في مقال بعنوان (معضلة العلاقات المدنية العسكرية ومآل ثورة الجزائر)، تناولت منذ عام تقريبا في هذه الجريدة – الهواجس المُحيطة بالحراك الجزائري تبعا لسياسة المجلس العسكري في احتوائه واستعادة الكثير من بنية الدولة السابقة، وأبديت قلقا كذلك من استعادة دوره في الوصاية الفعلية على السلطة والتي قام بوتفليقة بتجريفها بشكل ملحوظ.
وبالرغم من تفهّمي أن هناك مأزقا موضوعيا يتمثل في مخاطر حقيقية على وحدة البلاد وسلامتها، وللعيب الخِلقي في بناء وسلوك الكيانات الحزبية والسياسية، خصوصا مع فشل الحراك أن يُنشي قيادة سياسية واستراتيجية واضحة، تتفق على الحد الأدنى من أجندة التغيير السياسي والتأكيد على ثوابت هوية الدولة الجزائرية ووأد أي أطروحات انفصالية أو تبعية – حتى مع هامشيتها، فضلا عن إدارته لمساحات الحشد والمناورة والتفاوض والقدرة على ملء أي فراغ سياسي تبعا ذلك.
أقول بالرغم من تفهّم كل هذه المخاطر، فكان هناك خيارات أمام المجلس العسكري لتجاوزها وفي ذات الوقت يستجيب لمطالب الحراك في إعادة تأسيس جزائر جديدة على أساس تحول ديمقراطي واضح، لايمكن تصوّر أي اختراق تنموي و استراتيجي، وضمان للعدالة الاجتماعية والحريات، دون حصوله ونجاحه ولو أخذ شوطا.
الخيار الأول كان تسليم السلطة لمجلس رئاسي توافقي، تلتحق به جمعية وطنية على قاعدة التوافق الوطني، تدير المرحلة الانتقالية وتقوم بإنشاء دستور جديد.. مع وجود ضمانات كوثيقة مباديء دستورية تحتفظ بثوابت الدولة، ومجلس مؤقت للدفاع لأجل حماية الأمن ووحدة التراب أثناء مرحلة الانتقال. وقد رفض المجلس العسكري هذا المسار مبكرا وتجاوزته الأحداث.
أما الخيار الثاني، وهو تطوير كان ملحا في المسار الذي مضى فيه المجلس، وهو تشكيل لجانٌ للحوار الوطني حول تعديل الدستور، وضمانات الانتخابات، والقرارات المطلوبة لإصلاح البيئة السياسية والمؤسسية بالدولة والعدل الاجتماعي وإصلاح القضاء، وهدم استهداف الحراك ورموزه إعلاميا وقضائيا وأمنيا. وبحيث أن يقود ويستكمل تلك العملية الإصلاحية بعد ذلك الرئيس المنتخب عند تسلمه السلطة رسميا من المجلس العسكري، وبالأخص يقوم بإنشاء جمعية وطنية لتعديل الدستور. وللأسف هذا لم يحصل. ولكن أود أن نطرح قبل التفصيل في هذا قضية ممهدة.
لماذا هناك محورية لمسألة تعديل الدستور، مع ضرورة وضعها في حجمها الطبيعي في دينامية التحول الديمقراطي؟
بالرغم أن الظروف السياسية والاجتماعية واضطراب موازين القوى فيها هي ماتدفع لحال التحول الديمقراطي ابتداء، ويعتمد نجاحه بشكل كبير على إعادة ترسيم هذه الموازين لصالح الحكم المدني وقواعد الديمقراطية، والقدرة على خلق تغييرات بنيوية فعلية في النظام السياسي، ونجاح الجماعة الوطنية في بناء عقد اجتماعي جديد ومؤسسات حكم رشيد، مع تطوير للمكونات الحزبية والاجتماعية لتطبيق الديمقراطية، إلا أن الدستور – كوثيقة مُرمّزة للعقد الاجتماعي والسياسي المستجد ومفاعيله – يبقى محوريا.
