3-10-2016
في إجابة عن سؤال حول كيفية فهمنا للغرب – وهو سؤال محوري الحقيقة، بالنظر لاتساع وعمق تدخل القوى الغربية في بلادنا، وضرورة فهم محركاتها وطبيعة حركتها وتخليق سياساتها إذا أردنا أن نستشرف المسارات، وفي ظل غلبة تفسيرات شديدة السطحية والأدلجة عند التيارات السياسية في بلادنا إسلامية أو قومية أو ليبرالية ويسارية – على السواء…..
الحقيقة – تناول موضوع شديد الاتساع والتعقيد ك (فهم الغرب) يعتمد بشكل كبير على أهداف التناول، وطبيعة الشريحة المستهدفة، والثمرة المرجوة..
هذا سيحدد مثلا مستوى العمق المطلوب، وطريقة عرض الأفكار والحوار حولها..
لكن إجمالا – أعتقد أن هناك محاور كلية يمكن أن تصلح في أي سياق دون تفصيل:
أولا) محور – سياسات البيئة الداخلية ومنطلقاتها..
وهذا يشمل التطور الاجتماعي والسياسي تاريخيا، والقواعد التي تحكم وضع السياسات الداخلية..
وأيضا التوجهات الغالبة في مسائل كالديمقراطية، وفلسفة الاقتصاد والضمان الاجتماعي، والحريات الداخلية، والأقليات..
ومن منظور مختلف: مشكلات كالتوحش الرأسمالي (خصوصا في أمريكا، أما أوروبا الغربية فهناك انحياز اجتماعي واضح ضمن الإطار الرأسمالي)، والإسلاموفوبيا مع صعود اليمين، وتكتلات الميديا والأعمال،
وأيضا مشكلات التوازن بين الديمقراطية والتخصص المهني (أو بين السلطة المنتخبة، والمؤسسات المهنية بالوزارات.. )
ثانيا) محور – السياسات الخارجية والدفاعية:
وهذا يشمل كذلك التطور التاريخي للعلاقات الدولية، وخصوصا بالغرب (بدءا من نظام مابعد الوستفاليا والدولة القطرية، ثم فترة الاستعمار الحديث وصعود المد القومي والداروينية الاجتماعية، التي قادت للحرب الأولى، ثم تعثر عصبة الأمم وصاحبها فترة العزلة السياسية والركود الاقتصادي وصعود النازي والبلشفي والفاشست، ثم الحرب الثانية التي انتهت بعالم ثنائي القطبية وصيغة أفضلية في إدارة الملف الدولي عبر الأمم المتحدة.. وكذا ظهور التحالفات والردع النووي المتبادل وحروب الوكالة، ثم سياسة الوفاق مع تصاعد السباق التسليحي واستدراج السوفييت لأفغانستان،
ثم مأزق مابعد الحرب الباردة وإعادة التفكير في صلاحية الناتو، وصولا للحرب على الإرهاب وأوروبا الجديدة وتعدد القطبية)
، وصولا لتوجهات السياسات الحالية وطريقة تصنيعها
وترتيب أولويات السياسة الخارجية والدفاعية الآن غربيا (الناتو)- هو روسيا، الحرب على الإرهاب، الصين والقطبيات الناشئة، الشرق الأوسط وأسواق التسليح.
ثالثا) محور – السياسة تجاه الشرق الأوسط
بدءا من مرحلة الاستعمار الحديث، ثم إعادة ترتيب تركة الاستعمار بأشكال ضمن منظومة الاحتواء في الحرب الباردة، وصولا لحرب الخليج ومابعدها من التواجد العسكري المباشر،
ثم صعود سياسة المحافظين الجدد في مغامراتها بالعراق وأفغانستان، ثم انحسارها –
ثم محاولة إدارة أزمات الربيع العربي وتوابعه.
وإسرائيل بلاشك حاضرة في كل هذه المراحل بأشكال (وأدوار) مختلفة.
وهذه السياسة انتقلت من مراحل السيطرة العسكرية الكاملة، لمحاولة صنع أحلاف واستخدام أدوات إقليمية في إطار توازن وتدافع كوني في الحرب الباردة..
ثم محاولة ملء مساحات الفراغ الدولي والإقليمي ماديا وعسكري مع حرب الخليج الثانية،
وصولا لهوس مشروع الشرق الأوسط الجديد مع حكومة بوش الأولى – المتحالفة مع بلير – ولكن أمام رفض فرنسي وروسي وحتى تململ بريطاني أمام كامل الأجندة
ثم انهيار المشروع ومحاولة إحيائه مع الربيع العربي بشكل مختلف (شرق أوسط إسلامي مع رعاة إقليميين: تركيا وقطر، وتوازن مع إسرائيل)،
ثم انهيار المبادرة سريعا، ومحاولة لملمة الخسائر دون اتساع حجم التدخل،
ثم إعادة وتطوير الاستثمار في إسرائيل ودعم الخليج مع توازن أمام الروس في ظل حالة انفجار الإرهاب واللاجئين والتفتت الإقليمي.. وأيضا الانشغال بملفات جيوسياسية أهم.
رابعا) محور – السبك الحضاري والعلمي والثقافي..
وهذا يشمل الجوانب الإيجابية في العقلنة، والحريات، وسيادة الشعب، والتطور العلمي والتعليمي والتقني الهائل، ودور الأكاديميا
ويشمل جوانب سلبية في التشييء وثقافة الاستهلاك، وأمراض الحداثة فيما يتعلق بالإلحاد وتفكك الأسرة والانحلال، ثم موجات مابعد حداثية تتباين بين شذوذها ونظرتها النقدية والمراجعة.
——————————————-
لكن بصراحة.. هناك جملة من المباديء الأولية – ليس فقط لفهم الغرب، ولكن لفهم وتحليل السياسات الداخلية والخارجية لأي دولة
أولا – مبدأ التركيب على مستوى الحالة الغربية.
فليس هناك غرب واحد (فبالرغم من وجود قواعد وتوجهات عامة، إلا أن الأوضاع الاجتماعية والنظام السياسي ومنطلقات السياسة الخارجية والدفاعية -تختلف من دولة لأخرى، على العموم وفي الملف الواحد).. فبريطانيا غير فرنسا غير ألمانيا غير الولايات المتحدة..
وأعطي مثالا واضحا/ الموقف تجاه إسرائيل ومنطلقات هذا الموقف تختلف كثيرا بين دولة وأخرى..
فبريطانيا كانت ترى الحركة الصهيونية أداة لتوفير إدارة استعمارية أجدى في المنطقةـ بالإضافة لرغبة حثيثة في تحويل الهجرات اليهودية بعيدا عنها ماقبل وعد بلفور، ولكنها لم تكن تقصد بأن تكون للصهيونية دولة مستقلة، وبعد سياسات شديدة التحيز في العشرينات والثلاثينات، حاول تدراك بعض التوازن في الأربعينات مماعرضها لحملة إرهاب صهيوني، وصولا لانفلات الأمر من يدها ونقلها الأمر للأمم المتحدة وامتناعها من التصويت،
ثم وقفت بعد ذلك بشكل فيه تعاطف ولكن لم تتعامل مباشرة في دعم عسكري أو سياسي فج لتوازن علاقتها مع العرب – وظهر هذا مثلا في حرب أكتوبر.
فرنسا كانت أقرب ثقافيا وسياسيا لدعم الصهيونية، ولكن ماقربها استراتيجيا كانت المصادمة مع نظام ناصر ودعمه لثورة الجزائر وتأميم القناة، وهذا جعل فرنسا هي الداعم العسكري -شبه الوحيد – فترة الخمسينات والستينات وهي من زرعت مشروعي الصواريخ والنووي..
ولكن حين أتى ديجول في الجمهورية الخامسة – وقف بشكل مختلف وقطع الدعم العسكري بعد حرب 67 تبعا لقاعدته في إدانة (مطلق الطلقة الأولى بالحرب) وكان له موقف غير منسجم مع سياسة الناتو عموما.. وحتى الآن تبقى فرنسا وبلجيكا – ولحد ما ألمانيا- لهم مواقف أكثر بحثا عن التوازن في القضية العربية الإسرائيلية (عدا فترة صعود ساركوزي اليميني مثلا)
أما أمريكا فالعنصر الأكثر تحديدا في موقفها تجاه إسرائيل كان الملف الانتخابي واللوبي الداخلي، ولكن أيضا كان هناك رغبة في إحداث توازن مع العرب عند التقسيم (كما ظهر في موقف ترومان)، ولكن تغلب العنصر الأول..
وبقيت أمريكا بشكل أو آخر غير منخرطة في دعم عسكري لإسرائيل (رسميا كان هناك مقاطعة عسكرية لكل من مصر وإسرائيل، وكان هناك دعم اقتصادي لمصر) حتى أوائل الستينات لما بدأ النزاع يشتد مع عبدالناصر إقليميا ودوليا.
ولكن قبيل وبعد 67 – حصل تحالف استراتيجي كامل، وحلت أمريكا محل فرنسا، ورأت أن إسرائيل لها دور وظيفي حاضر وكفء في تحقيق مصلحتها في الشرق الأوسط وضرب أي نظام معاد…
ثم بعد 73، بدأ تصور بإحداث درجة من التوازن – ليس التساوي – بينها وبين مصر التي التحقت بالمنظومة الاستراتيجية الأمريكية،
ثم بعد حرب الخليج واستجابة إسرائيل للضغط الأمريكي بعدم الرد على صدام، تم تضخم الدعم السياسي والعسكري (خصوصا مشاريع الصواريخ)، وصولا للاتفاقية الجديدة.
ثانيا – التركيب على مستوى الدولة ومنطلقاتها السياسية.
فاختلاف التيارات والأحزاب تجاه تفاصيل السياسات الداخلية والخارجية، والدور الكبير للوبيات الأعمال،و بالأخص المجمع الصناعي العسكري بأمريكا، مع وجود دور واضح أيضا للأكاديميا الملتحقة بالكيانات الحزبية أو المؤسسات عبر الثينك تانك.
والتباين التقليدي مثلا بين البنتاجون والرئاسة ووزارة الخارجية بأمريكا تجاه كثير من التفصيلات،
والاختلاف الحاصل بين اليمين ويسار الوسط في الحالة الغربية عموما.. بل حتى الاختلاف بين حكومة بوش الأولى والثانية تبعا لطرد مجموعة المحافظين الجدد من الثانية بعد تعثر العراق وأفغانستان وخسارة الكونجرس في 2005.
وهذا مادعى كيسنجر مرة أن يصف (وهم السياسة الخارجية) أي أننا لسنا أمام أطر واضحة اسمها سياسة خارجية ولكن جملة من المناقصات والشد والجذب داخل مواطن اتخاذ القرار قبل وأثناء وبعد القرار.
ثالثا – تعدد المنطلقات وراء السياسات، واختلافها بين البيئة الخارجية والداخلية.
وهذا ماأثرت له سابقا حول تفسير الازدواجية تجاه قيم العدالة والديمقراطية وسلطة القانون في الداخل والخارج.
وإجمالا – العنصر الأيديولوجي مثلا حاضر بأشكال مختلفة في تخليق السياسة الغربية الخارجية مثلا، ولكنه يفوقه بمراحل عنصر السياسة الواقعية في المصالح وتوازن القوة والهيمنة.. ويحضر بشكل ملح أيضا عنصر التدافع الحزبي ذاته (أي أن القائد الغربي حين يأخذ قرار أو يضع أولوية – فالمكسب الحزبي – أو الخسارة – هو أول مايحضر على ذهنه – إلا في حال خطر وجودي غالبا، وهذا غير حاضر منذ الحرب الثانية وفترات خاطفة أثناء الحرب الباردة)
وعموما – الحالة الشعبية عموما تبقى غير مهتمة بملفات السياسة الخارجية والدفاع (وهذا يعطي صلاحيات واسعة جدا للسلطة التنفيذية ممايتنافر مع المقتضى الديمقراطي) إلا إذا حصل استنفار شعبي بسبب تهديد أمني داخلي أو خارجي أو خسائر بسبب حرب سابقة (حينها تتقلص مساحة المرونة تلقائيا أمام الساسة ولكن يتمتعون بدعم شعبي في الحالة الأولى).
رابعا – مبدأ الديناميكية
فنحن نحكي عن قواعد ومنطلقات وتفصيلات في السياسات عُرضة بشكل كبير للتغير المستمر تبعا للتطور الاجتماعي والاقتصادي والتقني والسياسي، وظهور أحلاف وانقضائها،
ونشأة صراعات واستبدالها..
فنظرة مثلا – لأولويات السياسة الدفاعية الغربية قبل وبعد الحرب الباردة، أو قبل وبعد ظهور النووي، أو قبل وبعد الهجرة لليمين أو مشكلة شرعية الاتحاد الأوروبي والناتو أو الأزمة الاقتصادية الخانقة..
نجدها تتغير باستمرار..
وهذا التغير يطال أمور كثيرة ( مثلا كانت السياسة الدفاعية في الخمسينات والستينات من الحرب الباردة قائمة على الردع النووي الاستراتيجي بمعنى المبادرة باستخدام النووي أمام اكتساح سوفيتي تقليدي لأوروبا، وسياسة الاحتواء اقتضت الدخول في حروب بالوكالة ممافرضت معاناة استراتيجية غربية استلزمت تحويرات تقنية وعقائد قتالية عديدة لم تفلح في كوريا وفيتنام مثلا،
ثم انتقل في السبعينات والثمانينات التي استمرت بها سياسة الوفاق الخش لتطوير نظريات الحسم العسكري العملياتي بالقوة النووية التكتيكية وتطوير العقيدة القتالية لتتبنى الحرب الجوية والأرضية المشتركة بما يُحيد القدرة العددية الهائلة للسوفييت،
وصولا لفترة أزمة العقيدة القتالية والأهداف الاسترايجية في التسعينات – البحث عن إطار استراتيجي وعدائي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي- وهذا فرض بالتالي انحسار شديد في القدرة الدفاعية كما وكيفا خصوصا في أوروبا،
حتى ظهرت الحرب على الإرهاب وقفز البريطاني – لكن ليس الفرنسي والألماني مثلا – تحت مظلة الأمريكي لأسباب معقدة في مغامرات العراق وأفغانستان،
ثم مرحلة الصدمة (والتراجع الدفاعي) بسبب الخسائر الفادحة سياسيا وعسكريا وداخليا وحتى استراتيجيا وأيضا بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة 2008 .. وهنا تم وضع خطة جيش 2020 هنا مثلا بما يقلل الجيش البريطاني للنصف تقريبا وتنحاز الاستراتيجية الدفاعية حاليا لمنع أي حملات استطلاعية ممتدة – كحالة العراق وأفغانستان..أما الأمريكي – فهجرته الاستراتيجية الشهيرة لبيئة جنوب شرق آسيا وانشغاله بالصعود الروسي مع بوتين خصوصا بدءا من جورجيا ثم القرم..، وهذا قلل بشكل كبير اهتمامه الشرق الأوسطي، خصوصا مع دروس المغامرات الخاسرة والتململ الشعبي تجاه أي مغامرة جديدة).
[…] https://mohamedboraikblog.wordpress.com/2016/11/25/west/ […]
[…] كيف نفهم الغرب؟ […]
[…] كيف نفهم الغرب؟ […]
[…] لمزيد تناول حول منطلقات وفهم الحالة الغربية وسياساتها عموما:كيف نفهم الغرب؟ […]