حول (طبيعة السؤال الديني) وكيف تغيّر ويتغير خطابنا؟
تعليق على (حول طبيعة السؤال الديني).. وكيف يتغير وتغير الخطاب؟
مقال ظريف.. وإن كنت أعتقد أن أصل المسألة ليس في مجرد تغير بنية الخطاب الديني تبعا لتغليب النظرة المصلحية (التي غلب عليها البعد المواجه في مرحلة الصحوة، أو البعد التصالحي والباحث عن الاستفادة في المرحلة الحالية) على النظرة الفقهية (التي تحدد مساحة القرب والبعد على حسب معيار التدين)..
أصلها – كما أرى – في تغير مقاربة الدين والتدين ذاتها:
أ. في تصوراتنا الذاتية للدين ومقاصده وأولوياته،
ب. وفي تغليب النزعة المنهجية والعدالية في التعامل مع الذات والآخر،
ج. وفي إدراك نسبية التقييمات القيمية والواقعية
الأول – (تصوراتنا حول الدين ومقاصده وأولوياته).. كما نعلم أن الإسلام الصحوي والحركي له تصور يُعلي كثيرا من جوانب التعبد الصرف، أو المصادمة السياسية العليا لتحقيق رؤى شديدة المثالية والسطحية على – مصفوفة القيم والمقاصد الدينية في أبعادها الإنسانية والروحية والعلمية .. وعلى هذا فمرجعية التقييم، ومساحة النظر ذاتها (على ماذا تقيم الناس والمجتمعات) تختلف.
مثلا – تنزيل الشريعة أو أسلمة المعرفة والتطبيق البشري، أوسع كثيرا وأكثر استيعابا لخلاصات التجريب البشري، وأبعد عن حدود المثال التاريخي (المثال التاريخي بالأصل لم يتحقق إلا في لحظات محدودة) مما طرحه الإسلاميون. وهذا ماطرحنا سابقا في محاضرات تجديد الفقه السياسي، وأسلمة المعرفة، ودوائر تدخل الشريعة، وحجيتها، والتمكين للنزعة المقاصدية.
ولكن لماذا عائض القرني (وأيضا نحن) اختلفت منظوراتنا التدينية؟
لأمرين: تجاربنا، وزيادة وعينا الديني والمجتمعي.. وبينهما صلة تبادلية.
فتجاربنا أخضعت كثيرا من المثاليات و(الأوهام) الأيديولوجية لمشرط القدح والإفلاس.. فأجبرتنا على أن نعيد زيارة منظورنا في فهم الدين ذاته.. وهذا بالتالي يُتيح درجة أعلى من التقييم .. وهكذا
الثاني – (تغليب النزعة المنهجية في تعاملنا مع الذات والآخر).. أننا بفعل التربية الاصطفائية والاستعلائية.. عانينا من مرض الخلل المنهجي في تنزيه ذواتنا الجماعية – كأمة وحركات – (حتى لو كنا بمنطق التربية الفردية نجاهد أنفسنا على معنى التواضع والإخلاص الفردي)، وتجريم خصومنا (أنظمة، وغرب، وحتى مجتمعات مسلمة غير حركية)..
وعلى هذا – فهذا الخلل النفسي والسلوكي قادنا لخلل معرفي أيضا – وهو تجاهل تعقيد دوافع الخير والشر بل جوانب الخيرية والشر ذاتها (هل نظام عبدالناصر مثلا هو مجرد نظام شيطاني عميل – أم أن هناك بجوار مُعطيات الاستبداد وقلة النضج الاستراتيجي والتنموي والأزمة الثقافية – جوانب كثيرة مثلت أحلاما ونقاطا مضيئة في العدل الاجتماعي وأشواق ومسارات التحرر وحلم الوحدة؟ وأن هناك تفسيرات أكثر اتساعا من عامل خصومة الدين لتشمل بشكل أهم صراع السلطة وسلوك الاستبداد بغض النظر عن أيديولوجيته؟)..
هل الغرب هو كيان مظلم (على شفا انهيار حضاري مقبل وقريب؟) أم به جوانب متعددة من معالم التحضر والأنسنة والتقدم – وحتى في عداواته لنا يتحرك بمنطق بعيد عن الشيطنة – أو على الأقل لايتجاوز كثيرا في مساوئه منطق تاريخنا الإسلامي ذاته – مع المفارقة الزمنية بالطبع والتي تُعطي لسلفنا الأسبقية الحضارية والقيمية وكان هذا فقط من أثر باق للديانة؟ .. وهكذا
وهنا تأتي النقطة الثالثة.. أنه ليس بالضرورة أن نطلق أحكاما حدية – سواء من منظور القيمة أو الواقع؟
فقد تعدد – وينبغي أن تتعدد – منظوراتنا التقييمية.. وكل منها له فائدة في بنائنا الشخصي والمجتمعي.
وهذا لابد أن يحظر في مناهجنا في تحليل كل شيء حولنا.
فقد نحتاج لإعمال منظورات (أخلاقية، وسلوكية، ومعرفية، وحضارية، وسياسية، واستراتيجية، وإيمانية، وتاريخية، ومجتمعية، وووو) حين نقارب أي وضع.
وكل منظور له دلالته وفائدته ولغته التي نعبر بها عنه، وحتى مزاجه.
ويجب عدم الخلط بينها، أو تغليب أحدها على الآخر مطلقا دون النظر لوظيفته.
وهذه مشكلة ضخمة في تناولنا لتاريخنا الإسلامي مثلا..
فالقراءة الوعظية للتاريخية (تذكر حديثنا قديما عن راغب السرجاني مثلا) مفيدة في أحوال معلومة، ولست ضدها.
ولكن لاينبغي أن نكتفي بها، أو نُعممها في كل مواطن النظر والتعليم والدرس، أو نجعلها بديلا عن القراءات الأخرى (التأريخية بمنطق البحث التاريخي الصرف، أو السياسية والاجتماعية والاستراتيجية بمنطق التنظير الإنساني الذي يعتمد على التحليل التاريخي مع مراعاة – وبالرغم من- تغير السياقات وكثافة التفصيلات)
وأعتقد أن المسببات الثلاثة السابقة هي الأكثر تأثيرا – بعلمنا أو بدون – في التحولات الفكرية التي حصلت فينا ومع غيرنا.. أننا نقترب منها أكثر، ونقتنع بها بحكم التجربة والقراءة الذاتية والتدبر، ونمتلك أدواتها المعرفية والتجريبية فتضفي علينا خلاصات تُغير من ذواتنا ونتائج نظرنا
لعلك اطلعت أيضا على رسالة (كيف نفهم الغرب)؟
وأتخيل أنك لو سألتني في الصغر وأول سنيّ الجامعة ذات السؤال، لكنت بالتجديد أردد – دون وعي ولكن بعمق إيماني حاسم! بل وربما بشيء من التفلسف والتنظير تبعا لقراءات آل قطب وغيرهم – نفس إجابة عائض القرني الأولى !
فانظر إلى فعل السنين والتجارب والأحوال فينا – سلبا وإيجابا !
الله المستعان، وهو الهادي