فلسفة مرحلة الانتقال الديمقراطي هي الاستفادة من الظروف الاجتماعية والسياسية التي انحازت للديمقراطية في مقابل الحكم الشمولي في فرض سريع لصيغة تشريعية مؤسسة للنظام الديمقراطي (الدستور)، والتي بالتالي تفتح أبواب التطوير التشريعي والمؤسسي والسياسي والاجتماعي على فترات مقبلة. تبقى ترسيخ هيمنة الدستور والقانون في حد ذاتها أهم بنود الانحياز للديمقراطية.. ولهذا فسعة هذا الإطار الدستوري على التمثيل والتوافق الشعبي حوله هو أكبر ضمانة لاحترامه ولسريان (هيمنته) بالتالي مما يسمح بالتحول الاجتماعي والسياسي المطلوب.
وبالأخص في حال الجزائر، فإن الدستور – مع طبعاته التعديلية المتعاقبة منذ الاستقلال والاختلاف الموضوعي بينها – يبقى مأزوما من حيث تكريسه لحكم الفرد، وغياب السيادة الشعبية الحقيقة والرقابة على المؤسسات.. (الرئيس هو من يعين الوزراء ويعزلها، يحل البرلمان، يعين القضاة، يعين الولاة، يعين المؤسسات الرقابية، يعين القادة العسكريين دون رقابة، ليس هناك إجراءات واضحة لمحاسبته أو محاكمته). وبالنظر للسياق الموضوعي مابعد الحراك فكان هناك هاجسا من تطوير لوضعية الجيش أو تكريس لمبدأ وصائي على الحياة السياسية بعد أن كان فقط يمارس وصاية فعلية.
ولكن مع قيمة إعادة تأسيس للعقد الاجتماعي السياسي وترميزه دستوريا بشكل ينحاز للدمقرطة وإعادة بناء الدولة وفقها، فإن الدستور يبقى نصوصا لا قيمة فعلية لها مالم تسندها استعادة موازين القوى السياسية لصالح البنى الديمقراطي المستجدة – السياسية والشعبية، وتغيير العقيدة السياسية والمؤسسية عند مؤسسات الحكم السابقة – وبالأخص مؤسسات القوة والأمن – لترضخ للإرادة الديمقراطية، بل ترى فيها مصلحة وطنية ومؤسسية على السواء.
وعلى هذا، فموضعتنا لهذا التعديل الدستوري بالجزائر، والذي سيتم تمريره غالبا، ضمن سياق تقييم التحول الديمقراطي ومآلاته لابد أن يرتكز على مسألتين: تقييمنا لطريقة صنعه ومادته من حيث انحيازها للإصلاح الديمقراطي المطلوب، ولكن الانتباه كذلك للتطور الحاصل في موازين القوى السياسية وبنيتها.
بالنسبة للأولى، فكان محمودا للرئيس من ناحية إعلانه المبكر نيته لتعديل الدستور، ولكن بقيت هذه العملية رغبة سلطوية لاحتواء الحراك الشعبي واكتساب شرعية جديدة، أكثر منها انحيازا جادا لمطلب الحراك في تأسيس جزائر ديمقراطية. يظهر هذا ابتداء في الطريقة السلطوية في تدوين مسودة التعديل وابتعادها عن منطق التوافق الوطني والذي كان يقتضي جمعية تأسيسية على درجة عالية من الاستقلالية. وكما في تجارب التحول الديمقراطي – الناجحة والفاشلة معا – فإنه لايكفي الاحتجاج بالاستفتاء الحر على المسودة للتدليل على الإرادة الشعبية، والتي غالبا في ظل الظروف السياسية والشعبية في بلادنا ماتأتي بنتيجة نعم، ولكن أن تنتج عبر عملية توافق وحوار وطني حقيقي. ولهذا، ففي تجربة مصر 2012، كان النظام الإخواني حريصا على السيطرة على الجمعية التأسيسية لصنع الدستور (إعلان أغسطس 2012)، وتأخير نظر المحكمة الدستورية عن النظر في شرعيتها التمثيلية ومشروعيتها – بإعلان دستوري باطل أولا ثم بالقوة ثانية – مع غض الجيش الطرف لتمرير وضعيته الوصائية بالدستور، والتي – أي المحكمة – لم تجد بدا بعد ذلك من قبوله حين نظرت القضية بعد قبوله شعبيا.
وبتقييم ماطرحناه سابقا على التعديلات الدستورية نلاحظ الآتي:
1- هناك تطوير إيجابي نسبي حصل بلاشك في توسعة النصوص الخاصة بالحريات، بغض النظر عن ضمانات تطبيقها، وكذلك استعادة التقييد الدستوري على فترتي العهدة الرئاسية (الذي وضعه الأمين زروال، وأزاله بوتفليقة في تعديل 2008، وكذلك تقييد تعيين الوزير الأول (أو رئيس الحكومة إن كان من أغلبية برلمانية مخالفة) من أغلبية مجلس الشعب. وأيضا وضع لبنة المحكمة الدستورية (في افتراق عن النموذج الفرنسي) لها صلاحية الفصل في الملاءمة الدستورية للتشريعات وقرارات السلطة التنفيذية، وأيضا المحكمة العليا القادرة نظريا على محاكمة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
2- لكن للأسف الشديد، لم تتغير أي من البنية المأزومة لنظام الحكم بالجزائر والتي ألمحنا إليها منذ عام. لايزال رئيس الجمهورية له ذات الصلاحيات تقريبا في الاستفراد بتعيين القيادات المدنية والعسكرية، وحكام الولايات، والهيمنة على السلطتين التشريعة والقضائية ومؤسسات الرقابة معا!
الرئيس نعم يُلزَم أن يُعين رئيس الحكومة من الأغلبية البرلمانية ولكنه قادر على عزله، ويُعيّن أعضاء الحكومة، وهو المسئول التنفيذي الأول.
الرئيس لايزال قادرا على حل المجلس التشريعي، ويُعيّن ثلث مجلس الأمة. ولو رفض القراءة الأولى لأي تشريع، فأثره يظهر – في ظل التفتت الحزبي بالجزائر – باشتراط الدستور لموافقة ثلثي المجلسين عن القراءة الثانية.
والرئيس يُعيّن رئيس المحكمة العليا والمحكمة الدستورية ويُعيّن أغلب أعضاءها بشكل مباشر، أو غير مباشر (لأنه من يُعيّن القضاة ذاتهم)، يرأس المجلس الأعلى للقضاء ويعين أغلب أعضاءه كذلك بشكل مباشر وغير مباشر.
والرئيس يُعين رئيس مجلس المحاسبة، ورئيس سلطة الانتخابات، وهذا أمر هادم تماما لأهم قواعد الديمقراطية في المحاسبة والشفافية، ونزاهة الانتخابات، خصوصا أن التيار الأكثر حظا في باب دراسات الدمقرطة يكاد ينحاز بشكل كامل لنزاهة الانتخابات كعامل شبه وحيد في تقييم الديمقراطية. حتى وإن كنتُ منحازا لمسلك أكثر شمولة ووظيفية، فتبقى هذه المسألة جوهرية وإن ليست كافية.
3- بخصوص وضعية الجيش، فلم تتورط التعديلات في دسترة وضع وصائي للجيش، ولكن أضافت الجملة المبهمة عن (حمايته للمصالح الحيوية والاستراتيجية). ومن ناحية أخرى بقي مجلس الأمن الأعلى دوره استشاريا وهذا شيء محمود. وعلى عكس الهواجس الشائعة، فإني أثمّن موقف الجيش من مادة بعث القوات للخارج حين طلب تقييدها ب (حفظ السلام تحت مباديء الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية)، وإن كان العوار الدستوري البنيوي يقلل كثيرا من قيمة شرط موافقة ثلثي المجلسين. فضلا – أن الوصاية الفعلية للجيش ستبقى مالم تتعدل بشكل جلي موازين القوى السياسية والدستورية بالجزائر.
بوضوح. الدرس الذي لم يفهمه النظام الجزائري المُستجد، وهو ذاك الدرس الذي غاب عن نظام الإخوان بمصر في نوفمبر وديسمبر 2012، وإن أدركه بعد ذلك بأشهر ، أن صنع الدستور ليست مباراة وفرض أمر واقع، ولكنه ترميز لعقد اجتماعي وسياسي حقيقي لابد أن يعبر ويُسكّن كل الاحتقانات ورؤى التغيير التي دفعت الحراك الشعبي ابتداء، وإلا فإن تلك الاحتقانات والآمال والدوافع ستبقى فاعلة! وماتفيد عملية الاحتيال عليها إلا إضفاء عامل التأزم عليها.
أخيرا، حتى نكون منصفين، فإن الجيوش العربية سواء في مصر أو الجزائر نعم مثّلت عقبات أمام التحول الديمقراطي، ولاتزال. وبالفعل قد تورطت في أزمات ألقت ظلالا كبيرة على شرعيتها الشعبية والوطنية مستقبلا، وهذا سيأخذ للأسف وقتا طويلا لمعالجته إذا بدأت مرحلة التصحيح والمراجعة بالأصل. ولكنها تصرفت كما يقول الكتاب كجيش شرقي يرى نفسه حاميا للوطن ومؤسسا له، وعاش طويلا تحت ظلال المبدأ البريوتاري (نسبة للحرس الإمبراطوري الروماني) الذي يقر أن الجيش
Rule but not govern،
مع وجود قاعدة شعبية واسعة كرسها نضال تاريخي مستحق، ولكن دون أن تنتبه قيادته العسكرية أنه جيش شعبي بحكم البنية والتكوين والنشأة، وليس طبقة اجتماعية احترافية منفصلة عنه، ولهذا فكما تحمله الشعب واحتواه وقت كسراته، فلا يمكن أن يُدالّ عليه بمواطن الصمود والإنجاز التاريخي!
ولهذا، فكان سلوك الجيش التونسي إيجابيا، ليس فقط بسبب الاختلاف الشديد لعقيدته المؤسسية وبنيته الذاتية وعلاقته مع الشعب، لاختلاف السياق التاريخي والموضوعي، ولكن لوجود وضع شعبي وسياسي أكثر تطورا ونظامية. فبالرغم من الغموض الحالي المحيط بالحال التونسي، وتعثر كثير من البنية الوظيفية تبعا لتراجع التغيير الهيكلي المطلوب، فإن القوى السياسية التونسية – وبالأخص حركة النهضة – قامت بتنازلات جوهرية لصالح التجربة الديمقراطية وهذا صنع حاجزا حقيقيا أمام أي تحولات ممكنة في تغيير رؤية وسلوك الجيش.
ولكن هذا لم يحصل في الحالين المصري والجزائري، وكذلك السوداني بالرغم من غياب النزعة البريتورية واستحقاقها التاريخي، في ظل قوى سياسية مدنية يغلب عليها للأسف طابع التشرذم والانتهازية وغياب المُكنة الفنية والاستيعابية لضرورات التحول الديمقراطية وإدارة ملفات الدولة فيه وبعده، فضلا عن تحالفاتها المتعاقبة مع الجيش ذاته (القوى الإسلامية في مصر في أول الأمر، ثم المدنية في آخره) مما أفقدها شرعيتها الديمقراطية وجعل تعديل للموازين القوى المدنية أمام الجيش وإدارة المرحلة الانتقالية بشكل ضامن للدمقرطة والحفاظ والتطوير على النشاط الوظيفي للدولة أمرا متعذرا.
وضع الجيشين السوري بتعمق البعد الطائفي والتوظيفي – حتى مع حضور شرعيته التاريخية، وماكان يُعرف بالجيش الليبي بمافيه من غياب الاحتراف وغلبة الارتزاق، جد مختلف عن الدينامية السابقة.
وكل ماسبق يقول، أنه بالرغم من تعثر مرحلة التحول الديمقراطي بالجزائر، وفوات فرصة من كون هذه التعديلات لبنة حقيقية في استعادة المسار الديمقراطي أو على الأقل الاقتراب الجاد منه، وأن هذا سيلقي بظلاله على بقاء ذات محركات وفواعل الحراك المعارض لبنية النظام السياسي ذاته – إن لم يُفاقمها، حتى ماقد تغطيه أزمة كورونا لحين، فإنه يصعب علينا إلقاء مساحة اللوم بشكل أساس على سلوك المجلس العسكري وماأفرزته المرحلة الانتقالية من وضع رئاسي مستجد، بأكثر مما قد تلام القوى السياسية والحزبية بالجزائر من فشلها حتى اللحظة أن تتداعى لجبهة وطنية معارضة، تتضح فيها أجندة النضال الديمقراطي، والحد الأدنى لتصور الدولة الجزائرية وثوابتها الوطنية والديمقراطية، وتنزوي كل النزعات الأيديولوجية الحادة والانتهازية، وأن تُفرز رؤية وقيادة استراتيجية تدير مساحات الاحتجاج والتدافع السلمي ضمن أطر السلطة على حسب ماتقتضيه المرحلة؛ فإن اشتراط النضال السياسي المتدرج والهجين بجمعه بين أدوات الثورة والإصلاح للوحدة السياسية والنضج الاستراتيجي – أكبر مما تطلبته موجات الحراك الحاد وعجزت أن تُفرزه ابتداء.
[…] […]