العلاقات المدنية العسكريةقراءات استراتيجية

حول الاستراتيجية والقيمة .. على هامش تركيا

18-7-2016
لماذا فشلت محاولة الانقلاب التركية؟ وهل هذا نتاج ثمار الإصلاحات الهيكلية والسياسية لأردوغان أم العكس.. بسبب اختراقه لأجهزة الأمن والمعلومات؟
وعموما – هل الإنجاز السياسي – وبشكل أدق فرض الهيمنة المدنية على المؤسسة العسكرية – يرتبط بالنسق الديمقراطي أم العكس – كما ماحصل في تركيا؟

تناولنا في رسالة سابقة الديمقراطية وعلاقتها بمستوى الإنجاز السياسي والوظيفي والعسكري .. واختلاف النظرات الأكاديمية للمسألة، وطرحي – بمنطق النظرة الواقعية والتجريبية – أن هناك شروطا للإنجاز (عامة وظرفية) وهذه قد يسهل الوصول لها في بيئة ديمقراطية، أو حتى يصعب وتحتاج لعلاجات.. وهذه العلاقة – للتعقيد – تختلف من حالة لأخرى  – حسب عوامل متعددة (النضج المدني، البنى التحتية، طبيعة الخصوم والأحلاف، العوامل الثقافية والاجتماعية، نوع الصراع والعنصر الحاسم فيه – هل حرب نظامية شاملة أو محدودة أو حرب غير نظامية…)
 
بمعنى: القدرة على إحداث انقلاب أو إفشاله، القدرة على استدامة السيطرة السياسية لشخص أو فصيل أو فقدها، وحتى علاقة آثار ماسبق على معايير الإنجاز السياسي والاقتصادي والعسكري للدولة – كل هذا – من منظور استراتيجي بحث – يمكن فهمه وتوقعه من خلال النظر لموازين القوى وطرق بنائها وتحريكها. ولا تُسعفنا النظرة (القيمية) المباشرة – سواء تتبع لمنظور ديمقراطي أو حتى إسلامي روحاني أو ماركسي أو أو – في تفسير خط الأسباب والنتائج.
 
 
فيكون حينها سهل أن ندرك لماذا فشلت محاولة الانقلاب التركية الأخيرة، في حين نجحت أربع محاولات سابقة منذ 1960..
 
محاولة ركيكة أشبه بتجارب الانقلاب السورية في الستينات، دون أن تقصد وتنجح في السيطرة على مصادر القوة العسكرية الشاملة أولا (فقط قطاع من السلاح الجوي والجندرمة)،
وفي بيئة سياسية شديدة الاختلاف:
حكومة مركزية قوية لها شعبية، وقوى سياسية محتقنة ضد النظام ولكن لاتحبذ الانقلاب لوضع عام داخلي وخارجي متغير أو لخصومة أشد مع الجيش، أو لخبرة سلبية وخلاف أيديولوجي (القوميون، الكماليون، الأكراد، كولن..)
ونظام استطاع عبر (13 سنة) امتلاك تدريجي لموازين القوى وسحبها من الجيش بالتحديد.. سواء تحييده من السياسة أولا (أخذت العملية مالايقل عن 10 سنوات – بدءا من استغلال التفويض الشعبي والرغبة الحثيثة للالتحاق بالاتحاد الأوروبي من فرض أجندة إصلاح دستوي وقانوني أول الأمر أزال وصاية العسكر عن مجلس الأمن القومي،
ثم استغلال و(فبركة) قضايا لتصفية قطاعات من المؤسسة، وتقديم تدريجي لعناصر موالية في القيادة،
وكذلك تطوير قدرات اختراقية داخل أجهزة مضادة في الاستخبارات والأمن، وكذلك وضع شبه ميليشوي لأنصار الحزب الحاكم عبر شبكات اجتماعية وليس فقط سياسية..
 
 
لكن أسوأ خطايا محاولة الانقلاب العملية في رأيي أنها حصلت بشكل لقيط عن أي تطور سياسي وأزماتي، وافتقدت لعنوان سياسي مناسب وواضح، وقيادة مُطَمْئنة، وخارطة طريق محددة.
 
بمعنى – لو افترضنا مثلا أنها حصلت في وضع مختلف (تصاعد لسلاسل عمليات إرهابية داعشية وكردية، فقدان سيطرة تدريجي من قوات الأمن وانشغالها، تراجع اقتصادي ولو مؤقت بسبب تنامي الإرهاب، تصاعد واستدعاء السلوك الغشيم من النظام – الذي تراجع قليلا الفترة السابقة – تجاه الأقليات والإعلام والقضاء والشباب مما يسهم في توفير مستند أزمة على الأرض، يُمكن البناء عليه لتهيئة عريضة استدعاء سياسي للتدخل العسكري)..
أقول – لو كل هذا كان متوفرا، كان سيكون هناك فرصة حقيقية لنجاح الانقلاب حتى لوعاني من الإشكالات البنيوية السابق ذكرها في طريقة تخليقه داخل المؤسسة العسكرية.
 
