الأول – هو استغلال لمناخ الشحن العدائي ضد إيران لتصفية حساب قديم وممتد مع قطر (وهذا يشمل السعودية والإمارات ومصر)
والثاني – هو نفاذ صبر بالفعل على ممارسات قطرية تراها السعودية والإمارات والبحرين معادية – إقليميا ومحليا – في مرحلة يرونها حرجة وتقترب من تصعيد حاد مع الإيراني، وإعادة بناء محاور في الشرق الأوسط على هذا المبدأ.
كما نعلم فالخلاف الخليجي البيني (بالتحديد السعودي – القطري) يعود للتسعينات.. وفيه عوامل متعددة: أهمها مسألة الهيمنة على القرار الخليجي، وفي توازن القوى في الإقليم (المفارقة بين الكتلة الضخمة الجيوسياسية والديموعرافية للسعودية والتي ترى مسألة الهيمنة استحقاقا وبالفعل تقدم الدور السعودي عربيا خصوصا بعد حرب الخليج 91، وبين قطر كنتوء صغير ولكن مهووس بتضحيم دوره عبر النفوذ الاقتصادي والقوة الناعمة : الإعلام والتحريك السياسي وحرب الوكالة)، ثم الخلاف الشخصي بين الأسرتين خصوصا بعد الانقلاب على الأب في قطر والدعم السعودي له.
وقطر بالأخص امتهنت سياسة انتهازية وهي تطوير محفظة التحرك السياسي والتوظيف الإقليمي عبر التحرك بشكل خطر بين تناقضات الملفات الإقليمية والمحلية؛ بحيث يكون لها قدم فاعل في المحاور المتصارعة، ولكن أحيانا تُلقي بثقلها بحساب خاطيء خلف أحدها (وهذا بالضبط ماحصل في الربيع العربي):
فتنشيء علاقات وثيقة مع الإسرائيلي وتحتضن قاعدة العيديد السنتكوم، وفي ذات الوقت تنشط بشدة في علاقات تتقاصر قليلا عن حد التحالف مع مايسمى محور المقاومة (دعم سياسي ومادي لحماس، دعم سياسي لحزب الله ودورها الكبير في إعادة الإعمار بعد حرب 2006، علاقة إيجابية مع إيران).
وحتى في مساحة الصراع الخليجي الإيراني: فعلاقتها المعقولة بإيران تُناقضها بدورها الطبيعي في مجلس التعاون.
والنزاع الخليجي البيني تفاقم بالفعل مع الربيع العربي.. حينها بدأ القطري يستبطن مشروعا إقليميا مفارقا وحادا يتمثل في شرق أوسط إخواني (بما يحمل ذلك من نفوذ اقتصادي وسياسي وقدرة على التوظيف والمفاوضة به مع الأمريكي والإسرائيلي لمصالح أوسع تضمن هيمنة إقليمية شاملة)، ويستلزم منه تبعا إحداث تغير سياسي حاد في الدول التي يمر بها (سوريا، ومصر، واليمن، وليبيا، وتونس..).
صحيح – أن القطري قد يتحالف مثلا مع السعودي والإماراتي ضمنيا في ملفات كسوريا واليمن وليبيا، ولكن ليس فقط الصراع تفجر في مصر (وبشكل أقل كثيرا في تونس)، ولكن حتى في الملف السوري والليبي واليمني فالرهان على الفرقاء المحليين اختلف بحسب غاية التحرك الإقليمي ذاته. ولهذا – فكان الدعم لإخوان سوريا ومحاولة تطوير دورهم وكذلك الجيش الحر، وكذلك إخوان ليبيا والكتل الإسلامية المقاتلة ومصراتة، وأيضا إخوان اليمن.. في مقابل رهان السعودية أكثر على السلفية الجهادية ومااتصل بها بشكل تلقائي من مجموعات القاعدة في سوريا، وحفتر والمعارضة الليبرالية في ليبيا، وهادي في اليمن.
الغريب فعلا في الحال السوري.. أن القطري بنى بأشكال مختلفة فعلا -ومبكرا- تواصلا مع داعش بتمويل وسمسرة سياسية. ربما يمكننا فهم محركات التركي مثلا لهكذا سلوك، ولكن القطري فقط يحن لسياسته القديمة (إسقاط تجربة صناديق الاستثمار الغربية على حال النزاع العسكري والسياسي اللزجة إقليميا)
آخر محطات النزاع كان أكثرها حدية.. وهو حين تعثر الرهان القطري بشكل شبه كامل على مشروعها الإقليمي، وكان هذا في جزء هام منه بسبب الدور السعودي والإماراتي. ولكن هذا التعثر بالضرورة لم يُترجم لتطور في صالح الدور السعودي والإماراتي اللهم سوى تخريب حظوظ الهيمنة القطرية. صحيح – أن هناك نجاحا للدور السعودي-الإماراتي وتثبيت له في مصر (ولكن الرهان على دور مصر في الأمن الخليجي تعثر فعليا)، وفي سوريا فشل تماما المشروع الخليجي بمحوريه السعودي والقطري، وفي اليمن انفجرت ظاهرة الحوثيين.. ولكن حتى هذه تعامل معها القطري بسياسته القديمة (قدم هنا وأخرى هناك).
الخلاصة – نحن أمام انفجار طبيعي في العلاقات تتويجا لطريق طويل من المخاصمة والتدافع في ملفات إقليمية، ولكن الخشية فعليا أننا أمام مرحلة من الهستيريا السعودية قصيرة النظر – بالأخص – نحو تصعيد مع إيران.. تتساوق مع طرف أمريكي أكثر خرقا وفي ذات الوقت أقل التزاما وجدية في المضي نحو آخر الشوط بكل تصعيداته، وكل مطمحه الحالي ينحصر في ابتزاز مادي ومكسب إعلامي داخلي.. وفي هذا المناخ – صدر السعودية والإمارات ضاق تماما بأي عبث قطري معتاد ومتذاكٍ كما كان حاصلا لسنين.
ولكن ألايمكن اعتبار أن المحرك الأساس لما حصل هو الرغبة المصرية الإماراتية؟ وأن ماحصل هو في إطار صفقة إقليمية يتم فيها إرضاء المصري لتطوير دوره – وحسم – ملفات الإقليم العالقة في ليبيا واليمن وسوريا، والأهم فلسطين (صفقة القرن)؟
أعتقد من المهم تقدير دوافع كل طرف خلف هذا الموقف، وبالتالي من يقود دفة الأمر فعليا وفي أي سياق.. وهذا – بالإضافة لميزان القوة ومصادرها -يسمح لنا بتقدير مايأتي.
يمكن أختلف معك في أن المصري والإماراتي هو المحرك الأساس، أو أن ما حصل عنوانه الأساس ضمن مايطلق عليه (صفقة القرن).
السعودية كانت الفاعل اﻷساسي لتحريك الأمر. فهو تمديد لمبدأ السياسة المغامرة والتدخلية من إطار الحرب الباردة مع إيران للبيئة الخليجية الداخلية.
وأعتقد – كما أسلفت – المحرك مزيج من تصفية حساب، وحشد وتنقية للبيئة الخليجية من أي شائبة تعيق اصطفافها استعدادا لتصعيد مقبل محتمل في اﻹقليم وضد إيران.
لاحظ مثلا أن بعض التقارير الغربية تتحدث عن فدية المليار دولار التي دفعتها قطر لكتائب حزب الله العراقي، وأيضا لفتح الشام، والأهم – تقدمها لدور وساطي مع إيران في هذا الملف وغيره. وأيضا – حديث عن تدخلها في ملف التوريث السعودي، والداخل البحريني والمنطقة الشرقية، وعلاقات حالية مع الحوثيين استمرارا للعلاقات القديمة. وكل هذا مرجح صحته.
اﻹمارات بالطبع جزء أساس من الجبهة ولكن ليست من تقود في رأيي. أما مصر فمجرد تابع ولكن لها مصلحة في تصفية حساب قديم أكثر منها شاغلا لها آنيا.
بخصوص مصر تحديدا.. لعلك تذكر حين كان الملف القطري شديد الإقلاق للنظام المصري بعد 3 يوليو، بسبب حملة قناتي الجزيرة، والجزيرة مصر،، وفي ظل اضطرام الوضع الداخلي مع التصعيد الإخواني، وحتى مع نظام سعودي أكثر قربا، وفي ظل توهم قوي لدور مصري فاعل في النطاق الدفاعي والعسكري الخليجي.. مع ذلك تحرك السعودية والإمارات كان أقل كثيرا مماحصل حاليا. أما الآن – فكل هذا تغير بشكل كامل، ولكن مع ذلك حصل تصعيد خطير في النوع والدرجة.
حاليا.. يتضح عبر مؤشرات عديدة (بدءا من عاصفة الحزم، وصولا إلى قمة ترامب) أن النظام السعودي هو من يقود ويحشد، وأن النظام المصري تهاوت باضطراد قدرته على الحركة في الإقليم والتأثر في ملفاته – ولو حتى للعب دور تابع فاعل.
– أما بخصوص (صفقة القرن) فهذه دعاية سخيفة مما يتقنه ترامب، ولكن يشتريها فقط من في (هطل) السيسي. لايمنع طبعا أن هناك أفكارا – جزء منها يحصل فعليا كتطوير التحالف الخليجي الإسرائيلي ضد إيران كعدو مشترك، ولكن فيما يتعلق بالملف الفلسطيني، فهي أقل حتى من طور التبلور.
ترامب لايشغله حاليا إلا تحسين وضعه الداخلي، ولهذا – فالقمة التي حشد لها 50 رئيس وملك وأمير.. لايراها من عدسة توفير الوظائف، وصورته الفخمة وذات الاعتبار عند قطاع جيوسياسي عريض، في مقابل صورة شديدة الاحتقار والسخرية في الداخل الأمريكي وأوروبا.
في معرض الربيع العربي والتصور الحاصل معه (شرق أوسط إسلامي برعاية تركية وقطرية)، كانت حماس وحتى الإسرائيلي منفتحين على خيارين (دخول حماس ضمن منظمة التحرير تحت قاعدة المقاومة الشعبية تمهيدا لحل الدولتين، أو هدنة طويلة الأمد مع إمارة غزة – مع تفضيل الخيار الأخير عندهما كذلك).. وبالرغم من حكومة أمريكية قوية ومقتنعة خلف الأمر فقد فشل، ولأسباب: منها صعوبة تحرك الحكومة اليمينية الإسرائيلية خلف مسار فيه بعض التنازلات الأمنية لصالح معادلة سياسية مستقرة (العقدة الاستراتيجية عن الإسرائيلي دوما)، ومنها أن الوضع الإقليمي في دول الربيع العربي كان شديد التقلب ممايمنع وضع إطار إقليمي مستقر خلف أي تفاوض، ومنها أن ملفات أهم كانت تشغل البال كما في سوريا مثلا.
والآن.. أي تصور عن إمكانية تحقيق أي صفقة في هذا الملف لاتزيد عن الوهم، فالوضع الإسرائيلي أشد تصلبا (وهو في وضع أقل ضغطا كثيرا عن ذي قبل بالتخفف من تهديدات أمنية حيوية – الملف النووي الإيراني وسقوط سوريا والمحاصرة الإقليمية لحزب الله وتثبيت استراتيجية دورات التصعيد والتهدئة مع حماس)، وحكومة أمريكية فاقدة لكثير من الشرعية الداخلية – فضلا عن الهيبة والرؤية الناضجة، ووضع فلسطيني داخلي أكثر التباسا، وإقليم أكثر انشغالا بملفاته الذاتية والبينية.
– أخيرا، في تقديري أنه ليست ثمة ملفات حرجة على المحك في هذا التصعيد الخليجي البيني.. صحيح أن فكرة الانقلاب الداخلي ممكن دعمها (وإن كانت تظل شديدة الصعوبة لاعتبارات في الداخل القطري)، ولكن التدخل العسكري ممتنع لأسباب عديدة.. أبسطها وجود (عقيدة عن الأمريكي والغربي) بمنع أي تدخل عسكري في البيئة الخليجية لاعتبارات ترتبط بمعادلة الهيمنة والاستقرار والإرث التاريخي والبترول.. وهذا بالضبط مالم يدركه صدام في 1990.
ولكن كام عسكري تركي يصل لقطر هو مجرد دعم رمزي، لكن لو تحكي بمنطق الردع الرمزي، وحتى المادي.. فوجود قاعدة العيديد أهم بمراحل شاسعة.
الأمر – كما أراه. سينتهي لتنازل قطري وصيغة مصالحة . .ولو مؤقتة وجزئية، وبشكل يحفظ بدرجة ما وجه قطر.
الحقيقة أن مادفعني للانعزال عن الفيس منذ أربعة أعوام (مناخ هستيري يحجب أي مساحة لنقاش موضوعي وأخلاقي، واستدراج لآلاف الشباب في صراع صفري محسومة نتيجته المادية والرسالية كذلك، وتضييع كبير لوقت يمكن توظيفه فيما هو أولى) يبقى قائما بشكل جزئي، ويزيد عليه اعتيادي نفسيا ومن حيث تخطيطي لوقتي على هذا الوضع.
وربما تتيح الظروف لمن ابتلاه الله بعلم وسيلة ما منعا لكتمه وتوصيلا لرؤيته، ورائد الحق والمفتش عن المعرفة – إن كان جادا – فلاتثنيه عن ذلك وسيلة التواصل: هل برسالة على الإيميل، أو كتابة على مدونة.
وهذه المدونة حاولت فيها جمع جلّ الحوارات والتقديرات والآراء التي يسّر الله لي فيها الإجابة على تساؤلات بعض الأصدقاء منذ انعزالي عن الفيس حتى الآن، ولم يثنهم تركي لوسيلة يحبذونها عن الرغبة الجادة في استطلاع رأيي المتواضع الذي قد يصيب أو يخطيء.
نريدك علي الفيس يا دكتور نفتقدك
شكرا جزيلا على تواصلك، وكل عام وأنت بخير.
الحقيقة أن مادفعني للانعزال عن الفيس منذ أربعة أعوام (مناخ هستيري يحجب أي مساحة لنقاش موضوعي وأخلاقي، واستدراج لآلاف الشباب في صراع صفري محسومة نتيجته المادية والرسالية كذلك، وتضييع كبير لوقت يمكن توظيفه فيما هو أولى) يبقى قائما بشكل جزئي، ويزيد عليه اعتيادي نفسيا ومن حيث تخطيطي لوقتي على هذا الوضع.
وربما تتيح الظروف لمن ابتلاه الله بعلم وسيلة ما منعا لكتمه وتوصيلا لرؤيته، ورائد الحق والمفتش عن المعرفة – إن كان جادا – فلاتثنيه عن ذلك وسيلة التواصل: هل برسالة على الإيميل، أو كتابة على مدونة.
وهذه المدونة حاولت فيها جمع جلّ الحوارات والتقديرات والآراء التي يسّر الله لي فيها الإجابة على تساؤلات بعض الأصدقاء منذ انعزالي عن الفيس حتى الآن، ولم يثنهم تركي لوسيلة يحبذونها عن الرغبة الجادة في استطلاع رأيي المتواضع الذي قد يصيب أو يخطيء.
لاتنسنا من دعائك.
محمد