استكمالا للحديث حول الفرق بين المصلحة العليا والهدف السياسي، ومراتب الاستراتيجية، هذه إجابات على بعض التعليقات والأسئلة على الحوار السابق:
ألا يمكن أن يكون تحديد المصالح العامة للدولة مسيسا؟ وأيضا ممكن تتغير من توجه لتوجه أو تيار لتيار أو حزب لحزب أو قيادة لقيادة … شيئ آخر هل هناك آلية معينة يمكن اتباعها لوضع او اختيار المصالح العليا بشكل مجرد من الأهواء أو أقرب للعلمية والحيادية والموضوعية؟ وهل يمكن دمع المصالح العليا في الاهداف السياسية .. على اعتبار أن كل قيادة تضع أهداف سياسية عليا هي مقدرة وترتكز على تصور معين للمصالح ؟
هذا صحيح أن المصالح العليا كثيرا ماتكون مؤدلجة أو مسيسة، ولهذا فعلاقة المصالح العليا بالأيديولوجية (وبالتصور الجيوسياسي) أكثر وضوحا من الهدف السياسي الذي يحكم الاستراتيجية.
المصلحة العليا هي التصورات الفكرية حول رسالة الدولة (أو الكيان) في الوجود بالأساس. هل الدولة تريد أن تحدث مشروع أمة واحدة مثلا؟ هل تريد أن تحقق عدالة اجتماعية ورفاة؟ هل الكيان يريد أن يقوم بإقامة دولة على نسق أيديولوجي مثلا؟ أم يقوم بنقلة في الوعي والتربية؟ وهكذا..
وعلى هذا نقاشاتنا السابقة مثلا في جوانب التجديد الفكري وفي رسالة الحركة الإسلامية المفترضة..
أما الأهداف السياسية فهي شيء أكثر انضباطا (يمكن قياسه، وضمن خارطة زمنية محددة، وواقعي….وهكذا) ، لأنه من ستحاول الاستراتيجية تحقيقه.
المصالح العليا ليست بالضرورة متسقة مع القدرة المرحلية (غالبا ستتجاوزها) – فلايمكن لحركة المقاومة الفلسطينية (حماس مثلا) تدمير إسرائيل مرحليا، ولكنها قد تضع هدف سياسي مرحلي بتطوير مقدرة إدارة الصراع واستدامته، وفرض تنازلات سياسية على الإسرائيلي، وإشغال الإسرائيلي عن التدخل في نطاق حيوي أساس كمصر في لحظات تغيير سياسي أو بناء استراتيجي.. وهكذا.
المشكلة ستحدث إذا تصادم الهدف السياسي المرحلي مع مقتضى المصلحة العامة.. بأن تعقد حماس مثلا اتفاقية سلام مع إسرائيل (كماعقدنا نحن اتفاقية فض الاشتباك الثاني الذي يقضي بعدم القيام بشن حرب على إسرائيل، فضلا عن معاهدة السلام بعد ذلك).
إذن التمييز بين المصالح العليا والأهداف له فائدتان أوليان:
الأولى – أنه يجبرك على مراعاة القدرة والواقع حين تضع الهدف السياسي، على حين أن المصالح العليا هي أكثر تشابكا مع التصورات الأيديولوجية الخام.
الثاني – أنه يحثك على الجمع بين المبدئية والمرحلية، وملافاة أي تضاد بينهما.
هل هناك وسائل علمية ومؤسسية لتحديد المصالح العليا و الأهداف؟
هناك بالطبع وسائل لتقليل التحيز وقصور الفهم وأمراض التفكير، ولكن في الأخير أنت أمام تجربة بشرية.
لاحظ أن المصالح العليا وإن كانت ترتبط بالأيديولوجيا، ولكنها عالة على تصورات فكرية، وتقييمات كلية لخط الزمان وسنن التغيير الاجتماعي والسياسي.. ولهذا فالنضج الفكري، ومحاولة تقييم الفرضيات الأساسية بمعزل عن الهوى والتعصب والسطحية، وزيادة موارد التفكير بجوانبه (الشرعية في حالتنا، والتاريخية والاجتماعية والسياسية والاستراتيجية) ستتيح لنا تحديد المصالح العليا.
مثلا حين نريد أن نخرج من الإطار الوهمي والعاطفي والحشدي الخاص (بإقامة الدولة الإسلامية) إلى استيعاب (شرعي وسنني) لمفهوم مقاصد الدين من بناء النظام السياسي (في حرية الشعب، والحكم الرشيد، والعدالة الاجتماعية، والتحرر والوحدة، ومرجعية الشريعة في مسائل القطع دون القهر السلطوي) تنشأ عندنا جملة جديدة من المصالح العليا.
حين نأتي لوضع هدف سياسي (حتى أعلى وليس فقط مرحليا)، لايكون عندنا بالضرورة هدف اسمه (التمكين)، وقد نختار حتى لو انخرطنا في السياسة التنافسية إنشاء نظام ديمقراطي تنافسي، والسعي لتحسين شروط الوعي والمؤسسية والحراك الشعبي الضامنة.. وهكذا.
أهم الوسائل بالطبع هو زيادة منسوب الأفكار ومداخل الوعي بالتاريخ والسياسة والاستراتيجية وحركة الجغرافيا عند الشرائح المتنفذة، الاحتكاك بطبقة من المفكرين التجديدين (بالرغم أنه غالبا هناك ضرورة للفصل بين المفكر والدولة أو الحركة)، وجود مناخ عام ومنهج مؤسسي لمراجعة المصالح والأهداف العليا من فترة لأخرى خصوصا بعد التغيرات الكبرى، ومراجعة الأهداف المرحلية بشكل دوري وأكثر كثافة… وهكذا.
هل كان عبدالناصر لديه وعي بمفهوم الاستراتيجية، وهل تخيل مثل هذه الاستراتيجية او ما يشابهها كانت من خلال مهارة او موهبة فطرية او من خلال خبرته، او أنها تمت عبر عملية والية تفكير استراتيجي له وللمؤسسة العسكرية؟
نعم عبدالناصر كان ملما جدا بالاستراتيجية كمنطق ومفهوم وتطبيقات.. جزء بالطبع من ذلك كان استعدادا فطريا، ولكن أيضا الدراسة والقراءة. فهو كان أستاذا للتاريخ العسكري في كلية الأركان، وعلى عكس السادات (الذي كان ولعه بالأدب والروايات) وبالقطع مبارك (وطبعا المهلبية اللي بيحكم دلوقتي) كان متابعا جيدا للأدبيات الاستراتيجية.
لفت نظري مرة وأنا أقرأ لأمين هويدي (الفرص الضائعة) حين اشتبك مع عبدالناصر بعد حرب 67 بخصوص صلاحيات وزير الحربية (حينها هويدي كان يلح على الفصل بين منصب الوزير وجعله سياسيا، وأن يكون القائد العام ورئيس الأركان خاضعا له .. ولكن عبدالناصر بالرغم من اتخاذه خطوة الفصل لم يكن مرتاحا لها لأنه كان يريد ضمان انصياع كامل من القيادة العسكرية للسياسية، وأيضا لحماية النظام).. المهم – حينها طلب منه عبدالناصر قراءة كتاب (رجال البنتاجون)
The Men of Pentagon: From Forrestal to McNamara. Borklund
ليفهم صعوبة السيطرة على العسكر..
أنا اشتريت الكتاب وقرأته، ولكن فوجئت أنه صدر عام 1966، أي قبل هذا الحوار بسنة!
أيضا تصورات عبدالناصر الاستراتيجية (النظرية) قبل 67 عن فكرة الحسم ومتطلباتها، كانت ممتازة.. لماذا فشل؟
للمشكلات البنيوية في نظامه ونزقه الشخصي: ضعف المؤسسات وغياب مناقشة استراتيجية حيوية للفرضيات والسيناريوهات، انهيار المؤسسة العسكرية وتفلتها عن سيطرته ومتابعته (يعني هو كان مدركا قبل 67 أنه لايستطيع أن يهزم إسرائيل في معركة، ولكنه في أول الأمر كان يريد ردع إسرائيل عن مهاجمة سوريا كما فعل بشكل جزئي في أزمة روتم عام 1961 دون إدراكه لفروق كبيرة بين الحالتين، ثم حين تأكد من فشل الردع وحتمية الحرب في يوم 2 يونيو كان يعتمد على إمكانية للصمود الدفاعي، بحيث يمكن تكرار سيناريو ماحصل في 1956 دون أن يضع في اعتباره الفروقات الهائلة في بيئة الصراع الدولي ومتطلبات الاستراتيجية العسكرية التي تلزمك باختيار استراتيجية عملياتية متناسقة مع هدف الدفاع أو الهجوم، والأهم: انهيار القدرة العسكرية الذاتية عما كان يتخيل بمراحل!).. وفي كل تلك المراحل كان مدفوعا للتصعيد للحفاظ على وضعيته كزعيم عربي أوحد، هالته تعتمد على حمايته للأمة وقيادتها.
وهذا يعطيك دلالة أن حصولنا على فكرة استراتيجية مبدئيا سليمة لايؤدي بالضرورة لنجاحنا في تحويلها لاستراتيجية متناسقة ومستجيبة للتغيرات والتفاصيل المعقدة، فضلا عن تطبيقها.
————-
هل مراجعة وتعديل الهدف والاسترتيجية بعد حرب 67 ومع حرب الاستنزاف – تم بشكل هوائي فردي انطباعي او كانت هناك آلية علمية وعملية من عبد الناصر والجيش؟
لم تكن هناك مؤسسية عند عبد الناصر، كان طبعا يستعين كثيرا بحواراته مع هيكل، وكان عنده بعض المؤسسات المتميزة كالخارجية، وكان يقرأ بكثافة كل مايأتي إليه – على عكس السادات ومبارك مثلا، ولكن كان هناك مجالس صورية (كالهيئة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي، ومجلس الوزراء، والقيادة العامة)..
وهذا يجعل أهواءه الشخصية والتباسات تقييماته الاستراتيجية كثيرا ماتمر دون مراجعة فعلية..
حاول طبعا أن يتلافي بعض ذلك بعد 67، بأن جعل القيادة العسكرية (والمؤسسة عموما) أكثر احترافية بمراحل، وحين قام مثلا بإنشاء مجلس الدفاع الوطني عام 1968، ولكنه بقي لحد كبير مهيمنا ومستفردا بالقرار الاستراتيجي دون نقاش مؤسسي خلفه.
——————-
والسادات وتغييره للمصلحة العليا فضلا عن الهدف السياسي؟ ملاحظاتي عموما تتعلق بإمكانية التسيس في تعيين المصلحة العامة او دور اهواء وطبيعة القيادة فيها، وايضا لدينا غياب لمؤسسات محترفة مستقلة موضوعية تحدد المصالح العليا بشكل يمككن ان يتم الاجماع عليها فترة زمنية طويلة ؟
وهذا حصل عند السادات أيضا، بالرغم أنه في البدء سمح بدرجة أعلى من النقاش المؤسسي .. ولكن مع الوقت، تحول النقاش فقط للمستويات العملياتية (المؤسسة العسكرية لوحدها، والخارجية لوحدها…) ثم تقدم هو بنفسه كبديل عن المؤسسات في أخذ المواقف الحيوية العسكرية والسياسية.
لاحظ أن الأهداف السياسية وطبعا الاستراتيجية هي مخرجات محددة لابد من صياغتها بوضوح ودقة، وأيضا بشكل كتابي..
مثلا التوجيه الاستراتيجي لحرب 73 الذي كتبه هيكل للسادات.
أو مايسمى في العرف المصري: بوثيقة السياسة العسكرية.
لكن المصالح العليا هي منتوج الحراك السياسي والمجتمعي بأكثر منها نتاج مؤسسة بعينها.. وغالبا لاتكتب، لأنها أوضح من أن تكتب..
ولكن طبعا يحصل عليها أحيانا نقاشات عنيفة.
هنا في بريطانيا مثلا – هناك نقاش ممتد أخذ شوطا منذ 2005 حول المصالح العليا التي تحكم النشاط السياسي والعسكري البريطاني خارجيا..
نعم كله تقريبا الآن متفق، أن بريطانيا ليست دولة عظمى قادرة أو راغبة في التأثير الشامل على بيئات جغرافية بعيدة، وأنها فقط مهتمة بإطارها القريب والأوروبي وتمارس دورا نوعيا في الإطار الأوسع بما يرتبط بالمصالح الحيوية (مكافحة الإرهاب، الاقتصاد، الجاليات البريطانية في الخارج، وبعض الإرث الإمبراطوري كبريستيج).
ولكن هذا تم عبر مخاض عقد تقريبا (كنت متابعا له)، ورأيت حجم الاشتبكات في دوائر أخذ القرار السياسي والعسكري والمؤسسات المحيطة بها، والتأثيرات التي أنتجها هذا التغير في كثير من التفصيلات وأهمها وثائق (مراجعة استراتيجية الأمن القومي والاستراتيجية الدفاعية) في أعوام 2010 و2015 مثلا.
هذه ورقة كتبتها على هامش مؤتمر حضرته في 2014، وتعطيك فكرة أكثر واقعية وتطبيقية عما أحكي فيه من إعادة تعريف المصالح العليا، وأثره بالتالي على تغيير كل مايليها من أهداف سياسية واستراتيجية ومسارات عمل وتركيب عسكري، ولكن ماتراه هو نتاج مخاض طويل كماذكرت.
ماالمقصود بالوظائف الحيوية في تعريفك للأمن القومي أنه حماية الدولة من أي تعديات ومخاطر على وظائفها الحيوية؟
الوظائف الحيوية هي الوظائف التي تقوم بها الدولة أساسا كتوفير حالة الأمن والرفاة لمواطنيها، أو الوظائف المرتبطة بها ووجودها: كسلامة النسيج الاجتماعي والوطني، الأمن المائي، أمن المعلومات والشبكة، استقرار المنظومة الاقتصادية وحصول الثقة فيها…
الأمن القومي ليس معناه الإشراف على كل ماسبق أو معالجة مشكلاته، ولكن فقط التصدي للأخطار (العدائية) الموجهة لتلك الوظائف ، إو إذا وصل مستوى الارتباك والفشل لمستوى معطل للوظيفة الحيوية تلك.
طبعا هذا التعريف يستخدم هنا في الغرب – منذ 50 سنة – للتدليل على توسع مفهوم الأمن القومي كنظرية ومؤسسة واستراتيجية ومتابعة ورقابة وتنفيذعن الشق العسكري الصرف، ممايدلل بالتالي مزيد تبعية للمؤسسات العسكرية والأمنية للمستوى السياسي التنفيذي والتشريعي، وشمول استراتيجية ومؤسسة الأمن القومي..
ولكن في بلادنا ابتلينا بكائنات ومؤسسات غبية – تستخدم نفس التعريف لتؤكد هيمنتها هي على سائر مؤسسات وأنشطة الدولة..!!
———————–
هل استراتيجة الأمن القومي هي الجراند استراتيجي لكن اسم الجراند استراتيجي يستخدم اكثر في الحرب لكن عمليا لا فرق بينهم؟
يمكنك أن تقول هذا، أن استراتيجية الأمن القومي هي الجراند استراتيجي في وقت الحرب، لأن قدرات الدولة واهتماماتها مسخرة بالأساس لحسم الحرب.
الجراند استراتيجي هو مصطلح صكه ليدل هارت ليشمل نقطتين:
الأول – هو إدارة كل مصادر قوة الدولة (عسكرية وغير عسكرية) لتحقيق أهداف الأمن القومي في الحرب والسلم.
الثاني – هو إدارة تلك الأهداف على مدى زمني ممتد (وهذا معناه كيفية الانتقال عبر سلسلة من الأهداف السياسية المرحلية لتحقيق الهدف السياسي الكلي..)
وهذا المعنى الثاني شديد الأهمية، ولكن النقاش حوله يطول، وهناك جملة من الأدبيات الرائعة فيه.. من أظرفها محاولة ليتواك في اكتشاف الجراند استراتيجي في الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، أيضا هناك دراستان مجمعتان لويليامسون موراي، ولجون كينيدي حول الأمر (فضلا عن دراسة كينيدي الشهيرة حول انبعاث وانهيار الامبراطوريات)..
ولكن بمعنى أكثر دقة.. الجراند استراتيجي هي غالبا استراتيجية تدخلية في ملف بعينه يرتبط بصراع إقليمي ودولي، ولكن الأمن القومي وقائية وتشمل صيانة المصالح الحيوية بتتابع مستمر.
———
بخصوص حروب أمريكا في أفغانستان والعراق، هل فعلا هناك مشكلة إدراك للبعد ااستراتيجي؟ كنت أعتقد بغض النظر عن التقييم ان الذي دفع لهذه التدخلت بالاساس هو القرار السياسي لتحقيق غايات سياسية والعسكري نفذ الشق المتعلق بالهجوم والاكتساح إلخ … فهل تقصد هنا ان الذي حدث هو ان التفكير العسكري او ذهنية العسكري هي التي اثرت على العقل السياسي؟
لا. قصدي أنه لم يكن هناك رابط (كوبري) بين التفكير السياسي والعسكري..
هذا الكوبري هو دور الاستراتيجية.
لأستاذي كولن جراي دراسة حديثة، في رأيي أهم ماكُتب في المجال بعنوان
Strategy Bridge
بمعنى.. أن السياسي كان عنده أهداف طوباوية كبناء دول ديمقراطية في أفغانستان والعراق، أو حتى معقولة كإنهاء التهديد الإرهابي للداخل الأمريكي عبر حرمان القاعدة من ملاذها الآمن، أو زائفة كتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية…..
خليط غير متسق وواضح..
ولكن جزء منه ليس فقط غير خادم للمصلحة العليا بالضرورة، ولكنه لايمكن تحقيقه بأداة عسكرية.
العسكري أخذ أوامر بأهداف سياسية غامضة، ففعل مايتقنه عبر استراتيجية حرب نظامية عالية الحدة.. وأُعطي إمكانات أقل من المهمة – غير ممكنة التحقق بالأصل.
فعندك السياسي لم يضع أهدافا واضحا، وأعلى من قدرة العسكري.
والعسكري مشى في مسار استراتيجي وعملياتي ليس بالضرورة خادم (ومناسب استراتيجيا) لتحقيق أي أهداف سياسية حتى المعقولة منها (كتحجيم التهديدات الإرهابية ومعاقلها).
وكل هذا بسبب أنه لايوجد (وصلة استراتيجية – كوبري) بين الاثنين، نظريا أو مؤسسيا.
فضلا عن ضعف تأهيل العسكري كاستراتيجية عسكري، ولكنه متصلب على نمط عملياتي بعينه، في حين أن نضجه استراتيجيا، يجعله أكثر قابلية لتغيير نمطه العملياتي على حسب الوظيفة الاستراتيجية والهدف السياسي بالطبع.
——————–
ذكرت أن المستوى العلمياتي له أطر نظرية، أليس مستوى التفكير النظري يحدث في مستويات أعلى (الاستراتيجية) ومع العمليات دخلنا في مستوى تخطيطي تنفيذي اكثر؟
نعم له إطار نظري، مايطلق عليه فن العمليات، أو حتى النظريات الاستراتيجية الخاصة..
نظريا: ماهي الوظائف التي يمكن أن تقوم بها القوة الجوية أو البحرية أو البرية؟ ماهي الأنماط العامة لحركتها وتنظيمها؟
ماهي القواعد النظرية لتحقيق حسم عملياتي على الخصم – سواء بشكل شامل أو في قطاع وظيفي بعينه؟
كيف يتم الاختيار بين نمط التدمير الشامل لقوات الخصم، أم إحداث حالة من الشلل العملياتي والسيطرة، هل حروب الاستنزاف أم المناورة؟
كل هذه الأسئلة هي في الإطار النظري، ومحاولة تسييقها على دولة بعينها، نعلم طبيعة المهام الاستراتيجية الملقاة على عاهل قوات المسلحة (هل حرب نظامية في الصحراء عالية الحدة؟ أم حروب صغيرة؟ أم مكافحة تمرد؟ هل مواجهة عدو عالي التقنية والقدرة؟ أم عدو كثيق كقدرة بشرية ولكن غير معقد تقنيا وتسليحا؟)..
فنحاول أن نضع نظرية عمليات خاصة بها..
هذه بالضبط العقيدة القتالية..
أي كيف يفكر الجيش ويُعد نفسه للمهام الاستراتيجية.
أن تتنزل هذه العقيدة القتالية لواقع في حرب محددة، هذه خطط العمليات.
الاستراتيجية جزء مهم فيها نظري، ولكن كما يتضح، هناك شق هام أيضا تطبيقي، لأنها مجمل التطبيقات العملياتية والتكتيكية…
بمعنى: الاستراتيجية هي كل مايحصل على الأرض فعلا من جانب أنه تطبيق لها، ويجب متابعته للتأكد من سريانه تحت المنطق الاستراتيجي، بالرغم أن كل مايحصل على الأرض هو عمليات أو تكتيك.
ولهذا – كما أشرت في حالة عبدالناصر، حصل انفصام هائل بين الفكرة الاستراتيجية، وبين تحويلها لاستراتيجية متقنة، فضلا عن تطبيقها كعمليات وتكتيك
————-
هل تطور الفكرة الاستراتيجية لحرب 73 أنها حرب تحرير محدودة عبر استراتيجية مواجهة محدودة، هو ساداتي أم من المؤسسة العسكرية أم من أين؟
ساداتي فعلا، وهذا يُحسب له، بالعكس المؤسسة العسكرية كانت متأخرة كثيرة في إدراك مايرمي له، وهذا ماجرأه بالتالي في مرحلة حرجة تالية أن يلقي برأيها على عرض الحائط، ويستأثر لنفسه بوضع الاستراتيجية، ويأخذ قرارات مناقضة لأبسط قواعد الحرب والمنطق الاستراتيجي العسكري.
على كل – ماقام به السادات من القيام بحرب شاملة (بالمفهوم العملياتي) لتحقيق أهداف سياسية محدودة، أطلق عليه إيلي ليبرمان (مفكر إسرائيلي استراتيجي) في دراسته:
Re-conceptualizing Deterrence: Nudging Toward Rationality in Middle East Rivaمries
إبداع مفاهيمي في السياسة والاستراتيجية!
السادات طبعا كان شديد الذكاء ومتقد الذهن سياسيا، ولكن للأسف كان ينقصه كثير من التأهيل في شق الاستراتيجية العسكرية، فضلا عن اضطراباته الشخصية والنفسية، وتجاوزه لأي فكرة مؤسسية.
————–
هل تطوير الهجوم للمضائق في حرب أكتوبر كان موجودا في الخطة الأصلية، أم جاء متأخرا أثناء الحرب وبقرار من السادات؟
هذا لغز حرب أكتوبر. رواية الشاذلي أنه كان جزء في الخطة الرسمية لدفع السوري للاشتراك في الحرب (لأن الجبهة السورية الأكثر حساسية للإسرائيلي فلابد من وصول المصري للمضائق – 60-70 كم شرق القناة – جنوبا ليسمح بوضع تهديد حيوي على الإسرائيلي يدفعه لتوزيع قواته، ولكن إذا توقف المصري قبل المضائق فسيركز الإسرائيلي قدراته لكسح الجبهة السورية وتهديد دمشق – كما حصل فعلا لولا التدخل العراقي ولحد ما الأردني)
ولكن الخطة الفعلية كانت الوقوف تحت حائط الصواريخ 10-12 كم شرق القناة.
أما رواية الجمسي والسادات (الرواية الرسمية) أن الخطة الأصلية تتضمن المضائق أيضا.
ولكن الجمسي انتقد عدم الإسراع في تطوير الهجوم أثناء انهيار الدفاع الإسرائيلي عن سيناء في أول يومين، وتأخيره حتى يوم 14.. وكلا الروايتين اتفقتا أن ذلك لم يكن ليحدث لولا ضغط السوري على السادات.
طبعا تقديري الشخصي أن رواية الشاذلي صحيحة، لأسباب:
أن تطوير الهجوم لو كان فعلا مسألة محورية، كان هذا يقتضي تغيير بنيوي كبير في القوات المسلحة وتدريبها وقدرتها العملياتية لأنها غير مؤهلة لحروب المناورة المدرعة.. فالمسألة فقط ليس الخروج من مظلة الدفاع الجوي.
والدليل أن 90% من تدمير القوات المصرية يوم 14 تم عن طريق دبابات العدو وليس طائرات.
ثانيا – المنطق الاستراتيجي للحرب نفسه يناقض فكرة تطوير الهجوم.. وهذا استفاض فيه الشاذلي، ولكن لم يذكر كيف أن هذا المنطق تغافل عن تناول المراحل التالية كما أسلفت.
ثالثا – أن بنية القوات في رأس الكباري، وتوزيع لواءات المدرعات لتكون في نسق ثابت يمثل لحمة الدفاع تلك، ثم طريقة تطوير الهجوم المترددة والموزعة (أشبه بتسديد خانة) تشي بوضوح بعدم الجدية المسبقة لهذه الخطوة.
رابعا – الفرصة الوحيدة لإمكانية نجاح تطوير الهجوم هو فعلا في أول يومين، وليس حتى بعد هزيمة الحشد التعبوي الإسرائيلي الذي وصل سيناء يوم 8 كما أشار الجمسي، وهذا كان يقتضي مبكرا، ليس فقط تغيير بنية الدفاع في رؤوس الكباري، ولكن الإسراع مبكرا في نقل المعدات والأسلحة اللازمة لتطوير الهجوم، وفتح مسارات محددة للنسق الخلفي (المدرعات) يعبر خلالها.. كما تنص العقيدة السوفيتية.. ولكن هذا لم يحدث.
والحقيقة يمكن من أهم نقاط إبداع حرب 73، هو التطوير الذي تم عمله في العقيدة السوفيتية لتناسب- ليس فقط البيئة المصرية جغرافيا وعسكريا، ولكن المهمة الاستراتيجية كما أسلفت.
وهذا ماأشار له أيضا استراتيجي إسرائيلي آخر (داني آشر) بإعجاب شديد وبنى عليها دراسته المهمة:
The Egyptian Strategy for the Yom Kippur War
————————
في وصف الكتاب لبيئة الاستراتيجية وأنها تتميز بالغموض والتعقيد والالتباس .. فهل من الطبيعي ان يكون هناك تصور مسبق للانتقال من الهدف السياسي المرحلي الى اتصاله بالهدف العام المتعلق بالتحرير الشامل، أليس هذه عملية معقدة جدة وايا كان التفكير ستكون غير محكمة بسبب حجم مايمكن ان تتعرض له البيئة الاستراتيجية والصراع من متغيرات؟
نعم من الواجب طبعا أن يكون هناك تصور، ولو مبدئي، حول كيفية الانتقال من هدف سياسي مرحلي لآخر، وهذا أحد تعريفي الجراند استراتيجي كما ذكرت.
ونعم البيئة الاستراتيجية شديدة التعقيد والتغير، ويجب عليك المتابعة الحثيثة والدينامية للفرضيات الاستراتيجيات وتقييمات البيئات ومواقف الأطراف والسيناريوهات لتعدل مسارك الاستراتجي وحتى هدفك السياسي وحتى الجراند استراتيجي أحيانا، ولكن هذا لايُعفينا من مسئولية وضوح خيارات استراتيجية مرحلية وطويلة المدى، خصوصا إذا غامرت بأرواح مئات الآلاف والملايين، ومصائر دولة وأمة.