طبعا كل ماسبق من خطوات للحزب الحاكم أبعد مايكون عن أي اتجاه إصلاحي ديمقراطي أو قيمي.. دون حتى التوسع في سرد جوانب الفساد المالي والإداري، والنزعة التسلطية المرضية لأردوعان، أو السياسة الداخلية والخارجية البائسة أخلاقيا واستراتيجيا في ملفات كالأكراد والأزمة السورية وداعش وإسرائيل..
 
بل الطريف- وهذا ينبيك عن حجم الانتهازية ولاأخلاقية أردوغان .. موقفه من جماعة كولن.
لو قلنا أن أهم ماأفاد حزب أردوغان في تنحية الجيش وتقليل وزنه السياسي كان ملف الاتحاد الأوروبي، وكذلك الانجاز الاقتصادي الذي وسع من شعبيته، مع عامل الزمن.. فجماعة كولن كانت أداته الأساسية في اختراق شبكات الأمن والمخابرات وبعض النخب العسكرية – في فترة التحالف الوثيق بينهما حتى 3 أعوام مضت.. بعدها – كعادة السياسة البراجماتية الخالية من أي قيمة، التفت أردوغان لهذه الحركة واعتبرها عدوه الأول..
وكان أهم مااستغله من محاولة الانقلاب الفاشلة (الكمالية بوضوح) هو صنع رأس حربة للتوسع في تصفية بقية زوائدها خصوصا في القضاء (يعني مال القضاء بمحاولة انقلاب عسكري فاشلة ليعتقل ويفصل 2500 عنصر قضائي ؟  🙂
 
 
المآلات.. أعتقد سلبية جدا على المدى المقبل، لأن الوضع الداخلي مليء بمشكلات جسيمة (الأكراد، الإرهاب – الاحتقان في السياسة والإعلام والشباب ومع جماعة) سيزيدها هدم بنى الديمقراطية، وإذلال الجيش، تفاقمها، حتى لو كانت هذه الأوضاع منفصلة عن محاولة الانقلاب ولم تقدم خميرة مساندة لها.
وتسييس المؤسسات الدفاعية والأمنية سيظهر أثره على مدى أوسع.
——————————-
عودة لسؤالنا .. هل يمكن تحقيق إنجاز ما في السيطرة السياسية، أو حتى إنجاز سياسي عام أو في مسألة تنحية المؤسسة العسكرية أو إصلاح مؤسسات، بمعزل عن أصل القيمة الديمقراطية أو حتى الإسلامية؟
 
تجيبنا النظرة الاستراتيجية المباشرة .. نعم طبعا.
وهل ممكن تحقيق ماسبق في إطار القيمة الديمقراطية أو الإسلامية؟
كذلك ممكن طبعا، وحصل كثيرا.. باشتراطات وطرق معينة. وقد تصعب أو تسهل معها.
 
أنت لاتتخذ قرارا بالاعتماد على النظرة الاستراتيجية لوحدها، ولكن المفترض أننا ننطلق بمنظومة قيمية تحدد لنا مايصلح ومالا يصلح.. النظرة الاستراتيجية ذاتها منشغلة بسؤالي الجدوى والإمكان وليس بأسئلة الغاية والمنطقية والقيمة..
 
صحيح كذلك- أن كل المنظومات القيمية تسمح لأتباعها باختراق حدودها القيمية تبعا للحاجة والضرورة.
وكان أستاذي يقول في معرض استهجانه أن هناك قوالب أيديولوجية وقيمية ثابتة لممارسة الحرب (كالطريقة الليبرالية للحرب .. مثلا): لايوجد جيش أو دولة تمارس الحرب دون أن يكون لها فكرة قيمية وحدود أخلاقية ما، ولكن كلها في نفس الوقت تعلم متى وكيف تستطيع اختراقها.
وكنت أردد في نفسي: (تحت أي حد من حدود الضرورة الشرعية يمكن تجاوز المحظور؟!)
 
طبعا هذه النظرة الواقعية المفرطة التي تجدها عن كل الاستراتيجيين، ليس بالضرورة أن نقبلها بشكل معياري (ماينبغي أن يكون)، ولكنها مقبولة تجريبيا (ماحصل فعلا) عدا استثناءات قليلة.
 
 
ماأختم به في مسألة الديمقراطية والقيمة وعلاقتها بالإنجاز.. أن النظرة الاستراتيجية غالبا ماتسعفنا في تحليل مسارات الدول والكيانات في مدى قريب وحتى متوسط، ولكن لاتكون بذات القدرة والوضوح على تفسير المآلات الممتدة في الخط الزمني..
ممكن أن يحاول البعض.. دراسة كيندي المشهورة عن تصاعد وانهيار الامبراطوريات مثلا. ولكن في الغالب تترك فجوات من الغموض وعدم اليقين.. تقفز الأطروحات القيمية لملئها.. ليست فقط دينية ولكن حتى ليبرالية أو ماركسية.
 
