تحليل استراتيجي

حوار حول استراتيجية التصعيد بين حزب الله وإسرائيل – الفرضيات والمآل

بداية، مهم أن نؤكد دوما على ضرورة حضور الأسئلة الاستراتيجية وفرز ما هو تكتيكي (ممارسة القوة العسكرية) وعملياتي (الإطار الأوسع لتنظيمها وتحريكها في مسارات لنهايات عسكرية متماسكة) واستراتيجي (توظيفها وثمرتها في تغيير الإرادة السياسية)، وأن نعرف أي نوع حرب نخوض أو تُخاض فهذه هي مهمة القائد الاستراتيجي الأسمى كما عرّفها كلاوزفيتس.

الإسرائيلي يقوم بحملة ضغط عسكري يضرب فيها مفاصل هامة، خصوصا ما لها ثمنية في ضرب شرعية القوة والصورة الدفاعية للحزب، والغرض الأساس هو إكراهه  ليوقف حملته العسكرية المساندة لغزة بما يُمكّن نيتنياهو من إعادة سكان شمال إسرائيل، وهذا له قيمة سياسية شخصية له، وكذلك استراتيجية في استعادة الردع وربما التقدم في مباراة الردع التقليدي بينه والحزب والقائمة منذ سنين، وهذا بالضرورة يأخذ من الوضع الاستراتيجي
strategic posture
 للحزب مع انعكاسات ذلك على ضعف قيمته إقليميا.

وكذلك فيما يتعلق بدعم استراتيجية إسرائيل في غزة بأن يُعطي لنتياهو مزيدا من حرية الحركة والوقت لتطوير صيغة ملائمة وأكثر ديمومة لها. وسأفصل هنا:

لن أعيد ما تناولته في مقال (اغتيال القادة) عن حجم الإشكال الاستراتيجي إسرائيليا والغموض والتخبط والتعارض بين فرضيتين أساسيتين: الأولى السائدة في المجتمع الاستراتيجي (العسكري والأمني)  – وبعض يمين الوسط واليسار – من التعجيل بصفقة يمكن نقض محدداتها لنشاط عسكري إسرائيلي في مرحلة تالية، وخصوصا مع الضربة الشديدة لقدرة حماس عسكريا والتي تستلزم وقتا لإعادة بنائها بشكل مُهدِّد، والتعنت تاليا في صيغة من يحكم غزة، ولكن كذلك الانفتاح على صيغة إعادة تأهيل السلطة لاستنساخ نموذج الضفة.. وقد تجد في أقصى اليسار أصوات تقول بالطرح الأمريكي من قيمة الحل السياسي (المضبوط بالطبع) لحل جذر المشكل استراتيجيا والوصول لصيغة آمنة ومستمرة.

وثانيا –  فرضية نيتنياهو (واليمين عموما – دعك من المخابيل مثل بن غفير وسموترتيس الذي فقط يراعيهم نيتنياهو كضرورة سياسة شخصية) من القبول بصفقة بشرط أن تضمن وجود عسكري نوعي في محور فيلادلفيا ونتساريم، والحضور بشكل أساس في معرض تخليق صيغة حكم غزة والتي عنده فيها غموض لرفضه فكرة استدعاء السلطة وفشل تجربات التكوينات المجتمعية الصغرى. ولكن هذه الفرضية والتي قد تبدو أقل سيطرة من الاحتلال العسكري المباشر والتفريغ السكاني للشمال لاستكمال تجفيف الأنفاق وصولا حتى لتوسعة منطقة عازلة بشمال القطاع، فإنها بشكل كبير غالبا ستقود لتوسعة الوجود والحكم العسكريين لغياب صيغة حكم داخلي، واحتمال تصاعد الفعل المقاوم.

تهدئة جبهة الشمال لو نجحت ستعطي لنتنياهو البراح لتجربة كل الصيغ الممكنة بالجنوب، ولكنها كذلك تقلل توتره مع التيار السياسي والعسكري المعارض لأن الأخير جزء مهم من اعتراضه ليس فقط الأسرى ولكن الحاجة للمسارعة في تهدئة الجنوب للتفرغ للشمال.

هل معنى ما ذكرت، أن الإسرائيلي ليس بالوارد الدخول في حرب مفتوحة واجتياح بري؟.. قطعا لا!

هذه العملية ننظر لها استراتيجيا بأكثر من وجه: الأول هي عمليات انتقامية
Retaliatory/reprisal
 لاستعادة الردع السابق الذي فقد الإسرائيلي شطرا وافرا منه في 7 أكتوبر (انهيار صورته كقوة كفؤة وحاسمة) وبعده (تصعيد الحزب دون عقاب حاجز)، والإسرائيلي معتاد على هذا النمط حتى قديما (هناك دراسة جيدة للاستراتيجي الإسرائيلي زيف دروري
Israeli’s Reprisal Policy 1953-1956: the Dynamics of Military Retaliations)
، وهناك شق
Coercive
 أي استخدام محدود للقوة العسكرية لمنع التصعيد لمستوى أعلى (الإسرائيلي نفسه لايريد حربا الآن ويضغط على حزب الله ألا يصعد)، ولكن كذلك إذا فشل ما سبق – التهيئة العملياتية لحرب واسعة وبأهداف محدودة لا تسعى بالتأكيد للقضاء على الحزب ولكن فرض صيغة جديدة بهدم جزء كبير من قدراته وشرعيته وتدعيم نزع العسكرة حتى الليطاني – أي تغيير مستمر في سلوك الحزب السياسي).

وكما ترى، فهذه المسارات قد تتعارض بسهولة، فعملية عقابية قد تدفع الحزب لاستمرار النشاط (فشل الردع العقابي) أو للتصعيد لاستعادة الردع (فشل ال coercion) وبمتواليات رد الفعل – الدخول في حرب مفتوحة.

ولهذا فمن ناحية – يكون الأجدى كما كان يقول ليدل هارت تخير مسارات عملياتية تجعل لك حرية الحركة والتخديم على مسارات استراتيجية متنوعة.. فعمليات الأيام الفائتة، تفجيرات البيجرز واللاسلكي وتصفية قيادات الرضوان وغيرها لها قيمة كبيرة عقابية، ولكنها تفيد عملياتيا في معرض الحرب المفتوحة.. ولكن لايزال هناك تعارض في أولوية التوظيف الذي يحدد طريقته. ولهذا هناك طرح إسرائيلي ينتقد التوقيت وأنه كان يجب تأخيرها قُبيل الحرب.
الحقيقة – أني أرى أن أولوية خيار استعادة الردع والإكراه هي التي رجحت التوقيت، ثم هناك غموض على قيمة ماحصل عملياتيا أن الحزب كان عنده مرونة لتفادي ضرب خطوط الاتصال والسيطرة، بل تصميمه العملياتي في 2006 كان على فرضية ذاتية الحركة والفصل بين مسارات الفعل الدفاعي والنشاط الصاروخي. ولكن تصفية القيادات العسكرية حقيقة يخدم كل الخطوط.

ولحصول الاضطراب في تعيير ما سبق، ولأن أي ردع تقليدي مُعرض دوما للفشل كما أسلفت، ولأنه قائم كذلك على مصداقية
Credibility
النوايا والقدرة الإسرائيلية للتصعيد الشامل  إذا لم يرتدع الحزب – والتعبير عن هذه المصداقية قد يحفز الحزب لهاجس استباقي،  فهناك احتمال أن يتدحرج التدافع لحرب كاملة واجتياح. خصوصا أن الحزب فقد جزءا كبيرا من صورة القوة والردع، وأنه ربط بواقي تلك الصورة باستمرار جبهة الإسناد. ولكن الحزب محصور بسبب وضعه الاستراتيجي قبل وبعد 7 أكتوبر عن أن يُصعّد. هذا يعلمه الإسرائيلي ويعطي له أفضلية استراتيجية مبدئية في توسعة مستوى العقاب والإكراه دون الوصول للحرب المفتوحة تلك. وهذا يجعل الحرب المفتوحة خيارا مرجوحا كتقدير موقف.

هو متقدم استراتيجيا نعم، ولكن ليس كما يتخيل الناس أنه هدم قدرات الحزب العسكرية وقام بتركيعه، الصورة أعقد كثيرا من هذا. باختصار، الإسرائيلي له اليد الطولى والحرية الأوسع في التصعيد بسبب الضيق الاستراتيجي الذي تموضع فيه الحزب والذي يحرمه من قدر كبير من الحركة العسكرية. فرغم امتلاك حزب الله لقدرات قصف وتأثير بعيدة المدى إلا أنه اختار بنفسه تقليل هذا المدى. والإسرائيلي يعلم هذا ، ولذلك يوسع مدى العقاب للتأثير على قراره السياسي.
نعم هناك ضربات عسكرية مؤلمة بالحساب العملياتي، ولكنها أبعد كثيرا أن تُجفّف القدرة العسكرية للحزب وترسانته الهائلة من الصواريخ والكوادر.

وكونها حصلت الآن، وليس في معرض وأثناء الحرب، فليس بالضرورة حتى أن تكون لها نفس القيمة المُحبِطة للقدرة العملياتية للحزب (اعتراض بعض العسكريين باسرائيل كما أسلفت) ولكن اختيارها بالأساس هو عقابي وإكراهي.

لماذا يقول نيتنياهو أن الحرب بالشمال ستغير المعادلات؟ ليس بالضرورة أن يحتم ذلك الحرب المفتوحة والصيغة النهائية السالفة الذكر، ولكن بسبب الهدم الكبير في شرعية الحزب سواء على مستوى القدرة والصورة، وكذلك تماسك محور المقاومة وحركته إقليميا. فما دفع الحزب للقيام بمخاطرة تنشيط الجبهة الشمالية هو استحقاقات هذا المحور (ألا تترك حماس لوحدها) ، ولكن كذلك من أول يوم رفض فتح الجبهة بشكل كامل بحيث تكون هناك استراتيجية تعاضدية متناسقة لتمزيق الإسرائيلي بين جبهتين، ولا إيران.

وأعتقد أني تناولت الأمر باختصار في ورقة (تقدير موقف لحرب غزة)، ثم بإسهاب في مقال التصعيد الإيراني.

أما أن الحزب انتهى أو سينتهي، فهو كذلك بعيد عن الحقيقة، لأنه تكوين ذاتي من بيئته، ولأنه حتى بالحرب المفتوحة فقط سترغمه على القبول بصيغ ما، وقد تتراجع قيمته إقليميا نعم، ولكنه لايمكن إحباط وتفسيخ تكويناته وقدراته دون احتلال عسكري واستراتيجية مكافحة تمرد، فشل الإسرائيلي فيها حتى بشريط جنوبي محدود وانهزم منه في 2000.

المهم هنا هو فهم أن هذا الضيق الذي يُخصي الحزب عن التصعيد استراتيجيا هو نتاج وتراكم لخياراته ومساراته الاستراتيجية على طول الخط ، وكذلك آثار 7 أكتوبر.

الأمر ليس بهذه البساطة، ولفهم موقف الحزب لابد من التفريق بين نقطتين

  1. المأزق السياسي والاستراتيجي للحزب بشكل عام
  2. المأزق الاستراتيجي الذي أحدثه الهجوم المفاجيء لحماس في 7 أكتوبر

في النقطة الأولى –  كان يتبدى لي منذ سنين مأزق استراتيجي يعانيه الحزب، ليس فقط يمنع تطوير رؤية وقدرة استراتيجية إقليمية للتحرك في مشروع مقاوِم جاد بنهايات مرحلية معقولة، مع كل التحفظات بالأصل على الرؤية العليا الوجودية للحزب ودوره المذهبي والإقليمي، ولكن تبقى استراتيجية المقاومة مرحلة وسيطة يتحالف بها مع حركات سنية. ولكن كذلك – تراجع الشرعية المحلية والإقليمية والشعبية، بل حتى المَنَعة
Resort
 للبنان كشعب ودولة يمنعه من أي تصعيد مقبل حقيقي والانتصار فيه.

والحقيقة – كان لي تصور و ورقة خاصة كتبتها في 2021 وشاركتها مع بعض الأصدقاء، وربما أنشرها مستقبلا، فسرت فيه مأزق الحزب السابق اعتمادا على خمس ركائز:

أ. تحول النمط الاستراتيجي لحرب حدودية دنيا وليست حرب مقاومة شعبية (هذا فيه تفصيل ولكن المهم هنا، أن متطلبات الإجماع الشعبي للنشاط المقاوم لابد من تصنيعها وتغذيتها، وليس خسارتها، لأنها ليست استحقاقا طبيعيا كما في حرب التحرير).

ب. تضعضع الشرعية الشعبية والإقليمية والمحلية، وبالأخص بسبب ثلاثة ملفات – اغتيال الحريري وسلوك الحزب مع هذه القضية ولا أحكي عن مسئولية ما، وحسم بيروت 2008، ثم توسع دوره الإقليمي في الخط الإيراني وبالأخص في سوريا واليمن.

ج. فشل وانهيار الدولة اللبنانية، ومسئولية الحزب كجزء من نخبة الحكم، والتي تحركت حتى ضدها الجماهير في 2019، وهذا لم يأخذ فقط من شرعيته السابقة، بل حتى صورته كحركة دينية وطنية ليست فاسدة، ولكن ضعف منعة الدولة والحزب أمام أي تصعيد. ولأضرب مثلا على ذلك، في حرب 2006 وهي بجلاء تمثل نجاحا استراتيجيا للحزب، وكان هناك دعم شعبي لبناني وعربي غير مسبوق – اضطر حسن نصر الله أن يقول لاحقا بوضوح (لو علمت أن عملية الميركافا ستشعل حربا لم نكن لنفعلها). وأذكر نقاشات قديمة مع عسكريين واستراتيجيين بريطانيين ومعظمهم كان منحازا للرواية الإسرائيلية، وأنا رسالتي للماجستير حينها كانت حرب إسرائيل والحزب (الممتدة وليست فقط 2006)، فكانوا يستدلون بهذه المقولة على خسارة الحزب للحرب. طبعا هذا كلام لايصح قطعا، ولكن الشاهد، أنه كيف في ظل الوضع الحالي يكون تعقيد حساب الحزب ضد أي تصعيد.

د- إشكالية الزعيم وبعض مشكلات البناء الداخلي، ومدى تجدد القيادات، والنضارة المؤسسية، خصوصا ما أحدثته تجربة حرب سوريا والتوسع في ملفات واتهامات الفساد المالي والداخلي. وهذا كما شاهدنا حاليا، لا تؤثر فقط في الجودة القيادية، والثقة الشعبية، ولكن حتى المنعة الأمنية.

ج- وأخيرا العلاقة مع إيران، هناك ارتباط وجودي وعقائدي بالتأكيد، ولكن حين تنظر استراتيجيا لابد أن تراعي كثيرا من الحساسيات لو كان هناك تقديما فعلا لخط المقاومة عن خط التبعية لمصالح هيمنة إيرانية أو مذهبية، بل حتى الاصطفاف مع الشريحة الصلبة بالداخل الإيراني. إيران نفسها في تعاملها مع الحزب كثيرا ما تتغلب معادلات التوظيف والنظرة (البراجماتية) إذا جاز التعبير.

في النقطة الثانية، فكما أوضحت مراراً، كان الإشكال الأساسي في عملية طوفان الأقصى هي أنها خالفت منطق الحرب غير المتماثلة والتي تقتضي بعدم تهديد الخصم النظامي فيما يتصوره مصلحة وجودية والعمل بدلاً من ذلك على خلخلة إرادته للحصول على مكتسبات  جزئية والمراكمة في هذا المسار بالتدريج. والحركة غير النظامية مجبرة على ذلك لأنها ببساطة لا يمكنها الحسم العسكري في ظل اختلال ميزان القوة الهائل بهذا الشكل. لذلك فهم حزب الله وإيران من أول يوم الورطة التي أحدثتها العملية وساروا -وبالأخص حزب الله- في مسار للاشتباك الجزئي مع المعركة وإدارة التصعيد مع محاولة النجاة وإدارك أنهم لا يمكنهم التصعيد لحرب مفتوحة.

بصياغة أكثر وضوحا، في عملية 7 أكتوبر، لايمكن أصلا تحقيق معادلة الحرب غير المتماثلة لأن الإسرائيلي – بسبب تهديده تصوره عن مصالحه الوجودية وأمنه القومي – سيتصاعد عنده ال
resort
 وتتغير معطيات الحساب  
strategic calculus،
وهذا ما قلناه في أول يوم: أنه سيجتاح بريا بشكل شامل ومستمر مهما تراكمت خسائره العسكرية والاقتصادية، ولن يفرق معه الأسرى، وسيشكل حكومة وطنية لتوفية استحقاقات الشرعية السياسية لكل ماسبق.

 نيتنياهو كما نعلم هدم فكرة الوحدة الوطنية مبكرا حين رفض إشراك اليسار والتخلص من المخابيل (الذي هو بنفسه نحاهم عن مجلس الحرب) ثم تسرّب منه حتى يمين الوسط، بل تسبب في فوضى سياسية وشعبية حالية، ثم الخلل الكبير في الاستراتيجية والتصميم العملياتي الذي فصلناه في مقال (اغتيال القادة). ولكن حتى مع هذا – الحزب يدرك جيدا أن إسرائيل التي يحاربها الآن مختلفة عن تلك ما قبل 7 أكتوبر.

وفي حالة الحرب المفتوحة مع الحزب تحديدا، سيقف معه الأمريكي بشكل مباشر وكذا الوضع العربي بأشكال مختلفة، كما حصل بشكل جزئي في العرض الإيراني.  

إيران أدركت بوضوح أنها لن تصعد، ولن ترد حتى بشكل جاد على كل الخروقات الإسرائيلية في ضرب أمنها القومي وصورتها الردعية، فعلت هذا (لتنجو)، ولكنه بالطبع على حساب صورتها الاستراتيجية وقدرتها كذلك على الفعل الإقليمي.
جزء من تحرك الحزب المحدود والمنضبط في إشغال الجبهة، كان ليرفع عن إيران كذلك بعض الحرج، بالتشارك مع الحوثي وبعض اللمحات التذكارية من فصائل العراق وسوريا.

غير صحيح، أولا أنا أكدت بوضوح، وفي أكثر من مناسبة  منذ سنين على مأزقه الاستراتيجي العميق والذي لو لم يُعالج فسيكون المسار كارثي إذا فُرض عليه التصعيد، وأن هذا المأزق تصاعد بعد 7 أكتوبر.

فيما يتعلق باستراتيجية الحزب في تنشيط الجبهة، فالحزب كان يسير بشكل جيد في عملية إدارة التصعيد حتى أخطأ في مساحتين:

  1. حين زاد في درجة التصعيد بشكل أثّر على تهجير الشمال. أعتقد مارس أو ابريل. هناك فرضيات أعتقد أنها فاعلة كلها ولكن لا أجزم بنسبها، ممكن ضغط إيراني للتعويض عن سكون الأخير واستحقاقات حفظ شرعية المحور، وكذلك تصور متعجل في استضعاف الإسرائيلي. هو من ناحية أدرك طبيعة تحول الإسرائيلي استراتيجيا ولهذا رفض من أول يوم استجداء حماس بفتح الجبهة، ولكنه قد يكون رأى أن الإسرائيلي سيبلع تجاوز معادلة الردع السابق وسيبقى مغروزا في غزة – أو يتراجع كلية لفشله عن تحقيق صورة انتصار وصيانة وحدته الداخلية. الأثر واضح – هناك إجماع إسرائيلي على ضرورة مواجهة الحزب وإرجاعه على الأقل للمعادلة السابقة.
  2. والأهم أنه لم يسع لتطوير استراتيجية المحور، وخصوصا حماس، بما يمكن أن يغيّر معادلة الحرب برمتها، وحينها يمكن فتح الجبهات فعليا. ولو في أقل الأحوال بحيث يبقى الإسرائيلي منشغلا ومنهكا، وهذا أوضحته في المقالات السابقة، ولكن حتى هذا دون أفق سياسي واستراتيجي ، قد لايفيد. وكان بالأخير سيتفرغ له الإسرائيلي في حال حدث تجاوز لنقطة تجاوز التصعيد.

من ناحية أخرى، فكلام بعض الشباب عن خطأ التأخر في التصعيد من البداية وعدم ضرب تل أبيب عندما قام الاسرئيلي بقتل القادة الكبار، هذا الكلام في أحسن الأحوال هو غير دقيق ويتجاهل كل ما تم ذكره أعلاه. ببساطة ماذا تتوقع لو فتح الحزب الحرب بشكل شامل؟ هذا يفيد الإسرئيلي بشكل كبير في تدعيم وتوحيد الصف الداخلي لشن حرب طاحنة على لبنان مستعينا في ذلك بكل المقدرات الإقليمية والدولية الموجودة. ولكن هذا لاينفي أنه لم تكن هناك رؤية استراتيجية وتكاملية بين المحور.

 ولكن مركز الثقل في ذلك كان فشل الطرف الفلسطيني في التدقيق والتنسيق الاستراتيجي قبيل 7 أكتوبر، ثم التقاصر عن إنجاز المتطلبات الاستراتيجية في تطوير قيادة فلسطينية، وتصحيح الأجزاء السلبية من الصورة التي تكونت ، وتطوير الرؤية الاستراتيجية وما يتلاءم معها من تصميم عمليات ارتباطا بإدراك مستوى الصراع، بما يحفظ قيمة ويستثمر التضحيات العظيمة للشعب والشباب المقاوم.

قبل أي شيء هناك غلبة للتفكير العاطفي ومجافاة وعدم تقدير قيمة التخصص وبناء المعرفة الجادة، وما تقتضيه الاستراتيجية بالأخص واقترافها من مزاج وحس و
trained intuition
 أو كما سماه كلاوزيتس اللمحة الخاطفة  
Coeil d’oeil
من بناء لمعرفة جادة ومنهجية، وخبرة بالممارسة والتحليل النقدي للتاريخ والواقع الاستراتيجي في بيئات مساعدة. وليست المسألة مراكمة معرفة بذاتها فضلا أن تكون هذه المعرفة مجرد جمع قصاصات ولهاث حول شذرات من هنا وهناك لغرض الشو.. هذا يصنع مؤثرين على الفيسبوك والسوشيال ميديا، وليس مختصين عليهم مسئولية اجتماعية ووطنية، وتلجأ لهم بلادها في أزماتها. العالم والمتخصص، غير المثقف، غير الطبل الأجوف.

ثانيا) حتى هذه اللحظة خسارة حزب الله  الجسيمة هي على المستوى الاستراتيجي وميزان الردع أكبر بكثير من القدرة العملياتية والبناء العسكري والصاروخي. صحيح أن المستوى الاستراتيجي هو الأخطر لكن الشاهد هنا أن الكلام عن القدرة الاسرائيلية فيه كثير من التهويل رغم الإقرار بتفوقها . هل هناك آثار عملياتية لاغتيال القادة؟ أكيد، ولكن هذا لا نستطيع تقديره الآن، وحتى في التأثير على القابلية الاستراتيجية. وهو يعتمد على خط ممتد من تراجع هذه القابلية لبعض الأسباب التي ذكرتها بالأعلى وغيرها.
والحقيقة أنا متابع عن كثب لحزب الله منذ زمن طويل، وبالفعل هناك تراكم وتمدد كبير في القدرة العسكرية، ولكن تراجع في البنية القيادية على المستوى الاستراتيجي ودورها. وشيئ مثل هذا يمكن قوله على حماس. والمأزق كما نعلم، وكمقولة أستاذي كولن جراي الشهيرة..
          “Tactical superiority is likely to prove disastrous when strategy is weak or policy is ill judged: soldiers will be doing the wrong things well, and for the wrong reasons!”

ثالثا) بالنسبة للحسم عبر سلاح الطيران فهذه المسألة تيمة متكررة وفي حالة الاسرائيلي بشكل خاص خاض بها دان حالوتس (للمفارقة تم سحله من قبل الشرطة الإسرائيلية قبل أيام) حرب 2006. باختصار هذه الفرضية ثبت فشلها تاريخيا رغم تغيير التركيب النظري والتطبيقات في أكثر من سياق: سواء نظريات بيلي ميتشيل وترينشارد عن القصف الاستراتيجي بضرب المراكز الحيوية ومحاولات تطبيقها في الحرب العالمية  الثانية (بيلي كان يراها اقتصاد وصناعة الحرب بالأساس، وترينشارد بشكل كبير تابع مؤسس النظرية الجوية جوليو دويت أنها الشعب)، أو نظريات واردن وبويد ومحاولات تطبيقها في السبعينات والتسعينات، وإن أضافا لاقتصاد الحرب والقيادة السياسية –
political decapitation
، مفاصل العمليات والقيادة والسيطرة.

وهذا الاستهجان لحسومية القوة الجوية يتضاعف في حالة الحرب غير نظامية وخاصة في البيئات المعقدة مثل التي يواجهها الاسرائيلي في جنوب لبنان.

رابعا) النقطة المهمة بالفعل، وأرى تأثيرا عاليا هو استهداف الصف الأول من القيادات العسكرية والتي بشكل أو بآخر تساهم في السبك الاستراتيجي للحزب, وكما ذكرت – هو أمر ممتد.

خامسا) بالنسبة للاستخبارات ومسألة الاختراق الأمني. هناك اعتبارات:
أ. الاستخبارات الإسرائيلية (بالأخص الموساد) هي من أعقد الأجهزة وأكثرها تراكما للخبرة، بما لايتجاوز أصابع اليد الواحدة. لابد أن ندرك أن الظاهرة العسكرية وكذا الاستخبارية هي
systems of systems
، هناك مساحات في الفكر، والاستراتيجية، والبناء المؤسسي، والثقافة المؤسسية، والمعادلات الأوسع في العلاقات المدنية العسكرية-معلوماتية، فضلا عن جوانب التكتيك والعمليات. وكما نرى بالدول كما الحركات، قد تتميز بشكل مفرط في مساحات وتتراجع في أخرى. ونعم، هناك دوما حاكمية للمعادلات السياسية والاستراتيجية الحاكمة لأنها هي من تضع النهاية وتقود وتوظّف، ولكن بالأخص في البيئات المعقدة، فبناء دوائر الاحتراف والبنى العملياتية مثلا استخباريا كشبكات معلومات وتحليل، وتجنيد وجاسوسية، واستفادة من التطورات التقنية (ال AI  أحدث طفرة كما نعلم في المتابعة والتشبيك المعلوماتي خصوصا بين المساحة المعلوماتية والرصد والنشاط الجوي الإسرائيلي) هذا تستغرق سنينا إن لم يكن عقودا. وكما أسلفت، المجتمع الاستخباراتي الإسرائيلي له درجة سوبر في كل المساحات، ولكن دوما كانت مشكلته في المعادلة السياسية (العلاقات المدنية المعلوماتية التي قد تورط الأجهزة في ملء أدوار السياسة والاستراتيجية، ويؤثر بالتالي على موضوعيته وأن تكون قريبا من احتياجات السياسة ولكن ليست محرفة – بشكل ذاتي أو مقصود – للأداة الاستخبارية لتقديم سياسة بعينها)، والاستراتيجية (جزء مما سبق، ولكن غلبة مفاهيم استراتيجية كذلك
Concepts
 لها دور كبير في التعمية التحليلية.
– ومن أفضل الدراسات هي كذلك لاستراتيجي إسرائيلي – بار جوزيف
 – Intelligence Success and Failure: the Human Factor. 
وكذلك دراسة جيمس ويرتز 
Understanding Intelligence Failure: Warning – Response and Deterrence
وأنا شرحت بوضوح الإشكال الاستخباري الإسرائيلي في أول مقال لي يوم 10 أكتوبر، ولكن للأسف – الكثير من المتابعين قرع في أذهانهم أنها أجهزة متهالكة، فمثل لهم ما حصل مفاجئة وإصابة بالهلع، وأن هناك اختراقا كاملا وانهيارا للحزب.
هناك اختراق معلوماتي  – تقني وبشري ومرئي لكل حركات المقاومة، وحزب الله ليس خليا عن هذا. هناك تطور وتراكم كبير لرزمة الاختراق والتتبع والتحليل لحزب الله ومؤسساته الوسيطة في التسليح والتمويل – بالأخص لأنها كثيرا ما تتماس مع مساحات مدنية وحتى إجرامية في بيئات مفتوحة، وهذا كذلك في إيران. يعني الاختراق في اغتيال هنية، ليس أقل بالمرة من الاختراق للأرشيف النووي الذي استعرضه نيتنياهو في 2020!

ب – ربما ساعد في تفاقم المشكل الأمني للحزب، توسع أدواره في مساحات واسعة مما يفرض زيادة على الاعتماد على وسائل التواصل لأجل الضبط والتوجيه.. هذا التناقض حكي عنه شابيرو في دراسته
Terrosists’ Dilemma: Managing Violent Covert Organisations
فالحركة تحت التهديد أو الملاحقة، إما أنها ستوسع من مستوى السيطرة لأجل الضبط المؤسسي والتوجيه الاستراتيجي والسياسي لأجنحتها العسكرية والأمنية، وبهذا تصبح أكثر انكشافا للجهات المعادية لأنها تفعل هذا عبر وسائل تواصل مهما تنوعت فهي قابلة للتتبع أو الاختراق، أو تضحي بدرجة من السيطرة لصالح أن تبقى مخفية وتعتمد على درجة من التبعثر العملياتي والتكتيكي (خصوصا إذا كان في بيئة غير معقدة ولا توجد أوزان سياسية عالية للنشاط التكتيكي)

ج- لكن هذا لا يعني أن هناك انهيار كامل يحتمه الاختراق، الاستخبارات غالبا دورها مهيئ، وكما ذكرت، كثيرا ما يكون تميزها العملياتي والتكتيكي، دعما لسياسات واستراتيجيات خاطئة. فما ذكرته لا يستقيم لا نظريا ولا تاريخيا ولا واقعيا.

أعتقد أن هناك سيناريوهات ممكنة اعتمادا على جملة معقدة من عوامل التدافع الاستراتيجي والعسكري، وكذلك تأثيرات البيئات الداخلية في لبنان وإسرائيل، وملف غزة، والبعد الإقليمي والدولي..

أولا) لا يزال الأرجح حصوله هو ابتعاد الطرفين عن الحرب المفتوحة، وفي ظل السياق الحاصل في غزة والإقليم، فهناك بشكل أو آخر تمديد للفرضية الإسرائيلية لاستعادة الردع بشكل أو بآخر، ولكن كذلك عدم سكون الجبهة لكونها ارتبطت بشرعية الحزب. وربما يستمر ذلك حتى الانتخابات الأمريكية وإمكانية وضع صيغة – ولو صورية ومؤقتة – لوقف الحرب بغزة يُمكن للحزب وقتها حفظ بعض ماء الوجه.

ثانيا) احتمال توسعة الضربات الإسرائيلية للداخل اللبناني بشكل يمثل ضغطا على الحزب، أو اهتراء في البنية السياسية والشعبية في إسرائيل مما يُعجل أن يوقف أحد الطرفين – على الترتيب – التصعيد المتبادل حاصل كذلك.

ثالثا) احتمال الحرب المفتوحة يبقى واردا لما أسلفناه، وهي قد ترى تدخلا أمريكيا أكثر مباشرة في حال حصول تمزع
strain
 في القدرة الإسرائيلية وليس أول الأمر، وأعتقد أنها ستنتهي بشكل مريح إسرائيليا ولكن أتخيل كذلك مع درجة عالية من الخسارة، وقد تمكن حزب الله من استعادة بعض شرعيته كصورة إنجاز ولكن تداعي كبير لوضعه الداخلي.

رابعا) هل هناك احتمال لحصول اختراق استراتيجي بشكل عام بين الجبهتين وتلاحمهما، أو حتى في الجبهة اللبنانية؟
لا أعتقد في المدى القريب. مشكلة الاستراتيجية كما نعلم، أنه في أول الطريق تكون أمامك جملة واسعة من الخيارات ورحابة في الطرق، ولكن كلما تتجاوز منطق الصواب والتصويب تضيق أمامك المسالك. وكما أسلفت، مشكلة حزب الله لم تبدأ يوم 7 أكتوبر، وإن فاقمتها الأخيرة.

نعم – نظريا وعمليا كانت هناك جملة من الخيارات لتصحيح المسار سواء بجانبه الإقليمي (ما كان للحزب من قدرة وتأثير على ترشيد وضبط وتثمين نضج الرؤية الاستراتيجية لأطراف المحور وبالأخص حماس، أو ترميم الشرعية الشعبية والإقليمية وما تستلزم من مراجعة حقيقة داخلية وعامة بالأخص لطبيعة الحركة بالإقليم وتدعيم السلم والوساطة بين الخليج وإيران ، حتى وإن لم يقترب من الدور العراقي فعلى الأقل خفض التصعيد ومستوى التدخل، وإشكال سوريا – وبدرجة أقل اليمن – في دعم ملفات المصالحة والإصلاح السياسي الجزئي وإعادة بناء الدولة وجيشها بمعادلة وطنية، وبالتأكيد إعادة تطوير العلاقة مع الإيراني، وكذلك إعادة ضبط الملف الطائفي وتجلياته التربوية والحشدية والمجتمعية داخليا كما كان قبل 2006، والنقطة الأخطر هو استعادة الشرعية والوظيفة بالداخل اللبناني، وإصلاح مؤسسي داخل الحزب، وعلى مستوى الدولة وبناء عقد وطني جديد.. ولكن تحقيق ذلك الآن – أو شطره – في معرض حرب وأزمة يبقى أصعب كثيرا من قبل.

كما نرى، مأزق الحزب سياسي وبنيوي بالدرجة الأولى، ونعم، هناك مأزق في القابلية الاستراتيجية (معرفيا ومؤسسيا وتطبيقيا) كما عند حماس، وبطبيعة الحال حراجة الملف الاستراتيجي في الحركة غير النظامية أعلى منه في حال الدولة، لضرورة تعويض انحراف التوازن الكبير عسكريا وموارديا بالمناورة والفطنة الاستراتيجية
strategic cunning
. وأكيد هناك إشكال كبير أمني وعسكري يخوضه وسيتفاقم بالأخص بعد استنزاف الصف الأول. ولكن بالعادة، أي إصلاح مؤسسي وتجديد قيادي يلزمه معادلة سياسية وفكرية نزيهة وبيئة مشجعة ورؤية استراتيجية رشيدة، وإذا تقادم الإشكال صارت المراجعات لزاما على الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى