في حوار على هامش الانتفاضة العراقية طُرحت بعض الأمور الهامة:
1- هل فعلا لا تحتاج الثورة العراقية الآن لل(تنظير)؟! وأليس مايخطه الشباب العراقي بدمائه الآن كفيل بحسم كل الإشكالات؟
2- هل ثمة مشكلة طائفية الآن، بعد أن حطمت الانتفاضة العراقية كذلك أي طرح طائفي؟
3- وأليس الأجدى فعلا لمجتمعاتنا بعد كل الخراب الذي أحدثته الحركات الإسلامية والطائفية أن تختار العلمانية كخيار فكري وسياسي؟
أولا) بخصوص وضع الثورة العراقية الآن والحاجة للتنظير في الجانب الفكري والاستراتيجي، ،
بداية حق دماء الشهداء في عنقنا جميعا، وليس العراقي منا بأحرص من غير العراقي على نجاحها، فإننا جميعا إخوة وهمنا واحد.. وإن كان الأول بالتأكيد بحكم المعرفة والهم الذاتي، أكثر انخراطا ودراية بشأنها، فأنا مقدّر بصدق الانفعال الوجداني عند الإخوة العراقيين في تلك المرحلة، واسمحوا لي بالإشارة لتجربة شخصية قد تفيد، لأن ذات الانفعال قد عشته وغيري الملايين في مصر بالضبط منذ ثماني سنوات، وكانت ثورة ملء السمع والبصر نجحت في إسقاط رأس نظام عتي، وفقد فيها وموجاتها آلاف الشباب الطاهر غير المُسيّس أرواحهم لا لأيديولوجيا ضيقة أو تنظيم أو مصلحة، فقط للوطن.. وكان نجاحها كفيلا بتغيير وجه منطقتنا، بما فيها جروع غائرة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي.. وبالفعل – بمجرد قيامها، تركت تدريبي في أكبر مستشفى عيون بانجلترا، وجمّدت مؤقتا دراستي للدكتوراة في الاستراتيجية ونزلت مصر مع مخاطرة كبيرة لكوني ممنوع من دخول مصر حينها .. ومع ذلك:
. الثورات والحراكات لها مطالب نوعية، وبعضها أخطر كثيرا من مجرد المشاركة المادية في الشارع وفقدان الدم، وبالرغم من كوني حينها في أول الثلاثين بالعمر، و كنت في قلب الحالة الشبابية التي تفاعلت مع الثورة، كنت أرى الواجب في حقي – ومن هم مثلي – من حيث الاختصاص والقدرة على العطاء، هو في محاولة دفع المسار لرؤية سياسية واستراتيجية ما قادرة على إنجاح الثورة في عملية إسقاط النظام بالفعل، والقدرة على إدارة كل الملفات المعقدة في المرحلة الانتقالية وإنجاز مهمة التغيير وبناء عقد اجتماعي وسياسي جديد.. (ما أشرت له في مداخلة سابقة). وكان هذا هو السبب لنزولي حينها بمخاطرة، وليس أن أضيف رقما إلى الملايين في الشارع فواجب دراستي وتدريبي خدمة لأمتي، كان بالتأكيد أهم من ذلك.
. حينها تواصلنا مع كل القوى والتيارات الشبابية، وللأسف الشديد – كان الشباب بفقدان الخبرة، والإحساس العالي بالذات وماقدموه، وهذا الإحساس نفخت فيه بعض القوى الدولية والداخلية بغرض استيعابهم، والنبرة العقيمة أن الشارع وتجلياته سيحسم كل شيء – دون احتياج لبناء قيادة ورؤية سياسية واستراتيجية جامعة تحاول بصبر التأثير وتوجيه المسارات والملفات المعقدة – وأن مستوى الآمال والثقة في قدرة الشعب لتجاوز أي هواجس – عائقا، أما القوى كالإخوان والأحزاب المدنية فكانت بالأساس في طور عقد الصفقات مع الداخل والخارج، وتكريس حظوظها الذاتية وعينها على السلطة المقبلة..
. فانتهى الأمر لفض الحشد الشعبي سريعا بمجرد إسقاط رأس النظام دون جسده وأركانه، ودخول مرحلة انتقالية يقودها العسكر قادت لكوارث وظيفية وانهيار أكبر في الدولة كوظيفة، وتفاهم حصل بين العسكر والإسلاميين تارة، ثم بينهم والمدنيين تارة، ونشأة نظام مشوه يتقاسم فيه تنظيم شمولي (الإخوان) والعسكر النفوذ، ويفتقد فيه الإخوان مع فوزهم بكل الانتخابات شرعية ديمقراطية حقيقية لأنهم ناقضوا أبسط مقوماتها، وأهمها دستور ديمقراطي معبر حقيقة عن العقد الاجتماعي ومتطلباته السياسية والتشريعية، وصولا لانقلاب على سلطة ضامرة في شرعيتها، إلى انهيار كامل التجربة الديمقراطية، وصولا لنظام أسوأ كثيرا من نظام مبارك، ومالهذا من آثار إقليمية خطيرة وتكريس للفراغ الذي ملؤته القوى الدولية (أمريكا وروسيا) والإقليمية (تركيا وإيران وإسرائيل) – كما معلوم.. وهل من الممكن تخيل ظهور قوة عربية إقليمية (وهو الحل الجذري لكثير من مشكلاتنا – بما فيها العراق) دون مصر؟!
. الآن – بعد ثماني سنوات، لن تجد شابا عاصر الأحداث من موقع المشاركة والقيادة، وقوة سياسية مهما يكن ضمورها الفكري وهوسها الأيديولوجي ونظرتها الملائكية لذاتها والمشيطنة لغيرها، إلا وتشعر بأشد الندم على تلك المرحلة وكمية هائلة من الخطايا السياسية والاستراتيجية والأخلاقية، وأن الكارثة الناتجة اكتوى منها الجميع – حتى على مستوى الحظوظ الفئوية والشخصية.
واجبنا الأصيل تجاه الحراك على الأرض، المسئول عنه أخلاقيا وشعبيا، هو أن يقوم بدور حقيقي في طرح الرؤى والاستراتيجيات، والمداخلة الجادة في قضايا جوهرية لإنجاح الانتفاضة ومتوالياتها (رؤية سياسية بالأساس في المطالب وإدارة المرحلة المقبلة، وقيادة وتوجيه استراتيجي، والاستفادة منه لحل المشكل الطائفي والوحدة السياسية والاجتماعية على قاعدة عمل مشتركة خصوصا في المرحلة المقبلة ، وتجديد جذري وبنائي في القوى السياسية التي لايُمكن تصور أي تقدم للأمام في العراق دونها!!، ومتطلبات بناء عقد اجتماعي ودستوري جديد).
ثانيا) بخصوص مسألة الطائفية،
فالفارق شاسع بين التعامل معها بغرض حلها ومداراته سياسيا واستراتيجيا وفكريا وأيديولوجيا، وبين الخطاب الطائفي!!!
وهناك فارق أيضا بين طموحنا لإزالتها (المعيار والمأمول)، وبين وجودها كمشكل (التجريب والواقع) لابد أن نتعاطى معه لحله جذريا.
ولن يفيد فيه أبدا، إدخال الآمال والتأثرات الانفعالية – بماقدمته ثورة العراق بحق من خلخلة شديدة لوضع الطائفية بالعراق. ولكن هناك ميراث نكد، وواقع في قوى سياسية داخلية وخارجية تلعب بهذا الملف، وهي طائفية في بنيتها، وقطاعات شعبية تحتاج منا للبناء على خرق الوعي والضمير الذي أحدثته الانتفاضة، لمصالحة شعبية حقيقية، واستعادة للفكرة الوطنية بديلا عن التخندق الطائفي، وحل احتقانات ومرارات أفرزتها السنون الفائتة (الحرب الأهلية، وثورة العشائر – داعش والحشد). وواجب مُلح كذلك، التفكير وتوجيه المشاركة للقطاعات في المناطق السنية بشكل يخدم الأهداف المرحلية والسياسية دون تشويش وآثار جانبية.
والعقد الوطني الجامع، كما نعلم جميعا، لايمسخ قطاعات المجتمع ويلغي عناصرها الطائفية والمذهبية والأيديولوجية والعشائرية! ولكنه يعيد توصيفها وبلورتها بحيث تتنفس في مساحات خاصة، ولاتشوش على العقد الوطني في المساحات الجامعة! وأن يُراعى ذلك في العقد الاجتماعي وحركة الدولة..
طمس الهويات والاختلافات الاجتماعية لاتتقنه غير الأنظمة الشمولية، وهو أمر غير مستقيم مع أي منطق ديمقراطي ومُعاصر، ولن تشتريه الشعوب في مجملها بطبيعتها الأصيلة. ولكن إعادة تعريفها وبلورتها وتأخيرها عن التعاقد الوطني وملحقاته في بناء الدولة – هو الحل.
الطوائف باقية، والطائفة ينبغي تجريمها تشريعيا، كما دعا الثوار بالميدان، ولكن الأهم: محاصرتها بجهد اجتماعي وسياسي وفكري مكثف. لم تنته بعد!
والطائفية ليس فقط المذهبية، ولكن الانحياز الأعمى للأيديولوجيا السياسية، النظرة الملائكية لها وحامليها والمشيطنة لمخالفيها، والنظرة التفسيرية للكون والتاريخ والواقع من بابها فقط – إهدارا لأي منطق علمي أو واقعي أو تحريري، وتخيّل إمكانية قدرة فصيل أو تيار ما أن يحوز على إرادة الشعب بأكملها، واستحقاقه أن يقود الدولة من بابها (كما تخيل الإخوان عندنا بمصر مثلا) هو بالضبط خطاب ونظرة شديدة الطائفية لاقيمة لها، وتجاوزها الزمن والحوادث.
أخيرا – بخصوص العلمانية،
فهو مثل بقية العناوين (الإسلامية، واليسارية، والليبرالية) تحتاج فعلا لتحرير افتقدته كل التيارات، وفي الأغلب مايسود صياغات شديدة السطحية والتصادمية، وتُستخدم في جل الأوقات بغرض الفعل السياسي ارتفاعا وخفضا.
وربما أهم الدراسات المُتقنة والمعمقة لهذا الأمر دراسة د. المسيري – رحمه الله – عن العلمانية الجزئية والشاملة. ومتى كان العراق في أي فتراته علمانيا بشكل مطلق (الفصل الكامل بين النظر الديني وحركة الدولة) وقانونه المدني الذي أشرف على وضعه د. السنهوري قائم بشكل صريح على اعتماد الشريعة مثلا في بنيته تصريحا وتلميحا، فضلا عن قانون الأحوال الشخصية.. وهل استخدام العقيدة الدينية بغرض التحريك الشعبي وتطوير الشرعية السياسية لم يكن حاضرا في فترة حكم صدام حسين مثلا – خصوصا في آخر عقد؟!
وأليست الشريعة مثلا المصدر الرئيسي للتشريع في كثير من بلادنا وأساسها مصر.. وفي مصر مثلا، لايجرؤ أي حزب سياسي – أن يقول أنه علماني، ونحكي حتى هنا عن فترة حكم السيسي وليس الإخوان! لماذا؟! بسبب الوضع الشعبي.. مع إن مفهوم العلمانية لو تم تحريره فكرية وتسويقه اجتماعيا، ستكون أنماط منه مقبولة جدا في حركة المجتمع والسياسة! المقصد – أن هناك أوضاعا سياسية وشعبية لابد من مراعاتها حتى لو لم نقبلها شخصيا. والعبرة بالمفهوم لا الاصطلاح، وقد تكون هناك خيارات مقبولة بنيويا ولكن يتوجب علينا مراعاة الحساسيات التاريخية والشعبية خلف اصطلاحات بعينها..
من أخطر مايتوجب على النخب الفكرية العربية حاليا، وهو أمر مفتقد في بلادنا وسبب في تخلفها وقابليتها أن يتم تحريكها لمسارات مهلكة باستخدام خطاب الدين، هو تجديد حقيقي في الفكرة الدينية ذاتها، والأهم – تحرير موطن علاقة الدين بحركة المجتمع والسياسة! ليس للوصول لرأي جازم تلتزم به الشعوب! سيبقى دائما اختلافات، ولكن حد أدنى مشترك تقوم عليه العقد الاجتماعي.
وللأسف، فأنا مثلا لست علمانيا بأي مفهوم، ولست كذلك إسلاميا كما طرحته كل الحركات الإسلامية، والإسلام – في قناعتي- لم يضع، ولا يطمح أن يضع نماذج شاملة في الاقتصاد والسياسة والفكر والاجتماع، لأنه يترك للبشر حرية صياغة وملء النماذج تبعا لتغير السياقات والتجريب، ولكن له مقاربات منهجية في دائرة القيم والمقاصد للنماذج تلك وبعض المحددات العزيزة تشريعيا.
فكما قد ينظر لي المُغرق في علمانيته دون تحرير ومنهجة – أني إسلامي ظلامي !، فاتهمني الإخوان مثلا حين نزلت القاهرة وأعطيت محاضرات أثناء فترة حكمهم أني (معاد للمشروع الإسلامي)..
بصراحة.. يكفي بلادنا هذا المنطق الضيق والمتلاعب بالأفكار! وتحتاج منا لواجبات أفضل كثيرا من هذا.
مانحتاجه الآن ليس أن نلتحف بشعار علماني أو إسلامي أو أيديولوجي ضيق،ولكن أن تنشأ حوارات بين كل من هو معبأ بحسه القومي، وعنده مايقدمه في مساحة التجديد الفكري والعملي، ويُقدم النظر المنهجي والعلمي كأداة مفصلية في فهم الحقائق وإعادة تفسير كل الفرضيات – حتى الصلبة والمؤدلجة منها في الفكر والتاريخ والنظر للمستقبل! مع التزام وثيق بأخلاقيات الحوار والبحث العلمي!!!
وبهذا الشروط فقط – يجب أن تنشأ حوارات جادة بين كل التيارات الفكرية في بلادنا، لأن الداء والتجاوز التاريخي والواقعي والشعبي لفرضياتها المنغلقة والمُقدسة حاصل فيها جميعا! وتحتاج لتجديد بنيوي..
والأهم – تجديد على مستوى الحد الفكري الجامع لنا كأمة، ويؤسس لتحضرها وفعلها السياسي والنضالي الجامع، ثم تأتي كل الاختلافات الأيديولوجية تحته.. لماذا تبقى؟ لأنها سنة البشر ولن تنتهي، ولأنها عامل ثراء وتنوع وإفادة إذا حصل ماسبق وليس هدما..