حول استراتيجية الردع والديبلوماسية القسرية: خيارات مصر وسد النهضة
- سيد نفسه من لا سيد له
- نحن أحرار بمقدار ما يكون غيرنا أحرارا
- ليس من المنطق أن تتباهى بالحرية و أنت مكبل بقيود المنطق
- حيث تكون الحرية يكون الوطن
- ليس من المنطق أن تتباهى بالحرية و أنت مكبل بقيود المنطق
- إذا تكلمت بالكلمة ملكتك وإذا لم تتكلم بها ملكتها
في مقالنا (هل ثمة حل عسكري لسد النهضة؟ منطق التعامل الاستراتيجي) المنشور على هذه الصحيفة بتاريخ 17 نوفمبر 2019، كان الطرح الأساسي هو ضرورة التحرك في استراتيجية شاملة، تتوزع فيها الأدوات الديبلوماسية والردعية والتحالف الإقليمي، وكذا وضع سياسات مائية بديلة. ولكن تم التنبيه على عيب جوهري في تناول الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر منذ 2011 (المجلس العسكري، مرسي، السيسي) للشأن الديبلوماسي الذي غاب عنه إدراك أفق الصراع – أنه محاولة لكسر الهيمنة المصرية التاريخية على مياه النيل-ليس لصالح منظومة إقليمية لإدارة المياه ومشكلات المصب والمنبع وتكافل المشروعات وتكاملها بشكل عادل وكفء، ولكن لفرض واقع مستجد يحرم مصر من أي فيتو وحقوق تاريخية في هذا الملف الوجودي لها – وهذا ماسعت له أثيوبيا على مراحل منذ مليس زيناوي في التسعينات وتأسيس مبادرة حوض النيل. ونتج عن هذا التغافل المصري الموروث، غياب استراتيجية حقيقية شاملة، واستدراجا للسياسة التفاوضية الأثيوبية التي طمحت لاكتساب الوقت لفرض واقع سياسي ومشاريعي وقانوني جديد.
ودعى المقال حينها لنقطة جوهرية سبق لي طرحها منذ أيام حكم مرسي 2013 إلى :
“منطق التهاوي في التعامل الديبلوماسي المُراهق مع الملف لابد أن يتوقف، ويتم المزج بين التعاطي الإيجابي واليد المدودة، مع الحسم في التعاطي مع عنصر الوقت والمطالب المحددة مع أثيوبيا، والتصعيد القانوني والدولي الفوري، ورسالة ردعية غير تصعيدية ولكن واضحة
Explicit
(هناك خط أحمرمُحدد، كل الخيارات عند تجاوزه متاحة) مع وسائل أكثر تصديقية وإتاحية لهذا الردع (عمليات تدريبية مشتركة وطلعات جوية قريبة، وتداخل في قواعد عسكرية في دول جوار ومنها لأنظمة حليفة!)”
وبالنظر إلى خطاب الرئيس المصري يوم 30 مارس 2021 الذي قال فيه نصا (المساس بحقوق مصر التاريخية في النيل خط أحمر، ورد فعلنا على ذلك له تأثير على استقرار المنطقة، وهذا ليس تهديدا) وأضاف (لا أحد يستطيع أن يأخذ قطرة ماء من مياه مصر، ومن يريد أن يحاول فليحاول وستكون هناك حالة من عدم الاستقرار في المنطقة بكاملها ولا أحد بعيد عن قوتنا)، فهذا بالتاكيد تطور محمود أدرك فيه المصري ابتداء النقطة المركزية للصراع أنها على حق مصر التاريخي في المياه وليس جوانب فنية في إدارة السد.
وكذلك حاول – لأول مرة – تصدير رسالة ردعية بصيغة متوازنة، بالضبط كما أشرنا في المقال السابق. وبالفعل، استجابت أثيوبيا لتفاوضات مباشرة في الكونغو، ولكن فوجيء الوفدان المصري والسوداني باستمرار التعنت الأثيوبي، ورفضه لمجرد الوساطة الجماعية الدولية (تهربا بالتأكيد من أي ضغوضات ديبلوماسية واقتصادية ممكنة) متمسكا فقط بالاتحاد الأفريقي (والذي فوق افتقاده لأدوات ضغط فعلية، فهناك -لأسباب لها علاقة بتعامل مصر السلبي تاريخيا منذ عهد السادات في ملف المياه وأفريقيا عموما، وكذلك النفور من خلفية الشرعية السياسية لنظام السيسي، وحركة أثيوبيا الدءوبة في الساحة الأفريقية – تظهر محاباته لصالح الطرف الأثيوبي).
