18-3-2016
كتاب ممتاز الحقيقة.. وأعتقد هو أنضج كتبه بالفعل، بالرغم أن كثيرا من افكاره تناولها في موسوعته عن الديبلوماسية وكذلك مذكراته.. وهو بالتأكيد اقل تحيزا وأكثر توازنا عن هناك.
– *هدف الكتاب الأساس ليس تقديم تصور تطبيقي عن النظام الدولي المقترح، ولا حتى تقدمة تبرير لسياسات كيسنجر. . وإن كان الاول جاء كخاتمة مفترضة، والثاني حاصل بﻻشك ولكن ليس هدف رئيسي.. لماذا؟
لأن كيسنجر ينطلق من مدرسة الواقعية كفلسفة سياسية، وهو على هذا النحو يحصد أعلى الدرجات كممارسة لمصلحة مصالح وطنه العليا.. وحتى بحساب المثالية والنفع العام.. فمساهمته في حل المشكل الفيتنامي، وإعادة التطبيع مع الصين، وتبريد الجبهة الأوروبية مع السوفيت، وهندسة مشروع الحد من الأسلحة اﻻستراتبجية
SALT
كلها أمور جيدة فعلا، وتتناسق مع مفهوم التوازن
Equilibrium
الذي سيطر عليه تلك الفترة والذي طوره في تصور تطبيقي شامل عن شكل النظام الدولي.
حتى أياديه السوداء في الصراع العربي اﻹسرائيلي ودعم الدكتاتوريات فهي ضمن منطق القوة العظمى.. والسوفيت لو مكانه لفعلوا مثل مافعل- وقد فعلوا حتى في مساحة الصراع العربي اﻻسرائيلي- فقط هو كان أكثر براعة وﻻ أخلاقية في ذات الوقت.
وأي استراتيجي محنك لو وجد شخص مثل السادات وظروف كمابعد 73.. لحاول فعل ماقام به كيسنجر على الاقل كنهايات – وهذا حتى ما أشار له هيكل من قبل.
يمكن النقطة التي شعرت أنه يقدم تبريرا لها كانت مسألة تأييد غزو العراق 2003 واعتذر لنفسه أنه لم يكن يدرك حجم اضطراب سياسة تدخل بوش ومصادمتها الحساسيات اﻻقليمية والمحلية.
فكرته الأساسية بوضوح أن هناك أربع تصورات متدافعة عن تكوين النظام العالمي وحكمت التطور التاريخي ولاتزال تشكل جزءا من وعي وتصورات الشعوب الكبرى على الكوكب: تصور القوة الأمريكية (سواء بحدها المثالي عند ويلسون، أو طبعتها الامبراطورية عند ريجان وبوش الابن)، وتصور الصين عن هيمنتها الإقليمية، وتصور المسلمين عن وضعية الأمة المسلمة، وتصور مابعد الويستفاليا الأوروبي عن مكونات متوازنة ومتساوية في حركة الاقليم والسيادة الداخلية.
هو بوضوح يطرح أن هذه المسارات – والتي تمثل سياقا ثقافيا حاكما على تصورات هذه الشعوب عن النظام العالمي، وهذا البعد الثقافي إضافة قوية له في هذا الكتاب – ليس بالضرورة متصادمة ولكن يمكن تحقيق توافقات بينها ونقاط توازن – وليس بالضرورة تساوي.. وهذا هو النسق الذي يوصي به في الأخير (وليس نظام الويستفاليا مثلا).
ربما نقول أن مفهومه عن التصور (الإسلامي) إن كان ثمة تصور لطريقة تشكيل النظام العالمي- مشوش، ولكنه ليس بأقل من تشوشه عند الإسلاميين مثلا – الإسلام وضع مقاصدية عليا وأحكام عزيزة ولكن حاسمة في حركة المسلمين ، ولكن لم يضع تصورا متكاملا عن تركيبية النظام العالمي وديناميكيته.. بل الكثير من تصورات الفقهاء قديما في مسائل جهاد الدفع والطلب، ودار الإسلام والحرب أو حتى الدعوة، والدول القطرية والخلافة، وقواعد الحرب (شرعية الإعلان، وأخلاقية الممارسة) وآثارها.. هي عالة على الاستجابة – الصحيحة أو الخاطئة – لمقتضيات السياق الدولي وقواعد القوة حينها بأكثر منها حاكمة عليها.. وهذا هو السبيل الوحيد لنا كمسلمين – تحليليا – أن نصفي نقاط التصادم بين التراث الفقهي والتجربة السياسية والفتوحات و بين المقصود الشرعي الأمثل – بل هذا التسييق
contextualization
يسمح لنا حتى بادعاء سمو تجربة المسلمين كثيرا عن أقرانهم في تلك العصور، ولكن إن أخذنا هذا التراث الفقهي وحتى الممارسة كنموذج مكتمل ونهائي وقسناها – على الأقل بتأسيسات الفلسفة السياسية والقانون الدولي المعاصرة تظهر لنا تراجعها أخلاقيا! وصحيح أن التجربة العالمية في القرن العشرين تحديدا كانت مزرية من المنظور الأخلاقي، ولكن دور المسلمين أن يرتقوا بها، وأن يتجاوبوا مع التحسينات الحاصلة فيها بتقديم تجديدات حقيقية – كتصور وممارسة – تتكامل معها، خصوصا في ظل وجود تجارب شديدة البشاعة تخرج ولاتزال من عباءتنا.
أخيرا – نظرية كيسنجر تختلف كثيرا مع المثالية الأخلاقية صحيح -( الأخلاقية كمعنى مجرد ولكن يتعدد من حيث المنظور البشري)، ولكنها تختلف كذلك كثيرا عن المحافظين الجدد والداعين لنظام عالمي متحكم فيه أمريكيا – ولا يمكنك إدراك هذا إلا بمقارنة كتابه مثلا ب: صدام الحضارات لهنتنجتون، أو نهاية التاريخ لفوكوياما، أو حتى أستاذي – كولن جراي – والذي يبقى مؤمنا بمسألة الواقعية السياسية ويعتبرمتأثرا للغاية بكيسنجر، وكان مستشارا لريجان في شئون التسليح النووي.. ولكن كفلسفة سياسية يبقى من المحافظين الجدد – أو الواقعيين الجدد – وله كتاب بعنوان معبّر:
America As A Sheriff.
أنا أرى النظام العالمي المعتمد على التوازن بين منطلقات مغايرة – استراتيجيا وثقافيا – وتوازن بين النظام الدولي والإقليمي نظرية جيدة واقعيا، وليست سيئة في حد ذاتها أخلاقيا مما هو متاح على الساحة. ومن السهل تقديم عناوين أكثر أخلاقية – على مستوى الشعار – لتضبط النظام العالمي، ولكنها فعليا تستخدم لتبرير أشد سياسات الهيمنة واستلاب الشعوب (أكثر وقت اتبهدلنا فيه كان أيام ويلسون مثلا) – بل حتى الصدق الأخلاقي دون تحقيق متطلبات واقعية في الأمن وحفظ المصالح وشرف الشعوب (كينيدي مثالا) تبقى فترة عابرة وفاشلة وتدفع لإفراط يعقبها في اللاأخلاقية (جونسون).
فقط حين تنشأ قوة دولية – لها قوة دفع أخلاقي وواقعي – حينها يمكن التشدق بعناوين أكثر مثالية، ولكن الشعارات دون ثمن يدفع في صراع المصالح والنفوذ والسيطرة ما أسهلها وأكثرها عبثا.