بداية، أود الإشارة لنقطتين تبدوان خاصتين، ولكنهما مدخل لما هو أعم:
الأولى – أني لم أدلف لبكور الشباب إلا وقد انتكبت أمتنا بسقوط بغداد الثاني!، وهذا ماكان له أثر مؤلم عليّ وجرح لم تعافه السنون.. فالعراق، مع كل الإشكالات الجوهرية والمآسي والويلات في تاريخه الحديث، كان عمودا لخيمة أمتنا، وصمام أمان لها، ولعل أبرز علامات هذا الدور كان في الحؤول أمام سقوط دمشق في حرب أكتوبر.
الثاني – أني اقتربت بشدة من دراسة الحال العراقي في عام 2010، حين كنت مهتما باستيعاب ملف المقاومة وكذا التدافع السياسي الداخلي وبالأخص تموضع الحركة الإسلامية العراقية والتي كنت مبكرا شديد الإنكار على مسارها الكارثي ديانة ووطنية. وحينها – وصلت لقناعة أن العراق صارت (أرضا محروقة).. ليس فقط بفعل الاحتلال الأمريكي، أو الاستباحة الإيرانية التي أنشبت مخالب الانتقام لحرب الخليج الأولى والتي حتى كنت أحمل مسئوليتها الأخلاقية لنظام صدام أكثر من إيران – بشكل لم يُراع دينا أو إنسانية أو حتى مصلحة، ولكن لحجم التفسخ الشعبي، وانهيار الفكرة الوطنية، وإحلال التخندق الطائفي محلها بعد حرب طائفية مُهلكة، وفساد القوى السياسية في المشهد وفقدانها لشرعية أخلاقية ووطنية، إما لأنها قدمت مع دبابات المحتل، وشرعنته، وخصوصا الأحزاب الدينية السنية والشيعية على السواء كانت تحترف التجارة بالدين ويعشعش الفساد المالي والإداري بها، أو لأنها كانت في قلب النظام السابق ولم تقم بأي مراجعة أخلاقية أو سياسية على ميراث نكد! فضلا عن المشكلات البنيوية استراتيجيا وعملياتيا في المقاومة العراقية، ومع تحسن ملحوظ في الاستراتيجية الأمريكية.
ومازاد الطين بلة، كانت حكومة المالكي، وماأصلته للمحافظات السنية من نير وعنت طائفي، مما دفع الحالة السنية لأكثر الخطوات حمقا وشذوذا بأي معنى أخلاقي ووطني، وهو المراهنة بشكل مباشر وغير مباشر على داعش وقت ثورة العشائر! وكيف أدى هذا لظهور الحشد الشعبي، وماارتكبه من مجازر مُخزية في المقابل.
وحصل حينها لو نذكر انهيار الجيش العراقي المفاجيء، مشروع الجنرال بيتراوس الذي صنعه علي عينه، وأذكر لقاء معه في ندوة بلندن بعدها مباشرة، وكان الكل ينظر إليه بلوم وتساؤل، والرجل بالطبع حاول بشكل أو آخر التبرير لفشل مشروعه، وكان بالطبع شديد اللوم لحكومة المالكي، ومسئوليتها عن الاحتقان الطائفي واضطرام مشكلة داعش، ولكنه بالتحديد في مسألة الجيش، لم يشر لمشكلة طائفيته فقط، ولكن أشار لغياب فكرة وعقيدة وطنية جامعة له! بالطبع، فالجيش الذي يصنعه المحتل، ويُحقن طائفيا بالوريد، أبعد مايكون عن الجيش الوطني.
مع كل هذا، فكان عندي أمل رأيته يضعف مع الوقت، أن تقود الإفلاسات العميقة لإفاقة ما في الحالة الشيعية العراقية، وعودة ثانية لفكرة الوطنية، فيكون بالتالي الباب مفتوحا لمصالحة وطنية حقيقية، وكذلك مراجعة – يسهل حصولها – في الشق السني.. ولكني كنت أستصعب حصول ذلك في المدى القريب.
ولهذا، فكان حصول الانتفاضة الشبابية في المحافظات الشيعية بالأساس، وضد نظام في أغلبه شيعة موالون لإيران، بل ونقمة عالية على التدخل الإيراني بالأصل.. حلما صار واقعا مبهجا لي شخصيا، وسطّر الشهداء الأماجد عنوانا وطنيا فريدا طالما افتقدناه في البلد العزيز علينا، البائس في تاريخه البعيد والقريب وحاضره.
لكن: هذه المساحات لايمكن التعاطي معها – كقراءة وتقييم ورسم سيناريوهات وشق استراتيجيات، إلا بنَفَسٍ هاديء، وأن نبذل جهدا موضوعيا لتسكين خفقات العاطفة، فمن بديهيات القيادة العسكرية مثلا أن تنحجب – مؤقتا – عاطفيا ونفسيا عن هزات الخوف ودراما الحرب والصراع،
ولا يقضي القاضي وهو غضبان! هذا في حادث بين شخصين، فما بالنا بمن يريد التصدي لهموم أمة، ويُحاول أن يستلبها ثانية من براثن التخلف والذل والتفتت عاشتها لعقود، إن لم يكن لقرون..
وإن أي طرف وطني أو قومي يريد أن يتعاطى بشكل إيجابي مع هذه الانتفاضة، فإن أي ستراتيجية للتدخل والدعم مهم أن تكون واضحة وتعتمد على أمرين..
أ. قراءتنا لانتفاضة الشباب العراقي ومآلاتها، وماتحتاجه لتحقق أهدافها السياسية المطلوبة! بمعنى: أن الانتفاضة غالبا سيتم استيعابها، لأنه يغيب عنها أي قيادة سياسية أو استراتيجية، تستطيع أن تدير عمليات الحشد والتصعيد والمناورة والتفاوض مع أطراف الداخل والخارج لخلق واقع جديد، أو تحوز على قدرة ملء أي فراغ سياسي ناشيء أو حتى تتدافع مع النظام على المساحات ضيقا واتساعا.. ولو هناك إرهاصات قوة ما – من الشباب أو غيرهم – فإن أقصى ماتطمح له هو التوظيف الاستراتيجي لهذا الحراك ومتواليته ضمن مسار ما لتحقيق المتطلبات الاستراتيجية للتغير السياسي على مدى مقبل.
ب. ثم ماهو في يد القوة السياسية تلك لتقدمه في سبيل التوظيف الاستراتيجي تلك واحتياجاته، لأن أي استراتيجية لا تُخلّق في الفضاء النظري، ولكنها لقوى بعينها ذات موارد وقدرات وانحيازات معلومة!
ولكن – كنظرة شديد التجريد، فإن أي مسار للتوظيف الاستراتيجي لهذه الحراك لابد أن يرتكز على نقاط محددة::
1- إنضاج رؤية المطالب السياسية، فالمعلوم بناء على سبق، أننا نحكي عن مطالب إصلاحية بما فيها إسقاط الحكومة، و لكن ليس تغييرلبنية نظام مابعد الاحتلال لغياب القدرة السياسية والشعبية في الأمد القريب، والقدرة على ملء الفراغ السياسي وحل مشكلات شعبية عميقة تحتاج وقتا قبل صنع دستور جديد مثلا.. بالأساس ملف المصالحة الشعبية. ولهذا فالحد الأقصى هو المطالبة بإسقاط الحكومة وإنشاء حكومة وطنية للكفاءات، وإعادة هيكلة قوى الجيش والشرطة على أساس وطني، وتحجيم التدخل الإيراني عبر خطوط محددة، ونزولا لمطالب ترتبط بتحسين البنية التحتية والإصلاحات الإدارية والاقتصادية.
2- وتوسيع الحراك ومنهجته، وبلورة قيادة شبابية له..وهذا مطلب جوهري بالتأكيد أن تتشكل به لجان عمل، وقيادة رسمية، ولكنها تعتمد بشكل كبير على المركزية في المساحة الاستراتيجية (التي تشمل التوجيه الأعلى للمناورة والحشد، وكذا إدارة ملفات التفاوض)، ولكن اللامركزية على مستويات العمل والتكتيك: ممارسة الحشد ذاته والضغط الشعبي. وبالتأكيد الحالة السنية لابد أن تشترك بأشكال متعددة، غير محبذ أن تأخذ أشكال الانتفاضة، ولكن الدعم الإنساني والإعلامي، والوقفات الرمزية والنقابية، والأهم – هو بناء حوارات نخبوية وشعبية لحل المشكل الطائفي كما سيأتي.
3- وضبط الخطاب والوعي داخليا وإقليميا، وبما يمثل ضغطا سياسيا وقانونيا على إيران – وزوائدها- دون أن يتورط في دعم وشرعنه الأجندة الخليجية أو الإسرائيلية والأمريكية.. لابد أن يكون هذا محسوما، بغض النظر عن أي تحليلات تتباين.
ولكني أعلم أن هذا سيأخذ وقتا معتبرا، وبشكل لاينعزل – بل يتدرج مع إنجاز الملفات الأخرى.. لسبب بسيط – أن حجم الإشكالات في جدار الوعي السياسي ومرارات الاحتقان السابق، جعل هناك قراءات شديدة العاطفية والتسطيح والوهن الأخلاقي والأدلجة للواقع الإقليمي والدولي..واحتكاكاتي بالأخوة العراقيين كان يجعلني أرى سرديتين شديدا التنافر ويبقى الواقع بعيدا عنهما، أو بينهما بمعنى أدق: بين من يرى مؤامرة كونية يتحالف فيها أمريكا وإيران وإسرائيل، وداعش (صنيعتهم) على العراق، وبين من يرى مؤامرة خليجية إسرائيلية أمريكية على خط المقاومة!
نعم، ستبقى هناك اختلافات وتحيزات تطال التفسير للتاريخ والواقع، ولكن لابد أن نتعود أن نعيش بها دون أن نشوش على وحدتنا الوطنية والقومية، وأيضا نحاول أن نضع له خطوطا حمر في الوعي والسلوك..
(فأن نبرر مثلا لمجازر النظام السوري – أو أي نظام حالي أو تاريخي! – أو خطايا حركة مقاومة شيعية كحزب الله أو سنية كحماس مثلا – بحجة انحياز للمقاومة، هذا تجاوز للخط أحمر
..
وأن نتخيل أن كل دوامات الصراع الإقليمي والدولي ومحطاته وتعقيداته فقط لايُمكن النظر لها إلا من خلال نافذة واحدة: إيران أو إسرائيل، فكأن هناك مؤامرة كونية مشغولة بتمكين إيران وإجهاض انتفاض الشباب العراقي، أو فقط مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي مع محوريتها.. فهذه مشكلة في بديهيات تحليل العلاقات الدولية والمنظومات السياسية والعسكرية..وغفلة عن طبيعة علاقات الصراع الإقليمي والدولي الذي تتلبسه معادلات التصعيد والاحتراب والتفاهم في قضايا متبانية وبشكل شديد التحوّل، دون أن ننسى هل الخلفية الأعم هي خلفية تضاد وصراع، أم تحالف!
فإيران بالتحديد لن تختفي من منطقتنا، هي أساس فيها مثلنا وستبقى!، وهي بالفعل في حالة صراع حقيقي مع إسرائيل، والخليجي في حال اقتراب معه بسب سياسة رعناء مستحدثة.. ونزاعنا مع إيران هو حيوي، ولكن مع إسرائيل وجودي وصفري. وأن إيران لم تتغول إلا بانهيار الفضاء العربي ومشروعه، وبالرغم من مسئولية نظام صدام بكل خطاياه عن انهيار العراق، إلا أن الطرف الخليجي كان له دور محوري في تلك المأساة، وهذا مامكن لإيران التمدد إقليميا بشكل عام، واحتلال فعلي للعراق بشكل خاص. حتى وصاية إيران وتمددها على ملف المقاومة – لم تحصل إلا بعد أن باع العرب قضيتهم المركزية بأثمان بخسة. مشكلة إيران لن تُحل بتحالف كارثي مع إسرائيل والرهان على الأمريكي، ولكن إعادة بناء قوة عربية حقيقية، تستطيع أن تتدافع مع إيران بأشكال تجمع بين الاحتكاك والردع والتفاوض والإحلال والاستيعاب ، بل والتحالف في قضايا مركزية! هكذا تبنى الأنظمة الإقليمية وتُدار صراعاتها!
4- والأهم: الاستفادة مما يمثله هذا الحراك من فرصة تاريخية – قدمها لنا الشباب الثائر في محافظات الجنوب الشيعية – لحل المأزق الطائفي وتطوير حراك وحوار مجتمعي مُعمّق على جانبيه، وبما يشمل كذلك – أشكال الحراك في المناطق السنية، بما لايُشوش ويجهض الحراك الأعم، ويُمكن أن يحل المشكل التاريخي، والذي تعقد بعد حراك العشائر وداعش!! أي مصالحة شعبية حقيقية واستعادة للفكرة الوطنية، تتطلب مراجعة واعتذارا وتغافرا، وتعاقدا وطنيا جديدا وتغيير للبيئات والفضاءات المجتمعية والسياسية والأمنية تبعا لذلك، وربما ندخل في مسألة العدالة الانتقالية إذا فعلا تطور الإنجاز السياسي والمجتمعي في مرحلة تالية.. كل هذا يقتضي وقتا ومسارا مضنيا، ولكن لعل الله يكتب للدماء الشريفة التي غطت شوارع البصرة وكربلاء أن تكون وقودا لهذه المهمة الجوهرية لانتهاض العراق من كبوته.
5- والأهم كذلك: تحفيز مراجعة جذرية للقوى السياسية سواء داخل العملية السياسية وخارجها، ومراجعة للخطايا التاريخية والسياسية والأخلاقية، وهي كثيرة، وارتكبتها كل القوى بنسب مختلفة. المراجعة الجذرية ، وحتى تدشين عناوين سياسية جديدة، واجبةحتى يمكن استعادة الثقة الشعبية بقوى سياسية ما.. تستطيع أن تقود بناء عقد اجتماعي وسياسي وإنشاء نظام جديد.. ليس فقط تأخر لعقدين، ولاتبدو له إرهاصات لحصوله، بل واقع العراق سيبقى للأسف هكذا – شبه دولة، فاشلة وظيفية، وتتوجع من الانشقاق الطائفي، والاحتلال الأجنبي والنزعة الانفصالية غير المتورعة – دون حل هذه المأزق، ظهور قوى سياسية رشيدة ووطنية، وتحوز على قدر معتبر على الثقة الشعبية.
وهذه هي المشكلة البنيوية في كل الحراكات السياسية التي مرت ببلادنا في العقد السابق، وذهبت بتضحيات وعزائم وآمال لغير مكان.. والتدافع السياسي، حتى لو سقطت الأنظمة وتركت فراغا – لايملؤه إلا قوى حقيقية تحوز على ثقة شعبية، ولاتتخلف عنها القدرة والاستقامة.
وإلا – فتحتال الأنظمة والقوى المحلية الفاسدة، أو القوى الإقليمية والدولية، على الآثار الإيجابية الممكنة، وتتجاوزها، أو حتى تبني عليها واقعا مشوها. شعوبنا ، خصوصا الشباب، يضحون ويظهرون علامات الوعي والنجابة والأمل، ويفاجئون الجميع مهما نعاهم البعض وقالوا موت، ولكن تخذلهم النخب.
5- وبعد ذلك تأتي إدارة المرحلة الانتقالية، إذا حصلت في المستقبل!، وطرق بناء عقد اجتماعي وسياسي ونسق دستوري مستجد، واستفادة من التجارب السابقة العربية – الحديثة نسبيا..
[…] ملاحظات حول التوظيف الاستراتيجي للانتفاضة العراقية […]