قراءات استراتيجية

من صنع داعش؟

قديم

8-10-2014

ثمة سؤال يشغل أذهان كثيرين – يسبق تحليل فعل داعش .. ألا وهو سؤال: كيف صنعت داعش، ما هي محركاتها الحقيقية .. أهي العقيدة الإسلامية أم المخابرات الغربية؟


> حاولت تلمس الأمر في حوار سابق، ولكن أحاول ثانية توضيح بعض الأمور…

بالرغم أن هناك جوانب في ظاهرة نشوء داعش وحركتها تبقى غائمة ومحيرة، إلا أن مشكلة الحيرة تلك تتضاعف ولاتقود إلا لخبط عشواء إذا غابت قواعد منهجية في فهم الدين والتاريخ والواقع.

> فدينيا، تحكي النصوص عن إمكانية توفر حال من العاطفة الدينية الصادقة ولكن يصاحبها جرم شنيع بمعيار الديانة وانحراف في التصور والسلوك. كأحاديث القرآن عن الضالين والنبي عن الخوارج واستخدامه ألفاظا قد يظنها المتسرع قاسية ومخاصمة لرحمة النبي
> .
ثم يجب كذلك ألا نستخدم لفظ اﻹسلام ؛ غير مايقتضيه المجاز التعريفي، في توصيف مايتجاوز حيز الوعي المعصوم.. فلايشمل ذلك مساحة الظن، فضلا عن مسالك لاشك في انحرافها عن قطعيات الشرع. وفرق شاسع بين الدين والتدين كما نعلم.

وفقها – أحكام الخوارج ومافيها من اختلاف لايصل لمسألة دفع المعتدي والقصاص، ثم التمييز بينها وبين دفع الصائل ومايعتور داعش من ملامح من الثاني وتحقق في الأول.

> ******
وتاريخيا– شهدنا في القديم حركات ذات درجة عالية من الإخلاص الديني والفدائية مع العدوانية الشديدة التي تصل لدرجة الهوس بسفك الدم والبطش وغياب أدنى معالم فهم الديانة، في التاريخ السني والشيعي على السواء.

> وبعض هذه الحركات كالخوارج والحشاشين أقاموا بالفعل دولا متعاقبة منيعة تصدت لفاتحين كبار.. فالخوارج بعد هزيمتهم أمام علي وقتلهم إياه، أقاموا دولة في ماوراء النهرين بقيادة قطري بن الفجاءة زعيم الأزارقة – وكان متسميا كذلك بأمير المؤمنين وللمفارقة شعره البديع من وجهة نظري كان أروع ماتقرأه في هذا العصر الوسيط وأصدقه زهدا وفدائية لم ينكر تمثله إياهما كل من عاصره بمافيهم المهلب بن أبي صفرة وهو من هزمه وقتله وردد أبياتا من شعر الأول (أقول لها وقد طارت شعاعا من الأعداء ويحك لن تراعي… إلى اﻵخر) أمام جثته متأثرا.. ثم استمرت دول الخوارج
> طيلة التاريخ حتى الآن إذا اعتبرنا سلطنة عمان اﻹباضية فرعا تصحيحيا من الخوارج.

وقل مثل هذا على دول الحشاشين تحت حسن الصباح ومن خلفه وماوصلت وسائلهم في التربية الروحية والخلقية الذاتية من تناقض عحيب بين تصوف مفرط ومازوخية بوذية واستخدام الحشيش.
وكانوا على درجة من الفدائية والصلابة حتى اضطر صلاح الدين أن يعقد معهم تفاهما يقرهم على ملكهم بعد محاولاتهم لقتله ووقوفه حائرا تحت أسوارهم لعقود. وكذا فعل معهم الصليبيون بعدما حاربوهم واكتووا بنار اغتيالاتهم حينا وحالفوهم حينا ومن هنا يأتي المصدر الانجليزي لمعنى الاغتيال.
وقس على ذلك حتى موحدي مسلم بن تومرت مع انحرافات وصلت لتقديس ذاتي يربو على مقام النبوة، مع جهد طيب قاموا به في تأخير سقوط الأندلس وكذلك كبوة حضارية أندلسية تسببوا فيها..

وهكذا. الخلاصة أننا لسنا أمام سبق تاريخي ولكن أمام نسخة (رديئة) لظاهرة تكررت كثيرا. كما أن حركة واجتماع وتاريخ التدين يشون بقدر كبير والتعقيد والانفصام الغريب بين تناقضات مطلقة في ذات الخالة، وجمع بين عوامل سمو ملاءكي وانحدار شيطاني في ذات الحركة.. ولكن ربما داعش يتركز فيها الثاني بالأساس.

 أما من حيث قراءة الواقع، فهناك نقطتان على خاطري..

> فأولا – لا الظواهر السياسية والاجتماعية المتشابكة ممكن رد سببها لعنصر وحيد ابتداء، ولا لصنع قوى خارجية وإقليمية لأنها ليست كلية القدرة وخصوصا في المرحلة التاريخية الأخيرة وكذا نمط من الهيمنة الغربية يعتمد على محاولة الهيمنة على المفاصل والتعايش بجوار معادلات ذاتية الحركة محليا وإقليميا مع التدخل بأطر ناعمة ، وخشنة إن تجاوزت خطوطا حمر التي هي بذاتها تتغير، وقد تنجح أو تفشل هذه التدخلات. ولا أن الظواهر تلك ذاتية النشأة والمسار في بيئة كل مدخلاتها وخوارجها مفتوحة على أطراف الصراع اﻹقليمي والدولي.
>
 فمن أنشأ القاعدة جدة داعش؟
عوامل كثيرة منها: حالة التلاقح الفكري بين الأطروحات السلفية بالجزيرة والتكفيرية المصرية (التي هي بدورها طفرة حصلت في سجون ناصر وتواجدت روافدها في فكر سيد قطب) في أفغانستان، وحالة المد في العاطفة الدينية التي ميزت حالة الصحوة، والعنصر الأمريكي – وهذا هو العنوان الدافع خلف كثير من العوامل الأخرى- في إطار الحرب الباردة الذي فتح مسارات لتشكل حالة بعينها ولكن استكملت تشكلها وتفاعلاتها الذاتية فوق كل التوقعات والأماني،
وأنظمة إقليمية كالخليج ومصر لها دوافع كثيرة بدءا من استحقاقات الاصطفاف اﻹقليمي خلف الأمريكي لتطوير شرعية دينية ارتكزت عن عنصر اللعب بالدين للرغبة في التخلص من محاميع متشددة لبعض العواطف الدينية (تخيل!) عند صانعي السياسة،
وحركات إسلامية معتدلة كاﻹخوان ارتأت في هذا فرصا للنمو التنظيمي والاجتماعي وزيادة النفوذ السياسي داخليا وإقليميا، وبعض القيادات الإخوانية خارج النسق العام كعبدالله عزام وأكثر انفعالا بمركبات جهادية وحتى تكفيرية.

إذن من صنع القاعدة، وبعدها داعش؟؟
> أقصى مانطمح إليه هو أن نتلمس مسارات وبيئات مهيئة وأحيانا نتوءات سببية مباشرة ومبادرات محددة عبر خط زمني واضح، ولكن تبقى قليلة.
>
ثانيا- إدراك صعوبة صنع وتشكل الاستراتيجيات وتعقيدها يجعلنا لانغتر بجملة من الخطوات التكتيكية التي نضع يدنا عليها، فنخرج بها حاسبين أنا وجدنا أثرا فلانجد غير الماء وتلف الدماغ من الحيرة؛ من يدعم من ومن يحارب من؟!

مثلا – مجموعة الزرقاوي في العراق -والدة داعش- كانت تحارب الجميع، وفي ذات الوقت مدعومة بأشكال وعلى توقيتات مختلفة وضمن حزم استراتيجية متناقضة.. من الجميع كذلك! (صدام، وإيران، والأمريكي، وفصاءل المقاومة الأخرى، وحالة الاحتلال ذاتها، وشبكات القاعدة، وأنظمة خليجية وعربية).
>
> لكن في ذات الوقت، لايجب أن نخلط بين الالتفاتات التكتيكية دعما ومواجهة وتفاهما.. وبين الخطوط الاستراتيحية الأكثر وضوحا.
> الزرقاوي دعم أمريكيا -بشكل غير مباشر على اﻷقل- بدرجة وتوقيت معين لتحقيق هدف استراتيجي محدد في مرحلة بعبنها (تحريك الحاضنة السنية ضد العمل المقاوم) وفي ذات الوقت حين أتبحت لهم فرصة قتلوه.

 القائد العملياتي الأمريكي (ماك كريستال) قائد وحدات العمليات الخاصة المسئولة عن الاغتيال حينها كان أمامه خياران: كلا منهما يناقض الأخر في أثره على هدفين مطلوبين (بقاء القاعدة قوية لحين، وهدم القاعدة كبنية قيادية وعسكرية). هل هناك إجابة مسبقة؟ لا بالطبع، ولكن تعتمد على السياق، أثر كل خطوة إيحابا وسلبا في تحقيق كلا الهدفين؟ إمكانية تعويض أيهما إذا اخترنا اﻵخر؟ طبيعة المرحلة التي قد تقدم أحد الهدفين؟ وهذا بالضبط صعوبة اﻻستراتيجية. أنك عندك أهداف من طبعها التناقض غالبا، ولها وسائل قد تتناقض في آثارها غالبا، وعندك موارد وخيارات
محدودة دائما..

ثم أنت تحتاج مع كل هذا أن تصيغ نسقا استراتيجيا منسجما يقود لنهايات واضحة ومحددة سلفا وبإمكانات محدودة، ثم أن تختبر استراتيجيا بشكل مستمر أمام مواقف وصعوبات تكتيكية وفرص قد لاتعود وخصوم وأطراف لها تصويت وفعل في تشكيل البيئة والظروف واﻹمكانات وأحيانا الأهداف.

فاستيعابنا لطبيعة الاستراتيجية نظريا وتطبيقيا، يجعلنا نقدر كم التعقيد الحاصل ممايزهدنا في سذاجة التسطيح، وفي ذات الوقت لانتوه في التفصيلات والديناميكيات عن بناء صور كلية معقولة.

داعش نشأت من رحم القاعدة ومحموعة الزرقاوي، ونمت فكريا على صيغة قاعدية فكريا ولكن زادتها عوامل شخصية واجتماعية وسياسية توحشا، واستفادت من صعود وسقوط مايعرف بتجربة الإسﻻم السياسي معا، وماأحدثه مايعرف بربيع الثورات من خلخلة هائلة في المحيط اﻹقليمي، ورفدتها حالة إحباط وتطرف شديدين لكتل من الشباب العربي وغير العربي المسلم كرد فعل على مذابح وبطش الأنظمة،
> ثم حتى الكتل التي تتبع الحركة اﻹسلامية (المسماة معتدلة) صارت معمل تخصيب ودرجة وسيطة تقود لداعش.. بسبب مشكلات عميقة فكرية وتربوية من قبل (القداسة الذاتية والاصطفاء وشيطنة المخالف والفقر المعرفي الديني والسياسي ثم مفهوم الخلافة كحالة معرفية ونفسية شديدة اﻹشكال) وبسبب خياراتها الذاتية لدعم خيارات الخطاب التكفيري والعنف تبعا لحالة الهوس بعد فقدان السلطة.
ثم حتى تحديدا في العراق وسوريا فالوضع السياسي والاحتماعي والعسكري والأمني والمذهبي والاقتصادي مثل في غالبه إنعاشا لمسار داعش خصوصا أن الأخيرة حسنت موقفها مؤقتا بتحالفها مع مجاميع النقشبندية والعشائر.. وهكذا

الغربي والأمريكي في المرحلة الحالية رؤيته الخاصة لداعش أنها كابوس لايستطيع لعوامل كثيرة أن يكتشف كيفية محاربته، وحتى مايعرفه من هذه الطرق يصعب عليه لعوامل أخرى تطبيقها خصوصا أنها لم تصل لتهديد خطوط حمر -ارتأى هو كقراءة استراتيجية حديثة تعديلها برفعها تبعا لخياراته في تقليل تدخله الشرق أوسطي.
> الأنظمة الخليجية ومصر تراها عدوا تسعى كذلك لمحاربته لأسباب متعددة، ولكن تبقى كذلك محددات المعرفة والقدرة. هل فيها أطراف تستفيد؟ هل تستفيد إسرائيل؟ قطعا -مرحليا. ولكن نظرية الجاني بالبحث عن المستفيد ليس دائما صحيحة في معمل السياسة والاستراتيجية.

من صنع داعش؟ تراكم خطوط فكرية واحتماعية وسياسية واستفادت من دعم أطراف مختلفة في مراحل وبأشكال متباينة، ولكنها تبقى نتاج تحول مباشر من القاعدة زادها التخلخل اﻹقليمي وفشل ربيع الثورات وآثاره توحشا وجرما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى