العلاقات المدنية العسكريةقراءات استراتيجية

إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية التركية وإسقاط على الحالة المصرية

2-8-1016

تقييم لقرارات إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية التركية، وهل هي تسييس للجيش أم إخضاعه ديمقراطيا؟

– إلحاق قيادات القوات البرّية والبحريّة والجوّية بوزارة الدفاع، بعد أن كانت تتبع رئاسة هيئة الأركان.

– تخويل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، الحصول على معلومات تتعلق مباشرة بقيادة القوات المسلحة، ومدى ولائهم.

– صلاحية الرئيس ورئيس الوزراء في توجيه أوامر مباشرة لقادة القوات، وضرورة تنفيذ القادة للأوامر مباشرة دون الحصول على موافقة من أي سلطة أخرى.

– فصل 1389 عسكريًّا من القوات المسلحة، بينهم المستشار العسكري لأردوغان، ومساعد رئيس هيئة الأركان، ومدير مكتب وزير الدفاع.

– إغلاق الأكاديميات الحربية والثانويات العسكرية ومدارس إعداد صف الضباط.

– تأسيس “جامعة الدفاع الوطني” تابعة لوزارة الدفاع.

– تتشكل الجامعة من معاهد لتخريج ضباط ركن، إضافة إلى أكاديميات حربية وبحرية ومدارس إعداد ضباط صف.

– اختيار رئيس الجامعة من قبل رئيس الجمهورية، من بين 3 مرشحين يقترحهم وزير الدفاع، ويوافق عليهم رئيس الوزراء.

نقل تبعية المستشفيات العسكرية بتركيا  لوزارة الصحة .

المصدر: وكالة الأناضول نقلاً عن الجريدة الرسمية.


أعتقد أن هذه القرارات يمكن تقييمها من منظورين:
الأول – وهو الأقرب لتخصصي – منظور استراتيجي: أي تأثيرها على ضبط العلاقات بين المستوى السياسي والعسكري بمايحقق استخدام أمثل للأدوات العسكرية في تحقيق الهدف السياسي حربا وسلما، وفي ذات الوقت الانسجام مع فن العمليات وقواعد الحرب والقدرة العسكرية.
الثاني – الشق الديمقراطي.. أي تحقيق هدفين: إخضاع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية ومنع أي تمرد مستقبلي، وفي ذات الوقت منع تسييس الجيش.
 
