منوعات

عن (الدولة المستحيلة): تقابل حتمي بين نظرية الإسلام في الحكم والدولة القومية؟

5-9-2016

مناقشة حول كتاب وائل الحلاق: الدولة المستحيلة

الكتاب يمكن قراءته مترجما عبر هذا اللينك

https://archive.org/details/ert404012_hotmail


تعرفت على كتابات وائل حلاق حديثا نسبيا. حين كنت أحضر لدراسة عن تطور ظاهرة الحرب في الإسلام – بأبعادها القيمية والقانونية والفنية، اشتريت مجموعة من كتبه عن التاريخ التشريعي وتحولاته ومداخل للقانون وأصول الفقه.. واطلعت أيضا على كتاب الدولة المستحيلة.

شوف – وائل حلاق كتاباته ممتعة بحق، وهو يحاول تقديم دراسة دفاعية – ولكن تبقى موضوعية بشكل كبير – عن الفقه الإسلامي وتطوره.. ونقد للتصور الاستشراقي في هذه المساحة.

كتاب الدولة المستحيلة اطلعت عليه، ولكن لم أقرأه كاملا، لأنه كان خارج اهتمامي حينها، وإن كان في مكتبتي.

وهو خيار موفق أن تقرأه.. ويمكنك أن تكمله بكتاب مقابل له في طرحه، وبأسلوب مبسط ولكن يبقى عميقا.. وهي دراسة د السنهوري في (فقه الخلافة: نحو عصبة أمم شرقية) –

وللأسف لم يترجم د توفيق الشاوي من الأصل الفرنسي إلا نصفه الأول الخاصة بالتأسيس النظري للحكم الإسلامي الرشيد وموافقته للنظرية الديمقراطية، أما النصف الثاني (الخاص بتتبع التجربة التاريخية للخلافة) فرأي الشاوي أننا لانحتاج إليه لأنه كان في أغلبه نموذجا ناقصا أو مشوها!! (طبعا لأن الترجمة حصلت في فترة المد الصحوي بنظرته التقديسية للتاريخ والخشية أن تلوث المبادرة الإسلامية فيستغلها الخصوم!)

—————-

أما (الدولة المستحيلة) يمكن اعتباره مزج بين مساحتين: دراسة نقدية في فكر الدولة الحداثية معإقراره بتنويعاتها وتطورها وتعديلها المستمر كتطبيقات، ودراسة أقرب للمثالية – مع بعض الموضوعية بلاشك – و(الأيقنة) للتطبيق الإسلامي في الحكم (كمداخل نظرية في الفقه، أو تطبيق واقعي واجتماعي)

ولهذا حكم باستحالة الالتقاء.. خصوصا في مسألة السيادة، والنظام الأخلاقي، والفصل بين السلطات، والتكوين الذاتي.

وأنا أتفق معه في حتمية التقابل بين النموذج الديمقراطي والقومي الحديث وبين (تصور الإسلاميين) للحكم، وأن الأخير ممتليء بالتناقضات البنيوية، ولكن الحديث عن التصور الإسلامي – أو بمعنى أدق: المقاربة الإسلامية – في النظام السياسي.. أمر مختلف.

ولكن يبقى الكتاب شيقا بالفعل.

——————

فيما يتعلق بالمساحة الأولى (نقد النظرية السياسية الغربية في الدولة)، فهي ممتعة بالفعل وأوافقه على أغلبها، أو بمعنى أدق – أتفهمها وأرى ضرورتها.

من الجوانب التي يغفلها الأناركيون العرب.. أن الدراسات النقدية الغربية (مابعد الحداثية) سواء في القانون والنظرية السياسية والاجتماع ومنهجية البحث وحتى في الأمن القومي.. هي تقوم بدور في تقديم رؤى شديدة الإيجابية كمحصلة، من حيث قفزها خارج النموذج السائد وإبراز جوانب القصور والإشكال النظري والتطبيقي (حتى لو بمبالغة وتعميم في أحيان كثيرة)، وهذا مطلوب أكاديميا وواقعيا لأي تصحيحات.. ولكنها لاتطرح هدم النموذج الواقع انتظارا لأنموذج متخيل – لاتطرحه تلك الدراسات لأنها أشبه بطلقات رصاص في بناء وليست معنية – ولايسعفها الوقت ومحدودية الدراسة والدور الفردي في صنع نموذج متكامل.

وجانب آخر – أن الوصلة بين النظريات السياسية (بكل مداخلها وتبايناتها وتطوراتها) و الواقع السياسي (قانون ونظم وممارسات) هي حاضرة ولكنها ليست مباشرة وحدية.

بمعنى – كثير من المداخل والنتائج والانتقادات التي تطرحها نظريات سياسية لمفكري مابعد النهضة حتى الآن – تأسيسا أو نقدا  – تجاوزها الواقع السياسي بالفعل في أماكن كثيرة.. أمور كمركزية الدولة في كل القطاعات، والفصل الكامل بين السلطات، وغياب المشاركة الاجتماعية في صنع وتطبيق السياسات، والانحياز الطبقي…

بل حتى في الإطار الدفاعي.. لو سردت لك حجم اللامركزية والتمدين وتعميق الذاتية والمداخل الاجتماعية فيه هنا ستتعجب.

ومع ذلك يبقى النقاش الأكاديمي واتجاهاته في مساراته الذاتية ومعاركه حول كل هذه المنطلقات االتنظيرية – خصوصا في المعارف الفلسفية لكل من السياسة والاجتماع والقانون وحتى الأمن القومي والحرب..مطلوبا.

فخطأ أن نتخيل أن وجود هذه الاشتباكات الأكاديمية، هو علامة على انتظار تشكل الواقع للحسم فيها. أو أنها تعبير صادق (مؤسس أو ناقد) عن هذا الواقع.

وخطأ في المقابل تخيلنا أنها ليست دون فائدة ومجرد حديث في برج عاجي.

هي مطلوبة لأنها تمثل مرجعيات فلسفية – ليس فقط لاتجاهات اجتماعية وسياسية واقعية، ولكن لدارسي المعارف التطبيقية كذلك: القانون، والدراسات الاجتماعية، والنظم السياسية، والاستراتيجية.. والأخيرة – هي الأكثر اتصالا وتفاعلا مع الواقع المعاش.

———————————————-

أما المساحة الأخرى المتعلقة بالمنظور الإسلامي في الحكم (الرجل يرفض وصفه بالدولة) فأعتقد هي مثار إشكال.

بالرغم أن وائل حلاق يحوز على خلفية جيدة في الفقه والأصول والتطور التشريعي (ظهر هذا في دراساته القانونية بوضوح) – وبالمخالفة للأسف مع كثير من يتحدث في جوانب نظرية الإسلام السياسية – إلا أنه في (الدولة المستحيلة) قدم صيغة شديدة التسطح والمثالية لهذا التصور..

أبسطها مثلا حين يتعامل مع الشريعة ككتلة مراجعية واحدة، وليس أن بناءها النظري – فضلا عن المقاربة الاجتماعية والسياسية في تنزيله – في الأغلب هو واقع بين الظن، أو الظن المرتبط ب (السياق السياسي والاجتماعي و …) .. علل ظرفية كما يعبر الأصوليون.

وهذه أهم نقطة في تصور أي مقاربة إسلامية للنظام السياسي: التمييز بين المساحات المراجعية (كما أكدنا عند مناقشة الجويني)

فتعيين الخلفاء الراشدين للقضاة حصل فعلا على سبيل المثال، ولكن (موضوعيا) كانت عوامل التقوى وبساطة التنظيم ومحدودية المسائل الشرعية والنظامية – تسمح بأن يحافظ ذلك على نجاعة وعدالة الممارسة القضائية.

(راجع قواعد المنهج التجديدي في محاضرة الجويني: العبرة بالمقاصد لا الآليات، اختلاف السياقات)

ولكن نفس الممارسة حين حصلت في دولة بني أمية والعباس – قادت لفساد عدالي (بالرغم من قوة الوازع الديني اجتماعيا وعلمائيا حينها) وصولا لتعفف كثير من الأئمة من تولي القضاء، بل حتى تحريمه في حالات.

ثم حصل تطور في الدول السلطانية (بسبب حاجة الملوك الطارئين لمباركة طبقة العلماء، وكذلك تعمق المذهبية وغلق باب الاجتهاد) لتفويض الطبقة العلمائية في اختيار قضاة للمذاهب.

ثم التطور في القرن التاسع وبدء التقنين – مع تدخل نسبي للسلطنة  في التعيين.. وصولا لمجلة الأحكام العدلية.

الأسئلة:

هل كل ماسبق (ِشريعة) وعلى درجة واحدة في حجية صنع النموذج؟

وأيها أكثر اقترابا وابتعادا عن الكود الأخلاقي والمعرفي الإسلامي (على الأقل في حده القطعي)؟

وأيها أصاب وأخطأ في الاستجابة للتطور السياقي (العلمائي، والاجتماعي والسياسي) لأجل الحفاظ على المقصود؟

كل هذا لايطرحه وائل الحلاق.

خذ مثالا آخر حين تعامل مع رأي الأحناف في اعتبار دار الإسلام (هي سيادة حكم الشريعة) كملمح أساس في التصور الإسلامي للحكم، وتغافل عن رأي الجمهور (إسلامية الدار بحسب الغالبية من أهل القبلة).. مع أنها آراء ظنية ترتبط بتفاعل الفقيه  مع السياق وليس فقط مع الدليل الشرعي.

وليس هذا فحسب: بل أصل المسألة نفسه ليس من المنصوص عليه، بل هو اجتهاد دائر بين الظن ، والظن السياقي!

وعدّد كل ما يصل له طرفك من مسائل: كجهاد الدفع والطلب، والحريات الدينية، وطريق التولية والبيعة وشروط انعقادها، والخروج، وانخرام الصفات المرعية..

بل حتى أمور هي من صميم النظر المدني – غير الشرعي – (أو الإمامة – بتعبير القرافي) كترتيب الجيوش، والعلاقة بين الإمام والوزراء، وترتيب الدواوين وسلطاتها..

وهل حين ظهرت الدولة الحديثة، في صورتها الأولية، كانت مجرد استجابة لأطروحات فولتير وهوبز وكانط وفيبر وماركس وشميتث (على تقابلها).. أم أخذ تطور النموذج (غير النهائي بكل حال) شوط معقدا من الاستجابة لتطور السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية – وحتى العسكرية؟

وهل هذه السياقات غير موجودة الآن؟ ام بعضها موجود والآخر تطور؟

وهل تختلف بين الشرق والغرب، وحتى بين دولة وأخرى، وحتى بين تحول سياسي وزمني في ذات الدولة؟

وهل تُعطينا تجاربنا القريبة (ماحصل في ربيع الثورات مثلا) دروسا إيجابية أو سلبية – مكتملة أو ناقصه.. تُسهم فيما نختاه من معايير؟

وأي أثر في النموذج المعياري الذي نطرحه تبعا ل (أفهامنا) حول التطور السياقي

ومايفرضه على نموذجنا المعرفي والأخلاقي (بفرض وجوده)؟

الخلاصة – بالعودة لماطرحناه من عناصر النموذج التجديدي حين درسنا الجويني – أن الشريعة فتحت مجالا واسعا لخلق وتطوير النظام السياسي تحقيقا لمقاصد عامة..

https://www.youtube.com/watch?v=BexB2bjORc8&list=PLDPHV–l_OYnLOBIApAGiG7v7pXOXcFEb&index=3

وبما ذكرناه في محاضرتَيْ (التجديد في الفقه السياسي، ومقاربة نقدية لأسلمة المعرفة).. أن هناكضرورة واحتياج وفرصة بالفعل لتطوير نماذج مستقلة في التحضر الإسلامي – خصوصا في باب السياسة..

ولكن هذا يكون نتاج شوط ممتد من التعرف على الذات أولا بكل مايحمله هذا من دراسات كثيفة ونقدية في العلوم والتراث الشرعي، ثم الانفتاح المعمق على التجربة الغربية.. ثم التفاعل الممتد مع الواقع وتبدل السياقات الزمنية والبيئية..

———————-

لكن انتقادي كان على منحى (طفولي) في رد استعلائي للتجربة الغربية ومخرجاتها، بل دون حتى الاطلاع الجاد عليها ودون التمييز بين النقاشات التنظيرية وتلك التطبيقية، ولكن فقط التعلق برفض نموذج -هو في الحقيقة أسطوري بالنظر للواقع   والتطبيق الغربيين.

بل المشكلة حتى في عدم وجود تصور واع غالبا- هو نتاج تكوين مثابر ومتكامل – في المعارف الإسلامية – وخصوصا في الأصول والفقه والسياسة الشرعية والتاريخ الإسلامي.

أما حين تأتي لمن ادعوا بأنهم قادمون لتطبيق النموذج (الإسلامي) – فالأمر يدخل في طور العبثية فعلا.
لم أقابل في حياتي قياديا إخوانيا مثلا -عدا جزء ممن درس علوم سياسية أو شريعة.. فقط جزء وليس كلهم – قرأ شيئا في السياسة الشرعية، ونسبة معتبرة لم تسمع عن هذا العلم أصلا (آخرهم شخص قابلته من شهرين !).. المثقف منهم يعرف فقط مسميات كالأحكام السلطانية للماوردي.. ليس الجويني طبعا!
طبعا دعك من أي اطلاع جاد على التراث الغربي.
فأي قدر من التأهيل موجود كحد أدنى – فقط لتفتح نقاشا حول كل هذه المسائل التي تتطلب عقليات بالأساس اجتهادية في مساحات متعددة – فضلا عن هضمها ونقدها لجُل الموروث الإسلامي والغربي في الباب؟
فإن قلت – ليست من وظيفة السياسي التنظير، ولكنه يعتمد على مخزون تنظيري وقيمي يتحرك منه، ويطرح بحركته جملة من الأسئلة والإشكالات يتلقاها المنظر. فهذا صحيح
ولكن أين هذا المخزون؟ وأين المُنظّر أصلا؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى