Scroll Top
الفقه السياسي

3-3-2018

بعث لي صديق هذا المقال

http://blogs.aljazeera.net/blogs/2018/2/21/%D8%A3%D9%8A%D9%87%D9%85%D8%A7-%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%82%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%81%D8%A7%D8%B4%D9%84%D8%A9

وتعليقي حول بعض الأفكار: وخصوصا

ماذا يريد الغرب من منطقتنا وماهي محركات ومنطق استراتيجيته؟

هل فعلا من مصلحتنا (وعكس مصلحته) تحول دولنا – أو ماتبقى منها – لدول فاشلة، فاقدة لأي سلطة ووظائف مركزية؟ وهل  تحلل الجيوش شيء جيد لأن حسم الصراع مع الغرب (مثلا) – وبالطبع إسرائيل) يكون عبر حرب غير نظامية وشعبية مثلا؟

بداية – ومع  التقدير للكاتب ونبل مقصده – لابد أن ندرك صعوبة  تناول قضايا معقدة في النظر الفكري الإسلامي، أو السياسة والاستراتيجية، تقتضي فرزها أولا لنقاط عديدة لكل منها مسارها التحليلي المستقل – شرعيا وفكريا وتاريخيا واستراتيجيا – ونعم يمكن بعد ذلك الوصول لخلاصات كلية على مستوى النظر الشامل ولكن بعد استنفاذ هذه المسارات التفصيلية، و ليس أن نحاول أن نجمع كل شوارد مايصل إليه ليؤكد فرضيات مقدسة عندنا.

أيضا – أتمنى أن تنشأ عندنا طبقة تجديدية في الفكر والمعارف الدينية، والإنسانية، والتاريخ.. والسياسة والاستراتيجية.. تستطيع أن تحدث فارقا سننيا في مسار أمتنا المنكسر لقرون، وليس فقط أنه من ضرورات التغيير السياسي والاجتماعي والمنشود.

فأن تجد شابا – أو أكثر- واعدا، ورساليا وصادقا وهذا نادر، ولكن يمشي في اتجاه – أحسبه – خطأ فهذا مُحزن.

لا أنكر أننا يمكننا استخدام التاريخ لغرض وعظي أو تربوي، أو حشدي (هذا يحصل في كل التجارب الإنسانية) وهو غير مرفوض في حد ذاته بشرط انضباطه أخلاقيا وموضوعيا، ولكن أيضا لابد أن يوجد عندنا المؤرخ الذي يقدُم لنا مادة تأريخية أقرب ماتكون لإعادة إنتاج ما حصل بالفعل،فيستفيد منها المُنظّرون – في الاجتماع والسياسة والاستراتيجية والعلوم الإنسانية – اعتمادا على قراءات تاريخية.. ودون أيضا أن نخلط بين دور المؤرخ، ودور عالم السياسة أو الاستراتيجية..إذ لكل منهجية وذوق معرفي وأسلوب. ولامانع من الجمع بين أكثر من دور مع مراعاة حدود التأهيل والمنهجية والأسلوب كما أسلفت.

هذه الأدوار – هي فرائض سننية معطلة في أمتنا، ومن أهم أسباب نكتبها الحضارية – أكثر من مجرد انهيار في القدرة السياسية والعسكرية والاقتصادية.. بل الثانية عرض عن الأولى..

وأهم خطوات الانبعاث والمقاومة وعكس أقدار التخلف والاستلاب… هو بناء هذه النخبة المعرفية المُجددة.

—————

عودة إلى المقال.. فهو يطرح 4 نقاط مشكلة:

1- هو يرفض فكرة الدولة الوطنية الحديثة (لأسباب عديدة في تقديري: جزء منها تصور عاطفي وغير مُدقق عن حاكمية الشرعية ومناقضتها لفكرة الدولة الحديثة ونظامها الديمقراطي، وجزء منها رفض لفكرة التقسيم خصوصا أنه حصل بيد المستعمر، وجزء اتباعا لنهج الأناركية  التي هي ضد مركزية الدولة).

أنا ناقشت هذه الجوانب باستفاضة في مواطن كثيرة ومن وجهات متعددة..

ملاحظات حول المراجعات، والحراك الوطني

تحدثت مثلا عن أن رفضنا لطريقة ومنطق صنع الدول الوطنية لايعني أنها ليست حقيقة متقادمة ارتبط بها واقع (اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا واستراتيجيا) قائم بحد ذاته، وأن العودة لأي أطر تحالفية أوسع لابد أن يبدأ من تحت لفوق ووفق أطر تعاقد وتغيير اجتماعي وسياسي – وتبعا لمنطق استراتيجي جيد

وأن المقاربة الفقهية – حتى القديمة كما عند الجويني – وجدت نفسها أمام واقع بعيد أيضا عن المثال، ووضع أطرا فقهية ومقاصدية – لاتصطدم مع الدولة السلطانية حينها، ولكن تستخدمها المقاصد العليا.. 

وهذا المنطق بالأخص (الذي يتحرك نحو المقاصد أكثر من التراتيب مادامت ليس مقطوع بها -كَجُلّ مسائل السياسة الشرعية) لابد أن يُتبع.

وعلى هذا كان دراسة د. السنهوري الرائعة قديما حول (عصبة أمم إسلامية)

أو حديث شكيب أرسلان عن ضرورة بناء القدرة الذاتية – اجتماعيا وسياسيا – في دول الإسلام، قبل الحديث عن إعادة خلافة (فما ثم إلا جمع الأصفار) بحد تعبيره.

https://www.youtube.com/watch?v=Vu5Rfrjqkn0&t=22s

وبالطبع، فتصور تطبيق الشريعة سياسيا في الدولة الحديثة، والاجتهادات المعطلة في تحديد مقاصد المشروع الإسلامي سياسيا، والمقاربة الديمقراطية في التنزيل، والتمييز بين أدوار السياسة والسلطة والمجتمع في تطبيق الشريعة وبنودها. . وتوازي التغيير الاجتماعي.. كل هذه النقاط التي تسلتزم ثراء شرعيا وأصوليا، وفي فقه السياسة والتاريخ، وتطور العلوم السياسية المقارنة.. لا ألوم قطاع الشباب عن افتقادها لها في وقت تغافلت عنها وشروط بنائها حركات كبرى توفرت لها موارد بشرية ضخمة، ودخلت بالفعل في مجال الممارسة.

هذه التدوينة تناولت أيضا هذا الجانب، بالإضافة لمناقشة الشق الأناركي:

كيف نفهم الغرب؟ 

بالإضافة لسلسلة تجديد الفقه السياسي:

https://www.youtube.com/watch?v=TE0FePhraac&list=PLDPHV–l_OYnLOBIApAGiG7v7pXOXcFEb

———–

2- كعادة قطاع الإسلاميين المتأثر بالفكرة القطبية وأيضا السلفية الجهادية في توصيفه المطلق والحدّي للغرب والنظر لدوافعه وطريقة صنعه السياسات والاستراتيجية بطريقة شديدة الاختزال والتبسيط استراتيجيا، والتحيز كتقييم أخلاقي ومبادئي.. بشكل لم يُهذبه احتكاك قريب بالتجربة الغربية بشكل يتيح رؤية إيجابياتها وسلبياتها، وفهم أكثر لطبيعة المحركات وتنوعها، ولا استيعاب الوضع المستجد بوجود أقليات مسلمة وعربية كثيفة ضمن الإطار الشعبي والسياسي والمؤسسي (لما نطلق عليه الغرب)، ولا دراسة منهجية لمعارف تتيح ذلك.

في هذه التدوينة، طرحت جملة من الأفكار (البديهية في رأيي) في مقاربة الحالة الغربية. وأنا ممن يري حتمية الصراع المباشر على المصالح الاستراتيجية والاقتصادية العليا وشكل المنطقة مع الأمريكي مثلا – وصفريته مع الإسرائيلي، ولكن الوضع الغربي باتساعه – حتى على المستوى النظامي والدُّوَلي – فضلا عن المأسسي والشعبي – وحتى فهم محركات الأمريكي في وضع أهداف سياسته (وأنه ليس فاقد مطلقا للقيمة السياسية مثلا من وجهة نظره حتى مع محدوديتها)، فضلا عن كيف التعامل معها وفق أي استراتيجية أو مرحلية ..فهذا شأن مختلف. 

ولكن مجرد فهم الحالة على وضعها هو أول طرق تطوير استراتيجية مواجهة.

https://mohamedboraikblog.wordpress.com/2016/11/25/west/

وبالأخص الوضع الأمريكي، ومصالحه الاستراتيجية، وتغير سياسات واستراتيجيات تدخله؛ بل وزن الملف الشرق أوسطي عنده – فهو شديد الدينامية والتعقيد.

ففكرة الاستعاضة بالأنظمة المحلية ودعمها وأطر للأمن والترتيب الإقليمي بديلا عن التواجد العسكري المباشر كان هو الأساس بعد الحرب العالمية الثانية، وصولا لحرب الخليج.

وفكرة التدخل العنيف لتغيير الأنظمة (تقديرا لمسئوليتها في إنتاج دول فاشلة تنمويا وسياسيا- وليس فاشلة بمعنى ضعف السيطرة المركزية! – وزيادة الاحتقان الشعبي مماأفرز ظاهرة الإرهاب وصولا ل 11 سبتمبر، وأيضا هلوسة مجموعة المحافظين الجدد حول دور أمريكي الإمبراطوري والرسالي في نشر الديمقراطية وإنتاج دول وشعوب مختلفة).. هي من قادت للتدخل في العراق وأفغانستان (وكانت هناك أيضا قائمة أخرى).

وهذا اقتضي بالمناسبة إعادة بناء دول (غير مركزية كإطار سياسي، ولكن بضبط أمني)، وتفتيت القائم فعلا! كما كان التصور حيال العراق – أو حتى الخطط بخصوص سوريا. وهذه المرحلة على كل كانت ملآى بعدم الوضوح السياسي والاستراتيجي والتخبط أمريكيا كما هو معلوم.

وبالمناسبة – كان البديل عن الأنظمة في نظر كثير من مراكز البحث القريبة من صنع القرار الأمريكي بعد 11 ستبمير – إما وضع ليبرالي صعب إيجاده، أو اتجاه إسلامي مُعدّل – وهنا ظهرت فكرة استيعاب الحركات الإسلامية في الوضع المستجد.

ولكن التعثر الاستراتيجي الشديد، وأيضا انهيار وزن مجموعة المحافظين الجدد داخل مؤسسة الحكم الأمريكية.. أعاد المنطق الأمريكي للنسق الأول.

ثم حين حصل الربيع العربي وما صحبه من فراغ سلطة، تم استعادة منطق دعم تغيير الأنظمة لصالح شرق أوسط إسلامي معدل، وبضمانات (كالوصاية العسكرية في مصر مثلا، أو الراعي القطري والتركي مع تدافع معهما على مساحة الحركة، أو العصا الإسرائيلية)، مع تراجع بالأصل مساحة الاهتمام بالشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية لأن المحركات الأصلية بدأت تضعف (تراجع اعتماد أمريكا على البترول العربي لأقل من 2%، ولأن وضعية إسرائيل من حيث التفوق الاستراتيجي يجعلها مؤهلة لتقوم بدور أمامي أكثر من احتياجها للحماية – فقط تبقى مسألة استدامة خطوط التواصل الاستراتيجي، والسياسات الاقتصادية العليا – بالإضافة لتحجيم تدخل الروس  والصين الذي ظهر في مرحلة تالية)

وحين جاء ترامب، كان أهم مايطرحه هو ترك هذه المنطقة برمتها وتعيير التدخل للحد الأدنى، ولكن مع تطور ظاهرة داعش وتهديدها للحليف الأوروبي بشكل يُهدد الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية حتى (الأوروبي بدأ يُشكك في مدى التزام الأمريكي بسياسة التحالف الدفاعي التي مثلها الناتو – خصوصا بربط ذلك بموقف ترامب المُعلن من الناتو.. وخصوصا أيضا أن المنظمة تعاني أزمة شرعية وانهيار في التزام الدول الأعضاء باستحقاقاتهم المالية والدفاعية منذ فترة)، ومع تطور وضع الروس في المنطقة.. أجبرت المؤسسات الدفاعية والمخابراتية ترامب على الالتزام بمساحة أعلى قليلا للتدخل.. ليس لها أهداف كونية، ولكن فقط على حسب الملفات المُلحة..

فلو ملف داعش يقتضي تدخلا ما في العراق وسوريا (بضربات جوية، ودعم نوعي هو أبعد مايكون عن قبول بشركاء محليين – بل العكس قد يصل الأمر لحالة عداء كالوضع في سوريا، ودعم على مضض مع نفور من ارتباط السلطة بالإيراني كما في العراق) تفعل.

ولو الوضع الدفاعي الخليجي يحتاج دعم أكثر في منظومات تسليح وتكثيف تواجد يفعل. 

 فكرة التدخل المباشر الكامل انتهت نعم، ولكن فكرة الانشغال بالمآل السياسي – بالأصل – للدول المحلية أيضا تقلصت بدرجة كبيرة.

النقطة التي يجب أن نستوعبها.. أن الأمريكي (وأحكي هنا عن خيارات مؤسسية وليس قرار أرعن يصدره ترامب هنا أو هناك) الآن لايهتم حقيقا بليبيا أو مصر أو حتى الخليج إلا بقدر أن يُحدث مشكله له أو حلفائه.

سواء تحولت الدول لدول فاشلة (بالمعنى الوظيفي أو التنموي أو السياسي الديمقراطي) أو إسلامية أو (وطنية) .. كل هذا لا فارق معه – مادامت لاتنعكس بمشكلات أمنية أو استراتيجية محددة.

فهو في خانة رد الفعل الاستراتيجي لا الفعل.

—————————

3- من أسوأ مانقوم به أن نحاول إثبات أن الدولة الفاشلة أمر جيد – ومطلوب استراتيجيا.

لماذا؟ لأنه يمثل تهديدا للأمريكي، ولهذا فالأمريكي يرفضه!

 . فلو افترضنا أن كونها تهديدا صحيح (وهو غير صحيح كما أشرت وأتابع)، فليس معنى أن الأمريكي يريد شيئا لمصالحه، أن نرفضه تماما بغض النظر عن تحليلنا الأخلاقي والاستراتيجي له بالنسبة لنا!

فلو الأمريكي يضرب داعش، إذن نحن نؤيدها.

ولو الأمريكي يريد تحجيم الإيراني، إذن نحن معها على طول الخط.

الدولة الفاشلة كارثة كاملة (كمقصود ديني، و منطق استراتيجي).. نعم – كيف نناضل سياسيا واجتماعيا لكي تنشأ دول قوية ولكن وفق قيم رسالية وديمقراطية حقيقية – هذا شيء آخر! الدولة القوية – ولكن مستبدة مثلا، أو تابعة للغربي ومصالحه، أو منسلخة عن ثوابتنا الرسالية والقومية، هي كارثة أخرى، ولكن لا تجعلنا نُحبذ الدولة الفاشلة!

هذه الدولة الفاشلة (التي يضيع فيها النظام العام وتنهار السيادة) هي بالأخص مادفع الفقهاء قديما  -كما أشرت في مواطن سابقة – للقبول بأنماط بعيدة كثيرا عن الحكم الرشيد. صحيح أني لم أرتح للخلطة الفقهية التي انتهوا إليها (بتغيير أصل الحكم الشرعي سواء بتحريم الخروج أو جعل التوريث من قطعيات الشرعية – كما نعى عليهم الجويني) ولكن المنطق الفقهي في رؤية حجم الضرر من انهيار الدولة سليم.

فقط تفكير القاعدة ثم داعش، هو الوحيد الذي رأى في هذا المنطق صلاحا دينيا واستراتيجيا، كما في الكتاب القديم عن: إدارة التوحش!

وأعتقد أن تجربة داعش وماحملت معها مبكرا من أحلام (انتصار) داعبت أحلام جيلٍ من الشباب الإسلامي المُحبط من تجربة السياسة السابقة – دون حتى الانتباه لعوارها القيمي الجسيم فضلا عن سخفها الاستراتيجي – خير دليل على عبثية هذا التفكير. مع أن داعش انتقلت خطوة وحاولت إنشاء إطار نظامي استغلالا لحالة انهيار الدول المركزية والفراغ السيادي.

لم يصل هذا الشباب لنتيجة مفادها أن الحالة الإسلامية كانت أهم مسببات تعثر مسار التحول السياسي – خصوصا في مصر- بعد يناير 2011، وأنه -بثقته المطلقة في قياداته وجماعاته – بمنطق التعصب التنظيمي تارة والتحيز الأيديولوجي تارة- سهّل تلك المهمة، ولم يدع لنفسه فرصة التفكير ومراجعة الفرضيات الفكرية والاستراتيجية الأصلية: ماهي الدولة الإسلامية؟ مامقصود الإسلام من التطبيق السلطوي للشريعة، و(المشروع الإسلامي في الحكم)؟ هل جماعة إسلامية بعينها قدر لازم بحكم الشرع والصيرورة التاريخية والضرورة الواقعية؟ هل النظام الديمقراطي مصادم للإسلام أم يمثل في كثير من جوانبه أفضل إجابة متاحة لتنزيل أهم مقصوداته من الحكم الرشيد؟ هل الثورة الشمولية – بغض النظر عن لونها الأيديولوجي – هي الحل أو  ممكنة أصلا أم ثورة تدفع لتحول ديمقراطي متوازن تتحقق فيه مقصودات شرعية من حرية الشعب والعدل الاجتماعي والتحرر والاستقلال وحماية جناب الشريعة كإطار دستوري؟ كيفية التعامل مع مراكز قوى الداخل (الجيش والقضاء – في مقابل الداخلية مثلا)، وقوى الإقليم (إيران وتركيا وقطر) والتعامل مع المسألة الأمريكية والصراع العربي الإسرائيلي – في معرض التحول الديمقراطي وبناء الدولة؟ هل من سبيل غير الصدام المتعجل المُنهي للتجربة والتفريط في الثوابت الوطنية والرسالية وحدود التغيير السياسي الأدنى؟؟

كل هذه الأسئلة لم يُفكر فيها الشباب بعد اكتوائه بنار التجرية – وهو معذور بلاشك إنسانيا في كثير من مواقفه – ولكن فقط إما أنه انخرط في حالة إحباط كاملة، أو عالم افتراضي من الثورة ودحر الانقلاب، أو استجاب لطرح داعشي مع شذوذه الديني والواقعي، أو استسهل فتجاوز كل الأسئلة السابقة بحثا عن فرضيات مُبهمة عن ثورة (إسلامية) مُهدرة (قادمة) وحرب شعبية ضد المستعمر..

من أهم قواعد التفكير الاستراتيجي أن استراتيجية الحروب غير النظامية لاتحسم حروبا هجومية، ولكنها تلعب فقط على إطالة حالة الإدماء لدفع المحتل إلى ترجيح انسحابه على مصالح (ليست حيوية) مرتبطة باستدامة احتلاله.. ولكنه لايصلح مثلا مع الإسرائيلي لأنه يصطدم بمصالح وجودية وليست فقط حيوية.. فقط كاستراتيجية نوعية داعمة للاستراتيجية النظامية نعم. والقصور الشديد في إدراك هذه القاعدة الاستراتيجية أهم ماوصم تجربة الحركة الفلسطينية في الستينات (تبعا لهوسها عن نظرية ماو عن حرب التحرير الشعبية وتجربة الجزائر) وقادنا لكارثة 67..

والمواجهة مع الاستراتيجية الأمريكية تحديدا تقتضي أبعادا متشابكة من إعادة بناء الإطار القومي المواجه في ظل حالة انهيار دولنا المركزية، وفتح شبكات تقارب على المستوى الإقليمي (تركيا وإيران) والدولي مع أطراف مقابلة (الصيني والروسي والثنائي الألماني والفرنسي) من موقف متماسك استراتيجيا يمنع الانضواء، وتطوير أدوات استراتيجية قادرة على الاستقلال ثم التمدد – اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وفتح أبواب التأثير على الداخل الأمريكي والغربي عموما.. فهي استراتيجية تقوم بالأساس على إنهاء التبعية والتدافع والاحتكاك غير المباشر والتفاوض والتحجيم، وليس مواجهة مباشرة إلا في ملفات بعينها وفي مرحلة محددة. وكل ماسبق هو خارج منطق الحرب غير النظامية بالمطلق، بل في معظم الأحايين لايصل لدرجة المواجهة العسكرية المباشرة بالأصل.

وأيضا – انهيار الجيوش يجعل مهمة إعادة بنائها تستغرق سنينا إن لم يكن عقودا بفرض وجود الإرادة والإطار الوطني الجامع والمهارة، والانهيار هنا ليس تفتت الوحدات مثلا كما يحصل مع الجيوش المنهزمة، ولكن تحطيم أساس إطارها الوطني والاجتماعي والمؤسسي، وفكرتها التاريخية. ممكن تعدله وتطوره وهو قائم – كما حصل بعد 67 وبعد 70 عندنا مثلا، ولكن ليس تهدمه.

من أطرف ماحصل معي، كنت أعطي محاضرة في مكتبة الاسكندرية عام 2012 عن تحول العلاقات المدنية العسكرية المصرية، وسألتني إحدى الشابات عن قيمة الاحتفاظ بالجيش المصري مادامت حركات المقاومة ناجحة استراتيجيا!، وهي بالطبع مؤمنة تماما بالفكرة الأناركية وإن كان من منظور مختلف عن المقال. حاولت أن أشرح لها المنطق الاستراتيجي في الحرب الهجومية والدفاعية دون جدوى.. ثم وصلت أن سألتها: طيب الحرب غير النظامية حتى تعمل لابد من الاحتكاك المباشر بالجيش المحتل في أرضنا وقاعدتنا الشعبية.. صحيح: قالت نعم، قلت: إذن نسمح للإسرائيلي أن يأتي للقاهرة ثم نواجهه.. قالت: نعم. قلت: طيب ماذا إذا لم يرغب هو (أو الأمريكي هنا) أن يأتي.. وإن أتى: أقصى ماتطمحين له أن نرده عنا لبلاده.. صحيح؟ 🙂  هذه ملهاة الحقيقة!

طبعا حينها كنا نحكي في ظرف سياسي كنا قريبين فيه فعلا من إعادة تشكيل دولة وبناء سياساتها وأدواتها في المواجهة والسياسة الخارجية والدفاع، فكان للكلام قيمة ومحل، فقط لو نجحت تجربة يناير للأسف.. ولكننا الآن في وضع مختلف تماما بالأصل!

هذا لأن استراتيجية النضال السياسي للتخلص من الاستبداد وإعادة بناء دولنا وإطارنا القومي بمفهوم رسالي وديمقراطي مختلف، تختلف كثيرا  – كمنطق وأدوات وتفصيلات ومرحلية ورؤية حتى – عن استراتيجية المواجهة مع الأمريكي، أوتلك الخاصة مع الإسرائيلي.. ربما تناولت الخلط بين المسألتين، وجانب الإفراط والتفريط فيهما في هذين المقالين قديما:

https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfbV9PdklvWkowcjA

https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfYm41QWN2dTk1NG8

————————————

4- آخر شيء.. أن محاولة استخلاص أي شيء من العقيدة القتالية للمارينز في مكافحة حروب التمرد التي صدرت 2006، أعتقد أنها هي التي اقتبس منها المقال،  للتدليل على أي شيء مما سبق (مع أو ضد)، غير سليم.

  العقيدة القتالية لقوات المارينز تلك – لم تناقش أصلا الفرضيات السياسية الحاكمة لاستراتيجية التدخل العسكري الأمريكي – الغربي، ولكنها محاولة لإعادة إحياء دروس حرب فيتنام في طريقة مكافحة التمرد – أي تمرد وتحت أي أيديولوجية أو في أي منطقة! – واعتمادا على كتابي روبرت تومبسون (مكافحة حركات التمرد الشيوعي)، ودافيد جاولو (نظرية مكافحة التمرد) الذين ظهرا في الستينات..

وكان المُشرف على وضع هذه العقيدة اثنان: دافيد بيتراوس (الذي قاد القوات الأمريكية بعد ذلك في أفغانستان، ثم العراق، ثم تولى السي آي إيه ولكن استقال منها على أثر فضيحة أخلاقية، وهو حاصل على دكتوراة في العلاقات الدولية!)، وأيضا جون ناجل (الذي حصل على دكتوراة من لندن في دراسة تمرد فيتنام وماليزيا، ونشرها في كتاب بعنوان: أكل الشوربة بالسكين)

والفكرة الأساسية بالطبع في نظرية مكافحة التمرد – هو عزل حركة التمرد عن المحيط الشعبي (ببناء حياة سياسية وتنموية مُرضية، وتقليل خسائر المدنيين، وتطوير الشرعية السياسية للنظام المحلي)، وأيضا تطوير القدرة العسكرية وتحويرها لتناسب هذا النمط.

مااستُجد في تلك العقيدة أمران:

الأول – أن هناك عدد كبير من متخصص الأنثروبولوجيا والاجتماع ساهموا فيه، لسبب الفقر المعرفي الكامل عن الأمريكان (تحديدا – على خلاف البريطانيين مثلا) في استيعاب التعقيدات الاجتماعية و(الطوبوغرافيا القبلية) في أفغانستان والعراق.

الثاني – محاولة وضع النظرية السابقة في سياق سياسي ماأمكن  بالحديث عن تعزيز بناء نظام ديمقراطي محلي (هذا الصلة الوحيدة مع الفرضيات السياسية للتدخل الغربي).. ولكن هذه المحاولة كانت قاصرة جدا.

أنا قدمت عرض عن هذه العقيدة في جامعتي حين درست الماجستير في 2007، وحينها كان أول ظهورها..

وأشد مالفت نظري حينا..

أنها لم تناقش الأهداف السياسية والاستراتيجية الغربية في التدخل، فضلا أن تقيمها من حيث الجدوى وإمكانية التطبيق استراتيجي!

إذن كيف تريد أن تُجري استراتيجية لمكافحة تمرد في العراق أو أفغانستان، وأنت أصلا لم تحدد: ماهي الأهداف السياسية؟ وهل هذه الأهداف السياسية قابلة للتحقق؟

فقط إشارة في مقدمة العقيدة تحاول أن تلتمس مبكرا العذر، أن التطوير الاستراتيجي والعملياتي لن يستطيع أن يُصلح مشكلة وضع أهداف سياسية تعجيزية.

بمعنى: خوض حرب أفغانستان والعراق، تم تقييمهما رسميا في المؤسستين العسكريتين الأمريكية والبريطانية، ومنذ فترة طويلة.. أنه كان خطأ استراتيجيا فادحا.

لم تكن هناك أهداف سياسية محددة، ولا استراتيجيات واضحة وناضجة، ولا حتى بناء قدرات عسكرية مناسبة ولو للأهداف العملياتية المطلوبة.

التصور الاستراتيجي المستقر الآن هو فقط التعامل مع الواقع الشرق أوسطي بأقل قدر من الاهتمام بإحداث قدر من التغيير الداخلي فيه – كما ذكرت، ولكن بالمشكلات التي تنشأ عنه ولها تأثيرات على المصالح الغربية.

ليس دعم إعادة بناء دولة، أو نظام ديمقراطي أو غير ديمقراطي.. دولة فاشلة أم قوية..

لكن فقط التعامل مع كل مشكلة يُفرزها ذلك الوضع على حدة: مشكلة داعش؟ مشكلة الهجرة؟ مشكلة تهديد على إسرائيل؟ (وإن كان هذه تم تأخرها كثيرا لعدم واقعيتها!)، مشكلة على خطوط الاتصال الاستراتيجي أو الاقتصادي؟

وهكذا.. لكل حالة حظها من التفكير والخيار الاستراتيجي المناسب – أصاب أم أخطأ – ولكن ليس هناك رؤية كلية، عدا منع التدخل الكامل أو الانخراط في إعادة بناء الدولة.

Leave a comment