————————-
من المنظور الأول (الاستراتيجي).. هناك جملة من المباديء لابد من مراعاتها، ولكن تنزيلها تفصيليا يختلف على حسب السياق:
مثلا – مهم أن يكون المستوى السياسي هو من يضع الأهداف الاستراتيجية، وفي ذات الوقت يشرف على ملفات الإدارة الدفاعية(المهام والأدوار، الموازنة، منظومات التسليح، شئون الأفراد، التنظيم والعقائد القتالية) .. ولكن مهم كذلك أن يكون للجسد العسكري قوام مهني يسمح له بطرح رؤيته الذاتية – ويضغط عليها مؤسسيا-  لمايفهمه من قواعد الحرب وإمكانياته في مقابل طرح القيادة السياسية (حتى مع احتفاظها بالقرار آخر الأمر)، وكذلك لابد من التفكير والتخطيط العملياتي على مستوى رئاسة الأركان بما يؤكد منطق الحرب المشتركة.
وعلى هذا –
فأن يتم جمع الجوانب التنظيمية والإدارية والمالية للأسلحة تحت قيادة مباشرة لوزارة الدفاع هذا جيد.
ولكن حرمان رئاسة الأركان من القيادة المباشرة، وأن تحتفظ ب
platform
يتم فيه التخطيط العملياتي، وقيادة العمليات .. هو خلل كبير.
حتى في أمريكا، وكان فيها نظام شديد الشذوذ للقيادة العسكرية ويُضعف من سلطة رئيس الأركان، حيث هناك خطان متوازيان: الأول يربط بين الرئيس ووزير الدفاع وقادة الأفرع المسلحة وعلى رأسهم رئيس هيئة الأركان المشتركة ويختص ببناء القدرات الدفاعية، والآخر يربط بين الرئيس ووزير الدفاع والقيادات العملياتية (المناطق الاستراتيجية – الجغرافية والوظيفية).
ولكن بعد مشكلات عديدة ظهرت في تخلف وقصور التخطيط العسكري (الاستراتيجي والعملياتي الأعلى) صدر مرسوم جولن ووتر في منتصف الثمانينات، وقوّى من سلطة وصلاحيات رئيس هيئة الأركان المشتركة بأن جعله المستشار العسكري الأول للرئيس ويتحتك كذلك بخطط العمليات وقيادتها.
أيضا – التغلغل السياسي الكثيف في بنية المؤسسة العسكرية وتعيين قياداتها والتحكم في مؤسساتها التعليمية وموجات العزل والإذلال غير الموضوعية – كل هذا من شأنه تحطيم (القوام المهني) للمؤسسة، مما يجعل الحوار
الاستراتيجي المطلوب بين المستويين هو من طرف واحد (يأمر) وآخر (ينفذ)، وهذا سيكون له عواقبه سواء على القدرة القتالية للمؤسسة، أو نجاعة الاستراتيجية الدفاعية
.. وشيء كهذا بالضبط حصل مع السادات وتسبب في أزمات جسيمة في حرب 73.
ساعدت نكسة 67 عبدالناصر في استعادة السيطرة (السياسية) على الجيش، ولكن لضمان الولاء السياسي (كنظام) جمع القيادة العسكرية العامة لوزير الحربية مع علمه بسلبية الأمر ومخالفته لنصيحة أمين هويدي أول وزير حربية بعد النكسة..
ولكن إجمالا – تعامل عبدالناصر كان شديد التوازن مع القيادة العسكرية (خصوصا بوجود الشهيد رياض كقيادة فنية ورئيس أركان له كاريزما ، وكذلك فوزي كوزير حربية وقائد عام صارم).. فضلا عن مناخ حرب الاستنزاف وماسمح به من زيادة وزن القيادة العسكرية بسبب طبيعة النشاط العسكري القائم على سلسلة متدرجة وممتدة من النشاط التكتيكي والعملياتي مع صمت العملية السياسية – حتى انهيار الدرع الصاروخي وضربات العمق ثم مبادرة روجرز.
لكن السادات – استخدم بالضبط سيف الفصل والإبعاد لكل قيادة عسكرية لاتبدي طاعة عمياء لأوامره السياسية والعسكرية كما فعل مع فوزي ثم صادق ومساعديه.. واختار وزير حربية وقائد عام ضعيف وتابع.
وهذا بالضبط – ماقاد لكوارث في النصف الثاني من حرب أكتوبر وتسييس (مفرط وغير رشيد) للقرارات الاستراتيجية وخط العمليات..
—————————
أما الشق الديمقراطي – فالموضوع أوضح بالطبع..
لو هناك أمور ندمت عليها، فمنها إلحاحي الكثيف والمبكر على مسألة رفض الوصاية العسكرية كالعنوان الأبرز لطرحي في 2011، و2012.
صحيح – أن طرحي تضمن كذلك وجوب التدرج في التعامل مع المؤسسة العسكرية – أي تمييزي بين متطلبات مرحلة الانتقال الديمقراطي (النص القانوني والدستوري، ومنع التدخل العسكري في الشأن السياسي)، ومرحلة التثبيت الديمقراطي التي تأخذ زمنا وتحتاج للمدنيين اكتساب الشرعية السياسية والقدرة الفنية اللازمة لإدارة الدفاع بشكل تفصيلي، وتضمن أيضا التحذير من تسييس الجيش … فخط دقيق يفصل إخضاع الجيش للهيمنة المدنية، وإخضاعه لهيمنة فصيل سياسي..
ولكني لاحظت أن الشق الثاني من طرحي – مع أهميته – كان باهتا للغاية، ولم أبدأ في إصلاح ذلك إلا مع مناقشتي لدستور الإخوان أواخر 2012.. وبالتأكيد كان مصلحة للإخوان  الشق الأول من طرحي إلا حين استخدمته كسبب رئيس في رفض دستورهم، أو يُظهر عدم استقامتهم سياسيا خصوصا أمام أتباعهم في مسألة العلاقة مع الجيش.. .
حينها طرحت جملة من المباديء تضمن إخضاع الجيش للهيمنة المدنية دون هيمنة فصيل – وهي مباديء حاضرة في التجارب الديمقراطية بالفعل…
مثلا – عدم استفراد السلطة التنفيذية بتعيين القيادات العسكرية (وهذا مبدأ ديمقراطي هام)، وكذلكوجود قوام مهني غير مُسيسي لوزارة الدفاع يشتمل على عناصر مدنية ، وعسكرية – تبعا للملفات إدارية أم فنية أم استراتيجية – حتى مع وجود رأسها المدني المُسيس (وهذا مبدأ ديمقراطي هام أيضاـ وكذلك استراتيجي وإن كان يتجلى في مرحلة التثبيت الديمقراطي، وليس الانتقال)
واضح طبعا أن أردوغان هدم كثير من أسس البناء الديمقراطي عموما، وليس فقط في شق العلاقات المدنية العسكرية.. وهذه نقطة مهمة.
لايمكنك تقييم الأساس الديمقراطي للعلاقات المدنية العسكرية في معزل عن مجمل الملفات والمساحات الديمقراطية.. سواء في عقد اجتماعي متوازن، وفصل حقيقي بين السلطات، وعدم تسييس أجهزة الدولة وخصوصا أجهزة المعلومات.
فمثلا – الوضع الحالي في مصر، لو اقتصرت على تقييم الوصلة بين السيسي والمؤسسة العسكرية ستجد علاقة فعلا متوازنة مع خضوع للرئيس.. ولكن هل هذا يجعل  من الوصلة ديمقراطية في معزل عن مجمل تقييم النظام في الملفات السابقة?!
تعيين وعزل القيادات العسكرية لو تذكر طرحنا أيام دستور الإخوان يجب ألا تستفرد به السلطة التنفيذية.
في النظام الرئاسي والمختلط يكون تحقيق ذلك ميسرا، فالرئيس يُعيّن أو يعزل ولكن لابد من إقرار البرلمان (والحكومة في المختلط).
المشكلة في النظام البرلماني أن الحكومة هي انعكاس للطرف الغالب في البرلمان.. حينها تحتال النظم البرلمانية – على حسب سياقاتها وخبراتها التاريخية – في وضع صمامات وكوابح أمام رئيس الوزراء:
بريطانيا مثلا – هناك التصديق الملكي، وكذلك توصيات الوكيل الدائم لوزارة الدفاع الذي يراعي رأي المؤسسة. وكان حتى التسعينات يدور منصب رئاسة الأركان على قيادات الأسلحة.
ورئيس الأركان هو المستشار العسكري الأول ورأيه حاضر بقوة (ونافذ عرفيا) في تعيينات كل مايليه من قيادات.
إسرائيل – يختار رئيس الوزراء رئيس الأركان من  أحد ثلاثة ترشيحات من وزير الدفاع (في الأغلب يمثل الحزب الثاني في الائتلاف الحكومي كعادة حكومات إسرائيل، ودائما يراعي في الترشيحات الثلاثة رأي المؤسسة.
ثم في كل الأحوال – لابد من موافقة البرلمان على استدعاء الجيش لدور داخلي، وتتدخل في ذلك أيضا السلطة القضائية عند الحاجة.
طبعا أردوغان قلب النظام السياسي الديمقراطي رأسا على عقب: قوض أركان السلطة القضائية واستقلالها (وهذا بدأ منذ نزاعه مع جماعة كولن)، ثم يريد تحويل النظام لرئاسي مع كل مايتيحه النظام البرلماني من غياب سلطة موازية!
بمعنى – حتى النظام المختلط   كما في فرنسا يفرض انتخاب مباشر لرئيس الجمهورية، ولهذا فله صلاحيات واسعة، ولكن تتوازن معه كذلك السلطة البرلمانية الآتية من انتخاب (آخر) وفي الغالب يحرص النظام الديمقراطي على الفصل الزمني بين الانتخابين (لتقليل سيطرة فصيل على السلطتين بسبب غلبة مزاج سياسي على الجماهير في نقطة زمنية واحدة)..
