Scroll Top
السياسة

د. محمد بريك 

بلاشك أن الانتفاضة العراقية صدّرت آمالا واسعة في بدايتها حول إمكانية الخروج من وضعية الأرض المحروقة التي يعيش بها العراق منذ الاحتلال. نعم العراق قبل الاحتلال لم يكن في أفضل وضع، وهو بما عاشه تحت نظام البعث الاستبدادي كان أبعد كثيرا عن معاني القوة الحقيقية والرافعة الفاعلة لأمته – مع أدوار مشرّفة في هذه المحطة أو تلك. فمع عوامل وفرة وبنية تحتية وقوة عسكرية (معقولة بالنظر لسياقها المحلي)، فإن في منطق الاستبداد إهدار لكثير من الطاقات البشرية والسياسية للدولة ، ولكن نتيجته المباشرة كانت غياب الرؤية والمأسسة لصنع الاستراتيجية، ممادفع للدخول في حروب عبثية وإدارتها بشكل شديد الخَرَق استراتيجيا، سواء في تمحيص منطق ودواعي دخولها ابتداء، أوالفشل في إدارة محطاتها الاستراتيجية والعسكرية. وللأسف، النتيجة المُحابية للعراق في حرب الخليج الأولى ضخّمت هلاوس العظمة الشخصية والسعي للهيمنة عند صدام فدفعته لأكبر خطأ تاريخي في نظامه، فأعقب ذلك تدمير حقيقي لسيادة العراق وقتل لملايين من أطفاله وشعبه تحت حصار قاس، ثم جاء الاحتلال ليهدم ماتبقى من أركان الدولة، ويُفجّر كل التناقضات وعوامل الأزمة البنيوية في العراق منذ تأسيسه الحديث والتي فقط ردمت فوقها أنظمة الاستبداد وخصوصا البعث، ولم تعالجها.

الاحتلال الأمريكي – والذي كان جزءا من مشروع استراتيجي لتخليق شرق أوسط جديد فشل سريعا – كان بالتأكيد العامل المباشر، وليس الوحيد، لتحطيم العراق كمبنى ومفهوم، وما أفرزه من دخول في حرب أهلية وطائفية لعينة ثلمت الفكرة الوطنية وكادت أن تُميتها ونتج عنها خسائر بشرية جمة، والسياق الانفصالي الفعلي للشمال، وتعمق الوصاية الإيرانية.

وكذلك – ظهور قوى سياسية شديدة السقم في أصالتها الوطنية واستقامتها ووعيها السياسي. وهي على أقسام:

الأول هو من انضوى تحت المحتل وأتى معه، وهو الذي أسس النظام السياسي المُشوه الحالي، والجزء الشيعي الغالب فيه مرتبط بإيران صاحبة الوصاية الفعلية الآن على العراق، والجزء السني في المقابل بحث دون تكافؤ عن علاقات مضادة مع الخليج. وتلك الأحزاب هي أكثر التجليات لتجربة الإسلام السياسي بؤسا، وعلى مستوى الطهر السياسي والاستقامة والوطنية بالأساس. وكما أحدثت تجارب الإسلام السياسي في الربيع العربي (مصر، وسوريا، وليبيا…) ردات فعل عنيفة على مستوى الإمكانية النظرية والأخلاقية والوطنية لمقاربة الفكرة الإسلامية سياسيا، مع مافيها من مشكلات بنيوية مزمنة قبل ذاك، فإن التجربة العراقية بما فيها من فساد ونهب للمال العام، أضفت لونا من التقزز للأسف الشديد، بما يُقرّب من حالة كفران – غير مستحق – للفكرة النظرية ابتداء. فالدين وتلمسه يبقى حاضرا في بلادنا، ولن يزول، مع مافيه من طاقة تعبوية وترقية روحية وسلوكية لامناص عنها، وليس بالضرورة أن تكون كل مقارباته البشرية في معمل السياسة مضادة للمنطق الوطني والديمقراطي والأخلاقي.

أما البعث الذي تم حظره والذي كان المكون الأصيل للنظام السابق فإنه لم يُحدث أي مراجعات حقيقية على مستوى الفكر والتاريخ والتطبيقات والأخلاق السياسية، أو حتى تجديد الوجوه والعناوين! ولايمكن أن يؤدي خطابا له ينحاز للديمقراطية إلا  لتساؤل وشك ضخم.. وهولايزال ملفوظا من قطاعات عريضة في الشعب العراقي وخصوصا من الانتفاضة الحالية. وأحدث الأخطاء التاريخية في القائمة الطويلة هو الأوهام والتقاربات التي ظهرت في مرحلة المد الداعشي دون إدراك حتمية الانهيار الاستراتيجي لتلك التجربة فضلا عما يحمله ذلك من ثمنية عالية جدا – ليست فقط أخلاقية، ولكن استراتيجية.. لأنها سمحت بتفاقم التدخل الإيراني العسكري، وتطور ميليشوي شيعي بقبول كبير لمواجهة ذلك الخطر تورط في انتهاكات دموية، هو جزء معوق من المشهد الحالي.

وتبقى مشكلة الأحزاب الكردية كمظهر للأزمة الكردية الممتدة تبعا لأوهام انفصالية دفعت لتحالفات كارثية ضمن الاستراتيجية الطرفية لإسرائيل ومع إيران الشاه، وفاقمتها السياسات غير الرشيدة لدولة المركز، ثم أفرز الفضاء السيادي للربيع العربي والتدافعات الاستراتيجية بين دول الإقليم والقوى الكبرى في الميدان السوري تصاعدات ثم انحسارات في إرادة وقدرة الانفصال.

ولهذا، فكما أشرنا في مقال سابق، أتت الانتفاضة العراقية ومن السياق الشيعي ذاته ببغداد ومحافظات الجنوب، رفضا لعناوين وطبيعة النظام الحالي؛ بطائفيته، وقواه السياسية الفاسدة والتابعة لقوى الخارج، والوصاية الإيرانية، وانهيار البنى التحتية والوظيفية للدولة، أملا حقيقيا لاستعادة الفكرة الوطنية ابتداء، وإعادة بناء الدولة العراقية في إطار ديمقراطي حقيقي وينحاز لدور العراق التاريخي المهموم بإحياء أمته سياديا وحضاريا وهي في أحلك لحظاتها حاليا، وحل المشكل الطائفي بكل تجلياته السياسية والاجتماعية، بحيث تكون هناك طوائف لها مساحات تعبير اجتماعي وديني محفوظة، دون طائفية تحتل مساحة التمظهر السياسي الوطني.

غير أن الواقع وفرص تغييره أعقد كثيرا مما تحتال في وصفه الآمال والتفكير الرغائبي. فكما حكينا سابقا بمنظور استراتيجي بحت عن احتياج أي حراك شعبي لمنظور وقيادة استراتيجية بحيث تتحرك به نحو وجهات محددة ومناسبة للقدرة والقابلية، وتُرتب أولويات الحركة والخطاب، فمُهمّ كذلك أن نتلمس ذات الأمر من منظور سياسي حول كيفية التحول لنظام ديمقراطي حقيقي بالعراق ومتطلباته وهذا هو العنوان المحيط بكل مطالب الانتفاضة الشعبية، خصوصا مع الجدل الحالي حول قانون الانتخابات.

تدشين التحول الديمقراطي لايكفيه فقط وجود انتفاضة شعبية؛ بل الدرس الثمين في كل تجارب التحول الديمقراطي الناجحة هو وجود قوة سياسية (في إطار تحالف مدني موسع) قادرة على إدارة مساحات الزخم الشعبي والضغط والتفاوض أولا، وملء المساحات، للتخلص من النظام القائم..
وثانيا، الاتفاق على صيغ سياسية وقانونية لإدارة مرحلة التحول وتطبيقها. وهذه الصيغ أعقد وأوسع من المستوى الإجرائي (الانتخابات).. ولكن الدستور والفصل بين السلطات، والهيمنة المدنية مع التمييز بين الحكومة والدولة (هيمنة سلطة التنفيذ ولكن بحدود تمنع تسييس المؤسسات، وضبط العلاقات المدنية العسكرية..

وهذا من ضمن مبررات التحالف الوطني ليكتسب قوة دفع وشرعية تسمح له بالهيكلة والضبط، وفي ذات الوقت عدم تسيّسها. وهذا يحل المأزق في كل تجارب التحول والتي تقف أمام معضلة جوهرية إن هي اكتفت بالنمط الإجرائي التقليدي أن تحصل انتخابات ويتولى الفائز تشكيل الحكومة، حتى إذا كانت تلك الانتخابات تمثيلية

Representative

 وعادلة، وكان البناء الدستوري ضامنا مثلا لنسق ديمقراطي معقول.. لأنه إن حاولت الحكومة تغيير البنية والسياسات للدولة جذريا فهذا ابتداء خارج تفويضها السياسي ويحمل معه هاجسا قويا في تسييس دولاب الدولة، فضلا عما ستلاقيه من مقاومة مؤسسية أمام التغيير، وهي إن أحجمت أو توقفت تحت الضغط  وتركت بنية الدولة وسياساتها لا تُمس، فهي تستدعي اختلالا وظيفيا واقتصاديا كثيرا مايُزهّد الجماهير في جدوى الديمقراطية ذاتها، واستغلت القوى المضادة الديمقراطية الفرصة وعادت للمشهد وقلبته.

المشكلة البنيوية في حال العراق، هو غياب قوى سياسية رشيدة بالأساس (بل المشكلة الأهم النظام السياسي مابعد الاحتلال هو انحراف وتشوه تلك القوى بالأصل، فضلا عن الوصايتين الأمريكية والإيرانية)، فضلا عن تخيّل حصول تحالف جبهوي هو ضروري، لإدارة مرحلة التحول الديمقراطي.

فكمنظور استراتيجي – غياب الرؤية والقيادة التي تدير الحراك الشعبي وتوسعه لكل المحافظات، وتناور به، وتترجمه لآثار ضغط سياسي، وعندها القدرة على الإزاحة وملء الفراغ، جعلنا سابقا نستبعد بالأصل حصول تغيير جذري فيما يتعلق بإسقاط النظام السياسي.

وكمنظور سياسي، وجود المشكلة في القوى السياسية التي على أساسها ممكن ينشأ أي تحول ديمقراطي وإعادة بناء النظام، فضلا عن حصول تحالف.. فالمناسب هو البحث عن صيغ إصلاحية – تحاول فقط العلاج أو حتى التخفيف من مشكلات النظام السياسي العراقي (المشكلة الطائفية والانفصالية، التدخل الإيراني، هيمنة الأحزاب في مقابل الديمقراطية التشاركية، الفساد، العدالة الانتقالية، الميليشيات)، ولكن أخطر شيء (لأنه ماسيحكم على المستقبل السياسي للعراق) هو توفير شروط موضوعية لتحول النخبة السياسية العراقية وإنشاء تيارات وطنية وقوى سياسية تتجاوز الخلفية الطائفية والإثنية.

هل هناك محل الآن لاستعادة النظرة الاستراتيجية التي تحاول سوق خطوط الحوادث ليس لنهاياتها المباشرة ولكن للخدمة على متطلب نوعي (تجديد القوى السياسية تلك، وبناء كتلة وطنية تتجاوز الطائفية بمعناها الاجتماعي والتمثيل السياسي) بما يقتضي مسالكا مختلفة أوسع من مجرد التفاعل الإيجابي العاطفي والإعلامي مع الانتفاضة الشعبية في بغداد والمحافظات الجنوبية؟
أعتقد، وإن تكن أصعب من الأول.
ولكن المُضي في أي من خطواتها (وبالأخص إنضاج رأس سياسي للحراك، واتساعه بصيغ غير احتجاجية للمحافظات الأخرى، ولكن يتم تضمينه في الفعل الاجتماعي والسياسي) من شأنه بلاشك تحسين المنتوج.

أما النظرة السياسية، فتجعلنا ندرك ضرورة رفع عناوين سقف أعلى وأدنى:

الأعلى، هو حكومة تكنوقراط، لإدارة الملفات الوظيفية الملحة والمحاسبة على الانتهاكات ضد الانتفاضة وليس أي ملفات بنيوية، وانتخابات لجمعية تأسيسية بتحاصص جغرافي ووظيفي لوضع دستور جديد، بمايلغي المحاصصة الطائفية ولايسمح بأي وضع ميليشيوي أو عسكري خارج جيش الدولة،

الأدنى، حكومة تكنوقراط أيضا، ولكن انتخابات عاجلة ضمن شروط مناسبة، منها:
أ.  القانون – وفي رأيي أن القانون الحالي فيه إيجابيات بلاشك تقلل نظريا ولحد ما فعليا من هيمنة الأحزاب، وفتح فرصة للنخب والعصب المحلية أن تظهر، ولكن به سلبيات واضحة يجب الضغط لتلافيها، منها المشكلات الخاصة بمطابقة القضاء والدائرة والذي سيدفع بلاريب لسيطرة الأحزاب التقليدية على مراكز المحافظات واحتفاظ بأكثرية على الأقل، ومهم كذلك هندسة الدوائر بشكل يقلل من سيطرة العشائر ويقصر الدائرة على المائة ألف شخص وليس المقعد). بطبيعة الحال، الأفضل نظريا في مرحلة التحول الديمقراطي هو اللجوء لنظام القائمة لأنه يسعى لتقوية الأحزاب لأنه أساس بناء النظام الديمقراطي وتفاعله. ولكن خصوصية السياق العراقي كما أسلفنا وأن الأحزاب الحالية هي أساس المشكلة، يجعل أن مرحلة وسيطة مطلوبة لتقليل هيمنتها في مقابل دفع تكتلات وسيطة للظهور أملا في تشكيل بنى حزبية مختلفة مع الوقت، وحينها قد تكون العودة لنظام القائمة أو نظام خليط مناسبة.
ب. ولكن لابد من رقابة حقوقية وقضائية محلية وخارجية، وهذا مسألة حتمية. وبالنظر لمشكلة استقلال السلطة القضائية العراقية وتسيسها، فمن الممكن بالفعل الاستعانة بأطر حقوقية وقضائية عربية مثلا، مع بعض المنظمات الدولية قليلة التحيز.
ج. وتغيير القيادات الأمنية وللأقاليم تبعا للمحاسبة على الانتهاكات،
د. واستقلال كامل لمفوضية الانتخابات وقبول عام لأعضائها

ه. ويتزاوج معها انتخابات محلية.

لكن كما ذكرت، حتى لو تحقق كل ماسبق، وهناك صعوبة حقيقية لتطوير الضغط السياسي نحوه، فإنه فقط سيساهم في تحسين البيئة السياسية ودون تغيير جذري في بنية القوى السياسية الحاضرة وإنبات عناوين وقوى مستجدة، لايمكن تصوّر حصول تغير بنيوي في النظام السياسي والتحول الديمقراطي الجاد (هذا منتوج وليس مطلب!).

ملاحظات حول التوظيف الاستراتيجي للانتفاضة العراقية

 

Comments (1)

Leave a comment