الحوار الأول هو فكري حول خلفيات العنف، ومسئولية الأيديولوجيا الدينية عن الإرهاب:
السؤال الجوهري الآن بعد هذه المذبحة ومثيلاتها: هل للإسلام كمصدرية في فهم الإسلاميين
والجماعات الإرهاب مسئولية عما يحدث؟ هل المشكلة في النصوص أم التأويلات؟
على افتراض أن مصدر الإرهاب هو حالة فكرية ونفسية عند الإسلاميين – ودون تدخل أي عوامل أخرى كالاستبداد أو تدخل القوى الكبرى بقرون من الظلم والتحكم وأيضا اللعب بالمعادلة الإسلامية – إيه علاقة الإسلام بالإسلاميين؟
موضوع أنه مصدر كلام غير دقيق.. لأن العبرة هي التناول البشري للوحي المقدس، وإلا فإن كل الأديان – والمذاهب الوضعية عشان الملحدين مايزعلوش – يتم استخدامها وتحريفها لتبرير وشرعنة العنف
ويبقى مع كل شيء.. أن مخزون القراءات النصية في الإسلام – وحتى الممارسة الفعلية التاريخية للمسلمين إن وُضعت في إطارها التاريخي – تبقى أرفع كثيرا من أي ممارسة لأتباع دين آخر، بل حتى قريبة ممايتم اعتباره الآن مثالا في أخلاقيات الحرب مثلا.
ولكن لماذا لم يؤدي الاستبداد في أمريكا اللاتينية لإرهاب وقاد في بلادنا؟ أليس لهذا علاقة بالأيديولوجية الدينية المستمدة من الإسلام؟
من قال هذا؟!.. منهج الحركات والثورات الشيوعية في أمريكا اللاتينية (سواء النظري كما في نظرية جيفارا، أو حتى الممارسة الفعلية بدءا من ثورة كوبا وحتى فارك والحزب الشيوعي ببيرو) تعتمد في شق أساس منها على الإرهاب المميز وغير المميز.
لدرجة أني كنت أتكلم مع صديق فقال لي أنا اللي حصل النهاردة فكرني بما كان يحصل في أمريكا اللاتينية من ضرب المجاميع الشعبية بالإرهاب لإجبارها على الانضمام لحركة التمرد.. فقلت له هناك فوارق لأن داعش بالفعل تعدت حدود المنطق الاستراتيجي وتعيش في حالة التوحش
الاستبداد ليس في حد ذاته عاملا مسببا بحاله للإرهاب. – نعم. هو عامل للاحتقان الشعبي والشعور العارم بالظلم.. لأن ظاهرة الإرهاب لابد لها فعلا من مقومات فكرية واجتماعية وخصائص نفسية وأيضا عوامل تضمن إعاشتها. ولكي تتوحش تحتاج لعوامل أشد تعقيدا في بيئة التدافع السياسي والعسكري والاجتماعي..
ومجمل الأدبيات الغربية حول ظاهرة الإرهاب ونشوئها تعتمد مثل هذا المنطق الشمولي والنسبي.
ماهي مثلا أفظع تجارب التصفية الوحشية في هذا العصر – سواء من دول أو من حركات؟
داعش – مايُميزها أنه استخدمت الإسلام (دين سماوي اُتفق أنه مصدر هاجس عدائي عند قطاع من الغربيين)، مع سلاح الصورة وثورة المعلومات، وفي منطقة شديدة المركزية.. ومثلت تهديدا لأوروبا.
وإلا فإنها تبدو شديدة الملائكية إذا قارناها بمافعله السوفيت قبل وبعد الحرب الثانية، وبالطبع النازي، وبالتأكيد الفرق المتصارعة في رواندا.
بل حتى داعش ليست أقل كثيرا من أخلاقية الحملات الصليبية.. ولكن إن تجاهلنا الفارق التاريخي لما يقارب الألفية، وقارناها – هي والصليبيين – بسلوك الجيوش المسلمة حينها – مع أن الأخيرة لم تكن كلها بمثالية جيش صلاح الدين – حينها يظهر الفارق جليا!
———————————————————————————————————————————————————————————————–
أما الحوار الثاني فهو حول مزالق التفكير السياسي والاستراتيجي مع صديق في الخط الأيديولوجي والسياسي المعاكس تماما!
الحقيقة أن موضوع أن النظام أو أحد أطرافه (سواء لمصلحة استراتيجية وسياسية، أو صراع أجنحة) خلغ المذبحة هو أمر مستبعد تماما.. لعدة أسباب:
مثلا – ماحصل هو فعلا خسارة استراتيجية لداعش بالفعل، فمن الممكن أن يتبادر للذهن أنه بما أن النظام مستفيد من هذه الناحية فهو وراءها.. (شيء كهذا كان يقوله إعلام الإخوان في أعوام 2013-15، ولكن ليس كل من له مصلحة في أمر فإنه من يصنعه.
فالمصلحة الأهم للنظام سواء في 2013 والآن هو صيانة هيبته، وتوصيل رسالة قوية أنه مستقر أمنيا وناجح في مكافحة الإرهاب (وهذا حيوي لمصلحته في الداخل والخارج)..
ثم هناك أمور أهم: العقيدة المؤسسية سواء للجيش أو قياداته التي لن تتجه لتصفية قطاع شعبي أو مجموعة سياسية إلا بعد قناعتها (حقيقة أو متوهمة) بخيانتها الوطنية وحرقها شعبيا، والتركيبة العقلية والنفسية للسيسي نفسه كأكثر مصري وطني وحامي الوطن، واستحالة الاحتفاظ بالأسرار التآمرية لأمد والخسارة الهائلة للسمعة السياسية داخليا وخارجيا إن تم كشفها.. وهكذا
نعم – المؤسسة الأمنية كان خطها بعد 30 يونيو مثلا هو التصعيد وتفجير البيئات والتساهل في ارتكاب مذابح ليس فقط بحس الانتقام ولكن حيث تدفع البلد لحالة من الانهيار السياسي والاحتقان الأمني فيمكنها حينها توسعة مجال الحركة والنفوذ لها -بالرغم من خضوعها رسميا لمؤسسة الجيش..
ولكن هذا لم يأخذ شكل أن تقوم بعمل إرهابي مثلا لتحقيق الهدف السابق مع أن هذا لايصطدم مع عقيدتها المؤسسية -نظريا – وإن كان لم يوجد دليل عملي أنها فعلته من قبل إلا الشائعات حول تفجير القديسين أيام العادلي..
السبب – أن نظام مابعد 30 يونيو (بل حتى مابعد يناير 2011) هو نظام تخلت فيها المؤسسة الأمنية عن دورها السيادي الأعلى، وأصبحت خاضعة وتحت رحمة سلطة الجيش ومخابراته، وبطشه أيضا.
فمشهد أن يُغير السيسي طقم قيادة أمن الدولة دفعة واحدة أكثر من مرة، لم يكُن حتى تخيله واردا أيام مبارك.
في موضوع صراع الأجنحة.. لا يوجد أجنحة الحقيقة بمعنى التنافس على السلطة السياسية، فهناك توحد كامل للمؤسسة العسكرية خلف السيسي لاعتبارات عديدة (أهمها تصور المصلحة المؤسسية وارتباطها ببقائه حتى اللحظة، وكاريزمته داخل المؤسسة، فضلا عن قبضته الأمنية عليها من الداخل) ، وحتى المؤسسة الأمنية فتدافعها مع الجيش و توسعتها لنفسها هو في الملفات الأدنى من مستقبل النظام السياسي (يعني تسريبات مثلا في وقت ما احتمال، توسيع نفوذ في المؤسسات الإعلامية أو البرلمان – أكيد.. ولكن دون أن تصل لحالة استفزاز كبيرة)
نعم هناك توجس عند السيسي ومؤسساته أن يظهر مرشحون أقوياء، أو يتنافسون على الدائرة الشعبية والمؤسسية ذاتها، كشفيق أو عنان مثلا..
ولكن فضلا – أن العناصر الكابحة السابق ذكرها في حال النظام أو المؤسسة الأمنية تجعل (رغبتهم) في هكذا أمر غير معقولة، فهناك غياب كامل لأدوات الفعل.
النقطة الأهم مما كل سبق:هل فعلا النظام أو أطراف فيه تعيش حالة قلق وتوجس على المستقبل السياسي القريب للنظام فهي (إما تحاول النجاة بنفسها، أو تعجل حرق النظام.. على تناقض كامل بين الأمرين.!).. لاأعتقد .
حتى منتصف 2015 فعلا كانت هناك هواجس.. بسبب مشكلة شرعية النظام إقليميا ودوليا، وأيضا الوضع الداخلي غير المستقر في الشارع (مع أن النظام كان يستغله للمفارقة لتثبيت شرعيته وضرب أي معارض له وتغول قبضته الأمنية)..
ولكن النظام ليس أمامه الآن مثلا معارضة إخوانية في الشارع، والفصيل الإخواني الذي لجأ للعنف المسلح – وكان إرهابا بدائيا على كل حال – مُسيطر عليه إجمالا وكان هناك غض طرف أمني حتى أمام تحركات القيادة التاريخية لتصفية منابعه، والمعارضة السياسية المدنية تم انهيارها – وتحجيمها – مع الوقت.
النظام يُعاني أزمات اقتصادية وأمنية وأمن قومية بالطبع.. وستتفاقم كثيرا مع الوقت.
لكن – بمعيار استقراره وقوته (من حيث تمريره لأجندات شديدة الاستعصاء شعبيا دون أن يثير ذلك اهتزازا مؤثرا) فهو وصل لدرجة أعلى كثيرا من مبارك والسادات.
وأهم سبب في ذلك – هو انهيار التجربة السياسية المدنية مابعد يناير 2011، وغياب أي بديل سياسي، وكُفر الحالة الشعبية بجدوى السؤال والفعل السياسي نفسه.. وليس فقط القبضة الأمنية.
—–
فيما يتعلق بدحلان ومجموعاته والإمارات.. فنعم دحلان كان له بعض الاتصالات في سيناء ولكنه كان يجريها بعلم النظام وفي مصلحته، خصوصا في الوقت الذي كانت حماس أيضا تلعب بملفات التصعيد الأمني داخل سيناء – وإن كان بشكل غير مباشر (أقصاه كان دعما لوجستيا)
لكن لم يحصل، ولايجرؤ حقيقة على القيام بأي عمل أمني تخريبي.. والأمر أكثر وضوحا في حال الإمارات.
وأبسط سبب: هو غياب أي جدوى سياسية (الكلام على تخريب المصالحة الفلسطينية كلام غير واقعي فالملفات شديدة الانفصال وكذلك آثارها)، وفوق غياب الجدوى: عدم وجود أدوات، والخشية من رد فعل النظام.
موضوع دحلان ودوره في سيناء، كان أغلب مافيه دعاية إخوانية اشتركت معها حماس، ولكن لم يُسائل أحد حماس حين عقدت مع دحلان مثلا تحالفا لإدارة غزة (اللجنة الدائمة) منذ أشهر، وبدعم مالي وسياسي إماراتي – قبل ملف المصالحة طبعا.. كيف يستقيم هذا مع البروباجندا السابقة؟
كما لم يُسائل الكثيرون النظام حين استقام الأمر مع حماس، لماذا تحول دور حماس السلبي أمنيا في سيناء إلى فقط عدم ضبط الأنفاق والحدود، مع أن النظام كان يتهم الأخيرة أنها كانت تقوم بعمل عسكري مباشر وليس فقط لوجستي؟
————
الحقيقة – أنا تعمدت أن أسهب فيمايمكن أن نطلق عليها
critical analysis
للفرضيات السابقة بصبر.. لأشير إلى نقطة أتمنى أن تكون وضحت الآن.
أنه لايمكننا تفسير الوقائع والأحداث المتوالية، دون اختبار صحة فرضيات رؤيتنا للواقع السياسي نفسه – خلفياته ومآلاته.
المشكلة – أن أي مجموعة من الناس خاضعة لبروباجندا ما، وتنغلق نفسيا وإدراكيا داخل أطرها الخطابية والاجتماعية .. فيكون من الصعب جدا الوصول لحالة الاختبار تلك.
وهذا حصل ويحصل سواء مع بروباجندا النظام، وأيضا تحالف الإخوان..
فمهما كانت الفرضيات والمدخليات غير معقولة (الإدارة الأمريكية مخترقة من الإخوان، نظرية مؤامرة كونية على مصر، الإخوان وراء الإرهاب الاحترافي في سيناء والوادي – أو أيضا: أم السيسي اليهودية، وأنه عميل صهيوني، وأنه قُتل وظهر بديله مرات متعددة، وأن قائد الجيش الثاني أو فلان وعلان انقلب، أو النظام يتهاوي) فغالبا لايتساءل من سلم نفسه دون فحص (شاق ومُدقق) لأي حديث أو كلام.
، بل حتى حين يتم تغييرها بشكل حاد دون تقدمة، يتم غالبا قبولها والتعايش معها..
ولا يُسائل الفرد البروباجندا.. أين ماكنت تقولينه حتى عام مضى (بل حتى في تفجير الكنائس منذ شهرين) أن النظام نفسه هو من يقوم بالإرهاب وحتى الاشتباكات العسكرية (كما في واحة الفرافرة)؟
وكيف نحل سلسلة من التناقضات الذاتية في نفس العبارة؟ النظام يقوم بالإرهاب، النظام يتهاوى بسبب الفشل الأمني، صراع أجنحة يريد ضمان استمرار النظام، لا- يريد السيطرة على السلطة بالتعجيل بانهياره..
وهكذا
نعم – ليس عندنا معلومات وافرة عن كل تفصيلات المشهد، وبالتأكيد ليس كلنا متخصص في مسائل السياسة والاستراتيجية.. ولكني أعتقد أن قدر متوازن و(متصل ودائم) من التفكير النقدي (البارد) للأطروحات – (بعيدا عن التفكير الرغائبي وبالفصل بين التقييم الأخلاقي والتقدير الاستراتيجي) سيساعدنا على الأقل في فهم قدر كبير من المشهد ومآلاته.
وكثير من الإجابات على أسئلة الواقع هي مباشرة أمامنا دون تعقيد شديد.. يمكن التعقيد هو في فهم الخلفيات والآليات واستشراف المآلات:
نعم هناك شيء اسمه داعش.. ونعم داعش تفجر المساجد (سنية وشيعية كما حصل في العراق والكويت والسعودية وسوريا وليبيا)، بل حتى قامت بعمليات انتحارية ضد تجمعات جبهة النصرة في سوريا وهم من نفس الأب (تخيل!) ، وقتلت بشكل عشوائي أو استهدافي تجمعات مدنية في خلافها مع السواركة (حادثة السوق) بل حتى ذبحت شيخا صوفيا شارف المائة عام من كام شهر (الشيخ سليمان أبو حراز) لأنها كفرته.
ونعم سلوك وأجندة والإطار المعرفي والنفسي لداعش مختلف كثيرا عن القاعدة (قارن حادث الواحات مثلا، بمذبحة المسجد، واقرأ بيان تنظيم جند الإسلام حول الأخيرة)
مازلت طبعا عند تقدير أن دافع داعش هو حساب سياسي واستراتيجي أخطأته تماما، وغالبا هناك عنصر وافد وراء تلك الخطوة الكارثية..
ولكن بالتأكيد أي تنظيم عقائدي (إسلامي أو جيش أو يساري..) يتوسل بالتبرير الأيديولوجي (الوطني) ليغطي به الحساب الاستراتيجي
والمصلحي- رشد منه أو انحرف هذا الحساب.