مقال: ارتياد استراتيجي لواقع مصر الكسيف
ارتياد استراتيجي لواقع مصر الكسيف
حلم التغيير السياسي راوغ أجيالا متعاقبة في الأربعة عقود الماضية تبعا لإدراك مُحقق أن ركائز النهضة المصرية، ولأمتها تبعا لها: الديمقراطية والعدل الاجتماعي، والتحرر الوطني والوحدة، وبعث الهوية الحضارية ومباديء الشريعة – بما يجعلها استدعاء مجتمعيا لاتنزيلا أو توظيفا سلطويا – هي تعاكس بنية نظام مبارك.
ولكن للأسف، جاءت لحظة التغيير في 25 يناير 2011 في وضع لم يكن أسوأ منه من ناحية عدم جهوزية النخب والحركات السياسية المصرية. فبقدر ماكانت هبّة الجماهير لانتزاع حقها في الكرامة والعيش والحرية لافتة، وبقدر تضحيات آلاف الشباب الطاهر الذي لم يدفعه لذلك سطوة تنظيم أو رغبة في مصلحة شخصية أو سلطة، أو هوس أيديولوجي بوهم التمكين، كان عجز القوى السياسية بضيق أفقها الأيديولوجي وشبقها نحو السلطة – مما أفرغ سريعا الموجة الثورية لصالح تفاهمات استفاد منها الإخوان والإسلاميون في مرحلة، ثم تخيّل غيرهم إمكانية الاستفادة منها في مرحلة تالية، حتى وصلنا لحال تم غلق للمجال السياسي، وأخطر منه وأد حلم جيل شاب وتفريقه بين السجون والمنافي أو في اجترار مرارات وقسوة العيش، ونشأة نظام شديد الشذوذ كبنية وسياسات.
هذا النظام، وإن حاول الارتكاز على فكرة صيانة الدولة في ظل إقليم تشظت دوله الكبيرة قبل الصغيرة، وعلى دستور وسّع – نظريا – من مجال الحريات وتوازن السلطة في نظام مختلط، إلا أنه أخصى تلك الدولة وجعلها مُسخة يتندر من حالها ومصيرها – ومعهم كل الحق – أشقاء في جنوبها وغربها طالما وهبتهم أمارات الوعي قبل أن تُخلّق لهم سلم النضال والتحرر. ولم يسع النظام بعد أن أهدر ذلك الدستور بشكل عملي مبكرا، إلا أن يقوم بوأده الآن رسميا بشكل يمتهن فيه الإرادة الشعبية ويسخر بفجاجة وجهل من الشرف التاريخي لمصر، بل ومن فكرة الدولة الحديثة بالأساس! وساعده في ذلك انهيار النخبة المدنية المتوقع بعد استجداء الجيش للتدخل السياسي في يوليو لأجل التخلص من نظام الإخوان التي اعتلت شرعيته السياسية، ثم قبولها بالنظام العسكري وممارسته الدموية حتى فات أوان التصحيح. وساعدته أيضا حالة الإرهاب والخشية من مصير التفكك الحاصل بالإقليم – تلك الحالة التي نفخ فيها الإخوان بمسارهم الكارثي مابعد فقدهم السلطة وأعطوا لها غطاء أخلاقيا حتى بعد إفلاس حراكهم على الأرض، وحال الكفر بالسياسة عند الشعب المصري والزهد بكل عناوين المثال السياسي التي رفعتها وامتهتنها كل الأطراف (سواء الثورة والديمقراطية، أو المقاربة الإسلامية أو الوطنية) – فضلا عن مناخ البطش الذي يمارسه النظام وأدواته الأمنية، وإفقاره المتعمد للشعب، وإفقاده الحق في عيش كريم، فلا تبقى له بقيةُ أمل أو رغبة في انتظار الغد!
في هذا النظام يقف رأسه متفردا وحائزا على مصادر القوة السياسية – على الأقل نظريا – دون مقدرة حقيقية على إدارتها، ومعه مؤسسة عسكرية توسع بشدة دورها المدني وتحولت لجابٍ اقتصادي ضخم استنادا لاحتكارها سلسلة المشروعات الإعمارية الضخمة التي يتوهم النظام أنها تمثل أساسا لبناء مشروعية تنمية، ومؤسسة أمنية تصارع لتوسعة نفوذها في دائرة النظام وإدارة حياة سياسية مُزيّفة والإعلام عبر سياسة مبكرة من توتير الأجواء وتصعيد الاحتقان عبر البطش واستهداف كل المعارضين وسلوك استئصالي في الإعلام وجهاز الدولة.
ونتيجة لكل هذا الخلل في بنية النظام وسياساته فهناك فشل وظيفي عارم في كل الملفات – سواء كانت طارئة كمكافحة الإرهاب وأزمة المياه، أو مزمنة زادها سلوك النظام حرجا: كالأزمة الاقتصادية، وانهيار البنية التحتية للدولة في الصحة والتعليم والخدمات، وكارثة الأمن القومي التي بدأت مابعد 1975 وتبعها انهيار الدور الوجودي بالإقليم وتكريس التبعية للأمريكي (التي زادت عليها التبعية للخليجي، والالتصاق أكثر بالإسرائيلي).. عدا ربما نقاط إيجابية محدودة (كمحاولات خجولة مبدئية لتنويع السلاح والاتجاه شرقا لغرض ابتزاز إدارة أوباما، ولكن دون استراتيجية دفاعية وخارجية واضحة، وعدم الانجرار لأخر الخط خلف الخليجي في ملفات سوريا واليمن ولبنان).
وأقسى مايحز في النفس من آثار النظام الذي انتحل شرعية تقوم على حماية الدولة، هو حجم الخراب الذي أحدثه وسيخلفه وراءه في بنيتها حين تنقشع غمامته الجاثمة على صدر الوطن لامحالة: الانحسار في الشرعية السياسية والاجتماعية للجيش المصري عند قطاع من المصريين؛ تلك الشرعية التي أحاطت بالجيش حتى في أحلك الفترات بعد نكسة يونيو فانتفض بين عشية وضحاها موفور الإرادة، وتخريب الشرعية السياسية للقضاء القائمة على الاستقلال والاطمئنان الشعبي لمنظومة العدالة والتي ميزت الدولة المصرية، فضلا عن فاتورة دم وعريضة ثارات هائلة… تلك الكوارث التي ستتحمل معالجة آثارها الأجيال المُقبلة لعقود بكل أسف.
وهناك سيناريوهات متعددة لتطور النظام المصري ومآلاته:
- استمراره في حالة الفشل الوظيفي الأمني والاقتصادي والجيوسياسي مع تفاقم هذا الفشل (وهذا الأرجح دون تطور حراك سياسي مواجه).
- غياب الرأس لأي سبب كان، وتطوع المؤسسة العسكرية سريعا ببديل ماقبل الوصول لمرحلة تهديد أمني واسع.
- انفجار شعبي (محدود أو واسع) تبعا لانهيار مفاجيء في الوضع الاقتصادي – وبشكل أقل – المائي، مع ماقد يصاحب ذلك من إشكال أمني بدرجات مختلفة.
- تنازل ذاتي جزئي من قِبَل النظام في فتح باب المشاركة السياسية تحت فشل السياسات خصوصا في الملفات الحيوية.
- حصول تطور سياسي مواجه تنضج فيه القوى السياسية لتقديم بديل حقيقي، وتنخرط في مسار يُزاوج بين عمل إصلاحي فيه تدافع على المساحات لغايات مرحلية، والعمل الاحتجاجي المنضبط – مع إتقان توزيع الأدوار للوصول لتنازلات تدريجية من قِبَل النظام في فتح أبواب الفعل السياسي، أو تطوير القدرة على صنع أو إدارة فورات التغيير.
في كل هذه السيناريوهات تبقى الحلقة المفقودة للدفع الإيجابي في السيناريو الأخير وتخليق شروطه، أو التعامل الرشيد مع السيناريوهات الأخرى لتحسين المنتوج – مرتكزة على تطوير نخبة ومشروع سياسي جديد.
أسوأ مايمكن التفكير فيه الآن أن نكرر نفس محاولات العودة لمكونات المشهد لننسج منها خيطا متصلا في بناء معارضة وجبهة ما.. فهي غير مستعدة نفسيا ولا أخلاقيا ولا قدراتيا، ولا من تحكمات تنظيمية داخلية ومراكز قوى وانتفاع، وداعمين من حكومات أجنبية إقليمية، ولا من حيث استحقاق الشرعية التارخية والقيادية – أن تُحدث مراجعات، فما بالك بتخليق رؤية أو بناء جبهات، أو تفصيل استراتيجيات مواجهة، أو حتى تتفق على ماهية الدولة وأساس الديمقراطية داخلها ووضوح انحيازها للعدل الاجتماعي والتحرر الوطني على سبيل التفصيل – لا الشعار. والأخطر هو تلوّث جلّ القوى والرموز بالاصطفاف مُبكرا مع هذا الطرف أو ذاك:
– طرف النظام الذي يحمل المسئولية السياسية والجنائية عن فاتورة دم مُرعبة ومجازر لم تشهدها بلدنا في العصر الحديث، وصنع مظلومية كانت سببا رئيسا خلف ظاهرة الإرهاب الذي فشل في محاربته بعد ذلك، مع كونه نظام بطش وإفقار وتجهيل وتبعية، وإهدار للاستقلال الوطني والقضية القومية، وتحالف مع العدو التاريخي لأمتنا ووطننا،
– أو الطرف المُضاد له (تحالف الإخوان) والمُشترك مع في نصاب الدم، والذي طرح مُبكرا خطابا وممارسة ساقطة أخلاقيا ووطنيا – واستراتيجيا – في طلب التدخل الأجنبي ومحاولة شق الجيش وغلبة خطاب التكفير والتضحية بالآلاف لأجل استعادة سلطة موهومة فقدت شرعيتها السياسية قبل الواقعية، وميّع محاربة الإرهاب بالاتهام الساقط للنظام بالمسئولية التنفيذية عنه – وليست السياسية كما هو واقع الحال، ثم قدّم خطابا أخلاقيا وشرعيا بائسا مشرعنا لبعض صوره، فضلا عن انخراط أطراف منه في ممارسته فعليا، وقدّم في كل مساره ذرائع التغوّل العسكري والأمني للنظام.
البديل السياسي الحقيقي، وهو في الحقيقة ليس مجرد بديل عن وضع قائم، ولكن تكوين ماعجز حراك يناير أن يُخلّقه ابتداء من حركة وطنية، قادرة ومستقيمة، وروافد للتحول السياسي والاجتماعي. هو يحتاج نظريا لأفكار ورؤى، وقيادات شابة جديدة، وتكوين كوادر، وعلاقات تجميعية ناضجة بين القوى والتيارات المتلائمة مع النسق الديمقراطي والأخلاقي (وهذا يُخرج الإخوان كتنظيم، وليس كحالة شبابية واجتماعية، و المؤمنين بالعنف المسلح، و الموالين سياسيا للمؤسسة العسكرية من القائمة)، وطرح برامج واشتباك على مساحات، ونزول للوضع الشعبي بتطوير وسائل لاستمالة الحاضنة الشعبية عبر سياسات بديلة وتعرية تلك الخاصة بالنظام، وتطوير القدرة التنظيمية للقوى السياسية وخبرتها الفنية، والظهور كقدر مُعاكس ومنجاة أمام إفلاسات النظام المتوالية.
كل جوانب عملية صنع البديل تلك لايكون محلها المكاتب وبمجرد التنظير (حتى مع أهمية نضج الرؤية النظرية فيها)، ولكن بالاشتباك مع ملفات عملية يتراكم أثرها بشكل تدريجي ومنظم تساعد في تخليق كل ماسبق.. مع الاستفادة مع تصاعد الاحتقان والوعي الشعبي ضد النظام والذي لايُمكن للأخير أن يتفلت من إنضاج عناصره لخلله البنيوي.
ومع ضرورة سلامة التشخيص السياسي وتصورا مبدئيا لسيناريوهات المشهد والفكرة العامة للحراك السياسي المنشود، فمع عمق الإشكال وجذرية الدور البنائي في صنع بديل سياسي بمصر، هل هناك موضع لأي تفكير استراتيجي؟ علما بأن أي استراتيجية لاتُصنع في الفراغ، ولكن لقوى سياسية بعينها بموارد حاضرة أو يمكن تخيّل توفيرها – بشكل موضوعي – في أفق مرحلي منظور، ولبيئة سياسية وظروف محلية وإقليمية ودولية يُمكننا تخيل تدافعها ضمن سيناريوهات متعددة؟
أعتقد أنه من الممكن التفكير استراتيجيا عند توفر طليعة سياسية شابة للمشروع السياسي المصري. وإن كان ثمة من خير تسعى إليه القوى والأفراد والأجيال الأسن التي لايزال في داخلها شيء من وهج الضمير الوطني فهو أن تتداعى لتوفير السبل الموضوعية والفكرية واللوجستية لتكوين تلك الطليعة والتي يُمكن إكسابها القدرة على إدارة ملفات البناء الجبهوي والمشاريعي، وصياغة وتطبيق استراتيجيات الحراك السياسي. هذه الطليعة خميرتها حاضرة بلاشك في مصر وخارجها، وإن أنهكتها التجارب القاسية التي مرت بها السبع سنين الماضية.. هي لاتزال تملك بقية من حلم التغيير، وإن غلبته مرارات وجفلة. هي بطبيعتها متحررة من أسر الأيديولوجيا والتنظيمات لرحابة الوطن، دون أن يعني هذا بالضرورة إلغاء الخصوصيات، ولكنها تدرك ضرورة التوحد الفكري والاستراتيجي في مرحلة التغيير السياسي وبناء الدولة من ناحية، وحاجة كل التيارات الأساسية (إسلامية وقومية وليبرالية ويسارية) إلى تجديدات بنيوية بحكم تقادمها الزمني عن ضرورات تغيير الواقع والسنن، وبنقائصها التي استفتحت بها في ذات الوقت.
هذه الطليعة تدرك قيمة المثال الأخلاقي، وانتصابها نموذجا له فتتعفف عما يُمكن اعتباره شيئا طبيعيا في طموحات التنافس السياسي وحيازة السلطة في الأوضاع العادية، فضلا عن الكوارث في الأخلاقية السياسية كالمتاجرة بقضايا الثورة والدين والوطن، أو الاتصال بحكومات أجنبية والاعتياش عليها !، أو الانضواء سياسيا تحت نظام البطش والدفاع عنه.
ومع توفر قدر معقول من هذه الخميرة الوطنية الأساسية، والتي تحتاج بشك لقدر من التأهيل الفكري والسياسي والاستراتيجي، والدعم اللوجستي والتنظيمي، وأن يتم رفدها بشبكات تخصصية في الملفات الوظيفية الأساسية في الاقتصاد والحوكمة وسياسات التنمية والتعليم والصحة والدفاع والأمن والسياسة الخارجية، يصبح حينها للحديث التفصيلي عن الاستراتيجيات المُمكنة والمُرجحة معنى وقيمة!
ومع ذلك – فبالنظر لمجمل عناصر المشهد السياسي ومايحمله من خصائص وسلوك وقدرات، واستشراف السيناريوهات، فإن ثلاثة مراحل استراتيجية متعاقبة للحراك السياسي المُعارض بمصر يُمكننا تخيلها:
المرحلة الأولى (التمهيد وبناء المتطلبات والأدوات).. وهي تتحرك في ثلاثة خطوط:
1- التشبيك والتواصل، والتأهيل، وإنضاج المقدمات المعرفية والفنية والتسهيلات الاجتماعية للشرائح الشابة،
2- حركة المراجعات الجذرية في التيارات الأساسية، بما يقتضي التواصل مع المنابر الفكرية والأطروحات التجديدة الحاضرة، ومراجعة المسارات السابقة واستخلاص الدروس والاستعداد النفسي للنقد والتصحيح، وصولا بعد ذلك – وليس قبله – لإدارة حوار مشترك للوصول لأساسيات المشروع الوطني المصري بالمعنى السياسي والعقد الاجتماعي.
3- تطوير شبكات الدعم التخصصي الذي يرفد حركة المعارضة المصرية بشكل متراكم ومُعمق مع الوقت.. وبالنظر لحال الخبرة المصرية المُهاجرة بالأخص في الغرب، فإن قواعدها شديدة الحضور في كل الملفات مع بعض الضعف في جانب الدفاع والأمن، ولكن ينقصها فقط التشبيك واستعادة الثقة في العنوان السياسي.
المرحلة الثانية (بناء الأطر الجبهوية، وتطوير الاستراتيجيات المرحلية)..
1- بعد حصول مراجعات حقيقية، يمكن السعي لصيغة مبدئية تجميعية للأساسيات الفكرية والسياسية للمشروع الوطني، وفكرة الدولة وانحيازاتها المركزية. وبلا شك، الثقة المهدرة بين التيارات الأساسية تحتاج لمجهودات متنوعة وفي مساحات مختلفة، لأن أساس إنهيارها ليس فقط عدم سلامة الانحياز الوطني ووضوحه عند القوى، ولكن الميراث السابق البغيض من الممارسة، والذي لايمكن تجاوزه بدون مراجعة جذرية واعتذار ومصالحة وتجديد.
2- بعد ذلك فقط، يمكن النقاش والتوافق على التصور الاستراتيجي المرحلي، ومايقتضيه من أشكال تنظيمية مؤقتة لإدارته. وإنشاء إطار جبهوي للحركة السياسية هو هدف مرحلي مُهم السعي إليه، ولكن لاينبغي القفز له، لأن له مقتضيات لابد من توفيرها أولا، ولأن حالة من التشوّف الشعبي والمناسبة السياسية لابد من وجودها.. ولكن الشروع في تلك الأطر التنظيمية المؤقتة مناسب لطبيعة التوظيف الاستراتيجي للحملات السياسية سواء إصلاحية (كتدافع على مساحات ضمن انتخابات)، أو احتجاجية (تبعا لموقف، أو قضية اجتماعية ومهنية).
