حوار حول مؤتمر الشيشان وهل له آثار استراتيجية حول الوضع في الخليج والعلاقة المصرية السعودية مثلا؟
إجمالا.. عندي مشكلة مع مصطلح أهل السنة والجماعة، وإن كانت كثير من تمثلاته التاريخية وأصوله يمكن فهمها، ولكن استدعاؤه الآن هو جزء من حالة العبث والملهاة التي فيها أمتنا ، وبالتأكيد تتحكم فيها تيارات السياسة المريضة.
ولاأعتقد أن المؤتمر له تأثير الحقيقة – بمعنى استراتيجي – غير مزيد من التحريش والوهم.. فلاهو سيعزل السلفية، ولا يتصدى للوهابية، ولا حتى يحقق مكسب ملموس ضد السعودية في المباراة الإقليمية الحاصلة الآن.
هو مجرد مؤتمر ثانوي، دعا إليه شخص مهووس ومستبد- رئيس الشيشان – وربما فقط يفيده فيسياسته الداخلية في بلدته ومحاولة تصوير نفسه كرمز إسلامي ويتصدى للوهابية، مع مجاملة للروس- لاأكثر.
تاريخيا – مصطلح أهل السنة ظهر متأخرا نسبيا بعد القرون الثلاثة الأولى، في إطار التمايز المفصلي عن الشيعة..
ثم للتمايز أمام المعتزلة أثناء المحن (المتبادلة).. ثم أضيف له وصف (والجماعة) كتقييد سياسي.
وكان يشمل الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث الحنابلة..
(لهذا فكلمة شيخ الأزهر – بغض النظر عن مشكلة مشاركته بالأساس في مؤتمر كهذا – هي فعلا موفقة)
ولكن لما ازدادت مساحات التعصب المذهبي وكذا الشذوذ والمبالغة في مبدأ التنزيه عند الأشاعرة والإثبات عند الحنابلة – مماساهم في تصور اعتزالي عند بعض الأشاعرة، وتجسيمي تشبيهي عند بعض الحنابلة.. اندلعت النزاعات المشهورة بين الفرقتين التي استمرت لقرون .. والملاحظ طبعا أنها ارتبطت بمنحنى الصراع السياسي بين السلاجقة (نظام الملك) الذين تبنوا الأشعرية، وبعض خصومهم من حاولوا دعم الحنابلة..
في هذا النزاع بدأت الطوائف السنية في تكفير بعضها البعض، أو على الأقل تضليل بعضها بإخراجها عن وصف (السنية)..
ولكن بلاشك بقي تيار أصيل يجمع الثلاث فرق تحت وصف السنية في الأدبيات الكلامية – خصوصا الأشعرية. كما فعل السبكي مثلا.
بتنحية جوانب النزاع الاجتماعي على النفوذ والتوجيه والقضاء، والسياسي على السيطرة.. ماذا يبقى من أوجه الخلاف السني – السني؟
بالأخص مسألة الأسماء والصفات بالطبع، وتوارت خلف ذلك مسائل أخرى كالسببية، والقدر، وقدم العالم، والمواقف من بعض اتجاهات الفلسفة الأرسطية.
هل كان كل هذا الخلاف مطلوبا، أو مفيدا في المرحلة التاريخية؟
بالتأكيد كان فيه فوائد، لأنه تصدى لكثير من العقائد شديدة الانحراف سواء من أصول يونانية أو أديان شرقية، ولأنه استلزم وأثرى علوم مصاحبة في الفلسفة وأصول الفقه واللغة.
ولكن إجمالا كان أثره سلبيا..
بهدر الطاقات العلمائية في قضايا هامشية وخارج مقصود الديانة وحاجة الأمة حينها (وهذا ماانتبه له الغزالي مثلا في الإحياء، وإلجام العوام، والمنقذ من الضلال)..
ثم في التحريش المتبادل – ليس فقط داخل الدائرة السنية ولكن حتى ضد طوائف إسلامية بيننا خلاف حقيقي أصولي وحتى اعتقادي فرعي، ولكن هناك مقتضيات أخطر في التوحد والحوار الإيجابي – ولو حتى لتحرير مسائل ملتبسة للخصوم فيها أوجه مهم الالتفات لها وليس نقضها بالكلية – كالخلاف مع الإمامية والخوارج والمعتزلة.
فهناك آراء عند هذه الفرق، أو على الأقل منطلقات وأجزاء من آراء، هي الأقرب لمقصود الدين والاستجابة لحركة ومتطلبات الأمة – خصوصا مسائل في باب السياسة الشرعية مثلا، أو العقلنة فيما لايصطدم بقطعي محكم أو نص.
ومن أكثر ماأثر في الحقيقة في تلك النقطة، كتاب الشهيد شريعتي (بين التشيع العلوي والتشيع الصفوي)، ووددت لو عندنا سني مثله!
أما الملهاة – التي تنبيك عن اكتمال معالم (الوكسة) التي نعيشها .. هو محاولة استدعاء هذا الخلاف التاريخي، بل استدعاء أفحش وأغبى جوانبه التي كانت بين الأشاعرة والحنابلة مثلا.
فإن كنا نتفهم حصول هذه المشكلات الفكرية في السياق التاريخي – لأنها بنت مجتمعها والحوار الفلسفي والعلمي وموارده حينها – حتى لو كنا نرى أنه تجاوز كثيرا واجبات وقتها، فهي ليست مطروحة بالأساس الآن.
هناك مشكلات أخرى فكرية هي المطروحة، وتحتاج لثورة فكرية حقيقية قد تأخذ عقودا – إن لم تأخذ قرونا..
وقد تتطلب هذه الثورة الفكرية إعادة زيارة وفرز وتدقيق النظر في مجمل التطور التاريخي بجوانبه الفكرية والعقائدية والفقهية – فضلا عن السياسية والتاريخية.. ولكن بمنطق الاستكشاف والتصحيح والاعتبار، وليس بالتأكيد بمنطق الترجيع الساذج والجاهل أيضا.
مسائل ضخمة في أمتنا: علاقة السياسة بالدين، (أسلمة) المعارف السياسية والإنسانية،
المنطلقات التصحيحية في فقة التاريخ الإسلامي – والواقع أيضا – بشكل ينحاز للقيم والمقاصد وأيضا الموضوعية العلمية،
مشكلة الحركات الإسلامية مالها وماعليها، وهل نحتاج لتجارب أخرى وماهي منطلقاتها ومحاذيرها ومساحات اهتمامها؟
إحياء التجديد الأصولي والفقهي وكيف نحميه من تدخلات السياسة وإفسادها وأيضا من غلبة المذهبية وأهواء النفوذ العلمائي؟
اعلاقة الفكر المستمد من (الوحي) بالتطور الإنساني – خصوصا الغربي- في مجالات المعارف الطبيعيةالإنسانية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ وما يتعلق بمشكلة الإلحاد الحديث أيضا؟
هل يمكننا تطوير فكر إسلامي ينحو بنا للوحدة والتحرر والعدالة – وفي ذات الوقت لايمكن استغلاله في ترجيع مرارات تاريخية أو هلاوس وتعصبات؟
صحيح أن مسألة نزع (الشرعية) عن الإرهاب ونقض كل منطلقات الفكر المتطرف هي ضرورة دينية وواقعية.. ولكن هل سببها الأكبر هو غلبة الفكر السلفي الوهابي؟
وهل التجربة الإخوانية (الحركية الإسلامية عموما) والمدارس الدينية الرسمية – كالأزهر – فضلا طبعا عن الأنظمة وبطشها وتدخلها المريض في مسائل الدين، وانحدار جوانب الوعي الحضاري والاجتماعي على الجملة – مبرأة؟
وهل إقصاء السلفية للأشاعرة، والأشاعرة للسلفية – لم يكن حاضرا؟ وهل هو مرتبط الآن بمسألة مواجهة التطرف والإرهاب أم ترجيع مراهق لثارات فكرية وتاريخية فضلا عن لعب السياسة؟
وهل التعصب والتنزيه الذاتي (الفردي والجماعي) وضيق الأفق والجهل ولعب السياسة وغياب الموضوعية والأصالة والتحرر في البحث – هو فقط سمت الوهابية؟
أنا احتككت بالحركات الإسلامية جلها وبمشائخ الأزهر – خصوصا علي جمعة – وكلهم يعانون من نفس الداء – بنسب ومظاهر مختلفة.
وكان علي جمعة وكثير من الأزهرية – عمليا – يكفرون السلفية لأنهم ينسبونهم للتجسيم والحشوية، والعكس صحيح بالطبع.
صحيح – أن العنوان الأبرز فكريا لداعش هو اسنتباتها من الوهابية، ولكن هذا لظروف شديدة التعقيد وعبر مسار زمني تراكمت وتفاعلت فيه كل العوامل – وأكثرها غير فكري.. كما ذكرنا في رسائل سابقة عن داعش.
وصحيح أن المدرسة الوهابية بها شذوذ فكري وأصولي في مسائل كثيرة، ولكن – صدقني – الأمراض واحدة، الخلاف فقط في النسبة.
وبخصوص الدور الحضاري ل(الأزهر).. هل فعلا يمكننا تصور أي دور دون تصحيح جذري – اجتماعي وسياسي وعدالي في الوسط المحيط، ممايسمح للأزهر باستدعاء واستنبات ميراث من الأصالة والتجديد، وكذلك تنمية دور اجتماعي ودعوي مستقل وبعيد عن حبائل السياسة؟ وهل بدون كل هذا يمكنه بناء أي ثقة مجتمعية أو حتى توليد أي نخبة علمائية ودعوية جادة؟
ثم مأساة الحركات الإسلامية! وصلني بيان من الإخوان يشجب المؤتمر ويدعو للوحدة- بلغة (رصينة ورخيمة وناصحة) – حاجة يعني افتقدناها من الإخوان منذ 5 سنين على الأقل!
حينها تحسرت الحقيقة على مافعله بنا وبأنفسهم هؤلاء القوم – حين أضاعوا كل ميراثهم وحظوظهم الاجتماعية والدعوية – الماضية والمستقبلة – في مقامرة السلطة، وياليتهم كان عندهم الحقيقة أدنى متطلباتها وشروطها الأخلاقية – فضلا عن المعرفية والأداتية!
للأسف – كنت من يشجب في الإخوان لسنين – عجزها ونفورها عن محاولة السعي للتغيير السياسي، وكنت أرفض الاقتصار على الطرح الدعوي والتربوي الذي كان حاضرا في الوسط الإخواني كتكئة وتبرير للتخلي عن الطرح التغييري.
ولكني فعلا ندمت..!
صحيح – أن الإخوان لم يكونوا كما نعلم مجرد جماعة دعوية، ولكن كان الشق السياسي فيها طاغ عن كثير من جوانب الدعوة والتربية، ويوظفها غالبا، وأن الشق السياسي كان مجرد السعي لملء محفظة النفوذ السياسي والاجتماعي دون السعي حقيقة للتغيير ولكن التفاهم مع نظام مبارك على خطوط حمر..
ولكن لو عاد بي الزمن – لوددنا ألو بقي الإخوان فقط في الدعوة والتربية – حتى بكل تعثراتهم وقصورهم فيها – ولم يشتركوا في ثورة أو حتى مظاهرة!
ولعل هذا مادفع البنا لنفس الطرح (لو عاد بي الزمن لأقمت الإخوان على المأثورات والدعوة) وندمه الشديد على دخول السياسة بعد تجربة (إرهاب) النظام الخاص،
ولكن كما رد عليه عبد العزيز كامل حينها – كما نقل في (نهر الحياة): وهل يفيد الندم؟
فيجيب البنا (ولهذا خلق الله الندم ياعبدالعزيز)
—————————————————
ختاما: أحكي لك مثلا طريفا بخصوص الخلاف السني السني- وهو تجربة شخصية.. أول ماقرأت في العقيدة كان كتاب (الإيمان – لمحمد نعيم ياسين) وأنا عندي عشر سنين، وكان من مقررات الإخوان القديمة.. وهو كتاب معتدل ولكن شديد التبسيط.
وكنا نفهم أن خيار البنا كما نص في رسالة (العقائد) هو (خيار السلف بإثبات الصفات مع تفويض علمها للخالق، ومع الاعتبار لتأويل الخلف بالفضل دون الترجيح) .. ولكن حين اطلعت على شرح العقيدة الطحاوية والواسطية وبعض الكتب السلفية الحديثة، وكذا الأشعرية، وأيضا كتاباته – البنا – نفسه في مجلات المنار خصوصا.. وجدت أنه بالفعل يقول ب(تفويض العلم وليس الكيفية) وينسبه للسلف كعادة (فضلاء الأشاعرة) وحتى ابن الجوزي (وسائر فضلاء الحنابلة) في نسبته لأحمد في (دفع التشبيه)..
ويرد عليه السلفية المحدثون أنه معطل، فينبري للدفاع عنه بعض إخوان الخليج كالزنداني وجاسم الياسين أنه يقصد تفويض الكيفية لا العلم!!
ثم دراستي في الأزهر دفعتني للاتجاه المقابل.. وهو خطورة إثبات الجارحة للخالق، وهل يقوم الله بالحوادث والجوهر والعرض؟
وإن كانوا يقبلون على مضض (وبنظرة دونية) تفويض العلم.. ولكنهم -هم الأفذاذ – لهم جولات النظر في مسارب الأدلة ومنطقة الدلالات!
للأسف الشديد – بعد قضاء مئات الساعات في تقليب هذه المسائل لم يفدني هذا في شيء إلا إدراك خطورة ربط إيمان المرء بمثل هذه المسائل والحوارات حولها،
ولكن تبقى مفيدة بلاشك في إطارات البحث التاريخي، وربما الفلسفي – لو كانت مطروحة فعليا الآن، وهي ليست مطروحة..
المطروح أمور شديدة الافتراق كما ذكرت..
ولهذا – فبالرغم من خلافاتي مع كثير مع مايصل له عدنان إبراهيم – خصوصا في بعض الجوانب الفقهية ورأي تاريخي هنا وهناك، إلا أن المواضيع التي يطرحها هي فعلا صالحة لتكون عريضة للتجديد والحجاج الفكري والفلسفي المطلوب.. خصوصا تلك الخاصة بالإلحاد، وإعادة تفسير التاريخ، والتواؤم بين الدين والعلم، والثورة الأخلاقية والروحية.
ولكن مسائل الأسماء والصفات بكل تفصيلاتها (وهي أساس الخلاف الفكري بين الأشاعرة وأهل الحديث – وأحفادهم السلفية، وليس أي أمر آخر كما يحاولون الآن تصويره أنه التكفير والإرهاب مثلا)، يسع المسلم أن يولد ويحيا ويموت دون أن يدري عنها شيئا !.. ومهما درس صدقني ستجد هناك حيرات ومتاهات كثيرة ولن يصل في الأخير بشيء إلا التسليم للخالق بمراده جل شأنه – مع إبقاء معالم التنزيه والقدرة.