حول “نهاية عصر الدبابة؟” – مقاربة استراتيجية وتقني/عملياتية
5/10/2020
في معرض التعليق حول خبرين أرسلهما صديق، يتعلقان بفقدان الدبابات لقيمتها العملياتية والاستراتيجية، من المهم مقاربة هذه النقطة الحيوية بشكل شامل لأن فكرة انقراض الدبابات هي تيمة متكررة منذ مابعد الحرب العالمية الأولى تختفي لتظهر ثانية في ثوب مستجد.
وكل هذا بغض النظر عما قد يحمله حس الشاعر، والذي لاينفك مُقترف الاستراتيجية عن ملازمته مهما تجلّد، من عشق كامن لهذه الغولة من الصلب والتي تتهادى على السفوح والتلال تقذف اللهب، فيقفز الفؤاد معها، بالرغم مما تختزنه ذاكرتنا العربية من مرارة الغدر من ناحيتها، بقدر لايكاد تقاربه غير الطائرة.
ومانحاول التلميح عليه هنا من شمول التحليل والنظر، هو نموذج يُقاس عليه في مقاربة مسائل التخطيط الدفاعي وبناء القوات، والتي تتفاعل وتتشابك فيها عناصر التفكير الاستراتيجي والفن العملياتي والعقيدة القتالية، مع معطيات الثقافة العسكرية والتركيب الاجتماعي، وبالنظر إلى اقتصاد الدفاع، وعلاقة كل ماسبق بعامل التقنيات العسكرية…
الخبر الأول – نشرته التايمز – يتعلق بأطروحة في إطار الاستراتيجية الدفاعية والتسليحية البريطانية تحت المراجعة حاليا حول التخلص من أسطول الدبابات تشالينجر 2، تبعا لتصور استراتيجي واقتصاد عسكري، أن نمط الحروب الذي ينبغي أن تستعد لها بريطانيا لاتحتاج للدبابات ولكن مزيج من الحروب الاستطلاعية الصغرى والتي تعتمد على قوات خفيفة الحركة ولكن اعتماد كثيف على قدرات الدرون والأدوات عالية التقنية والسيبر.. ومن ناحية أخرى، فإن دبابات تشالينجر 2، تنتهي صلاحيتها، وتكلفة إعادة تأهيليها تبقى مرتفعة بالنظر لحساسية ميزانية الدفاع.
وكان تعليقي: بالطبع العامل الاقتصادي هو الأساس،،
العنصر الآخر في وجهة النظر هذه أن انجلترا تبحث عن دور نوعي في الناتو، ولأن هناك وفرة مدرعاتية حتى عند بعض الأوروبيين مثل فرنسا وألمانيا، فدور بريطانيا في الجوانب الأخرى أهم.
وهذا بالنظر للعنصر الثالث وهو تغير أولويات الدفاع وطبيعة الاستراتيجية العسكرية المستجدة،
وهذا محدود في رأيي، لأن تصاعد الروس بالعكس يعزز قيمة المدرعات، وحتى كثير من الحملات الاستطلاعية تقول بدور ما لها وإن أقل من الحرب النظامية عالية القوة بالطبع.
تقديري طبعا أن الغاء الدبابات هذا شبه مستحيل أن يحصل، ليس فقط للاعتبارات الاستراتيجية، ولكن للوزن المؤسسي للجيش ومكونه المدرعاتي. هذا إعدام له، ولن يقبلوه.
وبالفعل، تم وأد هذه الأطروحة سريعا، وأنكرتها المؤسسة الدفاعية بعد ذلك بفترة.
أما الخبر الثاني، فهو أمر حصل بالفعل، وهو تخفف قوات المارينز من كتائب المدرعات – الدبابات الثقيلة، ضمن تغييرات هيكلية أخرى تستهدف الاستعداد لتوظيف استراتيجي مستجد لهذا السلاح في مهام السيطرة والردع والاشتباك المحدود في جنوب شرق آسيا وجزر بحر الصين والمحيط الهندي-الهادي. فهذه النوع من المهام، التي تبتعد عن منطق التدخل العسكري الكثيف والدائم – كما حصل في حربي العراق وأفغانستان مثلا – لصالح التواجد اللامركزي دفعا لمنطق الديبلوماسية البحرية القسرية، وكذلك السيطرة البحرية وحول نطاق الجزر في الممرات الحيوية والتي تقتضي قوات خفيفة الحركة، سريعة الانتقال، ومزودة بدفاعات إنكار جوي وبحري
antiship-missiles
خدمة للاستراتيجية الدفاعية المستجدة ضد الهيمنة الصينية في محيطه القريب بشكل أساس، واحتمال توسعها لمدرات أبعد..
وكان تعليقي: التجربة التي يصفها التحقيق، هي بالأساس محكومة بسياق استراتيجي محدد:
تطوير دور المارينز لخدمة الغرض الدفاعي في ال
Indo-Pacific
لمحاصرة التمدد والتهديد الصيني، ونظرا لطبيعة هذا التهديد البحري بالأساس، وطبيعة الجغرافيا في الوضع المتناثر للجزر، وتماه مع منطق القواعد البحرية المتنقلة، وفي ظل التقشف الدفاعي (وهذا قاد مثلا لتخفيض حتى المفردات الأساسية في تشكيلها سواء ال
Grunt أو expeditionary
، وتخفيض العدد ب 12 ألف)..فقوات المارينز مطلوب منها جملة من الخصائص، مع تطوير لمعدات ونواقل عسكرية خادمة:
1- قدرة على التناثر والمرونة، وفي ذات الوقت تطوير القدرة على التصدي للتهديد البحري، وتوصيل نيران لمديات متباينة.
2- هذا اقتضى تطوير معدات عسكرية بالتركيز على عنصر ال
anti-ship missiles،
وتركيبها على مدرعات خفيفة الحركة مثل
LJTV
، وتطوير بنى الدمج المعلوماتي وال
Drones.
3- وفي بنية القوات، اقتضى التحرك نحو النمط الخفيف كتسليح، واللامركزي، مع تدعيم القدرة الذاتية للوحدات الصغري وربطها بالمنظومة المتطورة لل
C4ISTER،
والتخلص من كثير من المكونات الثقيلة أو المساندة التي اقتضتها المراحل السابقة بمافيها الشرطة العسكرية، وبعض اللوجستك، وتخفيض النواقل الجوية، وكذلك كتائب المدرعات الثقيلة (المارينز بالأصل يحوز على 3 كتائب فقط!!).
4- إذن فعندنا منهجية واضحة، بغض النظر عن تقييم صوابها:
أ. قراءة سياسية واستراتيجية تحدد لنا الأولويات الدفاعية، كما نصت عليها الاستراتيجية الدفاعية الوطنية.
ب. ثم منطق التدافع الاستراتيجي العسكري في البيئات التي سيحصل عليها التركيز (طبيعة المهام وخيارات الاستراتيجية العسكرية)، ويدخل في هذا التخطيط الفني للتوظيف الاستراتيجي والعمليات للمارينز (ضمن مخطط القوة الشاملة) بالتوازي والتبادل مع ملفات: منظومات التسليح، والبناء البشري والإداري للقوات، وبالطبع العقيدة القتالية المشتركة والخاصة.
ج. فيظهر هنا الدور النوعي للمارينز في تأمين الدفاع وخدمة الاستراتيجية العسكرية في المحيطين لمحاصرة آثار تمدد الصين ومواجهة الخطر المحتمل لعمليات سيطرة أو استهداف بحري. ولكن بقية الملفات الدفاعية (كمحاصرة روسيا ودعم الردع النووي والتقليدي تجاهها، ومكافحة الإرهاب، وبعض الحملات الاستطلاعية دون التورط في حرب ممتدة لمكافحة التمرد أو بناء الدولة) تشترك فيها المارينز بقدر، لكن الدور الأكبر يقوم به الجيش والقوات الجوية والاستراتيجية.
ولهذا، فمهم قبل أن نحاول استنساخ هذه التجربة في أي بيئة مغايرة، أن نستوعب المنطق والمنهجية التي قام بها الأمريكي في هذا الشان بغض النظر عن تقييم نجاعته (تحديد الأولويات الدفاعية، خيارات الاستراتيجية العسكرية، التبادلية بين مفردات منظومات التسليح، والتوظيف الاستراتيجية والعملياتي المشترك والخاص، العقيدة القتالية وتركيب القوات – بهذا الترتيب)، وليس أن نعزلها من سياقها بشكل كامل..
والآن، نقارب السؤال بشكل أشمل: هل ستنقرض الدبابة فعلا؟
تظهر هذه الفكرة بشكل دوري تقريبا في تاريخ المدرعات بعد الحرب العالمية الأولى، تبعا في البداية للمأزق التقني (الصراع المستمر بين الدبابة-الدرع من جهة، والمقذوف من جهة أخرى)، والذي غالبا مايتراكب مع اعتبارات عقائدية (منطق توظيف المدرعات سواء لاقتحام العمق العملياتي واستغلال اختراقات التكتيك والتي تُعلي من عوامل السرعة وتقليل الاعتماد على حساب الدرع والقوة النارية، أم العكس-استخدامها للغرض الدفاعي وتدمير المدرعات المقابلة والتي تُعلي من عناصر متانة الدرع وقدرة النيران ومداها)، وأخرى ثقافية واجتماعية (التوافق الثقافي والبنيوي مع خيارات الكيف أم الكم، الهجوم وحرب المناورة، أم الدفاع والاستنزاف).
وبشكل عام، فإن الارتباك في اعتبار هذه العوامل مجتمعة، قاد في كثير من الأحايين لفقدان يقين دوري في قدرة وفعالية سلاح الدبابات، وكان التعامل معه بشكل خطي: تطوير الدروع لتحتمل تصاعد القوة التدميرية للمقذوفات – خصوصا المدفعية 75 مم، وزيادة قدرتها النارية (كما حصل مع دبابات ت34 وتشيرمان 4).. وهذا قاد لنتائج معقولة في معارك شمال أفريقيا، وصقلية، ولكن تضاريس الجبهة الغربية مابعد نورماندي وكثافة التحصينات، وضعت هذه المدرعات المتوسطة في مأزق حقيقي لصعوبة المناورة والاحتياج لمدرعات ثقيلة من نوعية ماتيلدا، وجي اس 21 وتايجر). وكان هذا درسا مفتقدا كالعادة في شمول النظر للتوظيف العملياتي للمدرعات، وليست فقط المسألة تقنية.
ولهذا فبعيد الحرب الثانية، ترسخت لحد ما نظرية انهيار سطوة المدرعات وأفضيلة المضادات عليها، مع استثناء السوفيتي، وبعد ذلك الإسرائيلي الذين بقيا أوفياء للقناعة بجدوى المدرعات، والتعامل مع خطر المقابلة التقنية (الدرع والمقذوف) بمنطق معتدل، يقرّ بحجم الإشكال، ولكن ينحاز لقدرة التصنيع المدرعاتي على تجاوزه..
، وكانت الذروة في تصوّر تراجع الدبابة أمام المقذوف (الصاروح الموجه في هذه الحالة
Anti- Tanks Guided Missiles
) حصلت مع حرب أكتوبر 73ـ تبعا للاستنزاف السريع لسلاح الدبابات الإسرائيلي وهو كان يسوّق لأفضليته الحاسمة تقنيا وفنيا وكعقدية قتالية. دون الانتباه هنا أيضا أن المشكلة لم تكن مفاجأة تقنية، ولكن هي بالأساس استراتيجية وكعقيدة قتالية:
أ. فصواريخ المالوتكا الموجهة كانت معروفة عالميا بالفعل، بل إن المصري استخدمها – وإن كان صاروخ أقدم اسمه شيفر، على الجبهة في أواخر حرب الاستنزاف.
ب. الذي أحدث فارقا في الدفاع المصري ليس مجرد استخدام المالوتكا بكمية عالية، ولكن العقيدة التكتيكية التي تبناها المصري والتي رسمت نطاقا متكاملا ومركبا للدفاع ضد المدرعات – ابتداء من المدفعية لحدود 3-5 كم، نزولا لصواريخ المالوتكا حتى نطاق الكيلومتر، ثم صوارخ أر بي جي 7 دون ذلك. بل إن استقصاء مابعد التدمير الذي قام به الأمريكي بعد الحرب أثبت أن أغلب المدرعات الإسرائيلية تم تدميرها بالأر بي جي وليس المالوتكا.
ج. وفوق هذا، كانت هناك مشكلة جوهرية في العقيدة العملياتية وتركيب القوات الإسرائيلي والتي سمحت للمصري بالتفوق، فالأول اتجه إلى مبدأ الضربات المدرعاتية بألوية دبابات خالصة وهجرانا لمبدأ الأسلحة المشتركة، تبعا لاستخلاص دروس خاطئة من حرب 67
د. وكل ماسبق لم يكن ليحصل لولا منطق استراتيجي مصري، اتجه لحرب محدودة بعبور القناة ثم التحول سريعا للدفاع وتحييد السيادة الإسرائيلية في الجو والمدرعات عبر مظلة الدفاع الجوي ونطاقات مضادرا المدرعات، في وقت استُخدمت فيه المدرعات المصرية أشبه بمدفعية خلف أنساق المشاق، تبعا للعجز البنيوي والثقافي عنده في القيام بعمليات مناورة بالمدرعات ناجحة. وحين انفصل الأداء العسكري المصري عن هذا المنطق وتطبيقاته في العمليات والتكتيك، بتطوير الهجوم وباستخدام الاحتياطي المدرعاتي، حصلت خسارة ضخمة في مدرعاته يومي 13-14 أكتوبر، ثم كارثة الثغرة والفشل في التصدي لها.
وفكرة أن العنصر التقني (خطر المضادات) لايمكن أن يؤدي لانقراض الدبابة – عززتها مسيرة التطور الحاصل في تصميم المدرعات بعد حرب أكتوبر. فلتجاوز خطر الصواريخ الموجهة ظهر مايُعرف بال
Composite armour
والذي يتشكل من سبائك متراكبة من الصلب وعناصر أخرى تستطيع امتصاص ضربات المقذوفات خصوصا ال
s-shape
ثم ظهرت تطويرات في هيكل الدبابة لتتجاوز كذلك المقذوفات ثنائية ومتعددة التفجير، والحرارية.. مثلا مايُعرف بال
Explosive Reactive Armour
وكما حصل في درس حرب أكتوبر،ـ أن المأزق ليس في المفاجأة التقنية أو التقدم الخطي للمقذوف على الدبابة، كان درس حرب تموز 2006، وماحصل في مقبرة الميركافا خصوصا في سهل الخيام أما صواريخ الكورنيت لحزب الله. كان هناك فشل استخباراتي بالتأكيد، وتصميم الميركافا -3 كان متضعضعا أمام الصاروخ بدرجة ما، ولكن الخلل الاستراتيجي الإسرائيلي (عدم مناسبة نمط الحرب النظامية سواء بالضربات الجوية المعنوية، أوالاختراق البري للهدف السياسي الخاصة بتحييد قوة الحزب سياسيا وعسكرية ولاستراتيجية الحزب غير المتماثلة)، أو العملياتي وفي تركيب القوات (غياب تمهيد القوات الخاصة وعدم مصاحبة المشاة الميكانيكي خصوصا في أرض مكشوفة لإزاحة مفارز المشاة بمضاداتها المعادية)، كانت الأسباب الأهم..
المأزق العملياتي المستجد:
كما يظهر مماسبق، فإن خطر التنافس التقني بين الدبابة ومضاداتها لن يصل لحد التهديد الوجودي للدبابات، أو تحجيم -لايمكن التجاوز عليه بوسائل تقنية وعقائدية – للقدرة على توظيفها في ساحة القتال. حتى ماظهر حديثا من استخدام للدرون وتقنيات الحرب الفضائية، تظهر له وسائل أو تكتيكات مضادة. ولكن الخطر الحقيقي يبقى في مساحة الفن العملياتي، وبشكل أهم – الاستراتيجية.
المدرعات هي تشكيلات تجمع بين عناصر ثلاثة بينها بعض التناقض: قوة النيران، والتحصين، والحركة، بالإضافة لعنصر كثافة الإمداد الذي يتأثر بما سبق. وطبيعة الفن العملياتي المطلوب استراتيجيا وسياقيا، يحكم على مُعادلة التناسبية بين العناصر .السابقةالخاصة بالمدرعات، مع تلك الخاصة بالعقيدة القتالية وتركيب القوات.
فقد ينجح الإسرائيلي مثلا – أو الألماني في معارك فرنسا وبولندا، باستخدام المدرعات المتوسطة والخفيفة، للقيام بالتطويق والاختراق العملياتي في العُمق، وتدمير المدرعات المقابلة، و حين تتطور قدرة قياداته التكتيكية – في سياق صحراء، وأمام عدو متهالك دفاعيا ومنسحب (المصري) وهكذا قد لايحتاج لتشكيلات مشاة مرافقة. أو أمام عدو مُثقل بنمط دفاعي خطي وغياب المبادأة والدمج العملياتي والتكتيكي (الفرنسي). ولكن يحصل التعثر الكبير حين تتغير هذه المعطيات سواء في النصف الأول من حرب أكتوبر، أو معارك شمال أفريقيا وإيطاليا والجبهة السوفيتية بالحرب العالمية الثانية.
وحين تطور فن العمليات الغربي في أوائل الثمانينات، كانت عناصر كحجم الدبابة وقدرتها النيرانية وسمك الدرع وصلت لمستوى أعاق عنصر الحركة بقدر ما، وعقّد كثيرا متطلبات الإمداد. ولهذا فنشأت فرضية أن هناك مقابلة بين متطلبات الفن العملياتي الناشيء، وبين خصائص سلاح المدرعات كتصميم وتكتيكات. ولكن مع الوقت، تم تطوير المركبات المدرعة الحاملة للمشاة، وكما أظهرت حربا تحرير الكويت واحتلال العراق، لاتزال لفيالق المدرعات (والدبابات) قدرة على توفية متطلبات الفن العملياتي في التطويق واختراقات العمق واستغلالها، وإن كان هذا أمام عدو ضعيف، ويرتكز تركيبه كذلك على العنصر المدرعاتي والتشكيلات الضخمة، وبعد ضمان السيادة الجوية.
وحتى موجات الحروب غير النظامية ومكافحة التمرد، فهي بالتأكيد مثلا تحديا جوهريا لتوظيف سلاح المدرعات (بالأخص الدبابة)، بسبب منطق الحرب ذاتها كاستراتيجية (مرجوحية التصفية العسكرية للخصم عن الخطوط الأخرى لمكافحة التمرد، وضرورة تقليل حاجز التدمير وبالأخص في بيئة المدن)، وعملياتية (ماتمثله بيئة المدن وتضاريس صعبة من عائق حغرافي ، وتشكيلات الخصم الذي يغلب عليها التناثر والأسلحة المتواضعة والتمويه، والشراك المتفجرة
Improvised Explosive Devices
ولكن بقيت المدرعات غير الدبابة تقوم بدور حيوي في عمليات مكافحة التمرد (خصوصا بعد تطويرها تصميميا) وتطوير عناصر الدعم الجوي والقوات الخاصة، سواء في مهام الإغراق الدفاعي، والملاحقة والتصفية، وحتى الأمن المجتمعي كعنصر أمان نفسي.
ومع تطور الحرب غير النظامية لأنماط هجينة، (في التشكيل والأسلحة وتراكب التشكيلات وأنماط خطوط الدفاع المستقرة والقتال على الأرض – وليس مجرد الإدماء – اقترب المتطلب العملياتي من النمط التقليدي واستعادت حتى الدبابة موطيء قدم لها.
المأزق الاستراتيجي المُستجد:
ولكن السياق الحالي، بتحوّل اهتمام العسكريات الغربية لنمط من التوظيف الاستراتيجي للأداة العسكرية يرتكز على حروب استطلاعية صغيرة أو عمليات سيطرة بحرية وأمنية، ومواجهة التخريب السيبري، ومايتطلبه من فن عملياتي وتركيب قوات يبتعد كثيرا عن النمط النظامي الثقيل، خصوصا مع التطور التقني في الدروب والحرب اليبرية، فهذا يمثل تقليلا حقيقيا وموضوعيا من قيمة الدبابة تحديدا، لصالح حتى بقية التشكيلات المدرعة.
ولكن يكون من الخلل الجسيم كتفكير استراتيجي ومنطق عملياتي وعقائدي، وكسياسة تسليح وتصنيع عسكري، تمديد الفرضية السابقة لحقيقة جازمة وتامة. لعدة أسباب:
أ. الحرب النظامية الثقيلة لم – ولن – ينتهي احتمالها حتى في نطاق القوى الكبرى، هذا الاحتمال حاضر بشكل أقوى في حال الصراعات الإقليمية (كالعربي-إسرائيلي، هندي- باكستاني). فتصاعد الاحتقان الروسي- الصيني الأمريكي، وتقدم قوى إقليمية أخرى لساحة المنافسة الدولية، مع استمرارية العناصر الحاكمة لطبيعة الصراع الدولي تاريخيا -كما وصفتها ثلاثية ثوديديس القديمة عن دوافع الحروب البلوبينسية: المصلحة والشرف والخوف، ونضيف عنصر سوء الإدراك والحساب.
ب. أهم مايطرحه المناقضون لفرضية الحرب عالية القوة دوليا، هو منطق الردع النووي. دون الانتباه أنه لوحده لم يكف لمنع حروب متعددة بالوكالة، بل حتى بعض الاشتباكات العرضية بين الأقوياء. ونظريا، فحالة الاشتباك العسكري مع بقاء خط أحمر رادع نووي هي ممكنة. وهذا بالأخص – مادفع الغربي لتطوير العقيدة القتالية وظهور فن العمليات في أوائل الثمانينات، وتبني الاستخدام التكتيكي للقوة النووية.
ج. وفضلا عن بقاء احتمال الحرب عالية القوة كما أسلفت، فإن منطق الردع التقليدي (أي تجنبها) هو كذلك قائم بشكل قوي على مبدأ الردع الإنكاري
Deterrence by Denial
أي اعتبار العدو لمنطق قوة الخصم الكفيلة بإحباط مشروعه العدائي. وهذا ليس فقط في حال العدو النظامي، فهو في حال العدو غير النظامي كذلك. بل إن لجوء العدو غير النظامي لهذا النمط، هو تصوره عن القوة الثقيلة للخصم، فيحتال عليها.. ولكن بمجرد تخلي الخصم عن عناصر هذه القوة، وبالأخص المدرعات، فإنه غالبا مايتحول الأول للنمط النظامي في التشكيلات والأسلحة ومنطق العمليات والتكتيك.
د. وأخيرا، تبقى المنظومات التسليحية ومانشأ عليها من بنى عسكرية وتشكيلات مستقرة، كأسلحة رئيسة وتوازن قيادي ومؤسسي داخل القوات المسلحة، عائقا قويا أمام التحول العسكري الكبير، حتى إذا تواجدت بقوة دواعيه، وصارت حقائقا، فهذه الممانعة المؤسسية من باب أولى قائمة في حال المباراة بين الفرضيات الاستراتيجية والدفاعية بخصوص المستقبل.
الخلاصة، نعم هناك دوما إشكالات تقنية، وأهم منها عملياتية واستراتيجية أمام استخدام سلاح المدرعات، وبالأخص الدبابات في الحرب الحديثة، وقد تصل – خصوصا إذا فاقمها الفشل الإدراكي وقلة الاحترافية الاستراتيجية والعسكرية – لتصورات تُبشر بانقراض الدبابة، ولكن هذا مالا ينحاز له التفكير العسكري الشامل في الأمد القريب.
وأفشل من كل ماسبق، وأبعد عن حدود المنطق الاستراتيجي والعملياتي، هو الاقتباس الأعمى من تحولات عسكرية وهيكلية لأطراف في بيئات ومقتضيات وأولويات استراتيجية شديدة التغاير، دون حتى إدراك منهج ومنطق هذه التحولات في بيئتها الأصلية.