February 2018
نقاش حول شرعية وجدوي العمل المسلح في التغيير السياسي.. ومنطقه الاستراتيجي؟
أولا) أقدّر لك حرصك الشديد على تحرّي كل ماله علاقة بهذا الأمر الحيوي.. ومن أشد الأمور التي جعلتني ناقما على كثير من الكيانات والأفراد، في محيطنا الإسلامي والوطني.. ليس الجهل أو قلة الوعي والإدراك، فمن منا الذي يعلم كل شيء وفي كل شيء، ولكن الترفع عن طلب المعرفة وتمحيص الآراء في الأمور المفصلية التي يتوقف – وتأثرت بها – مصائر البلاد والعباد.
ثانيا) رأيي القديم – شرعيا وحركيا – في مسألة التغيير السياسي المسلح ، أو الذي يكون العمل المسلح أحد مساحاته – كما يشي به فعلا حواري مع القيادي الشرعي الإسلامي – هو منطق الجواز مبدئيا ولكن ضمن شروط هامة..
————–
كنظرة شرعية، بالفعل أغلب الفقهاء المتأخرين، وكثير من أهل الحديث كانوا مع منع الخروج المسلح (ورفعوها حتى لمرتبة الاعتقاد.. كما في العقيدة الطحاوية: ولا يخرجون على أئمة الجور!!)
ولكن هناك قطاع واسع عند الأحناف (رأي الإمام أبي حنيفة على الأخص) وبعض فقهاء الشافعية (أهمهم الجويني، ونقلت رأيه تفصيليا وناقشته في محاضرتي عن الغياثي.. فراجعها – لأنها أهم محاضراتي على الإطلاق)
ورأي عن مالك، وموقف عملي لأحمد في تأييده لثورة أحمد بن نصر الخراعي مع شيوع رأيهما المُعلن بالتحريم.
وفعل فقهاء التابعين والقراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث، وقبلهم الإمام الحُسين، وهو رأي الإمام علي، وأبي ذر.
كلهم يرون جواز الخروج بشرط غلبة المصلحة كظن راجح..
لكن.. بلاشك أن التجربة العملية – سواء في النظر لحجم الدماء (كما حصل في الحرة وكربلاء – خصوصا الحرة التي حكى عنها ابن الأثير وابن كثير – بمبالغة كما هو واضح أن هناك ألفي امرأة حبلت مع استباحة المدينة!، ولكن استباحة المدينة والمقتلة هو قطع تاريخي)
أو الخسائر الضخمة على مستوى الأمة (بالأخص تقويض مستوى المنعة وعدم استباحة الحياض، أو حتى مارآه الفقهاء وقفا لحركة الفتح – بكل مافيها من إشكالات معقدة كما نعلم) وهيبة الديانة (ضرب الكعبة بالمنجنيق، ومجرد استباحة المدينة، والمقتلة في الصحابة وآل البيت والنكالة بهم)،
أو تقييم هل قاد الخروج في حال نجاحه لنتائج إيجابية (كالدعوة العباسية التي قادت لدولة باطشة مُحرّفة).. جعلت فعلا المنحى الفقهي يتجه للتحريم غالبا، وهناك أيضا عنصر تأثير السياسة للأسف – وهو عنصر حاضر.
وهذه إشارة ابن حجر في التقريب (أن السيف كان مذهبا للسلف قديم، ثم لما رأوا ماحصل في الحرة تركوه)
وكانت مشكلتي في مع هذا الرأي الغالب – خصوصا المنبني على تقييم للتجارب والظروف السياسية والاجتماعية – ليس المنع كإفتاء عام مرحلي، ولكن تغيير أصل الحكم.
وكنت أرى من الأولى لهم تبني مسألة (إفتاء عام لزمان بعينه) وليس تغيير الحكم، ولكن يصعب عليّ أن أحاسبهم على هذا لأن هذا التقسيم كان خارج خارطتهم الإدراكية والأصولية حينها!
وهذا أيضا ينسحب على رأي ابن حزم الذي قال بالنسخ (أن الشريعة حرمت الخروج أول الأمر، ثم أتت النصوص بالتجويز)، وفي رأيي أن ذلك مرتبط بالمرحلية والقدرة، وليست بالنسخ.
لكني لاحظت مع الوقت أيضا – أنه حتى ألمع الفقهاء وأوضحهم في التجويز – الجويني كما نقلت عنه كلامه – استخدم كلاما شديدا في التحذير من أخذ الأمر بتساهل..فراجعه.
مع الوقت والتجربة والدرس.. حصلت تطورات هامة في رأيي من ناحيتين:
الناحية الأولى – أني بدأت أقدر عنصر العوامل السياسية والاجتماعية وموازين القوى التي تجعل أي مخالفة للخط السياسي للدولة والرغبة في تغييره، لابد أن تنحو للمسار المسلح وبناء العصبة القبلية في مرحلة زمنية (مفهوم الشوكة عند الجويني)، ولكن حين تتعقد الأنماط الاجتماعية والسياسية وشكل الدولة ومؤسساتها، وتظهر أنماط (قويت أو ضعفت) من التشكيل والممارسة السياسية.. هنا يتغير الأساس الواقعي التي صدرت عليها أحكام (وفتاوي) المنع والإجازة ..
فكرة أن الأحكام (مادون القطع) تتغير على حسب العوائد والأعراف والسنن، وليس فقط الفتاوى، طرحها الإمام شلتوت، وهي مامارسها عمر بتمامها في أحكامه المشهورة.. فهو لم يغير فتاوي ولكن أحكاما.. الفارق هنا: أن هذه الأحكام مبنيه في انطباق شروطها على علل تتغير زمنا، وليس بين حالة فردية وأخرى!
بمعنى أن هناك أنماطا من الشوكة وحيازتها والتعبير عنها وممارستها أوسع من القوة العسكرية والقبلية..
(هذا تناولته باستفاضة في محاضرة الجويني)
ولأن الجويني مثلا بنى كثيرا من خياراته وتأسياساته على علة الشوكة، فظهر لي كيف أن التجديد الزمني والعُرفي في تكييفها، يُمكن أن يفتح بابا لتجديد في مفردات الفقه السياسي، ومنها الخروج المسلح تضييقا أو توسعة.
بمعنى – أن مسألة القوة الشعبية مثلا، والقوة العسكرية النظامية المساندة (كفصيل من الجيش مثلا) للحركة الشعبية.. هي من أنماط الخروج السياسي، ولكن ليس الخائض في العمل المسلح والقتال.
ولأن العمل المسلح فيه من الإشكالات الشرعية (خصوصا في مفهوم الدولة الحديثة والتجنيد الإجباري والعمل الشُرطي – مايجعل هناك حائلا شرعيا أمام الاستحلال الشرعي لدماء القوى العسكرية والنظامية للدولة لخفوت المسئولية الفردية وحيز العدوان في حقهم!) بل حتى في طور الدفاع مافيه من اختلال لموازين التسلح والقدرة القتالية لصالح الدولة، ولكن الأخطر: هو رد الفعل الذي يتعدى حيز الدفاع ورده لمظالم متعدية أوسع كثيرا من مصلحة رد الاعتداء!
وبالإضافة لكل تلك الإشكالات الشرعية والأخلاقية فهناك أيضا الإشكالات العملية كما سيأتي ذكرها، وهي الأكثر حسما لأنها مرتبط بفكرة الجدوى التي بنى عليها المجيزون حكمهم.
كل هذا – يجعل أنماط العمل السياسي الاحتجاجي (الخروج غير المسلح)، أو الإصلاحي.. هي الأولى في الاعتبار.
الناحية الثانية– أن هناك اشتراطات لم يعتبرها الفقيه القديم، وإن كانت من مفردات الجدوى (ليس فقط العملية ولكن الرسالية والقيمية) ورأيتها بحكم التجربة، والدرس التاريخي أخطر من مجرد الحساب الضيق لفاتورة الدم والخسارة مقابل المصلحة العامة..
أ. وضوح الهدف السياسي وسلامته
ب. قدرة القيادة واستقامتها.
لا أقول أن كلا الشرطين لم يكن لهما محل في اعتبار الفقه القديم.. بالعكس – لو حللنا خروج القراء والفقهاء مع ابن الأشعث مثلا، أو حتى خروج محمد ذي النفس الزكية أو الإمام زيد.. لظهر لنا قيمة الشرطين جليا.
فابن الأشعث كان رائم سلطة بالأساس؛ فالهدف السياسي الذي يُخاض من أجله في مخاضة عويصة لم يكن على هذه الدرجة من الصفاء.
والقدرة والاستقامة في حالته كانت منقوصة أيضا لطيشه، والقدرة القيادية (أي المُكنة في التقييم الاستراتيجي وعدم الاندفاع) كانت منقوصة في حالة الإمامين للأسف.
ربما يدفع أحدهم أننا لم نضع الثقة في قدرة القيادة واستقامتها اشتراطا منفصلا عن تقييمنا للجدوى (كمنتج خططي استراتيجي)؟
لأن حساسية ملف الخروج المسلح ومافيه من تعقيدات للقياس الأخلاقي والاستراتيجي المُدقّق يجعلنا – منذ أول الأمر – قبل انتظار لأي تجديف في بحر مهلك لا طائل منه.. نسد الباب إذا افتقد أي من الشرطين السابقين.. خصوصا أن علاماتهما تكون جلية في الغالب.
مثلا قدرة القيادة واستقامتها: إذا كانت قيادات الإخوان والإسلاميين مفتقدين غالبا لشرطي الاستقامة والقدرة والمعرفة أمام استحقاقات وظروف ومهام أيسر كثيرا في جوانب الحساب الأخلاقي والسياسي : (كالتفكير في مسألة التغيير السياسي قبل الثورة، أو عدم التشويش عليها كخط سياسي، أو بناء توافق وطني و استفادة من ثورة شعبية حاضرة، و طريقة التعامل السياسي مع المؤسسة العسكرية، أو معالجة سياسات حمقاء مستأثرة تسمح بتكتل الخصوم وتضييع السلطة من أيديهم، والمقامرة بآلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المسجونين والأسر التي تعاني في مسار عبثي دون وضوح بوصلة سياسية أو حساب مُدقق بعد 3 يوليو، وإدمان التصريحات التخديرية للأتباع على غير الحقيقة في كل المحطات، أو التسبب في إفشال مرحلة التحول الديمقراطي على الجملة، وفشل الحساب الأخلاقي والاستراتيجي في ملفات العلاقة مع الأمريكي وملفات الصراع العربي الإسرائيلي والسياسات الاقتصادية العليا)
فهل يُتوقع من مثل هذه القيادة أو بناتها، أن تؤتمن على خيار شديد الخطورة.. الأصل فيه صعوبة الضبط الأخلاقي والقيمي، فضلا عن الاستراتيجي كالعمل المسلح؟!
من أشد المهازل الشرعية والأخلاقية مثلا ماسُمي بفتوى (القصاص) التي فقط لم تُدرك المآل المُهلك في حساب الدم والسياسة للقيام بهذا (القصاص)، بل جهلت أبسط جوانب الفروق بين الفتوى والقضاء! ولم تر أي مسئولية ولو يسيرة في الطرف الذي سمح بمظاهر سلاح في فعالياته من أول يوم وغرر بآلاف الشباب للوقوف أمام آلة البطش لدولة كاملة في مسار كان ظاهرا عدم جدواه.
القصاص هو حكم قضائي، ليس فقط من حيث أنه لايُترك للعوام إنفاذه وإلا سقط النظام العام وابتلي الناس بفوضى ومقتلة وسلب، ولكن لأنه لايُمكن إنفاذه إلا عبر استنفاذ أدوات التحقيق الجنائي والنظر في الأقضية والأدلة على حسب كل حالة!!
[…] في نقد التغيير المسلح؟! […]