https://www.raialyoum.com/index.php/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d8%aa%d9%88%d9%86%d8%b3-%d9%85%d9%8f%d9%88%d9%82%d9%90%d8%af%d8%a9%d9%8f-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d9%85%d8%a7%d9%84-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a5/
ليس من السهل مقاربة مايحصل في تونس منذ 25 يوليو واستشراف مآلاته وخطّ توصيات مبدئية للتعاطي معه، لأسباب.
أولها شخصي، فمن كان حلمه الثورة منذ الصغر، لأنها – في تصوره الغض – كانت الحل الوحيد للتخلص من أنظمة ليس فقط كرّست معالم الاستبداد والظلم الاجتماعي والفساد والتبعية للمحتل، ولكنها اعتمدت ذلك بنية وجودها واستدامتها، كان يوم 14 يناير 2011 حدثا مفصليا في حياته. اتصل بي صديق وأنا في غرفة العمليات بلندن، وصرخ في الهاتف: تونس ثارت،
We can do it!
.فلم أحتمل إكمال عملي للأعصاب والأوتار المشدودة. وبالفعل لم نكمل عشرة أيام إلا وانتفضت مصر. وقد عشنا مصر بكل دواماتها، وكنت شديد التوقع السلبي لمآلاتها مبكرا – تبعا لغياب لمقومات نجاح التحول الديمقراطي في حركة وطنية ترتكز على نخبة عندها قدر أدنى من الرشد والضمير الوطني، تنحاز للتوافق على أجندة ثورية، فتملأ بذاتها الفراغ الناشيء، وتطور عقد اجتماعي-سياسي مستجد ينحاز للمصلحة الوطنية لا غير، وتنجز بعض الملفات العاجلة في إعادة هيكلة قوى الأمن (أداة الاستبداد المركزية) وتحافظ على درجة معقولة من وظيفية الدولة، وتعيد ضبط العلاقات المدنية العسكرية بشكل متوازن، وبمعنى كليّ – تهيء لتحول اجتماعي وسياسي شامل ونشوء نخبة سياسية مستجدة وتعميق الديمقراطية كأعراف وثقافة وليس فقط تقنين ومأسسة.
وأذكر جلستي مع بعض الشباب في قهوة مطوية تحت كوبري (الدقي) مكفهر الوجه والفؤاد يوم 11 فبراير 2011 أبثهم ما كنت أرى مشاهد عدم تصديقه على وجوههم، وسط قاهرةً تتفجر بهوس الفرح وأهازيج الانتصار لسقوط الطاغية، ولم تدرِ الجماهير المحتفلة أن صفقات وراء الستار قد أفضت لهذا العزل الميكانيكي لصالح نظام هش تتقاسم المؤسسة العسكرية – التي عادت بعد طول غياب عن صدارة المشهد السياسي منذ 1967، وجماعة الإخوان – إذا لم يكن من الممكن إيجاد بديل مدني عنها، ورضا مبدئي للأمريكي وتصورات حول شرق أوسط جديد يحافظ على المصالح الاستراتيجية والخطوط الحمر في الترتيب الاستراتيجي وأمن إسرائيل، والسياسات الاقتصادية العليا – ولكنه الآن يقوم على أنظمة (ديمقراطية) لها شعبية في إطار مضمون. وأنه بدون نشوء حركة وطنية – تتحرر فصائلها من الهوس الأيديولوجي وشبق السلطة – وتعبر عن ضمير الثورة وتيارها الأوسع، وقادرة على ملء الفراغ، والتفاوض مع مراكز القوى بالداخل والخارج لصالح تحقيق حد أدنى من الإنجاز الديمقراطي يصعب الانكفاء عنه، وتحقيق عريضة إنجاز – أو على الأقل المحافظة على المنحى الوظيفي للدولة بما لا يُحطّم آمال الجماهير الثائرة ويدفعها للالتجاء إلى موطن الداء ثانية، فليس هناك ضمانة على غدٍ مُشرق.
وإن كنت شديد التشاؤم لحال مصر – الذي للأسف فاق تجسيده أسوأ الاحتمالات في أذهاننا، ولكن وضع تونس كنتُ – ولا أزال – أراه مختلفا، كما سيأتي. ولحساسية ملف تونس في ضميرنا القومي، وحلمنا بالثورة، تبقى مقاربتها في هذه اللحظة عبئا وجدانيا ونفسيا قد يُثقل الفؤاد والروح المُنهكة فوق ما تعاني من شواغل شخصية طارئة.
السبب الثاني للتردد في الكتابة عن تونس، فهو وإن كنتُ متابعا لصيقًا لما يحصل بها منذ عقد، فتبقى كثير من المفردات التفصيلية غير حاضرة بتمامها، خصوصا في ملفات كطبيعة الإشكالات الوظيفية في الاقتصاد والصحة والأمن، وحجم تواجد حركة النهضة في دولاب الدولة، وتفصيل ما حصل في المؤسسة العسكرية من مساحات تسيُّس وعقيدة مؤسسية ناشئة. وإن كان هناك قدر معقول من الإلمام بظروف البيئة، والأهم – خبرة نظرية وتجريبية لمقتضيات وديناميات التحول الديمقراطي، ومعرفة قريبة بطبيعة الحركات الإسلامية والسياسية والجيوش في بلادنا، قد تسمح لنا أن نقدّم إلقاء متواضعا، أكون شديد الثقة في انحيازاته المبدئية، وتحرّي الموضوعية في التقييم، وأقل ثقة في صوابية الاستشرافات والتوصيات التفصيلية. وللأسف – في ظل فضاء إعلامي وسياسية – وحتى أكاديمي عربي – يستبد به التحيز الأيديولوجي والسياسي، وضمور المعرفة السياسية والديمقراطية، والانضواء في محاور هذا أو ذاك، تزداد أهمية الطروحات التي تتحرى الموضوعية وإن لم تستكمل بعد شروط التعمّق والتصدّي.
ملاحظات مبدئية:
– مقتضيات ومعيار الإنجاز في مرحلة التحول الديمقراطي، وصولا للتمكين/التثبيت الديمقراطي واحدة، ولكن الاختلاف الواسع بين السياقات هو مايحكم على ديناميات وملابسات واستراتيجيات الدمقرطة وأولوياتها، وكذا الحكم على المنتوج الأخير.
في مرحلة التحول الديمقراطي، تترسخ نقاط – كمحورية التوافق بين القوى السياسية لصياغة وتوثيق عقد اجتماعي وسياسي مستجد ينحاز للديمقراطية ويختار النظام السياسي الأنسب لتوكيد مهيئاتها تبعا للسياق السياسي والاجتماعي والتجربة التاريخية، وبناء صيغة حكم توافقي مع تقديم المنطق الفني ماأمكن للحفاظ على حد أدنى وظيفي وحسم الملفات العاجلة كما أسلفت – مع فتح مغاليق التحول الاجتماعي والسياسي لنشوء طبقة سياسية جديدة..
أما مرحلة التمكين والتثبيت فهي تأخذ مديات واسعة تبعا للتطور السياسي وإحلال طبقات سياسية جديدة، وتمكن الشرعية الديمقراطية، وامتلاكها الأدوات الفنية لإعادة هيكلة المؤسسات والسلطات، ونشوء مكونات اجتماعية للديمقراطية التشاركية علاقات دمقرطة كعرف ذاتي أكثر منها بقوة القانون وميزان القوة.
– أما العوامل المتغيرة التي تتحكم في تمظهر ما سبق ومدى النجاح والفشل فيه فهي – مدى نضج القوى السياسية وانحيازها الصادق للديمقراطية وتنحيتها للنزعة الأيديولوجية والنفعية لصالح بناء التوافقات، العنصر الخارجي من حيث قوة محركات التدخل وأدواته وانحيازه، ومدى تطور الوعي السياسي العام والبنية التحتية للدولة وظيفيا، ونقطة هامة هي مدى تسيس المؤسسات العسكرية والأمنية ومركزيتها وتمايزها كطبقة وعقيدة لها استقلال عن السياق الاجتماعي العام.
– وعلى هذا، فوجود توصيف عام لهذه المفردات والمسار الذي خاضته التجربة التونسية، يكفي – بمقابلتها بالقواعد السابقة – أن يضع لنا قدرة تفسيرية معقولة لفهم ماحصل في تونس، وأن يُساعدنا في وضع اعتبارات مبدئية للحل.
اعتبارات تقويمية أساسية بمنطق الشرعية:
– بداية فإن قيام الرئيس قيس سعيد بتجميد البرلمان لمدة شهر، وحل الحكومة واستقلاله بتعيين أخرى وتوليه رئاسة السلطة التنفيذية، وكذا لسلطة الادعاء، وسلطة إصدار المراسيم، هو انحرف خطير عن المنطق الدستوري عموما، وعن روح ونص المادة 80 من الدستور التونسي، وهذا على افتراض التزامه بهذا التدبير الاستثنائي حصرا بهذه المدة. وقد استخدم الجيش في تكريسه هذا الواقع، سواء بمنع انعقاد البرلمان ومحاصرة الحكومة، أو محاولة فرض حظر التجوال. والجيش وإن كان دستوريا خاضعا – تنفيذيا – لتصرف الرئيس، ولكن بذات المنطق لابد أن يكون هذا الخضوع متقاسما لسلطة الرقابة والتشريع، ومباديء الدستور ذاتها في الفصل بين السلطات واحترام الشرعيات الدستورية والشعبية، وهذا يؤكد بوجود تسيّس – ولو محدودا – حصل فيه.
– وفي ذات الوقت، فإن هناك ملامح جليّة في ضمور الشرعية الدستورية – بالنظر لروح الدستور وتوفية قواعد الديمقراطية – والشعبية للقوى السياسية المدنية وعلى رأسها حركة النهضة. وبالرغم من إلحاح الرئيس قيس سعيّد كثيرا في ذكر الفارق بين الشرعية والمشروعية؛ إلا أنه يتبدى لي عدم دقة طرحه التمييزي، مع كونه أستاذا للقانون الدستوري. وأعتقد أن بعض الاطناب هنا سيساعدنا في فهم ما يحصل في تونس.
– المشروعية هي سلامة الإجراءات تبعا لمقتضى الدستور والقانون، وهذه من السهل الحكم عليها، فقد نرى بسهولة أن هناك مشكلة مشروعية، وإن كانت تفاقم أزمة المشروعية قد يقود لأزمة شرعية.
– أما الشرعية فهي قبول السلطة القائمة من حيث كونها سلطة. وقد تكون شرعية ديمقراطية تبعا لدقة المعيار الديمقراطي التي تقوم عليه السلطة والذي هو أوسع من إجراءات الديمقراطية ليشمل ثلاث نقاط أساسية: أن تكون هذه الإجراءت تضمن التمثيل الشريف وغير المتحيز لاستجلاء الإرادة الشعبية، وأن يكون نظام الحكم وتسييره منحازا لقواعد الديمقراطية والإطار المرجعي لجماعة المواطنين – قواعد كوطنية القوى السياسية والتمييز بين السلطات ومحدودية التفويض السياسي وغياب وصاية مؤسسات غير منتخبة.. وهكذا، والثالثة أن تبقى ممارسة السلطة على صك الشرعية ذاك – كما ميّز فقهاؤنا قديما بين انخرام الشرعية – وإن بفحوى وتسييق مختلف – ابتداء وتوسطا وانتهاء.
أما النوع الثاني فهو الأكثر تعقيدا في الفهم والاستجلاء.. الشرعية الواقعية – خصوصا في حال غياب أداة حسم دستوري وتعمّق لمبدأ الدستورية
Constitutionalism
– أي التقييد الواقعي للسلطة السياسية وحاكمية قواعد الديمقراطية وشيوعها شعبيا ومؤسساتيا للتفسير الجلي والفصل في مدى انطباق أو انخرام بنود الشرعية. في هذه الحال، يكون انحياز الجماهير لخيارات الزهد في السلطة السياسية أو أحد مكوناتها أو إعطائها مبدأ الثقة – والذي كثيرا ما يتأثر بالإنجاز والتعثر الوظيفي، ولكن أيضا استبطان الانحياز الصادق للدمقرطة وروح الدستور – فيصليا. وهذه المساحة بالأخص هي ما تشكل – فعليا النظام السياسي وتطوراته – لأنها ترتكز على موازين القوى التي (تفرض واقعا مستجدا) يدعمه الناس بشكل إيجابي أو سلبي (الصمت). وعلى حسب ميزان القوة الشعبي في مقابل قوة سلطة أو مؤسسة – تتنقل الشرعية الواقعية بين مخروط أوله فرض الإرادة الشعبية بغض النظر عن مدى دمقرطتها، وآخره قهرها وعدم امتلاكها الإرادة والقدرة على تغيير الواقع.
– باستيعاب ما سبق، فيتضح لنا أن للرئيس التونسي وجهة في تفسير سياق التهديد والأزمة – ولكنه تعسف وانحرف في تفسير المادة 80 وتجاوز كثيرا صلاحياته وتعدّى على بنود شرعية ديمقراطية ومشروعية معا – تبعا للفشل السياسي المزمن للحال التونسي، وما تبعه من خلل وظيفي اقتصادي واجتماعي صاحب الفترة مابعد ثورة 2011، وتنامي الفساد السياسي والإداري، وتفاقم في انهيار المنظومة الصحية وجزء هام من هذا الانهيار تبعا للفشل السياسي بلاشك باعتراف أركان الحكومة المقالة وكتلتها الداعمة ( النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة..) كما حصل في معرض إقالة وزير الصحة منذ أسابيع.
وكذلك، فتعثر البرلمان منذ 2015 في اختيار حصته من أعضاء المحكمة الدستورية (للفصل في تنازع تأويلات الدستور)، ثم تقديم نسخة منقحة شديدة الانحياز لكتلة الأكثرية البرلمانية مما يؤثر على الشرعية السياسية والاستقلالية لتلك المحكمة، خصوصا أنه بالفعل لم يحصل الاستنفار لحل أزمة التشكيل إلا في معرض النزاع مع الرئيس وليس انحيازا أصيلا لاستكمال مكوّن دستوري وقضائي هام وحاكم.. كل هذا – يُعطي للرئيس فرصة واقعية للاحتجاج بهيمنة تأويله لمواد الدستور.
– ولكن بوضوح تام – وهذا ما لاينتبه له الكثيرون من مؤيدي النهضة في عالمنا العربي أو من يربط تعسفا بين الثورة التونسية والحلم الديمقراطي وقوى مدنية في تونس قد تخاصم ماسبق وتوظفه لنقيضه خصوصا إذا تحوّل موقفها مع الزمن – فإن هناك تضعضعا كبيرا في الشرعية الديمقراطية والوظيفية لمكونات الحياة السياسية التي يتشكل منها البرلمان والحكومة وعلى رأسها النهضة، وليست فقط مشكلة مشروعية. نعم – حصل انحراف كبير في الاستخدام المسيء لسلطة مكتب مجلس الشعب بما يخالف اللائحة ومنطق عمومية التشريع لصالح تكريس هيمنة الأكثرية الضئيلة التي أفرزها تحالف بين مكونات هشة وتتساقط مبانيها (حركة النهضة لم تفز بأكثر من 23% من إجمالي البرلمان)، كمثل مشروع قانون فقدان العضوية تبعا لتغيير الولاء السياسي، أو اعتماد حصص لجان المجلس على نتيجة التمثيل الأولي للكتل، أو توزيع مشروعات القوانين على اللجان التي تسيطر عليها الأكثرية، وغيرها.
كل ما سبق هو مشكلة مشروعية، والتي تفاقمت بشكل يؤثر على الشرعية ذاتها، لكن مشكلة الشرعية السياسية حاضرة بشكل ذاتي بالأساس، وتتمثل في الفساد الشديد في بنية الأحزاب السياسية ومسارها (ملفات كالتمويل والعلاقات الخارجية خارج إطار الدولة التونسية) وهذا يشمل النهضة وبعض خصومها سواء من هو في محور قطر-تركيا أو محور الإمارات وإن كان اللوم الأكثر يقع على النهضة لوزنها الرسالي والواقعي في الحياة السياسية، وفقدان الصحة المؤسسية الداخلية والانحراف التشريعي داخلها وهذا يطال حتى حركة النهضة كما حصل في أزمتها الأخيرة حول تغيير اللائحة الداخلية للسماح بترشح زعيمها لمدد أخرى وتأجيل المؤتمر الحادي عشر لها، وتفاقم النزعة الأديديولوجية والتصفوية والانتهازية لها – وهذا يتضح أكثر في خصوم النهضة – دون اعتبار مصلحة الوطن أو ضرورة التحول الديمقراطي في الوفاق والحكومة الوطنية خصوصا أمام التغثر الشديد الاقتصادي والصحي وخيبة آمال الشعب التونسي في منجزه الثوري..