3- بوضوح، التصور الاستراتيجي هنا، هو الاستفادة من خطوط الحوادث، وتعمّق الإفلاس الوظيفي للنظام، دون تشفٍ أو سلوك انتهازي أو طرح غير موضوعي وعلمي،ويقتضي طرح سياسات بديلة، والالتحام المحسوب (دون لغة تثويرية) مع حركة الشارع بحيث لاتتقدم عليها (إلا قليلا)، ويُستفاد من التوظيف لتلك الحراكات في تحقيق أهداف مرحلية محددة: (تطوير البنى التنظيمية السياسية، استعادة الثقة المتبادلة بين التيارات، اجتذاب الحالة الشبابية من حالة الإحباط والانسحاب أو التفكير التصفوي، إنضاج الطرح السياسي البديل والتواصل به شعبيا، استعادة موضوعية وأخلاقية المعارضة المصرية).
4- مع التراكم الإيجابي لكل ماسبق، يمكن فقط الشروع في تدشين الإطار الجبهوي الدائم بشرط عدم تبعيته أو تواصله مع قوة خارجية أو الإخوان (كتنظيم). وفي سياق مختلف، فإن ملف التهدئة بين النظام والإخوان، يبقى نظريا ملفا هاما ومساندا للحركة السياسية خصوصا في مراحلها الأولى والوسيطة، لأنه يسمح بغياب الفزاعة للنظام، وتخفيف المعاناة الإنسانية لآلاف الأسر بما له من قيمة أخلاقية بحد ذاته، وأيضا يُخفف من منسوب التوتر الذي يقود لوضع تعويقي عن طريق دائرة العنف المسلح وبطش النظام.. ولكن موضوعيا لايمكن التقدم فيه دون مراجعات حقيقية للإخوان، ليس عندهم استعداد ومقومات لعملها، وأيضا قلة احتياج النظام له بفعل التهدئة التي قام بها الإخوان ذاتيا دون مقابل حين وصلوا لمرحلة الإفلاس في مسار كان محكوما بفشله منذ البدء..
المرحلة الثالثة (التفعيل والحراك والبعث):
الأثر الاستراتيجي الذي ينبغي أن تتحرك له كل الخطوط العملانية في تلك المرحلة هو (بديل سياسي، يحوز على قاعدة شعبية، وقوة ضغط) قادرة على تفعيل مسارات متداخلة:
أ. انتزاع مساحات للحركة من النظام عبر التدافع معه داخل أطره، وتحوير تدريجي في سياسته الداخلية.
ب. إدارة تصاعد غضب شعبي، أو فراغ واضطراب مفاجيء في ميزان السلطة للتفاوض واستعادة المسار السياسي.
ختاما، يظهر هذا التصور المقتضب محورية الجهود البنائية والتصحيحة في مسار الحركة السياسية المُعارضة، بعد مسار مُهلك اكتوى منه الجميع، وضاعت الفرصة التاريخية لتغيير ديمقراطي حقيقي كان قادرا على تغيير وجه المنطقة دون مبالغة.. ولهذا – فأي دعوات حالية من هذا الطرف أو ذلك، للتضافر من أجل تشكيل جبهة أو حراك على الأرض ستنتهي كما انتهت أسلافها، بافتراض سلامة نوايا المشاركين، وهذا فيه نظر للأسف الشديد بسبب خفوت حس الضمير الوطني عند قطاعات انخرطت في مسارات ساقطة وطنيا وأخلاقيا دون مراجعة واعتذار أوتصحيح، وتلوثت بالاعتماد سياسيا وماليا على الأجنبي، ولا تزال! ولايمكن تصور التقدم خطوة للأمام في مسار البعث السياسي لوطننا دون معالجة تلك المشكلات البنيوية، وتخليق نخبة وحالة سياسية جديدة تنتزع استحقاقا الثقة الشعبية فيها وفي سؤال السياسة وجدوى الحلم مرة أخرى.
ذات صلة:
ملاحظات حول المراجعات، والحراك الوطني
مراجعة للتطور السياسي المصري مابعد ثورة يناير، ومنطق الحركة استراتيجيا
كيف ننطلق من الرؤية الاستراتيجية لموضعة دورنا الفردي؟
3 تعليقات