وفوق ذلك، أعلنت أثيوبيا المضي قدما في الملء الثاني للسد في موسم الفيضان دون اتفاق مما سيؤثر بوضوح على الحصة المائية المصرية. وهنا تعذرت الخيارات أمام المصري، وساد الشك في مصاديق وفواعل رسالته الردعية، ودعى البعض لإعادة تصديرها بحيث تتضمن مسألة الملء الثاني وليس مطلق الضرر والتعدي على الحق المائي.
وأود هنا التحرير الموجز لبعض جوانب استراتيجية الردع والديبلوماسية القسرية، قد تساعدنا في تعميق فهمنا لهذا المأزق الذي وجد المصري فيه نفسه، مما يُسهّل علينا تصوّر الخيارات، دون الاستطراد فيما سبق أن تناوله المقال المشار إليه حول الخلفية التاريخية والسياسية للصراع حول المياه وسد النهضة، وإشكالات الأنظمة المصرية المتعاقبة في التعامل معها، والمنطق الاستراتيجي العام وشروط توظيف الفعل العسكري.
أولا) الردع هو تهديد مبطن لدرجات من التصعيد العسكري وغير العسكري، بحيث يمنع الخصم من القيام بسلوك ما أو يدفعه لسلوك آخر. والإكراه هو توظيف درجة من الفعل العسكري (ليس بالضرورة الحرب) لدفع الخصم لسلوك بعينه. والديبلوماسية القسرية هي مزيج بين هذا وذاك. وقد تتنوع تعريفات الأدبيات الاستراتيجية لهذه الاصطلاحات ولكن هذا إطار مبسط كاف هنا. ورسالة الردع – أو أداة الإكراه – تأثيرها ينبع من وضوحها (أي وضوح الصلة أمام الخصم بين السلوك والعاقبة)، ومصداقيتها (أي جدية القيام بها من حيث: القوة العسكرية اللازمة الفعل بما يشمل نواقلها العملياتية، وقوة الإرادة للقيام به).
ولأن هذا النمط الاستراتيجي يعتمد كلية على إدراك الخصم لكل ما سبق (الوضوح، والمصداقية) واستعداده النفسي للتنازل أمامها، وأن هذا غالبا لانعلمه على وجه اليقين ابتداء، فاستراتيجية الردع هي عملية متواصلة يتم توصيل فيها الرسائل التصعيدية – ومصاديقها – بشكل تدرجي ومتعاقب، بحيث أن يتم تقييم آثارها وإدراك الخصم وطواعيته أمام كل محطة فيها، بما يؤثر على بناء مخروط تصاعدي وصولا للأثر السياسي.
ثانيا) الردع في الأخير يبقى أداة استراتيجية، فهو ليس بحد ذاته غاية، وليس بديلا عن الاستراتيجية الشاملة. فبالنظر لأزمة سد النهضة كما أشرنا سابقا، الأفق السياسي لها ليس تحوير في طريقة تشغيل السد؛ إذ أن هدف أثيوبيا ومعها بالخلفية دول الحوض – وحتى السودان في مرحلة ما – كان كسر الهيمنة المائية المصري
Water Hegemony
التي تمتعت بها على النيل لعقود وبشكل قائم على اتفاقيات من الحقبة الاستعمارية واتفاق ثنائي مع السودان والأهم تمظهر لقوة مصر المادية والمعنوية والناعمة، بحيث لا تُشترط الموافقة المصرية على أية مشاريع مائية مستقبلة.
ودول المنبع جميعها عندها مشاريع تخزين وتحويل مياه، وليس فقط هيدروكهربائية كسد النهضة. وبالرغم من سعي دول المنبع وعلى رأسها أثيوبيا لتأسيس إدارة جماعية للحوض (مبادرة حوض النيل 1999) بناء على التشاركية والحقوق المحفوظة ومنع الضرر، إلا أن اتفاقية عنتيبي 2010 التي تمت في تغييب لمصر والسودان رفضت أي اعتراف بحقوق تاريخية أو تحكيم ملزم واستقصائي للمشاريع للتأكد من خلو ضررها، فضلا عن رفض مطلق لموافقة دول المصب، مع أن هناك وفرة مائية عالية في دول المنبع من الأمطار مما يجعل مجرد المساواة في الحصص غبنا أكيدا لمصر.
إذن فمصر أمامها خياران – كأفق سياسي – امتلاك كل أدوات القوة وتفعيلها لتعيد تكريس وضعها المُهيمن – حتى لو يتطلب بالتأكيد استيعاب لكثير من طموحات دول المنبع في التنمية، وهذا هدف بعيد عن إمكانية التحقق بالنظر للتراجع الهائل في وزن مصر وقدرة حركتها بالإقليم وقوتها الاستراتيجية والاقتصادية وكقوة ناعمة.
ولكن الهدف الثاني، هو توفير الشروط السياسية من حيث تطويع إرادات دول المصب – بالأخص أثيوبيا – لتأسيس منظومة إدارة عادلة لملف حوض النيل عموما وأي مشاريع ممكنة أو قائمة، وعلى رأسها النهضة. وهذه الإرادات السياسية مهم تنعيمها بالتأكيد، فلا توجد إمكانية على تحطيمها، وهذا يفرض حدا أقصى من التفعيل العدائي للأدة العسكرية مثلا!
كذلك، كما أشرنا في المقال السابق، فالردع هو وسيلة استراتيجية ضمن وسائل أخرى، قد تتعاضد الوسائل نعم، ولكنه ليس بديلا عنها. فهو ليس بديلا عن الحل العسكري إذا فشل مثلا، مع اعتبار كل التحفظات والتمهيدات التي أشرنا لها، وهذا مايجعل الخيار العسكري بطبيعته ليس فقط آخر الحلول، ولكنه أصعبها، ليس للصعوبات العملية والتكتيكية، ولكن الاستراتيجية بالنظر لتقييدات الوضع الإقليمي والدولي -خصوصا مع حكومة بايدن – والقانوني، وكذلك احتياجه لضبط استراتيجي عال لحدوده وتمظهره لئلا يخرب على الهدف النهائي وهو جمع دول الحوض على قاعدة أمن وإدارة مائية جماعية!
وهو ليس بديلا عن النضال القانوني والديبلوماسي، وتغيير سياسة التفاوض بحيث تكون فاعلة وحاسمة ضمن حدود ضيقة للتنازل وعدم القبول بإهدار عامل الوقت. أو بناء روافع الحركة الإقليمية بتوسعة التواجد المصري والتأثير في دول حوض النيل والدائرة المحيطة في السودان وجنوب السودان والقرن الأفريقي (الأخير يمثل امتداد حيويا للأثيوبي كدولة لا تطل على البحر، وخاضت نزاعات ممتدة مع الصومال وإريتريا، واعتمدت بشكل كبير على جيبوتي كمنفذ بحري)، وهذا يقتضي تطوير التواجد العسكري والبحري المصري (قواعد في جنوب السودان وجيبوتي وأريتريا كان بها بدايات لابد من تتميمها!).
والحركة الدولية سواء بتطوير ضغط ديبلوماسي واقتصادي يُحجّم من خيارات أثيوبيا أو يكون داعما – أو متفهما – لأي تصعيد مصري قانوني أو عسكري. وبما يقتضي صياغات قانونية مصرية تتعامل مع فكرة السيادة المائية المُجمعة والحرب الاستباقية. ولا ننس هنا الإشارة إلى وضع الإمارات مثلا، والذي يُفترض أنه حليف للمصري ولكن انتصب بشكل مستفز كممول اقتصادي وداعم استراتيجي لأثيوبيا، ليس فقط الدعم المادي في اللحظات الصعبة لبناء السد، ولكن حتى تدعيم الوجود الإثيوبي في ميناء بربرة، وهذا يقتضي ضبطا لهذه السياسة التحالفية من قبل المصري.
وليس بديلا بالطبع عن الاستراتيجيات البديلة للمياه في الداخل المصري لتقلل مستوى الحراجة الضاغطة عليه، وتعطي لمصر مساحة من الوقت لبناء روافع القوة الإقليمية المُشار لها، وأعتقد أن هذا يمثل بديلا ضروريا للتوقف عن السياسة التنموية القائمة على مشاريع البنية الإعمارية في غفلة عن كل روافع التنمية الأخطر في التعليم والصحة والمياه والطاقة والتصنيع.
ومهم كذلك إدراك الوضع الصعب لآبي أحمد داخليا وطبيعة المشروع الذي يحمله، وما يقود ذلك لمستوى من التدخل الحذر في الداخل الأثيوبي. فأحمد أتى بمشروع طموح بالفعل لإعادة بناء الدولة على قاعدة الوطنية المركزية، وكذلك محاولة تقليل التنازعات الحدودية وفي ذات الوقت تمديد التواجد الاقتصادي وفتح النوافذ البحرية في المحيط، وشمل ذلك حتى تساهله المبدئي مع مصر في أزمة سد النهضة وقبوله بوساطة أمريكية. ولكنه جفل أمام الضغط الفج لترامب، وفي نفس الوقت سلك مسلك سابقية من استغلال التصعيد حول السد لمحاولة تقليل مستوى الاحتقان الداخلي. هذا الاحتقان جعله يخسر قاعدته الأساسية في الأورومو، ثم هو بطبيعة الحال قام بشكل حثيث بتصفية النفوذ التيغري في أجهزة الدولة الذي مكنه زيناوي بعد منجستو، وحتى الآن هناك تهديد لخسارة الداعم الباقي (الأمهرية) بسبب أزمة الفشقة مع السودان.
وأعتقد أن المأزق الذي وقع فيه، هو التحرك في الإقليم بطموح أثار هواجس وتبعات قبل إعادة بناء الداخل. مصر والسودان (التي كان لها علاقة تاريخية مع التيغري) مهم تلمسهما لبناء أدوات نفوذ واستيعاب في الداخل الأثيوبي – ليس بمنطق تفجيره طبعا، ولكن كقوة ناعمة تؤثر بشكل إيجابي على الموقف الأثيوبي، ولكن كذلك تدفع لمنطق الحكم الذاتي ضمن إطار وطني عادل (ليس مشروع آبي)، لأن الأخير يُمثل تهديدا حقيقيا بالنظر لسيطرة أثيوبيا على منبع النيل الأزرق ومالها من قدرة بشرية واجتماعتقنية واسعة في القرن الأفريقي ونيتها التوسعية الضارة. وأعتقد أن هذا هو الحل الذي يُعمل توافقا بين بُعدي المصلحة والقيمة من وجهة النظر المصرية.
وكما نرى، فهناك تناغمية وتعاضدية بين ماسبق من أدوات، وأحيانا بعض التعارضات في مستوى التبني والآثار، ممايستلزم تطويرا للأفق الاستراتيجي في إدارة الصراع كفكر ومأسسة وشرعية سياسية وتأييد شعبي عارم بالداخل، وهذا بالتأكيد يقتضي درجات من الإصلاح الداخلي. مع فائدة ذلك لاستعادة صيغة القوة الناعمة للدولة المصرية المنبنية – أفريقيا – على فكرة الحكم الرشيد، وتقليل فرصة الإدارة الأمريكية على الضغط أو التمنع في دعم الموقف المصري.
ثالثا) الردع التقليدي
Conventional Deterrence
والديبلوماسية القسرية – في نظر بعض الاستراتيجيين – هي أعقد من الردع النووي، لأنها غالبا تستلزم إعمالا محدودا أو تمظهرا للقوة العسكرية وتحقيق درجة ما من الإنجاز السياسي لتفعيل الأداة العسكرية والتهديد بها. وربما هنا ندرك إيجابية بعض الإنجاز المبدئي لمصر في الملف الليبي. كما أنه – على خلاف التهديد بالنووي – فردود فعل الخصوم شديدة التنوع، والتأثر بعوامل كثيرة عسكرية وسياسية وداخلية – لضعف مستوى التهديد وغموضه.. وهذا يقتضي براعة استراتيجية أكبر ليس فقط في تتبع هذه الآثار، ولكن في بناء الاستراتيجية الردعية ابتداء كوضوح وتدرجية، ثم اعتبار رد فعل الخصم وقبله تلقيه النفسي
perception
، والقدرة على التحرك صعودا وهبوطا في مسارات تمظهر القدرة والجدية. مع تفعيل بقية الأدوات الاستراتيجية (خصوصا أداة التفاوض) بشكل ينسجم مع السياق الردعي. وهذا واضح أنه لم يحصل في مؤتمر كنشاسا.
ومن هذا الاستطراد ندرك تحديدا طبيعة مأزق المصري وسببه في إدارة استراتيجية الردع، أنه أطلق رسالة الردع بمنطق (قل كلمتك وامش)، ولم ينتبه لأمور:
1- هذه الاستراتيجية تحتاج لأكثر من مجرد تعيين (الخط الأحمر) الذي فوقه يتم التهديد بالتصعيد، مع أنها تطور محمود تأخر لسنين. ولكن لابد من مظاهر وأفعال تشي ب (الجدية) و(القدرة) في توظيف الحل العسكري والتمهيد له : كالتصعيد القانوني والديبلوماسي، وصياغات قانونية وديبلوماسية واستراتيجية – قد تبدأ حتى من جهات شبه رسمية –– حول شرعية ومنطق وأدوات الفعل العسكري النوعي. ثم بناء روافع لتمديد القوة العسكرية في المحيط القريب (مثلا: طلعات جوية، الإعلان عن قواعد عسكرية، تحالفات دفاعية مع السودان وجنوب السودان وأريتريا، تواجد بحري بكل أشكاله وتدريبات بحرية مشتركة، وتدريبات جوية وبالأخص على التكامل في العمليات الجوية بين أدوات تحقيق السيادة الجوية وتسكين الدفاعات ودور القاذفات وتمديد الطلعات).
2- لابد من بناء مخروط تصاعدي للرسالة الردعية ومراحلها.. أي تعيين أكثر من خط، كل تصعيد من الأثيوبي أو تمنّع، يدفع لتصعيد مصري متدرج تبعا لدراسة الانعكاسات والآثار كما أسلفت.
3- التكامل مع الأدوات الاستراتيجية الأخرى.. وبالأخص هنا أدوات التواجد والحصار الإقليمي، والتصلب في عملية المفاوضات، وبناء أدوات تدخل ووساطة في المشكلات الحدودية والإقليم بغايات نزيهة بالضرورة وإلا قادت لأثر عكسي.
وهذا يقودنا أن نختم بالتأكيد على نقطتين:
الأولى) أن استراتيجية الردع وموضعته في الاستراتيجية الشاملة تحتاج لأكثر من المنطق الذي ساد في طريقة تعامل النظام المصري في سياساته الداخلية والخارجية – تبعا لخلفية رءوسه – والتي تختزلها للصيغة الإعلامية والحشد. فتخيل النظام أن هذا قد نجح في إسقاط الإخوان مثلا -دون الانتباه أن هناك معطيات كبيرة حصلت تسبب فيها الإخوان أنفسهم وأسهمت في تغيير موضوعي لجوانب الشرعية السياسية والدعم الشعبي والإقليمي- فإنه سينجح في كل شيء. وأعتقد أن النظام بدأ يدرك بشكل ما خطورة هذا المسلك، وقام بتصحيحات ما في بعض الملفات كليبيا والنهضة. ولكن الأمر أبعد عن وجود إرادة سياسية حقيقية وأطر مأسسية جادة لصياغة استراتيجيات ناجعة بعد تحرير النهايات السياسية المطلوبة.
الثانية) وهذا يقودنا للقول أن هناك درجة من فتح الأجواء الداخلية، والإصلاح السياسي والمؤسسي في الدولة كسلطات ومؤسسات تخصصية ودفاعية وأمنية، لابد من القيام بها. نعم، ليست الديمقراطية كما أسلفنا سابقا – كتناول نظري فوق محدودية السياقات – بشرط وجودي للتنمية أو التفوق العسكري والاستراتيجي. ولكن في الحال المصري- والعربي عموما كما أزعم – حين تغيب الأيديولوجيات الحالمة والعبقرية القيادية التي تخلق بنود القابلية المؤسسية في مشاركة المعلومات والنقدية وتعزيز الاحتراف والدعم الشعبي الجارف، يبقى الانحياز لنمط يقترب من الديمقراطية، وإن لم يتبناها مطلقا، لا مناص عنه!