cohabitation
لكنه يريد صلاحيات رئيس كاملة، مع سلطة برلمانية خاضعة .. حاجة كدة زي السيسي عندنا.
لو شهدنا الصورة باتساعها السابق، حينها ندرك أن مافعله أردوغان مع الجيش.. هو نقطة في منظومة السيطرة الفردية (وليس فقط الفصائلية) على الدولة.
بالإضافة للعزل والتعيينات.. فمثلا أن يصدر الرئيس ورئيس الوزراء أوامر مباشرة للقيادات العسكرية هو مخالف للقاعدة الديمقراطية والاستراتيجية معا.
من حقه استراتيجيا مثلا أن يصدر قرارا بالتأكيد على المستوى الاستراتيجي والعملياتي وحتى التكتيكي – ولكن إن كانت له حساسية على (الأثر الاستراتيجي) وليس مجرد التدخل الفني في عمل القوات – حتى لو كانت خلفية القائد السياسي عسكرية..
وشيء كهذا حكاه موشي دايان في مذكراته مفاخرا أنه كان يتحفظ في حرب 67 عن توجيه أوامر مباشرة للعمليات لأنه كان قائدا سياسيا.. ولكن الحقيقة أنه كان يتدخل بشكل فج حتى في عدد دانات المدافع على جبهة الجولان.. ثم هو أيضا أصدر قرار مهاجمة الجولان دون علم مجلس الوزراء وبالمخالفة لقراره!
أما ديمقراطيا – فحقه أن يصدر أوامر لها علاقة بوجيه النشاط العسكري سياسيا بالطبع، ولكن أن تمر عبر القيادة العملياتية للقوات المسلحة، والأخطر – ألا تحمل شبهة استعمال القوات المسلحة للمصلحة السياسية.
ولهذا – تضع كل الدساتير قيودا صارمة على قدرة رئيس السلطة التنفيذية في استدعاء الجيش للداخل (لاحظ في تركيا مثلا – المشكل الكردي، فضلا عن احتمالية تطور نزاع سياسي مدني)
الخطورة أيضا- وهذه أيضا من قواعد إعادة هيكلة القوات المسلحة، أنك يمكنك استخدام ضغط سياسي وشعبي ومهني على المؤسسة لتليين موقفها من إجراءات الإصلاحات (بل هذه الوسيلة الأهم)، ولكن لايمكنك (فرمها) وإذلالها حين تفعل ذلك.
هذا يؤدي لعكس المطلوب تماما: زيادة الاحتقان الداخلي ممايكون مبررات قوية وثارات للتدخل في الشأن السياسي.
صحيح أن سياسات أردوغان ستقلل من التحرك السياسي للمؤسسة (ككل)، ولكنها ستزيد بشدة فرص تشكيل الخلايا والجيوب داخل المؤسسة (بكل مايحملها ذلك من محاولات انقلابية يتم بناؤها على مدى مقبل، أو حتى محاولات متشنجة للانتقام… إلا إذا استطاع بشكل كامل استبدال النسيج الاجتماعي والمهني بالكامل للمؤسسة.. وهذا يحتاج لوقت طويل)
موضوع نقل المستشفيات العسكرية لوزارة الصحة شيء غريب فعلا.. إلا إذا كانت تلك المستشفيات تعالج المدنيين كما هو الحال عندنا وباكستان، فيكون نقلها لوزارة الصحة بهدف تقليل موارد بناء القاعدة الاجتماعية للجيش في معرض التنافس السياسي، وفي ذات الوقت طلبا لتركيز الموارد والخبرات في مهامه الأصلية.. وبهذا يكون جيدا..
وإجمالا – فالمستوى الأول والثاني من الطب العسكري (مستشفيات الميدان والجبهة..) لايُعقل أن تخضع إداريا ولا حتى فنيا (بسبب خصوصية الفن الطبي العسكري في هذه  المساحة، وأيضا علاقتها العضوية بمسرح العمليات) لوزارة الصحة.. أما المستوى الثالث من الطب العسكري (التخصصات الدقيقة) فبالطبع لايمكن فصلها فنيا عن المناخ الطبي العام.. وإداريا فالأمر على السعة.. هنا في بريطانيا – هناك دمج فني وإداري في هذا المستوى مع وزارة الصحة ومستشفياتها..
————————-
.. الخلاصة:
أنه وإن كانت بعض تفصيلات  القرارات التركية لها شبه مع حزم ضبط العلاقات المدنية العسكرية وإخضاع القوات المسلحة للهيمنة، إلا أن تقييمها الدقيق يجعلها خطوات شديد الخرق استراتيجيا، ومجافية تماما للروح الديمقراطية وتؤدي لامحالة لتسييس الجيش، ويزداد هذا التقييم حين ننظر للمشهد ككل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى