عامة للتعامل مع أي حركة إرهاب أو تمرد:
عزلها عن الحاضنة عبر حزم سياسية وتنموية وإعلامية وغالبا تقتضي تغييرا جوهريا في بنية النظام غير الديمقراطي وشديد المركزية وتوجهاته ـ
تطوير الأداة المخابراتية والأمنية لتجفيف الموارد المحلية والإقليمية وضرب سلسلة القيادة –
إحداث تحوير في الأداة العسكرية (من حيث العقيدة والأفكار والتركيب والتكتيكات) لتتناسب مع شكل التهديد العسكري (نظامي – غير نظامي – هجين) وكذلك لتوفية استحقاقات الاستراتيجية المختارة.
ثانيا)
ولكن التعقيد حاصل حين نتحدث عن الخيارات الاستراتيجية.. فهي لاتختلف فقط في (تفصيلات) تطبيق القواعد السابقة، ولكن أيضا من حيث النمط والنهايات..
وكل هذا يعتمد أولا – على الأهداف السياسية والأمن قومية، وثانيا على الأبعاد الجيوسياسية ومستوى التهديد وشكله (إرهاب، تمرد، انفصال، هجين) والموارد المتاحة، وكذلك تسكين استراتيجية مكافحة التمرد والإرهاب ضمن استراتيجية دفاعية أوسع..
فتفصيليا – خصوصا بالتركيز على مستوى الاستراتيجية العسكرية – هناك خيارات:
فالخيار الكلاسيكسي هو في استعادة السيطرة النظامية وتصفية التهديد الإرهابي والأمني والسياسي (غير النظامي)- عبر أسلوب (أغرق، طارد، صفي، سلم لحكم مدني مستقر) وكذلك تطوير مجمعات بشرية آمنة طرفية.. وبالطبع هذا يصلح فيما ينبغي أن يفعله النظام المصري في سيناء لعدم نظامية وضعف نسبي لحركة التمرد.. مع تفعيل كل الخطوط الاستراتيجية السابق ذكرها، وأهمها معالجة الاحتقان الاجتماعي والسياسي في سيناء وبدرجة ما – الوادي.
والتشكيل العسكري هنا في أغلبه غير نظامي (وحدات قوات خاصة وصاعقة، لامركزية القيادة، مجموعات قليلة مع القدرة على التراكب) مدعوم بدعم تكتيكي جوي، وإبرار، وليس ضربات جوية !
، مع تشكيلات أمنية وشرطة محلية (ينبغي استنباتها من البيئة المجتمعية المناطقية).. بتوزيع مهام بينها خصوصا في مراحل تثبيت الأمن وجمع المعلومات.
وقد يكون الخيار الاستراتيجي لحكومة العراق – مزيجا من استراتيجية عسكرية نظامية للمواجهات المباشرة (قبل وبعد وأثناء التصفية)، وأخرى غير نظامية (ترتكز على حرب المدن لمفارز من القوات الخاصة المدعومة بمدرعات خفيفة وطيران تكتيكي).. مع تشكيل قوات محلية من النسيج الاجتماعي المستوطن لحركة التمرد (العشائر السنية).
وهذا لأن حركة الإرهاب نجحت في بناء شكل نظامي ونسق دفاعي مستقر.
وكذلك – مع الخطوط السياسية والشعبية وهي شديدة الأهمية، وتخالف بنية النظام ذاته! وقد تقتضي تنحية للميليشيات الشيعية بقدر الإمكان عن السياق العسكري.
وقد يكون الخيار الاسترايجي لقوة كبرى أو إقليمية فيما يتعلق بسوريا أو العراق ساعيا للتحجيم والمحاصرة عبر عمل جوي وصاروخي، بالإضاف لعمل مخابراتي وأمني (ما كان حتى أواخر 2015).. أو داعما لخيار الحسم الاستراتيجي السابق (في العراق يقوم به الجيش مع تشكيلات شيعية غير نظامية، وبعض القوات السنية المحدودة، وفي سوريا القوات الديمقراطية المكونة من الأكراد وبعض السوريين) بتوفير أدوات فنية ولوجستية أو نوعية عسكرية (كغطاء جوي).
ويتعقد الوضع هنا لأن خيارات القوى الكبرى والإقليمية قد تتصادم في بعض التفصيلات أو عند الاقتراب من النهايات (كما هو حال الروسي والأمريكي في سوريا)، أو تقترب (كما في حال الأمريكي والإيراني في العراق)، أو تضطر لتحمل خسارة استراتيجية لأن القوى الأكبر تفرض استراتيجية حسم من لوازمها هذه الخسارة (كما هو حال الخليجي والتركي
مثال (1) – القوى الخليجية خسرت رهانها على جماعات مسلحة إسلامية في سوريا يرفض دعمها الغربي – والأهم – أصبح قابلا بنظام الأسد بدرجة تعاكس الهدف السياسي الخليجي.
مثال (2) – تركيا أكبر الخاسرين حقيقة.. لأنها ليست فقط تشارك الخليجي خسارة ضعف إمكانية إسقاط نظام الأسد، ولكن خسرت الهدف الأهم من تدخلها في سوريا (حرمان الأكراد حرية الحركة العسكرية والسياسية وصولا لتشكيلها قاعدة عسكرية وسياسية تلاصق جنوب تركيا وستشكل محضنا ومعزلا لأكراد تركيا).. وهذا مادفع تركيا في مرحلة مبكرة لتقديم دعم مباشر وغير مباشر بأشكال متعددة لداعش.. والناتو كان يتململ وينتقد ضمنا من هذه السياسة، ولكن في ظل عدم استنفاره لتدخل حاسم ضد داعش.
وحين حصل هذا الاستنفار بعد هجمات أوروبا، وكذلك عمليات إرهاب في الداخل التركي، ونقد أوروبي صريح أثناء أزمة كوباني.. تحولت السياسة التركية لمحاصرة داعش – بدرجة ما – دون الاشتباك المباشر معها..
أكثر الخيارات تعقيدا هي من نصيب النظام السوري أو المعارضة السورية (التي هي على كل حال شديدة الضعف سياسيا وعسكريا – خلا من هو محسوب على خط القاعدة كالنصرة وحلفائها)،وبالطبع ماكنا نسميه منذ زمن طويل بالمقاومة العراقية التي هي شبه انتهت فعليا.. لأن هناك ملفات استراتيجية مزاحمة، ولتعقد موقف القوى الكبرى والأمريكية حيالها.. بمعنى – كل هذا يأخذ من (حرية حركتها ومواردها والقدرة على توظيفها) على المستوى الاسترايجي.
وإن كان نظام الأسد استطاع توسعة مكاسبه نسبيا استغلالا لتطورات العامين السابقين، أم المعارضة فقد خسرت كثيرا سياسيا وعسكريا.
ثالثا)
كما نرى، بالرغم من خطورة الخيارات الاستراتيجية والعسكرية، وكيف أن الخلل فيها مبكرا وعدم القدرة على تقدير المسارات ونهاياتها (عند كل الأطراف نظم ومعارضات وقوى خارجية)، استنزف كل الأطراف وقلل من مكتسباتها (عدا الأكراد ربما – وبالطبع إسرائيل فقد استفادت من خطل كل الأطراف مع ضبط حدود تدخلها على غير العادة!)،
إلا أن ثمة خلل لايقل أهمية، بل ربما يزيد، وهو في المسئولية عن احتقان البيئات السياسية والاجتماعية (النظم السورية والعراقية والمصرية – وكذلك الأمريكي).. وربما المعارضات لها بعض المسئولية كذلك
وكيف أن ذلك قاد – ليس فقط لتوسيع دعم الحاضنة الشعبية لداعش (سنة العراق، قطاعات سورية، قطاعات سيناوية)، ولكن للإفلاس في ميزان القوة ذاته.
وأيضا في تقديم روافد مباشرة وغير مباشرة للظاهرة الداعشية في مراحل ما (تركيا والخليجي، ثم بقية الأطراف في مراحل مبكرة وبشكل غير مباشر )
وهذا مادفع أقدم منظري مكافحة التمرد والإرهاب في الستينات لإعطاء الشق العسكري مالايزيد عن 20% من الاستراتيجية الشاملة.. وأقصد هنا الفرنسي ديفيد جالولو (نظرية واستراتيجية مكافحة التمرد)، وكذلك البريطاني روبرت تومبسون (مكافحة التمرد الشيوعي: دروس من المالايو وفيتنام)
أخيرا
للأسف الشديد – الوضع في سوريا كان منذ بداياته ملتبسا، وكانت المعارضة تراهن على سراب التدخل الخارجي – بتصورها أن تقديم تنازلات قومية ورسالية ستهيء لهكذا تدخل؛ فدفعت لتصعيد وحشرت نفسها مع أطراف إقليمية دون حساب جدوى موضوعي أو حتى محاولة استيعابية لأطراف داعمة للنظام، ثم فاقمت الأهداف خارج إمكان القدرة باستراتيجيات عسكرية وتنظيمية أكثر خطأ.
هذا مقال لي قديم حول الأمر.
https://drive.google.com/file/d/0B3R3f5iENLhfNWV6VmlITEttZGM/view?usp=sharing
والحقيقة لم أكتب شيئا بعده حول سوريا، مع تفاقم المرارات، لأني لم أجد جديدا أكتبه!
وبخصوص الحالة المصرية فنقاش لاحق
تعليق واحد