ويمكن حتى أن يتقارب الخطان (التجريبي والقيمي) في تفسير ظاهرة ما.. 
مثلا حين نقول أن فشل تجربة عبدالناصر يمكن رد انكساراتها العسكرية والسياسية لنقاط محددة في ضعف القابلية الاستراتيجية للدولة (تطوير مساحة نقدية ورقابية للتطوير والأداء العسكري، تجاوز الأزمة الاقتصادية أول الستينات التي أجهضت مشروعي الصواريخ والنووي، الفشل الاستخباراتي الجسيم) أو ضعف القدرة على التطور الاجتماعي المتناسب مع الخلفية الثقافية والبيئية (استيراد منظومة قيمية ومحاولة إحلالها محل  البعد الإسلامي المنسجم عروبيا – وهذا يتحمل الإخوان معه قدر كبير من المسئولية بسبب النزاع على السلطة والفقر الفكري).. ولكن النظرة التجريبية أيضا تقول – أن كثير من هذه المشكلات كان من الممكن حلها – ولو نظريا – في معزل عن خيارات ديمقراطية وإسلامية بحتة.
 
 
أكيد أنا كمحمد – مؤمن بحد قطعي وحقاني من التفسير الإسلامي-القيمي أو حتى الغيبي (يد الخالق وحكمته في تسيير الحوادث على غير قاعدة) للتاريخ ومآلات السياسة والصراع على المدى الطويل وحتى القصير، –  ولكن أدرك وجود مساحة واسعة من النسبية والاعتياد والقصور والتوظيف في كثير من  التفسيرات المنتسبة للإسلام أو الديمقراطية أو الماركسية مثلا.
وتتكون معنا أيضا مساحات ظنية في التفسير القيمي والتجريبي/الاستراتيجي معا. وبعضها يرتبط بتغيير في السياق الزمني والاجتماعي والسياسي – أي مايصلح لعصر ولتفسير حوادثه ليس بالضرورة يصلح لآخر، وبعضها يصلح لتفسير حالة دون أخرى لاختلاف البيئة والظروف والفاعلين.. وهكذا
 
—————————
ومسألة في سياق مختلف ولكن الشيء بالشيء يُذكر – وهذا يدفع بنا أكثر لمسألة تقارب إن لم يكن وحدة المعرفة وفلسفتها – هذا الجدل الشائك، بين القانون والقيمة (المرتبطة غالبا  ببعد غيبي)،وهنا حتى فارق بين القيمة ويد الخالق كما هو الفارق في الاعتقاد الإسلامي بين رضا الله ومشيئته، فالله قد يقدر أمرا لايُرضيه سبحانه-  ستجده حاضرا بكثافة في التراث الإسلامي القديم :
الخلاف الحاد بين الأشاعرة وعلماء الكلام عموما، مع المعتزلة، ومع الفلاسفة الرشديين أو الغنوصيين حول قدرة الخالق والعلاقة بين الأسباب والنتائج.. وستجد تدرج مفهوم بين هذه الطوائف بين من يحتفظ للخالق بقدرة الفعل والإنشاء ولكن يحصل الاختلاف حول حدوده: هل يجعل الله للأسباب قوة ذاتية تعمل كما يقول المعتزلة، وله التدخل في إبطالها، أم هو حاضر في كل حالة كبرت أو صغرت وإنما علاقة النتائج بالأسباب كشواهد على الطريق حتى ينتظم حال الخلق والكون كما يقول الأشاعرة، أم أن الخالق غير منشغل كلية  بالجزئيات كخط ابن رشد).
 
وتجدها حتى في الاحتراب اللاهوتي-العلمي مع مرحلة النهضة.. كلما يكتشف العلم سببا وقانونا، هل هذا يقلل من قدرة الخالق على خلق الحوادث والمشاهد؟ أم تبقى قدرة الخالق مفسرة لفجوات هذا العلم (والتي تمتليء تدريجيا) كقول نيوتن – راجع محاضرة عدنان إبراهيم الجميلة عن الموضوع.
وأعتقد أن ماذكره من أن وظيفة القانون هي في التفسير وليس الخلق أو الغائية هو أمر لافت.
 
 
أما في حال البشر والظواهر التي يحدثونها ويتحركون فيها، فالحال أن فكرة (القانون) نفسها باهتة للغاية وعليها اعتراضات جمة. والقيمة التي نحكي عنها ليست غيبية، ولكن فكرة ديمقراطية نستخلصها من ظروف موضوعية  – تدخل عليها عوامل شديدة التغير الزمني وفي ذات الحالة – لتحسين السلوك السياسي والوظيفي للكيانات والدولة اعتمادا على مباديء الحكم الرشيد والإصلاح المؤسسي والتوازن بين الموارد والأهداف  وترجيح الكفاءة.
وهذا يجعل مساحة الغموض أكبر، وحجم اليقين أقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى