الحقيقة أني تعمدت لما يقارب العقد ونيّف ألا أكتب عن الثورة السورية، لأسباب موضوعية ونفسية كما سيأتي. ولم أتناولها في غير موضعين – الأول في مقال قديم في فبراير 2012 نشرته في القدس العربي وقتما كان يرأس تحريرها أ. عبدالباري عطوان، وقد انتقلت معه بعد ذلك في بعض كتاباتي التي كنت أنشرها بشكل متباعد ل (رأي اليوم)، ومع اختلافي مع كثير من بنود خطه وخطابه – وليس انحيازه القومي بلاشك – إلا أنه الوحيد الذي كنت أنشر عنده خارج مدونتي الشخصية، وكانت جريدته مشكورة تنشر لي دوما مع وجود هذا الاختلاف. وكان المقال منبنيا على ورقة عمل قدمتها بمنطق النصح لرأس الإخوان المسلمين وقتها (نوفمبر 2011) ليوصلها لأصحاب الشأن السوري وقد التقيت مراقبهم في لقاء خاص قبل ذلك بعامين (2009) وحصل احتداد شديد بيننا،
وثانيها – في ورقة بحثية تتبعت فيها بمنطق استراتيجي هاديء تطور وانهيار القدرة الاستراتيجية والعسكرية العربية، وأثر ذلك على استباحة سيادة أمتنا في قرن فائت – مع تمحيص العوامل والفواعل وسبل الاستعادة.
——
موقفي من الثورة السورية أول ما بدأت:
هذا الموقف حينها كان مستشكِلا ومُستشكَلا مع وضوحه، لأني كنت أقرّ بالتأكيد للشعب السوري كامل الشرعية والحقانية في مبدأ الثورة على نظام بطش واستبداد وفساد طائفي، ولكن السياق الذي حصلت فيه تلك الثورة وطبيعة التوظيف والاستخدام من قبل الأطراف الإقليمية والدولية لها، قادتها سريعا لمصاف الحرب الأهلية والحروب بالوكالة وأمراء الحرب. وللأسف، الإشكال البنيوي في جسد القوى المعارضة كنزاهة وطنية وقومية.
كنت أرى خللا في موضعتها فيما يتعلق بعدم صيانة الحس القومي ومغازلة الغربي (كان هذا أهم سبب للاحتداد مع مراقب الإخوان السوريين قبلها بعامين – ولا أريد التفصيل حفظا لأمانة المجالس- مع غياب أي تصور استراتيجي عندهم وقتها لما يريدون وما قد يأتي) ،واستجداء تدخله عسكريا ((مع ظهور استحالة ذلك بشكل حاسم لصفها كما يعلمه أي ملمّ بالشأن الاستراتيجي والدفاعي الغربي) وللأسف تضافر علماء لشرعنة هذه النكسة فضلا عن الدفع في أتون طائفية الصراع، والتباس أخلاقي وقيمي في مسألة عدم صيانة الدم ومدى الاتكاء على ذلك كتصور استراتيجي هزيل وغير واقعي، والأخطر عدم إدراك حساسية الصراع العربي الإسرائيلي الذي يقتضي تحويرات أساسية في البوصلة السياسية والخيارات الاستراتيجية.
ومع ذلك، كان رأيي أنه لو استمرت الثورة (وليس لنا أن نصادر على حق الشعوب ولكن فقط ننصح بضرورة صيانة المصلحة الدينية والوطنية، واعتبار الجدوى وحفظ الوطن) فليس أمامها غيرُ خيارين على حسب المعطيات والموارد والفرص،
أ. إما تراكم أوراق قوة سياسية وعسكرية وجغرافية لأجل التفاوض لأجل الوصول لحل سياسي يحقق أكبر قدر من الإصلاح الداخلي صيانة للدولة وشعبها من الاهتراء والتدمير،
ب. أو السعي لإسقاط النظام بمنطق التوسع والقضم الجغرافي والشعبي والإنهاك الاستراتيجي للنظام بالأساس (أحد خياريْ استراتيجية التمرد؛ لم أكن أرجح إمكانية ولا أرحّب بالخيار الآخر هو الكسر النظامي حفظا لأكبر قِوام من الجيش السوري وصعوبة ذلك) وهذا يقتضي إنضاجا أكبر للرؤية السياسية وبناء قيادة وطنية وتغيير الموضعة (بالتمايز عن أطراف إقليمية ودولية لها أجندات ملتبسة، وبالأخص الأمريكي ومن ورائه إسرائيل، والتحفظ مع التركي) والتواصل الإيجابي مع الداعمين الدوليين والإقليميين (بالأخص إيران وحزب الله – وهذا يزيد من ضرورته تحقيق التوازن بين مقتضى الثورة ونجاحها استراتيجيا، وكذلك الواجب القومي والديني في صيانة متطلبات إدارة الصراع مع إسرائيل)..
وفي الحالتين – كان هناك احتياج جوهري لقوة عربية تحاول ملء الفراغ الإقليمي، وكذلك تشرف على ملفات التفاوض السياسي، والمصالحة، وحفظ السلام، وإعادة بناء الدولة. ولهذا كان إلحاحي في الورقة كما المقال على تعليق المسئولية في إفشال التحول الديمقراطي في مصر على الإخوان المسلمين (وكان في يدنا أن نخاطبهم) والمجلس العسكري، لأن نجاحه ولو جزئيا كان سيجعل لنا شرق أوسط مختلفا (وليس هو عين الاختلاف الذي كانت تريده الأطراف الدولية والإقليمية وبعض المحلية وقتها) في كل الملفات: سوريا وفلسطين وليبيا واليمن، وتاليا العراق والسودان ولبنان والجزائر.
تصوّري تاليا:
وللأسف، قد حصل ما كنا نحذر منه قبلها بسنين، وتحولت الثورة لحرب أهلية وحروب بالوكالة وتدمير لبنية الدولة والجيش، ومقتلة هائلة وتفتيت للشعب في أرجاء المعمورة، بحيث أن أمامنا عقودا لاستعادة بنى اجتماعية بل وإقناع قطاعات كبيرة من الشعب أن يعود و ليتم إعادة وطن وليس فقط دولة!
فكأنه لم تكفنا مأساة نكبة فلسطين لعقود خلت، ثم العراق وقد اكتوى جيلي بانهياره مرتين، حتى نبتلى بفقد سوريا. والحقيقة – مع قيمة مأساة فلسطين ثم العراق في نفوسنا، ولكن جرح سوريا بما حصل فيه من مقتلة عظيمة وتشريد لشعب واستباحة كل القوى لها (تركيا وإيران وروسيا والأمريكي، ثم الجنون الداعشي، والانفصال الكردي، والطغيان الإسرائيلي) كان وقع إيلامه أشد، حتى كان الحل النفسي لنا كي نعيش – ونحن ليس في أي يدنا أي شيء نقدمه ولو حتى الكلمة والنصيحة – أن نتجاهله! أحكي عن نفسي، وإن كنت بالتأكيد في موضعي التخصصي كنت أرحّب بالعديد من الشباب السوري الذي يريد التعلم من بضاعتي المتواضعة، ولكن كفرادى وليس جماعات أو تيارات.
وفي ورقة (أزمة السيادة والفضاء الإقليمي)، وقد مررنا بالتجربة المريرة لداعش وعلى أثرها الاستباحة الإقليمية والدولية الكاملة لسوريا، كنت أنطلق من ذات الفرضيات الأولية ولكن ضمن تسييق جديد، وكنت أدعو كذلك لمسارات إصلاحية وإسعافية ممكنة، حتى في إطار النظام العربي الحالي، وتحويرات ومراجعات تقوم بها الأطراف الموجودة بالأزمة (ما تبقى عندهم عقل بالمعارضة الإسلامية المعتدلة والوطنية، وكذلك النظام)،
والأهم داعمو النظام و القريبين منه – إيران تحديدا وحركات المقاومة (حزب الله وحماس) والتي يعنيها بشكل كبير لمصالحها الخاصة والجماعية أن ينغلق هذا الجرح مع بقاء ذات التحيزات وخطوط الدعم في الصراع مع إسرائيل،
أو القوى العربية التقليدية بالأخص مصر والأردن والعراق بما عندهم من إدراك وحرص – ولو تباين – على الحفاظ على الدولة والجيش السوريين ومعالجة التبعات المعقدة خصوصا ملفات اللاجئين – دون بالضرورة قدرة وضبط كامل للبوصلة – أن يتحركوا في بناء إطار مؤقت للإشراف على التفاوض، وبما يدخل فيه من ملفات الإصلاح السياسي ولو جزئيا، وإعادة بناء الدولة والجيش، وبالتاكيد مراعاة قدر من المصلحة للأطراف التركية والكرديةـ وما يلتحق ذلك من قوات سلام عربي تتسع عن هذه الدول كتكوين وتمويل ولكن تكون هي من تديرها، وأكيد هذا كان سيقود لمنتوج سياسي أقل في نجاعته كثيرا عما كان متاحا من قبل ولكنه حدود المتاح.
وللأسف – كما نرى، فقد انهارت والتبست كل الخطوط، فانكسر المحور الإيراني وحزب الله واستطالت إسرائيل إقليميا تبعا لحرب غزة في العام الفائت وقد فصّلنا في هذا من قبل، ونعم اتسعت تبعا لذلك قدرة الكتل العسكرية المعارضة والمدعومة بالكامل من تركيا على التمدد كنشاط عسكري وجغرافيا، ولكن من يتولى أمرها فصيل هو ابن للقاعدة ومتجاوز كثيرا – ليس فقط كصورة دولية لايمكن القبول به كطرف سياسي رشيد في أي معادلة سياسية مستقرة – ولكن كتركيب فكري وأيديولوجي، وترسيخ لمنطق أمراء الحرب داخله وعلى أطرافه واستهتارا بالدماء تبعا للمسار البائس في العشرية السالفة.
هذا مع حتمية التصعيد العسكري المضاد وتبعاته المؤسفة على شعبنا في سوريا– لأن ما على المحك كبير بالنسبة للإيراني وحتى الروسي كبرستيج وصورة قوة، وكمصالح عينية جيواستراتيجية واقتصادية.
وأختم بملاحظات متعجلة حول بعض النقاط ذات الأهمية..
ماهي دوافع ماحصل؟
مع التأكيد أن كثيرا من المعطيات قد تتكشف مع الوقت، وهذا بخصوص الدوافع أو كيفية انهيار الخط الدفاعي وانسحاب القطعات العسكرية والميليشيات الموالية لإيران، فما يظهر أن جبهة تحرير الشام قد استغلت فرصة تداعي قدرة إيران وحزب الله، وكذلك انشغال الروسي في أوكرانيا وسحبه لكثير من أرصفته العسكرية من سوريا، لإحداث اختراق ما (بغض النظر عما يرونه من حدود عسكرية وسياسية له). تركيا بالتأكيد تعلم وتدعم بشكل كامل، ولكن هل كانت تريد الدفع بهذا التوغل للضغط على النظام أن يعود لمساحة التفاوض وبالأخص بعد انتقاد وزير الخارجية التركية له؟ أعتقد هذا. وبالتأكيد أن أهم ما يشغل التركي هو الملف الكردي ثم ملف اللاجئين
.
هل فوجئت قوات المعارضة بالانهيار الدفاعي؟ بشكل واضح يظهر هذا.
أما لماذا حصل الانهيار؟ فنحن نحكي كما ذكرت عن ترهل كبير وتداعي في احترافية الجيش السوري لعقد كامل، مع ما فيه أول الأمر من خلل بنيوي ووظيفي معلوم تاريخيا. فضلا عن طبيعة النمط العسكري الذي هو ليس مؤهلا له، وإلا ماكانت هناك قيمة للميليشيات الموالية لإيران خصوصا في مهام الدفاع وحرب المدن ضد قوى غير نظامية، ثم روسيا لتُعوَض خلله النظامي بالأخص في الطيران والهجوم النظامي المركز لمواجهة أنساق هجينة. ولهذا – فتضعضع قدرة إيران وميليشياتها كإرادة وقدرة له أثر نفسي حاسم (كردع ذاتي) للجيش self deterrence وإحساسه بالانكشاف.
لابد من الانتباه أن هناك بالأصل خلافات وتشنجات بين الأسد وحلفائه بسبب موقفه المتخاذل (والمتفهَّم) ليس فقط لعدم الانخراط في فتح الجبهة، ولكن تحوّل سياسته للتضييق والتجفيف بعض قص إسرائيل لكثير من الصورة الردعية وقدرة التحرك لحزب الله وإيران.. هذه ورقة جيدة إسرائيلية تتبعت الأمر وترجمها صديقنا العزيز رامي خريس تناولت الأمر, وربما – أقول ربما – تكاسل الإيراني وميليشياته عن المدافعة لتكريس واقع جديد يتم إعادة الاعتبار لها في تقدير النظام وتخليه عن سياسته السابقة. هذا مسلك ليس معناه التخلي عنه، لأن الجميع يعلم أن هناك إعادة تجميع وتحشيد على خط حمص لتطوير هجوم مضاد (كما حصل بعد سقوط الموصل).
على أني أختم بمسألة هامة، كذلك تذكير بكيفية انهيار قطاعات الجيش العراقي وانسحابها من الموصل أمام داعش، الكل حاضر عنده وجه التشابه. لكن المنطق كذلك فيه تشابه. بالرغم أن الجيش العراقي حينها تم إنشاؤه وتسليحه تحت رعاية الأمريكي – يعني نظريا كانت عنده أدوات ومعطيات احترافية أعلى كثيرا مما عند الجيش السوري المترهل والذي فتكت به سنون إقطاع الحرب والنزعة الميليشوية والتداعي التسليحي والتدريبي (نظرة لنوعية الغنائم التي تعلن عنها تحرير الشام تؤكد هذا). ومع ذلك – فأذكر ندوة حضرتها في المركز الملكي للقوات المشتركة RUSI بلندن وكنتُ عضوا به، مع ديفيد بتراوس، ووقتها على ما أذكر قد تم فصله من وظيفة مدير السي آي إي تبعا لفضيحة أخلاقية، وأعطاه المركز منصبا شرفيا كنائب لمديره. وهذه الندوة كانت بعد سقوط الموصل بوقت قصير، فكان الجميع متحفزا لجلده وهو كذلك أتى بمنطق دفاعي صرف لأن الجيش العراقي كان يُعتبر غربيا صنيعته his baby. والحقيقة – الرجل أشار لنقطة هامة ، لعل كثير من بني جلدتنا يفهمونها، وهو على ما حاز من بهرجة عسكرية وخبرة في القيام ب two surges في أفغانستان والعراق إلا أنه حاصل على دكتوراة في العلاقات الدولية .. قال فيما معناه (الجيوش لا تُبنى فقط بالأسلحة والأفراد، ولكن الجيش العراقي لم يكن فيه نسيج وطني، ولا روح قتالية، ولا صحة مؤسسية). وبالرغم من منطقه الحجاجي عن نفسه (وإلا كما رد عليه البعض حينها، ألم تكونوا تعلمون هذا في مساركم الاستراتيجي الخاطيء بما فيه حل الجيش العراقي الأولي نفسه) فمقولته سليمة، ومفيدة في فهم حالتنا.
المآل والخيارات المتاحة؟
أنا مُقدّر بالرغم من كل اعتراضاتي المبدئية والاستراتيجية والأخلاقية على مسار الثورة السورية حالة الانتشاء لكثير من السوريين ومنهم أصدقاء وطلاب أعزاء، ولكن يهمني التوكيد على قواعد في النظر الاستراتيجي دوما نحكي فيها قبل الحديث على الخلاصة العملية، لأن هدفي الحقيقي في حديثي هذا، فضلا عن الواجب الإعذاري، هو تدريسي بالأساس، فهذا هو الميدان الحقيقي لاختبار وتطوير النظرية والملكة الاستراتيجية ولو كمسحة معرفية.
الاستراتيجية هي تنقل مستمر بين الجانب العملياتي للحرب – حدود وإمكانية القوة العسكرية للوصول، والنهاية السياسية المطلوبة عبر أي خيارات ممكنة. وهذا التنقل Continuous dialogue هو حتمي، لأن كثيرا من الفرضيات العملياتية تلك (حدود استخدام ونهايات القوة) تلك تتغير عند التطبيق، قد تظهر معوقات وحواجز، أو فرص وانفتاحات، وكذلك – قد يظهر الخيار الاستراتيجي ممكنا أو فوق أو تحت المطلوب تبعا للهدف السياسي، وبالأخص ما يحمله المنتوج العسكري من أثر تحويري يصعب التبنؤ به في الإرادة السياسية للخصم وهذا ماكان يسميه كولن جراي strategic effect ، فكأنك تبحث عن تحويل بين عملتين مختلفتين ودون سعر صرف ثابت currency conversion.
وأنت حين تفكر استراتيجيا، فضلا عن المأسسة والتطبيق، لا تُعنى فقط بالمساق العسكري (مع محوريته في حال الحرب والصراع) ولكن السياسي والدبلوماسي والاقتصادي وسياسات الداخل وللحلفاء والبيئة الدولية وأهمها قوة الصورة والسردية narrative في سياقنا الحالي.. وكثيرا – بالأخص في الحروب غير النظامية كما كان ينص روادها على طرفي الصراع (ماو و جيفارا، وروبرت تومبسون وجالولو) ما تكون القوة العسكرية لا تزيد عن 20% من الاستراتيجية الشاملة كما نص جالولو في (نظرية مكافحة التمرد) التي استلهم فيها دروس التميز والإخفاق في الملايو والجزائر.
وفي أنماط خاصة من الصراع، لا يكون توظيف القوة المسلحة في إطار حرب ثنائية القطبية polarity، بحيث يكون المسار الاستراتيجي ومنجزاته تعتمد على كسر الإرادة السياسية لخصم أو مجموعة خصوم، ولكن توظيفا معقدا تتواجد فيه القوة ضمن أطر أوسع من إعادة بناء الدولة مثلا، سياسات إغاثية واستعادة لُحمة اجتماعية أو حوكمة إقليمية في ملفات الأمن المائي والمواردي مثلا. وهنا – تستلزم لنا مسارات استراتيجية تنحاز في بنيتها المعرفية والفنية والإرث التجريبي لما هو أوسع من الحرب.
وعلى هذا،
فلو نظرنا مثلا لحدود ما يمكن إنجازه عسكري للمعارضة نجده محدودا كقيمة وجغرافيا، إلا إذا حصلت انهيارات مفاجئة في بنية النظام، وهي ممكنة ولكن ضعيفة الاحتمال، خصوصا أنه قائم على تحالف عضوي واعتمادية خارجية لها مصالح قائمة وراسخة.
والأهم – وهذا لم ينتبه له الكثيرون عند سقوط الموصل وترقبهم لسقوط بغداد، أن النمط العملياتي لهكذا ميليشيات، حتى لو ترقّت نظاميا بشكل هجين كما كانت داعش، يصعب عليه الإغراق الهجومي دون امتلاك قدر من السيادة Supremacy أو الإنكار (مضاد جوية ومدرعاتية، وإدماج المسيرات بشكل عضوي في الدعم التكتيكي والتداخلي في نسق أسلحة مشتركة) Denial المدرعاتي والجوي بالأخص في تضاريس منفتحة، أو أمام نطاقات دفاعية صلبة. هذا حتى قبل اعتبار الاستعداد الهجومي لقوات النظام وحلفائه.
إذن فهناك محدودية لما يمكن أن تصل له القدرة العسكرية للمعارضة المسلحة.
استراتيجيا بالتالي،
يبقى خيار توظيف ما حصل ضمن إطار تفاوضي، أو خيار التثبيت السياسي في إطار انفصالي (أي توسعة المدى الجيوسياسي لجيب إدلب) وهذا يقتضي بالضرورة عملياتيا تطوير نسق دفاعي يمزج بين المرونة والخطية (إذا كان لها قيمة نفسية) وتحريك أدوات للفعل السياسي والإعلامي – وكإيذاء عسكري – الحاجز عن استباحة الخصم هجوميا لقطاع حلب حماة.
غير أن المأزق الأخطر استراتيجيا – كما تحدثنا بوضوح في أول أيام حرب غزة (طوفان الأقصى)، هو غياب قيادة سياسية وطنية، ليس فقط لها رشادة التوجيه السياسي، وكذلك التوظيف الاستراتيجي المدقق للنشاط العسكري والتوفيق بينه وبين المسارات الأخرى لأهداف سياسية أو مرحلية محددة ضمن قياس منضبط، ولكن للانتصاب بالأساس بالسياق الإقليمي والدولي – كإدارة تفاوض، وملء فراغ، واستبدال سياسي، وتجميع للفعل الضاغط الشعبي والإعلامي وحتى النظامي إقليميا ودوليا وضمن انحيازات ومبادرات واضحة مفيدة ورشيدة. من البؤس مثلا مخاطبة الأمريكي أننا سنحافظ على مصالحك في هذا السياق الوطني والقومي.
وبوضوح، هذه القيادة السياسية أبعد عن التجميعات الروتينية لفصائل ودكاكين القوى السياسية، ولكن إطار ضيق وواضح من أهم الفاعلين، وله ارتباط توجيهي (أو على الأقل حوار وتعاضد مستمر) مع الأداة العسكرية. ولو يتخيل من يقود الأداة العسكرية حاليا أنه سيفعل بحاله شيء فهو واهم. قلنا هذا على مقاومة فلسطينية شريفة وحازت مآثر الفداء والغبطة من عموم أمتها، حتى لو تجاوزت أخلاقيا في بعض التفاصيل وعندها مخزون سياسي ومؤسسي صلب، فكيف بأمراء للحرب يلزمهم نشاطا ووقتا هائلا لتبييض صفحتهم أخلاقيا ووطنيا ودينيا!!
إذا حصل هذا المتطلب الاستراتيجي الجوهري لوضع رؤية سياسية وخيارات استراتيجية محددة، والتفاتات ومحاولة للتفاهم مع القوى الدولية والإقليمية بإطار وطني شريف.. فيمكن حينها التعاطي الجاد مع صورة ولو جزئية مما دعونا له قديما من دور عربي جاد تتحرك لأجله مصر والأردن والعراق، مع حضور تركي وإيراني وروسي (مثلث الأستانا) بالخلفية.
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وشعوبنا، وأن يهب لها منافذ تُبدّل فيها تيارات وقيادات بائسة قُدرة وقيمة وأمانة مسئوليةّ بأخرى لا تنقصها المُكنة والرشاد والصدق.
2 تعليقات