قراءات استراتيجية

تحليل مخاطر الأمن القومي

20-10-2016

دراسة جيدة عن منهجية واستراتيجية الأمن القومي، طلب رأيي فيها أحد الأصدقاء

http://strategicvisions.ecssr. com/ECSSR/ECSSR_DOCDATA_PRO_ EN/Resources/PDF/Rua_ Strategia/Rua-Issue-11/rua11_ 8.pdf

اطلعت على الورقة، وهي جيدة فعلا .. ووجه جودتها الأهم أنها قربت بعض مفاهيم الأمن القومي وطرق قياس مخاطره للعربية.
تقييمها التفصيلي ومدى الاستفادة الفعلية في المنهجية التي تطرحها عليه بعض الملاحظات:
– الملاحظة الأولى أن منطق تحليل المخاطر اعتمادا على عنصري حجم الخطر والاحتمالية (المنطق المتبع غربيا وليس فقط بريطانيا) يبقى هو الأهم.. بقية العناصر التي استحدثتها الدراسة هي في مضمون (تأثير الخطر أمور:كالمصدر، والتفاعلات، وتأثير البيئة الخارجية،والمنعة ضده وتقليل آثاره (وإن كان تفصيلها مفيد).
—————————-
الملاحظة الثانية (والأهم) أن المشكلة التي لمستها الدراسة في جانبها وحاولت علاجها – ببساطة لايمكن علاجها!
تعقيد عملية تحليل المخاطر وصعوبتها والنسبية الشديدة في آراء المتخصصين وعدم اليقين في خلاصاتها – تبقى مسألة لازمة في صنع الاستراتيجية والتخطيط الأمني والدفاعي..
صحيح أن تطوير القابليات (عبر التعليم)والمؤسسات التي تيح رؤى نقدية وتفكير جمعي وتبادلي،والمناهج-تفيد في تقليل بعض مكامن الإشكال والغموض – ولكن لاتنهيها، ولاحتى تقللها للنصف!
إذن ما الحل؟
في تقديري عبر 3 أمور في غاية الخطورة:
الأول) هو في اعتياد صناع الاستراتيجية فكريا ونفسيا على العيش في بيئة الغموض.. بهذا يمكن تطوير القابلية القيادية لتلمس مكامن المفاجأة والتعامل السريع تبعا لها. حقيقة الأمر – أهم المخاطر الحاصلة طيلة القرن الفائت مثلا لم يمكن التنبؤ بها، أو بكل المؤشرات الخاصة بها، ولكن مافرق في سلوك بريطانيا في الحرب الأولى، وبريطانيا وأمريكا في الحرب الثانية، أو سلبيا في سلوك أمريكا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أو بعد 11 سبتمبر.. كانت هذه النقطة (القدرة القيادية على الاستجابة السريعة والفاعلة لمساحة الخطر).
المشكلة أن الإلحاح الشديد على (نجاعة) أي منهجية لتحليل المخاطر – تقلل كثيرا من النقطة السابقة وتعطي إحساسا زائفا بالأمن والإحاطة.
الثاني) وهو مندرج تحت الأول ولكن أوسع لأنه يشمل قدرات الدولة، وهو مايُعرف بالاستجابة للمخاطر على مستوى الدولة– وهذا فرع معرفي وتطبيقي تضخم كثيرا الفترة السابقة (أحضر منذ 3 أعوام مؤتمر سنوي في المعهد الملكي للأسلحة المشتركة تحت هذا العنوان)
Resilience
دراسة لمست الأمر جزئيا ولكن تحت مؤشر الخطر، ولكن هو يتكامل مع أي منهج لتحليل المخاطر بشكل أهم)
الثالث) بناء قدرات دفاعية وأمنية على قدر من التركيب والمرونة، بحيث يمكن استخدامها للتعامل مع جملة واسعة من المخاطر..
هذا المنطق طرحه قديما ليدل هارت في نظرية الاقتراب غير المباشر، وإن كان على المستوى العملياتي
line of operation that offers many alternatives
وستجد هذا حاضرا في جوانب كثيرة في التركيب الدفاعي البريطاني الآن – مثلا في الجيش البري يتكون من ثلاثة فرق مدرعات يتم تدريبها على مستوى العمليات الأعلى والمشترك (حرب نظامية عالية القوة)، ولكن يتم تدريب ألويته كذلك وتطعيمها بوحدات خاصة وإدارية للتعامل مع العمليات الصغري والتمرد، ثم تم توزيع 7 ألوية على مناطق اهتمام ونفوذ دولي (استراتيجية التداخل الدفاعي) بحيث يختص كل لواء بمنطقة ويبني قدرات ثقافية وفنية وتواصلية للتعامل معها حين تقتضي حاجة التدخل (اللواء الخامس  في الخليج، واللواء السابع في مصر، والسادس في ليبيا والمغرب مثلا).
وهذا كتاب جيد لأستاذي شديد الأهمية حول هذه النقاط:
National Security and DefencePlanning   Colin Gray
————————————-
– الملاحظة الثالثة: هو الفرق بين مفهومي الأمن والدفاع، (ولهذا فالاستراتيجية هنا تُسمى استراتيجية الأمن القومي والدفاع).. الدفاع ليس فقط معني بالمخاطر العسكرية، ولكن الحاضرة منها (وبهذا تنتفي مؤاخذته على المنهجية البريطانية لإهمالها العمليات الحاضرة ..لأن الأخيرة هي خارج اهتمام مصفوفة مخاطر الأمن القومي بالفعل، وتُعني بتحليلها وزارة الدفاع).
هذا كتيب جيد تناول الأمر:
Britain in a Perilous World: The Strategic Defence and Security Review we need – Jonathan Shaw
————————————
الملاحظة الرابعة وإن كانت في منهجية الدراسة.. إشارته أنه يتبع منهجية ديفيد ايتسون في تحليل النظم خارج السياق لأنه لم يستخدمها-لو أراد أن يتسخدمها فكان عليه أن يطبقها على منظومة وضع تحليل مخاطر الأمن القومي البريطانية (تقييم مدخلاتها، وعملياتها، ومخرجاتها) وبهذا كانت ستتعاظم الفائدة،
وليس أن يقوم هو بتقسيم دراسته على أساس مدخلات وعمليات ومخرجات (هذا ممكن طبعا لأنها محددات أي طريقة ولكن ليس على أساس الاعتماد على طريقة ايستون التقييمية)
———————————
وللأسف ..
من أبرز تجليات القصور والتخلف في هذا المضمار في بلادنا هو في غياب وثيقة لسياسات واستراتيجيات الأمن القومي ومايسبقها من وثيقة تحليل المخاطر الأمنية (والأهم من الوثائق هو عملية صنعها ومدخلاتها وديناميكيتها، ومايترتب عليها من تغيير المنظومات الدفاعية والأمنية).
هذه الوثيقة مثلا أصبحت موجودة ليس فقط غربيا ولكن حتى في دول من العالم الثالث (اطلعت على وثيقة أثيوبيا التي كتبها مليس زيناوي قبل وفاته وهي جيدة فعلا).
طبعا أجهزة الأمن والمخابرات في بلادنا تصدر وثائق .. ولكن هذا ليس المقصود طبعا، ليست فقط بسبب موضوع الديمقراطية والمسئولية السياسية، ولكن لاعتبارات فنية واستراتيجية على قدر كبير من الأهمية:
– غياب خبرات تخصصية على درجة عالية من العمق والتكامل والتلاقح النقدي (ستجد الفارق مثلا حين تقارن مستوى وعمق التحليل في تلك الوثائق حتى التي تصدرها مؤسسات شديدة الاحترافية كوزارة الدفاع البريطانية، بمستوى النقاش بين الخبراء الأكاديميين والدفاعيين في مؤتمرات أو أوراق مشتركة)
https://assets.publishing.service.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/555607/2015_Strategic_Defence_and_Security_Review.pdf
https://assets.publishing.service.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/771309/Global_Strategic_Trends_-_The_Future_Starts_Today.pdf
– تعتمد المؤسسات المخابراتية على ضباط أصاغر (ضباط حالة) لتحليل النثريات المعلوماتية من مصادر مفتوحة أو استخباراتية، وهؤلاء أسارى لضعف خبراتهم وثقافتهم عموما ومحدودية تخصصهم وخلفياتهم.. بمعنى: أجهزة المخابرات يمكن أن تُعلمك بالقدرات، ولكن النوايا هي نتاج دراسة متعمقة للبيئات الاستراتيجية.. (الدراسة التي بين أيدينا لمست شقي القدرات والنوايا في تقدير مصدر الخطر، وهذا سليم تماما)
ولهذا – فدفاع زاعيرا عن نفسه وفشل المخابرات العسكرية الإسرائيلية في توقع حرب أكتوبر 1973 تركز على هذه النقطة تحديدا (أن تقدير النوايا هو نتاج خبرة سياسية يُسأل عنها مجلس الوزراء وجولدا مع ديان ورئيس الأركان).. ولكن الحقيقة – أن تقدير النوايا هو مسئولية مشتركة بين المستوى السياسي والاستخباري.
–  هناك خط أحمر لاتتجاوزه أجهزة الاستخبارات الغربية، وللأسف عندنا يعيشون خلفه (أجهزة المخابرات تضع تقديرات, ولكن لاتضع توصيات لسياسات أواستراتيجيات).. ليس فقط لافتقادها كثير من موارد المعلومات والخبرة، ولكن لأن هذا يُمكن أن يُفسد الاستراتيجية الاستخباراتية نفسها ويأخذ كثيرا من أصالة وموضوعية المنتج الاستخباراتي (أي أن يتم حشره وتهذيبه ليخدم هدف سياسي أو استراتيجية تنحاز لها المؤسسة – ولو بشكل غير إرادي).. وهذا بالضبط ديدن المخابرات الإسرائيلية وسبب عثرتها في 73، وطبعا من أسباب تعثرنا الدائم كعرب.
————————————-
أخيرا – أود الإشارة لنقطة:
لايُحبذ الاستغراق كثيرا في المؤشرات وتعييرها كميا.. بوضوح – الأهم هو اكتساب حس القياس وتحليل الخطر (من حيث حجم التأثير والاحتمالية)، دون (التعامل بمنطق جبري وإحصائي)..
سبق لي أن حضرت تقريبا معظم المؤتمرات والفعالية التي نظمها المعهد الملكي للأسلحة للتمهيد ومناقشة مراجعة الاستراتيجية الدفاعية والأمن قومية في عامي 2010 وأيضا 2015.. وطبعا عرض علينا ممثلوا الحكومة كل المؤشرات والجداول والرسومات البيانية التي قاموا بها، ولكن الحقيقة – لم يمثل هذا جزءا كبيرا في النقاش الدائر.
لاأقول أنها عديمة الجدوى، ولكنها كانت في الخلفية، ومفيدة في تقريب أفهامنا بعض الشيء للمخاطر المطروحة، ولكن النقاش أغلبه كان في كل الجوانب (غير الصلبة والمعقدة في مساحة تحليل المخاطر والتخطيط الدفاعي والاستراتيجية): المفاجآت، الاستراتيجيات البديلة، أنسب التركيبات الدفاعية التي تحقق جوانب المرونة وقابلية الاستخدام، الفن الاستراتيجي ذاته في التعامل مع مخاطر بعينها (انهيار إقليمي، الروس، الإرهاب، الحرب الشبكية..) أو هجينة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى