15-9-2016
وصلني هذا التساؤل:
هل هناك فارق بين التفكير الاستراتيجي في الحروب، أو للمدنيين في السلم من ناحية أخرى؟
يعني تفكير الأول هو كيفية القضاء أو شل حركة العدو، والثاني تحقيق مكاسب لجميع الأطراف..
السؤال هو: لو الفروقات جوهرية زي كدة أو أكثر – كيف نخطط للتخلص من هيمنة العسكريين على السياسة
–
هل هناك فرق بين التفكير الاستراتيجي في حال الحرب، وبين الصراع المدني – خصوصا تطويع المؤسسة العسكرية للمدنيين؟
وهل الفارق هو أساسا في مستوى حدية الصراع: تحطيم إرادة الخصم في الأول وفرض الشروط السياسية، ولكن تحقيق صيغة تفاوضية في الثاني؟
بداية – حتى في التفكير الاستراتيجي في حال الحرب، فهناك تمييز بين حالتين: الحرب بأهداف شاملةوهذه تُحسم بتحطيم إرادة الخصم عبر ضرب مراكز ثقله الأساسية (قدرات وإرادة)، والحرب بأهداف محدودة والتي تستخدم القوة العسكرية بأشكال متعددة للتأثير على حسابات الخصم وحالته النفسية ليقبل بعد ذلك بصيغ (عبر تفاوض).
وهذا التقسيم طرحه كلاوزفيتس مبكرا منذ 1812 وإن كان بشكل بدائي، ولكني طورته في رسالتي للدكتوراة.
والنوع الثاني للحرب – بالأخص – هو أغلب أنواع الحروب في الحقيقة، وليس الأول.
ربما مايعطي لحضرتك الانطباع أنك تُقيّم على أساس النشاط العسكري التكتيكي (معارك) والعملياتي الذي – لطبيعة بيئة القتال – يقصد (غالبا) وليس دائما – لسحق قوات الخصم.
annihilation
ولكن حتى في الفن العملياتي والتكتيك، فالقضية أعقد من هذا كثيرا.. لماذا؟
لأنه كما يقول كلاوزفيتس: ليست كل حرب لتحقيق الأثر الاستراتيجي فيها تطلب تحقيق فوز عسكري (انظر مثلا: فيتنام أو حتى حرب 73 لو سارت كمايجب)، بل أحيانا (كما في حرب 67، ومجمل الحروب غير النظامية التي خاضتها إسرائيل) يكون الهوس بتحقيق الانتصار العسكري الساحق مضرا بإمكانية تحقيق الأثر الاستراتيجي..
(تدمير الجيش المصري وسحق كرامة النظام تماما لا تترك لعبد الناصر أي سبيل غير عدم التسليم سياسيا بالهزيمة.. على خلاف حرب الاستنزاف مثلا، وحتى حرب 1973 أيضا – فلكون السادات ومعه القيادات شعروا بقدر كبير من استرداد الكرامة بالرغم من الخسارة العملياتية الكبيرة بعد الثغرة .. فأمكنهم التفاوض بمرونة في اتفاقيات فض الاشتباك بعد ذلك – وإن كان طبعا السادات تجاوز كثيرا في تقديم تنازلات لطبيعة شخصية وتصور سياسي يحمله ولكن هذا أمر آخر)
لكن الطريف – أن السلوك الاستراتيجي الجيد لإسرائيل في إدارة النصف الثاني للحرب (التوقف عن تطوير مستوى العمل العسكري) هو يخالف العقيدة الإسرائيلية في البحث عن نصر عسكري حاسم – كان بسبب الضغط الأمريكي بالأساس، وكذلك وجود الروسي بالطبع.. ولو تماشى الإسرائيلي مع هواه العسكري (كما فعل مثلا في بيروت 1982) لكانت النتائج كارثية عليه، وليس تحقيق مكسب استراتيجي هام في 1979.
إذن – الفرق ليس في مستوى حدية الصراع، ولكن في أشياء كثيرة أخرى الحقيقة.!
هناك جملة من القواعد في التفكير الاستراتيجي، والأمراض التي يجب تجنبها .. وهذه الخلاصة يمكنتعميمها بين مساحات معرفية وتطبيقية مختلفة..
فلو قلنا مثلا أن قيمة التفكير الاستراتيجي هي في وضع الأهداف المناسبة للقدرة، والتركيز في اشتقاق مسارات كلية تجمع بين مشاريع وتكتيكات عبر منحنى زمني للوصول لهذه الأهداف، وكذلك المرونة الكاملة في التعامل مع المتغيرات الحادثة والمحيطة،
وفي نفس الوقت عدم الانشغال بمستويات التكتيك والعمليات ومعاييز إنجازها عن ملاحظة تحقق الآثار الاستراتيجية، وكذلك عدم الاستسلام للتقييمات العاطفية والتفكير الرغائبي..
وأيضا – تقدير صعوبة تقييم السلوك البشري وردود فعله مستقبلا.
وإن كانت هناك بيئة تدافع فلو كان المقصود هدف كامل (تنحية الخصم مطلقا) فلابد من تفكيك مراكز ثقل قوته وإرادته، ولكن الأغلب تكون أهداف محدودة بتكثير مكاسب وتقليل خسائر عبر صيغ تفاوض..
أقول: هذه القواعد – في المستوى التجريدي – يمكن تعميمها في كل أنشطة التدافع الإنساني.. وهذا ماجعل الكثيرين في بيئة الأعمال يُراجعوا ويستفيدوا من أدبيات كلاسيكية في الاستراتيجية العسكرية – خصوصا – صن تزو.
أو كما نقول أن خصائص القيادة فيها شق عام أيضا لو اكتسبته يمكنك توظيفه في كل الأنشطة: العسكرية، الأعمال، الطب، الإدارة الحكومية…
وهناك بعض الكتابات التي تحاول تلمس هذا الحد المشترك في التفكير الاستراتيجي.. أشهرها وأحدثها:
كتاب بروفيسور لورانس فريدمان.. عن الاستراتيجية مثلا.
————-
لكن.. الموضوع ليس بهذه البساطة..
لأن هناك كمية كبيرة من المعارف والخبرات والمهارات التي تختص بكل بيئة من النشاط الإنساني، والتي لابد من الإلمام بها.
…كما أن هناك اختلاف قوي في (المزاج) داخل كل استراتيجية: عسكرية، اقتصادية، إدارية، سياسية…
فأهم اختلاف (مزاجي) مثلا بين الاستراتيجية العسكرية، والإدارة الاستراتيجية أن أهم نقطة (مركز الثقل) في الإدارة الاستراتيجية التي تعتمد على إنتاج منتجات موصوفة في الأخير مع بيئة صراع ولكن محدودة ومشروطة بقوانين – هي الخطة المحكمة، ولكن في بيئة الصراع العسكري والسياسي (حيث ردود أفعال الخصم ومبادراته، وطبيئة المتغيرات البيئية والعوائق والفرص المفاجئة) فأي خطة -كما يقول جنرال مولتكة – لاتصمد أمام ثلث فترة الحرب.. لكن مركز الثقل الحقيقي هو في القابلية الاستراتيجية عند (القادة).. وهكذا
أيضا – الاستراتيجية ترتبط بشكل كبير بطبيعة البيئة المحيطة وقوانينها، وكذلك طبيعة الأدوات الكلية (العمليات).. فالاستراتيجية في بيئة الصراع العسكري، تختلف عن الاستراتيجية في بيئة التدافع الدولي السلمي، عن تلك في ثورة شعبية، عن تلك في تدافع سياسي داخلي.. وهكذا
تختلف من حيث ضرورة استيعاب قواعد وديناميكيات الأداء العسكري، أو العلاقات الدولية، أو القدرة على التثوير العنيف أو السلمي والحشد والتأطير، أو المهارات الحزبية وبناء التكتلات – على الترتيب.
———————
وبشكل أكثر تحديدا في المقابل.. إذا استوعبنا كل ماسبق كنقاط مشتركة أو اختلافات عامة – فماهي وجه الصلة الأكثر تخصيصا بين التفكير الاستراتيجي العسكري وضبط العلاقة مع العسكريين؟
أولا – ضبط العلاقة مع العسكريين تأخذ صورا مختلفة، لكل منها طبيعة شديدة الاختلاف:
فقد تحكي عن ثورة شعبية كما في يناير 2011 (انتفاضة بمعنى أدق) والجيش لم يأخذ موقفا حديا ضدها ولكن هو بالتأكيد من مراكز قوى النظام القديم.. هنا نحتاج للتفكير الاستراتيجي بقواعده الهامة لنفهم السياقات ونضع أهداف واضحة وخطط.. ولكن الأهم هو خبرة (العلاقات المدنية العسكرية) في مراحل التحول الديمقراطي والتي ترتكز على ثلاثة خطوط: تقليل قدرة المؤسسة العسكرية على الفعل وإخضاعها، تقوية الوضع المدني كقدرة وشرعية، وخفض مساحة التوتر مع المؤسسة العسكرية.
وتمر عبر مرحلتين: الأولى سريعة وحاسمة (الانتقال) وفيها يُستهدف حرمان العسكريين من فرص والقدرة على التدخل في السياسة.
والثانية تستهدف إدارة المدنيين لملفات السياسة الدفاعية، وهي طويلة زمنيا لأنها تتطلب تطور الشرعية والقدرة المدنية في هذه الملفات.
وللنجاح في مرحلة الانتقال الديمقراطي بعد ثورة يناير – هناك ثلاثة شروط مصيرية كان لابد من تحققها:
1- استدامة الضغط الشعبي عبر أشكال مختلف من الحراك
2- توافق مدني كامل على كيفية إدارة المرحلة الانتقالية، وكذلك العقد الاجتماعي الناشيء
3- حكمة في التصعيد والتهدئة مع العسكريين في ملفات بعينها، فالدستور مسألة محورية، وكذلك منع المحاكمات العسكرية للمدنية، وكذلك عدم التواجد في أي إطار سياسي..
ولكن التدخل تفصيليا في ملفات الدفاع أو محاولة تسييس المؤسسة يرفع بشدة درجة توترها ويؤدي للتدخل وليس تقليله.
قد نحكي في التعامل مع العسكريين أيضا- كثورة شعبية ضدهم (كحال الثورة الشعبية قليلة الحدة ولكن طويلة الأمد ضد بينوشيه مثلا، أو أكثر حدية كما في إيران أو رومانيا).. وهذه لها منطق آخر وشروط أخرى.
أو نحكي على حرب عصابات كما حصل في أمريكا اللاتينية في الستينات مثلا..
أو حتى إرهاب نوعي كما حصل في تسعينات مصر..
أو نحكي على تدافع ديمقراطي تقليدي لتطوير السيطرة المدنية في مرحلة التثبيت الديمقراطي..
واضح طبعا – أن كل عنوان مما سبق، يستفيد من التفكير الاستراتيجي العام بالطبع، ولكن له خبرة وقواعد خاصة به.
مشكلتنا في مصر مثلا.. أن القوى السياسية التقليدية – وأهمها الإخوان – خاضت كل مرحلة بعنوان شديد الاختلاف عن المنطق الاستراتيجي المطلوب، فضلا عن الخطايا الأخلاقية والمصادمة للحس الديمقراطي والإسلامي بالطبع.
فتعاملوا مع مرحلة ثورة يناير على أنها تدافع سياسي تقليدي يريدون فيه تعزيز المكاسب السياسية بالأساس (انتخابات وإدارة…)، ثم تطور الأمر لمحاولة للسيطرة وتكريس حكم شمولي في حين أنهم فاقدين أي قدرة – فضلا عن تفويض وشرعية – للقيام بذلك، بل حتى على القيام بأبسط الصلاحيات الرئاسية أيام مرسي.
ثم حين حصل التدخل العسكري بعد توفر كل شروطه – من وجود قاعدة شعبية خلفه، وكذلك شيطنة الإسلاميين بالحق والباطل.. تصوروا أنه يمكن إحياء حالة ثورة – وفي ذات الوقت مخاطبة التدخل الخارجي (أمور شديدة التناقض)..
ثم تواجد السلاح بشكل محدود في أول الأمر – وشكل ذريعة هامة للشيطنة وكذلك لارتكاب مجازر من قبل النظام – خصوصا أنه توافق زمنيا مع إرهاب احترافي..
ثم ظهرت – في ظل كل هذا وبعده – أفكار حمقاء عن حرب عصابات! أو إرهاب نوعي.. في حين أن معطيات البيئة شديدة الافتراق عن كل ذلك.
ثم انهار أي حراك وقدرة سياسية وتفتت التنظيم، ولكن العالم الافتراضي في النت والقنوات التابعة لايزال يحكي عن ثورة!
الخلاصة – أن غياب التوصيف الاستراتيجي (ماهي طبيعة التدافع، وطبيعة الواقع السياسي والاجتماعي) ثم افتقاد الخبرة المطلوبة للتعامل مع كل حالة، أدى لكوارث حقيقية.
الوضع الحالي أكثر تعقيدا، وشروط النجاح السياسي مركبة كذلك، وحتى التوصيف السياسي للمرحلة ليس ببساطة (سيطرة عسكرية وكيفية التخلص منها)..
سبق أن أوضحت وجهة نظري في أكثر من رسالة سابقة، وأعتقد أن قراءة الورقة التي قدمتها في مؤتمر الجامعة الأمريكية وأرسلتها لحضرتك عن (الإطار التشريعي للعلاقات المدنية العسكرية) قد يكون فيها بعض توسع ومزيد شرح في هذه الناحية وتطبيق على الحالة المصرية.
ثانيا – التفكير الاستراتيجي العسكري قد يظهر أنه يُفيد في فهم طريقة تصرف المؤسسة العسكرية مع الملفات المختلفة – خصوصا السياسية. هل هذا صحيح؟
الحقيقة – لا.. لسببين.
الأول – أن المؤسسة العسكرية قد تكون (جاهلة وغير مثقفة) من منظور العلم العسكري.. وهذا وضعنا العربي للأسف. ولهذا فالخبرات التي امتلكتها وتوظفها فيما بعد، هي خبرات بدائية – لا علاقة لها بالفن العسكري – ولكن ببيئة الترهل الوظيفي والإداري.
الثاني – أن الأكثر تأثيرا في سلوك المؤسسة العسكرية هي سمات نسميها (العقلية العسكرية)، وهذه خصائص في أغلبها سلبية بحكم بيئة القتال والنشاط التكتيكي..
فالعسكريون هم الأكثر صعوبة في الاقتراب من المنطق الاستراتيجي بالمناسبة لغلبة النمطي والتفكير الخطي والميكانيكي.. هناك خصائص أخرى كالنظرة الدونية للمدنيين، والمبالغة في القدرة الذاتية، والمحافظة (الخوف من التغيير)، والتعبئة (وليس بناء التوافقات وفتح النقاش الموضوعي)
هذه الخصائص موجودة الحقيقة في كل العسكريات، ولكن الاختلاف فقط في الدرجة (وهو اختلاف كبير فعلا بين الوضع الغربي مثلا، والعسكرية المصرية)
ثالثا – التفكير الاستراتيجي العسكري مفيد في مرحلة التفاوض مع العسكريين، وإدارة المدنيين لملفات الدفاع، ولكن هذه مرحلة ديمقراطية متقدمة.
السبب الأهم في جعل أغلب دارسي ومدرسي الاستراتيجية العسكرية في الغرب هم من المدنيين، هو حفظ الميزان المعرفي والمهاري في هذه البيئة للمدنيين، فيسهل السيطرة على العسكريين.
بمعنى – العسكري الغربي يدرك أنه بلاشك أكثر احترافا وتخصصا من المدني في جوانب التكتيك والعمليات، ولكن مساحة الاستراتيجية (كيفية تحريك الأداة العسكرية لتحقيق الهدف السياسي) المدني على الأقل مساو له في القدرة والخبرة، إن لم يكن يتفوق عليه.
فالعلاقة هنا بين الاستراتيجية العسكرية والعلاقات المدنية العسكرية هامة ولكن أيضا غير مباشرة.
[…] https://mohamedboraikblog.wordpress.com/2016/11/25/strathink/ […]
[…] […]