فكر استراتيجيمقالات منوعة

حوارات في الاستراتيجية 1: الثقافة الاستراتيجية، والانقلابات العسكرية

الامتنان الوافر للصديق العزيز مصعب على تفريغ وتهذيب هذه الحوارات..

حول الثقافة الاستراتيجية

https://www.rand.org/pubs/research_briefs/RB10040.html?utm_campaign=&utm_content=1568844249&utm_medium=rand_social&utm_source=twitter

في هذا التقرير لراند لفت انتباهي ذكرهم أن الخبرة الاستراتيجية التي يكتسبها القادة والضباط الذين خاضوا الحرب ووقفوا على مواطن الخلل تذهب هذه الخبرة بذهاب التجربة وجيلها، فهل هذا الكلام يتعارض مع ما ذكره كولن جراي حول الثقافة الاستراتيجية إذ تقرير راند يوحي بعدم  وجود ثقافة أو عدم إمكانية تراكمها؟

 

أولا: من الجيد ما ذكره التقرير حول التدفق والانحسار للعامل المعنوي في الحروب المختلفة وهذا منطقي ففي الحروب الشاملة أو الضخمة سنجد زيادة هذا العامل على عكس الحروب الصغيرة وبشكل عام فمن أفضل الأمور التي طرحها كلاوزفيتس البعد البشري في الحرب وهو كقائد مهزوم لامس هذا العنصر بشكل مباشر وعنيف على إثر النكبات التي ألحقها بهم نابليون.

ثانيا: بالنسبة لمسألة الثقافة الاستراتيجية (بمعنى الفرضيات المستقرة التي توجّه وتؤثر في قراءة الواقع الاستراتيجي وتقييمه، وصنع الخيارات على مستوى الاستراتيجية الشاملة والعسكرية.. نزولا لمستويات العمليات والتكتيك ونسميها هنا الثقافة العسكرية)  فهي بالتأكيد ظاهرة موجودة ولكن ليس بشكل خطي ولا بنسب متساوية، فليس كل خبرة تتحول لمركب ثقافي، وليس كل ثقافة يتم انتشارها بين عناصر المؤسسة الواحدة بذات الدرجة فهذه النقطة الأولى،

والثانية وهي الأهم أننا لو افترضنا حدوث عملية الانتشار والاكتساب الواسع لهذه الثقافة فلن نجدها بالضرورة مترجمة كعقيدة أو منهج قتالي بحيث تتوارثها الأجيال المستجدة في المؤسسة...الثقافة الاستراتيجية شيء عام جدا وفضفاض، صحيح أن لها تأثير ولكن .بشكل متغير للغاية وأحيانا كذلك نجد لدينا ثقافة استراتيجية خاطئة

مثال على ذلك حالة الإسرائيلي في حربي 67 و73 حيث سنجد أن الدروس والخبرات مثل النجاح القوي لفرقة شارون والتي هدمت أكثر المواقع تحصينا في أم القطيف في 67 قابلتها خسائر كبيرة لفرقة تال في شمال سيناء بسبب اعتماد الأول على الأسلحة المشتركة بينما كان تركيز تال مقتصر على الدبابات، فهذا الدرس وكثير من الدروس لم يتم الاستفادة منها بالشكل الأمثل وذلك لعدم وجود نظام لأجل استخلاص هذه الدروس وتعميمها وبسبب وجود درجة كبيرة من اللامركزيةـ فضلا عن هيستريا الانتصار – بل تم استخلاص درس معكوس وهو حاكمية الدبابات فتحولت الفرق الضاربة لقوات دبابات خالصة، ماسُمي بعد ذلك ب!
Tankmania

.. ولكن هذا الوضع تغير كثيرا تحت وطأة الكارثة العسكرية في النصف الأول بحرب 73، وحاول الإسرائيلي بالفعل تصحيح هذه الأخطاء بوسائل تقنية أو تعديل في الفن العسكري والتشكيلات، ونجح في أمور وتعثر في أخرى، وإن كان لولا تدهور الوضع العسكري المقابل ماكان له أن يتقدم كتقييم عام.. هناك دراسة جيدة في هذا الشأن لاستراتيجي إسرائيلي

On Flexibility: Recovery from Technological and Doctrinal Surprise on the Battlefield.. Meir Finkel  

ثالثا: عودة للنقطة الأولى في التقرير والتي تتعلق بالعوامل المعنوية من المهم أن نحاول البحث عن أسباب وجود انتباه لهذا الجانب في المناهج أو العقائد القتالية التي تعقب الخبرة في حرب ما ثم اختفاؤها من المناهج الخاصة بالأجيال اللاحقة؟ هذه الظاهرة تعرف بفقدان الذاكرة المؤسساتي

Institutional amnesia

وهي مسألة واضحة عند الأمريكي فيما يتعلق باستراتيجية وفن عمليات مكافحة التمرد عموما،  ففي حرب فيتنام مثلا لم يتم الاستفادة من التجربة بل لك أن تتخيل أن الشعور بالعار لدي المؤسسة العسكرية منعها من الجلوس والتوقف على أسباب ما حدث وعزز لك الصراع -كصراع نظامي ونووي – مع السوفيتي في الحرب الباردة بحيث كان التطور العقائدي مقتصر على الفن العملياتي والتطور الحاصل حياله في أواخر السبعينات، ثم بعد عدة عقود وحدوث أزمة العراق وصدور دليل بتراوس لمكافحة التمرد بدأ استدعاء تجربة فيتنام مجددا….

قطعا هناك ثقافة استراتيجية لكن هي متغيرة أو متقلبة وكذلك ليست صحيحة دائما وهناك عوامل كثيرة تسبب ذلك لكن قد نتناقش حولها لاحقا ولذلك من أسخف الاتجاهات في الثقافة الاستراتيجية ما يُسمى بالمدرسة التحكمية والتي تضع  التصرفات أو القرارات الاستراتيجية للمؤسسة مع الثقافة في معادلات جبرية، وهذه تتغافل عن التعقيد الكبير في اتخاذ القرار الاستراتيجي، ليس من منطلق تنازع المؤسسات وتكاملها في صياغته فقط، ولكن تعدد العوامل الفكرية والفرضيات الاستراتيجية والمصلحية والشخصية خلف أي قرار! لايمكنك ببساطة أن ترد قرارا استراتيجي ما لمركب محدد في الثقافة الاستراتيجية السائدة وطنيا أو مؤسسيا. فضلا عن وجود تناقض يحصل أحيانا بين المركبات الثقافية ذاتها.

وهناك تضخم كبير في الأدبيات الخاصة بالثقافة الاستراتيجية خصوصا مع التسعينات، مايُسمى بال 

Cultural Turn

,والقليل منها يخلو فعلا من تلك الأمراض المنهجية في الاختزال والتحكمية والأحادية والتحيز والتثبيت.. مثلا حديثنا السابق عن دراسة بولاك عن الأداء العسكري العربي ورده للمشكلات التكتيكية – في تغافل واضح أن المشكلة التكتيكية إذا تعممت تتحول فورا لاستراتيجية وخلل في البناء الدفاعي – ثم تعسُّفه في رده ذلك للخصائص الثقافية التي تعلي من شأن النزعة القبلية والتشككية – في تغافل عن كل التحفظات المنهجية السابقة – مما يهدم المتطلب الثقافي والاجتماعي للحرب المشتركة على المستوى التكتيكي.

Arabs at War: Military Effectiveness, 1948-1991, Pollack

وهناك دراسة لباحثة أمريكية ومستشارة بالبنتاجون، مثيرة للاستهجان بشدة لتحكميتها الشديدة حين ربطت بين السلوك الاستراتيجي والعسكري الباكستاني وعنصر التعصب الديني.

والحقيقة، كانت تعرض دراستها مرة في معهد القوات المشتركة بلندن وأنا عضو فيه، تقريبا عام 2014، واشتبكت معها كثيرا حول منهجيتها وخلاصاتها.. ثم استكملنا خناقتنا بعد ما انتهت الندوة على رصيف المعهد، والشيء الطريف – نقطة جانبية هنا- أني قلت لها أنت متحيزة نحو سياسة معينة (قطع التحالف العسكري الأمريكي مع باكستان)، ولهذا فحوّرتي الكثير من منهج البحث وخلاصاته لتخدم هذا الغرض.. أنتِ 

Partisan!

فأجابت بكل سخف، طبعا أنا بارتيسان! لأني أخدم مصلحة بلدي..

رددت عليها/، هذه سقطة أكاديمية كبيرة، وحتى لاتخدمين مصلحة بلدك! اولا، طبعا نحن متحيزون لأوطان أو أيديولوجيا، ومن الصواب أن نكشف ذلك بوضوح في مستهل دراساتنا لنسهل على القاريء تقييم مدى موضوعية مانطرح، ولكن هذا في الغايات ولكن ينبغي أن نواجه ذلك ونقلصه في مناهج البحث وتقييم الواقع والسياسات ونتائجه، وليس أن نفتخر به! ثم المصلحة الوطنية أن تضعي لبلدك تقييما موضوعيا عن الظواهر وبهذا تُصنع السياسات بشكل رشيد، وليس أن تنقلي واقعا مشوها لتخدمي سياسة محددة سلفا! وبالمناسبة، أنا متفق معك في السياسة التي تسعين لها بأن تترك أمريكا باكستان وشأنها (وبالمرة كل بلادنا!) ولكن هذا لايجعلني أشوّه ميزاني التقييمي والبحثي وأسايرك.

 

رابعا: الثقافة الاستراتيجية ليست صيغا تعبيرية محددة.. فالمناهج القتالية لا تعادل الثقافة الاستراتيجية بل هي أحد الوسائط لتعليم ونقل والتعبير عن الثقافة الاستراتيجية

هل يمكننا القول أن الثقافة الاستراتيجية تختلف عن الدروس العسكرية المستفادة؟ فحتى لو اقتصر الكلام على جيل واحد وكان هناك نظاما لتعلم ونشر الدروس العسكرية إلا أن الثقافة الاستراتيجية تتشكل بعوامل أخرى مثل الأحداث الدولية المحيطة و الثقافة المجتمعية ككل فأفراد المؤسسة العسكرية هم جزء من مجتمعاتهم وبيئاتهم

طبعا الثقافة الاستراتيجية ليس مجرد الدروس العسكرية وكما أشرت سابقا فهناك مدارس سيئة للغاية في تناول هذه الظاهرة مثل التوجه الاختزالي الذي يختصر الثقافة الاستراتيجية لبعض المواضيع البسيطة وكذلك التوجه التحكمي وغيرها،

 والبريطاني خاصة كان لديه اعتراضات على هذه التعبيرات ولذا تجد أن أول منهج قتالي بريطاني تم كتابته في الثمانينات وكان الميل الأكثر هو إيجاد نوع من المزاج العام

ethos

داخل المؤسسة أكثر من وضع روشتات وقواعد عمل صلبة، لتجنب أن تتحول المؤسسات والتطبيق لدوجما

 أخيرا ما يفرق بين الدروس العسكرية وبين تحولها لثقافة استراتيجية هو عامل الوقت المطلوب لهضم واستيعاب هذه الدروس والقدرة على تطبيق الخلاصات في تجارب حرب، واستنباتها كعقيدة مؤسسية..  فكل هذا يُحتِّم الوقت وبشكل عام هناك فصل خاص بالثقافة الاستراتيجية والأبعاد أو البيئات الاستراتيجية كنت قد حذفته من رسالة الدكتوراة خاصتي بسبب مراعاة الحجم، أحيلك عليه..

https://drive.google.com/open?id=1waIgM-WsdpVMqop3ST_UnmQZlQXxYb_i

الانقلابات العسكرية في الجيوش الحديثة

 

دكتور ما هو تعليق حضرتك على هذا الكلام:

لجيوش الحديثة الضخمة مع تطورها أصبح من غير الممكن فيها حدوث انقلاب غير مركزي، يعني كان زمان ممكن مجموعة قيادات وسيطة تستخدم بعض التشكيلات الخاضعة لإمرتها وتحركها للسيطرة على بعض المواقع المهمة. ده كان ممكن أيام ما كان الجيش كله 4 فرق أو لواءات ضخمة، فسيطرتك على القوة الضاربة ل3 منها يعني سيطرتك على الجيش، خاصة مع صعوبة الاتصال وبطء المعلومات في ذلك الوقت الي ممكن يخلي العسكري والضابط الصغير يفضل مقتنع إن تحركه ده ضمن حركة منظمة للمؤسسة حتى لو القصة كلها سيطرة ضابط كبير في كتيبته.

الانقلابات الحديثة أصبح من الضروري أن تتم على مستوى مركزي لأن الجيش نفسه متضخم سواء على مستوى القوة البشرية أو على مستوى تعدد وتنوع الأفرع والأسلحة والانتشار، علاوة على إن تضخم الدولة ككل وتعقد العلاقات الدولية جعل من الضروري أن تقبل باقي المؤسسات بالخضوع للانقلاب والإقرار بشرعيته، وده غير ممكن إلا لو فيه ثقة كاملة في أن الجيش على قلب رجل واحد في الانقلاب الجديد.

فلو مش القيادة المركزية كاملة أو بأغلبية مريحة ومع سيطرة فعلية مباشرة على الأفرع والقيادات الوسيطة ليس لديها قرار حازم مش يحصل حاجة، وده عشان يحصل لازم له مبرر مدني تماما.