والحقيقة – أن العنصر الأخير (التوافق الوطني) هو الأهم، وبالنظر للمسار السياسي الفائت، نجد أن حركة النهضة كانت أقل القوى سوءا، وقدمت تنازلا حقيقية سواء في 2013 بتخليها عن التصدي للحكم، حتى وإن كان التطورات الإقليمية وكذا مشكل الإرهاب الداخلي والاغتيال السياسي مثلت دافعا مهما لهذه الخطوة، وكذلك سعتها الأيديولوجية في التخلي عن النص على حاكمية الشريعة بالدستور، وبالتأكيد أن التطور الفكري للغنوشي ومورو لعقدين قبل هذه النقطة ساهم في هذه الخطوات التي جنبت تونس مسارا مهلكا.
ولكن النهضة بالأخص هي مسئولة بشكل أصيل على مشكلة المسار السياسي وأزمة الشرعية في العامين السابقين من أكثر من اعتبار. فهي:
أولا) سعت فعليا لتحصيل وزن في التحكم بالبرلمان والحكومة بشكل يفوق حصتها التفويضية من انتخابات 2019، ولم تدرك أن هذه الانتخابات هي جرس إنذار ليست فقط في تداعي قاعدتها الشعبية، ولكن في مبدأ القبول الشعبي للنخبة المدنية بإجمالها وهذا ظهر في برلمان مفتت، وفي رئيس منتخب من خارج الطبقة السياسية (وسقوط مرشحها بالجولة الأولى التي أيضا ترأسها قيس بنسبة 18 %) وبنسبة عالية بالجولة الثانية 72%.
وثانيا) لكونها العنصر الأكثر تحكما في البرلمان والحكومة، فهي الأكثر مسئولية عن الخلل في مساحات المشروعية والوظيفة وكذا الشرعية.
ثالثا) نعم، حزب النهضة هو الأفضل من البقية بمعايير نزعة التوافق والسلامة الداخلية، ولكنه سقط بشكل شديد في سياسة الصلات الخارجية كتمويل وانحياز يُخالف مبدأ الدولة الوطنية، وحاول مرارا توفية هذا الانحياز بالدخول في سياسة المحاور سواء في موقفه من الأزمة الليبية، أو الزيارة الفجة لزعيمه ورئيس البرلمان للرئيس التركي العام الماضي خارج سياق نسق توزيع الصلاحيات والتي يقع ملف العلاقات مع الحكومات الخارجية تحت نطاق الرئيس -وهذا أبعد مايكون عن الديبلوماسية البرلمانية كما ادعاها.
وأخيرا) بمنطق الوعي السياسي، كان لابد لها أن تدرك أن سياق الأزمة الحادة مع الرئاسة وفي ظل ما سبق ذكره، يقتضي تفعيلا أشد لمبدأ التفاوض والتوافق وليس الصدام معه، كما حصل ابتداء في حكومة الجملي التي حاولت الاحتيال في تصدير (استقلاليتها)، ثم أزمة حكومة الفخفاخ، ولكن تفاقم استهداف الرئيس داخل البرلمان وليس أقله تصريح الشيخ الغنوشي أن الرئيس في الدستور التونسي هو (رمزي) وهذا كلام ليس فقط ساقط دستوريا لأن الأخير أعطي صلاحيات هامة للرئيس (فهو نظام أقرب للمختلط منه للبرلماني)، ولكنه ساهم في تأجيج الصراع الصفري بين الطرفين.
– في المقابل، فإن قيس سعيد ارتكب تجاوزا بمنطق الشرعية الديمقراطية بشكل مبكر حين دعى لتحويل الدستور لرئاسي ، نعم – نظريا يحق لكل طرف الدعوة لتعديل الدستور، ولكن المشكل الخطير في طرح قيس سعيد أنه يناقض مبدأ العمومية وسلامة التشريع من الهوى، وكذلك عدم إدراكه قيمة التوافق السياسي والشعبي حول التحول الدستوري الكبير لشكل النظام السياسي. في النقطة الأولى.. فلاينبغي أن يسعى لذلك وهو في موقع الرئاسة، ولكن القاعدة أن يدعو لذلك بعد انتخابات رئاسية تالية. والثانية) أنه بدون إدراك وتوافق القوى السياسية والقاعدة الشعبية الكاسحة فأي دستور- خصوصا لو كان منحازا – سيزيد من أزمة الشرعية السياسية لنظام الحكم، وهذا لم ينتبه له إخوان مصر في 2012، وتخيلوا أن الدستور هو معركة انتخابات بالمغالبة التصويتية وحتى الإرغامية كما حصل في محاصرة المحكمة الدستورية ومنعها من الانعقاد للتصدي لدستورية الجمعية التأسيسية.
– ثم تفاقمت مشكلة الشرعية الديمقراطية والمشروعية عند قيس بإجراءاته الأخيرة كما أسلفنا. وبالرغم من اختلاف واسع للسياق سأذكر مثالين قد يُساعدا طرفي الموالاة والمعارضة لماحصل في تونس في فهم هذه المشكلة، والتحرر من الهوى والغرض فإنهما مرض. الرئيس المصري الراحل د. محمد مرسي، قام بإعلان أغسطس 2012 بما يناقض مبدأ الشرعية الدستورية وبشكل أظهر – المشروعية. في هذا الإعلان، نقض إعلان يونيو الذي أقسم عليه (كان هذا خياره!) القاضي بأنه ليس القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأن المجلس العسكري سيكون وصيا على عملية وضع الدستور. وأيضا حلّ وأعاد تشكيل المجلس العسكري بشكل استفرادي دون وجود سلطة تشريعية وازنة لمنع تسييس الجيش لصالحه. فهناك عوار شديد في مبدئي الشرعية والمشروعية. ولكن كان هناك قدر كبير من الشرعية الفعلية تبعا لقبول القطاعات الأغلب من الشعب، وكذا قبول المؤسسة العسكرية ذاتها وتمام الأمر. نعم – نُدرك أن هذه الخطوة وإن بدت إيجابية حينها قد فاقمت لأزمة الشرعية والسياسة بمصر. وهذا درس هام لمؤيدي قيس.
وكذلك في إعلانه الدستوري نوفمبر 2012 والذي ضرب سلطة القضاء، ووظّف بشكل مؤقت – سرعان ماانقضى بانقضاء الغرض – بقضايا القصاص والثورة وكان هدفه الأساس تمرير دستور شديد الانحياز، فقد انحرف عن مبدأ الشرعية والمشروعية معا – كمثل ما فعل قيس الآن، ولكن الفارق – كانت تيار شعبي جارف واجه إعلانه، وقاده لإلغائه بعد أن قاد للغرض منه وهو تمرير الدستور. وحين نظرت فيه المحكمة الدستورية تاليا أقرته – في حكم كذلك لم يخلُ من التسيُس لأن المؤسسة العسكرية أيدت الدستور – تبعا لأسبقية قبوله في الاستفتاء للقضية مع أن هذا القبول تحديدا ليس حجة على سلامة الإجراءات. وكما نعلم أيضا فإن الإعلان كان هو أهم عنصر فاقم أزمة نظام الإخوان بمصر بتكريس صورة الجماعة المتآمرة فوق الدستور والديمقراطية.
– إذن خلاصة هذا التطواف أن ثمة أزمة شرعية ومشروعية للقوى المدنية التونسية وعلى رأسها النهضة، تُوِّجت بفشل وظيفي عام مثّل تهديدا حقيقيا للدولة، وفي المقابل، فإن الرئيس انحرف دستوريا بشكل كبير – قد يقترب من انقلاب قصر بحُكم فرضه لإجراءاته بقوة الجيش – ولكنه مؤيّد ابتداء بشرعية شعبية عالية، صوتت لصالحه في الانتخابات، وأيدت قراراته الأخيرة تبعا لكُفرها بالنخبة السياسية وحركة النهضة تحديدا. وهذا يأخذ بعض الشيء من الوصف (الانقلابي) لإجراءات الرئيس خصوصا أنه (جمّد) البرلمان ولم يحله (حتى الآن!). وهذه نقطة هامة لابد من الانتباه لها – كذلك بالنظر للحالة المصرية. كثيرا ما تتعقد التقييمات والتي تتجه لتسطيحها وأيقنتها القوى السياسية تبعا لتحيزاتها الفجة (فالأمر إما ثورة تصحيحية أو انقلاب)، ولكنه كما نرى أعقد من كليهما. وكذلك – فليس بالضرورة أن يكون التوصيف السياسي (انقلاب مثلا) مستجمعا لشروطه في لحظة البدء، ولكنه يتمظهر عبر إجراءت وسلوك للسلطة في مدى زمني، وقد يشترك الخصوم في صنع شروط وفواعل هذه الإجراءات!
التقييم الواقعي والسيناريوهات:
– مايُعطينا تأشيرا على جوانب الإشكال وكذا الإيجابية في حزب حركة النهضة هو موقفه من إجراءات قيس سعيد؛ والذي بدأ برفض هستيري ودعوة للتصعيد والاعتصام (نمط أقرب لحال إخوان مصر)، ولكنه سرعان مااستوعب حدود الإشكال سواء بميزان القوى والانحياز الشعبي لصالح الرئيس فتراجع، ولكنه مع ذلك تورط كذلك في خطاب شديد الحُمق بضربه للشرعية السياسية والأخلاقية والمصلحة الواقعية (مخاطبة الغرب للتدخل بالإشارة التهديدية لمسائل الإرهاب وطوفان الهجرة، فضلا عما يُشاع – وأتمنى ألا يصح! – عن مقايضة التونسيين في صحتهم بخصوص الضغط لوقف شحنات اللقاح!)، وصولا إلى الحديث عن ضرورة تحويل هذه الإجراءات لمسار تصحيحي.
والحق يُقال، ولقد التقيت بالشيخ الغنوشي أكثر من مرة، وقرأت جل كتاباته قديما، فإنه يُمثل مفارقة نوعية عن فكر وممارسته الإخوان، بانحيازه للديمقراطية والدولة الوطنية – إدراك مستوى تمازجهما بجوانبها الإجرائية والوظيفية – مع المبدأ الإسلامي، والخروج من شرنقة التجسيد واحتكار الفكرة الدينية، والتحرر من التكلس السياسي المُقايِض مع الأنظمة لصالح رؤية سياسية تسعى لتغيير ديمقراطي. وهذا تجلى في نقده لتجربة إخوان مصر قبل وبعد ثورة يناير. ولكن هذا تغيّر بوضوح كما أسلفت في تجربة السلطة الأعوام الماضية، وبحكم تشبثه بموقع القيادة وإقصائه حتى أطرافا أكثر وعيا وقبولا وطنيا – مثل الشيخ مورو، فإنه بالتأكيد يتحمل مسئولية ما سبق، مع تقدير رمزيته وتاريخه.
– في المقابل، فإن قيس سعيد له خطاب شديد الشمول وتعاظم الأنا وتحريف الدستور عمدا – وكونه أستاذا للقانون الدستوري يزيد من نقمتنا عليه وليس من ثقتنا فيه كما دائما يدندن. والأخطر ليس التوسع في الإجراءات التي يُشمّ منها رائحة تصفوية وشعبوية. ولكن أن هناك مأزق وجودي للدولة التونسية والتجربة الديمقراطية يتغافل عنه ومؤيدوه.. نعم فقدت القوى السياسية المدنية الشرعية السياسية والوظيفية معا، ونعم بها مثالب وطنية وبنيوية هائلة، ونعم هناك استقطاب حاد ورغبات متبادلة في التصفية، ولكن لايمكننا بناء نظام سياسي بالفراغ ! – فقط يملؤه رئيس بدون جسد سياسي تحته (هذا بحد ذاته عنصر مطمئن ضد إمكانية تكريس نظام استبداي في وقت قريب، ولكنه مقلق فيما يتعلق بتفاقم الأزمة وزيادة التوتر وتسيّس الجيش).
– في حوار مع صديق أكاديمي تونسي منذ عام، تناولنا موقف قيس سعيد من الترفع عن التجربة الحزبية ولأنه ذكر خشيته من تكريس نظام الرجل الواحد إن هو فعل! وهذا ماانتقده صديقي المؤيد حاليا لموقف النهضة. ولكني حينها ثمّنت موقف قيس – بمنطق المبدأ السياسي، ولكني رأيته متخليا عن واجبه الذي يفرض عليه – كما اقترحت حينها – أن يُمارس الرئيس صلاحياته وقوة الشرعية الشعبية التي تحمّلها للضغط على القوى المدنية لصالح بناء إطار توافقي وإعادة ترميم إصلاح بنود الشرعية والممارسة السياسية المضطربة، وإجراء تغيير هيكلي جذري يستعيد قدرا من الوظيفة – ليس فقط كجوانب اقتصادية وصحية وأمنية، ولكن دمقطرة المؤسسات ذاتها وتطوير عقائدها وحوكمتها. بمعنى أدقّ – أن يُمارس ماله من شرعية واقعية ودستورية في التهيئة لإصلاح دستوري ووظيفي شامل – ليس بالتأكيد كانحراف دستوري!
– البعض قد يدفع أنه لم يكن أمامه بديل في ظل تطويقه دستوريا من قبل البرلمان الذي يُسيطر عليه تحالف النهضة وقلب تونس (حزب الفساد الذي تعهدت النهضة سابقا بعدم التحالف معه) وائتلاف الكرامة. ولكن في تصوّري أن تحريكه للقاعدة الشعبية تزاوجا مع الاعتراض السلبي الذي يتيحه له الدستور، مع محاولة شق بدائل وظيفية خارج إطار الحكومة وليس الدستور! مع تقديم حزمة حل تصالحي بالتوازي قد يكون أسلم كحل تدريجي للمأزق التونسي.
– أما وقد حصل ما حصل، وبالنظر لموازين القوى الفعلية وتطوّر المواقف، فليس من سبيل حقيقة سواء بمنظور الشرعية السياسية، أو المآل الاستراتيجي والسياسي المُقلق للمسار الحالي، سوى أن يقوم بما سبق ذكره بتكييف مناسب، وربما نعود لتفصيل ذلك في مقال تال:
1- وضع خارطة طريق لمرحلة انتقالية وتعديل الدستور خلال عام يحصل عليها استفتاء شعبي، بحيث أن يتمثل في جمعية الدستور تركيب متوازن – بالتساوي بين الكتل السياسية من ناحية والمؤسسات والقطاعات المهنية والشعبية، تعقبها انتخابات برلمانية مبكرة،
2- البدء لحظيا في تدشين حوار وطني برئاسة سعيّد عبر مجلس حكماء تتمثل فيه المكونات السابقة بشكل متوازن، حول تفصيلات النقطة الأولى وإدارتها وليس حولها كمبدأ وخيار.
3- تشكيل حكومة إنقاذ وطني برئاسة الرئيس، وعضوية تكنوقراط لمعالجة الأزمة الصحية والاقتصادية العاجلة بشكل معقول، وبحيث أن يحصل هذا بالحوار مع مجلس الحكماء.
4- تدشين عقد وطني جديد فيما يتعلق بمسائل التمويل الخارجي والالتزام الوطني.
5- مراجعات سياسية واسعة وتجديد بنيوي في المرحلة الانتقالية تتعهد به القوى السياسية المختلفة، وتنحي رؤسائها الحاليون عن المسئولية، مع إمكانية بقائهم كرموز استشارية – وأخص هنا الشيخ الغنوشي، لأنهم أساس هام في الأزمة الحالية.
6- اختيار شخصية وطنية قضائية عليها قبول لمنصب المدعي العام، مع الاقتصار في تحريك القضايا على ماسبق للقضاء نظره بالأخص في قضايا الفساد، أو ما يُستجد. وتدشين مؤتمر للعدالة في مرحلة مقبلة لإصلاح السلطة القضائية، بحيث أن يُضمّن مشروعها ضمن الوثائق المُهيئة الدستور الناشيء.