من المهم في إطار تحليلك للأحداث الجزئية إن يكون خيالك السياسي العام متطور بما فيه الكفاية لاستيعاب المحددات الأساسية.. العامة للمشهد، حتى لا تتفاعل مع كل معلومة أو تسريب أو شائعة)

الانقلاب كي يحدث يلزمه دوافع ومهيئات داخل الجيش، ظروف داخلية بالجيش تسمح بالتجنيد والتأطير وفق عريضة احتقان واضحة، وتحريك القطاعات بشكل جزئي أو كلي، والأهم: ظروف سياسية واجتماعية مساندة .. ليس فقط لزيادة معدل الاحتقان و ترسيخ شرعية التدخل العسكري ورفع موازين القوى للتدخل وتقليل الممانعة ضده، ولكن أيضا تسيّس طبقة الضباط واستعلائها العسكري كطبقة متمايزة عن المجتمع أو منخرطة عضويا بأحد قطاعاته ذات أيديولوجيا أو مطلب سياسي نشط.

وهناك نوعان من الكتابات في هذا الشان، أحدها يتحدث عن السياق الخبراتي والفني والتهيؤي لحصول تلك الظاهرة (دراسة ليتواك الشهيرة)، ولكن الأغلب هي في باب الاجتماع العسكري والعلاقات المدنية العسكرية) كدراسة سام فاينر، والدراسة الحديثة لريبيكا شيف حول نظرية الامتزاج

Concordance 

لو نحكي عن العنصر الأول، تحديث الجيوش وتضخمها واحترافيتها قد يساعد او يقلل بحد ذاته من الأمر (خلاف شهير بين هنتجنتون وجانويتز). في رأيي انها تساند الانقلاب الا لو صحبها تطوير في العقيدة المؤسسية والتأهيل السياسي والاجتماعي للمخزون الشعبي الذي تأتي منه طبقة الضباط ينحاز لدمقرطة وضعية الجيش في المجال السياسي..

العنصر الثاني مركزية الجيوش بالتأكيد يساند مبدئيا تحجيم الانقلاب، لأن تعقد وتعدد المفاصل القيادية والتكوينات العسكرية يسمح بالعكس بإمكانية الشذوذ والتمرد.

 في المقابل، الأنظمة والمؤسسات تعلمت مع الوقت كيفية التقليل من ذلك، واستخدام عنصر الضخامة والتعقيد لتحجيم الانقلاب.

وهذا قد يحصل حتى بوسائل ديمقراطية، ..

مثلا خطوط القيادة المتوازية، والهيمنة المدنية على الرأس والمفاصل، والتشكيلات العسكرية وشبه العسكرية المتعددة، وتقليل حالة الطبقية او الصفوة العسكرية، ومنع ممارسة السياسة مع الاحتفاظ بحق المواطنة في الاختيار السياسي.  

أو وسائل غير ديمقراطية وضد الفن العسكري مثل القبضة الأمنية الخانقة داخليا، المعاش المبكر لما بعد مقدم الا باختيار أمني معقد، المركزية المفرطة في بنية الجيش (هذا في الجيوش الشرقية وهذا يقتل بشكل كبير مساحات المناورة والمبادأة التي تقتضيها الحرب الحديثة عملياتيا وتكتيكيا)، التسيس ضمن عقيدة النظام، الفصل الكامل بين الأسلحة المشتركة الا على مستوى قيادة الجيش (ويضعف بشكل كبير مقتضيات الحرب المشتركة على المستويين العملياتي والتكتيكي). وبين التشكيلات العسكرية والذخائر واللوجستيك، وهكذا.  

الخلاصة. الكلام فيه تبسيط  لظاهرة معقدة فيها عوامل مختلفة قد تقود لهذا او ذاك، ولكن الأغلب فعلا. كناحية استقرائية هو اتجاه الواقع نحو قلة الانقلابات، ولكن ليس بسبب تضخم الجيش الحديث، بالعكس،  ..هذا حين حصل في دول ما بعد الاستعمار في الستينات، كان العصر الذهبي للانقلابات (دراسة سام فاينر الشهيرة حينها)، حتى حصلت كل العوامل المهيئة والضابطة بالأعلى مع الوقت و تعلمت الأنظمة وتبنت أدوات التحجيم وبالطبع تغيرت السياقات الاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية (مسألة عدم الاعتراف بالانقلابات مثلا اقليميا ودوليا)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى