7-3-2021
Category: سياسة مصرية
التدافع الاستراتيجي التركي والمصري في ليبيا، وأزمة شرق المتوسط
النظرة المباشرة للأزمة الحالية مابعد الاتفاقية البحرية، وتلك الخاصة بالتعاون العسكري والأمني، بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية – المعترف بها دوليا، توصّفها في قضيتين أساسيتين.
الأولى، توسعة الحيز البحري التركي لاستغلال الثروات المعدنية إلى 200 ميل، بدلا من 12 ميل كما وضعتها فيه الاتفاقيات الثنائية بين قبرص واليونان ومصر وإسرائيل.. والحقيقة أن كل هذه الاتفاقات ليس لها منطق قانوني فاعل بذاته لأنها تجاهلت دولة محورية في حوض البحر المتوسط (تركيا)، وذات الأمر ينطبق على الاتفاقية التركية مع حكومة الوفاق. هناك مبدآن اعتمدت عليه الاتفاقيات القبرصية – الأول هو التقاسم بخط المنتصف، والثاني هو توقف الحيز البحري لتركيا – سواء بمفهوم المنطقة الاقتصادية، أو الجرف القاري- بأي عائق أرضي (هناك جزر يونانية ثلاث بالقرب من تركيا قطعت تمدد هذا). وفي المقابل – طرح تركيا التي أعلنته مرارا يؤكد ضرورة التقسيم (العادل) وليس تحكما بمسألة خط المنتصف – كما نص قانون البحار 1982، وأيضا عدم قطع مجالها البحري بجزر ثلاث صغيرة ولكن الدوران حولها. وبالتأكيد – فالمنطق التركي له درجة حجية قوية، خصوصا بالنظر إلى عزلها عن الاتفاقيات السابقة، وهذا يخالف المبدأ القانوني الواضح بتسوية النزاع.
ولكن في المقابل، كذلك الاتفاقية الجديدة ليس لها أي قيمة قانونية بحد ذاتها، غير دعم ثانوي للحجة التركية القانونية مستقبلا – اتفاقية أمام أخرى ولكليهما نفس الحجية تبعا للمادة 38 من لائحة محكمة العدل الدولية.. وهذا النوع من النزاعات هو منتشر حاليا كما في قضية بحر الصين الجنوبي، والحل الوحيد نظريا في هذا النزاع هو بالتوافق، أو طرح الأمر لمحكمة العدل الدولية على شرط قبول الأطراف. ولكن في واقع الأمر، هذا الملف خاضع لموازين القوى والتدافعات والترتيبات الديبلوماسية كما هو معروف.
الثانية، هو شرعنة التدخل العسكري التركي في معرض الحرب الأهلية الليبية لصالح طرف حكومة الوفاق المتحالفة مع الإسلاميين وقطر، ضد المعسكر المناقض (حفتر، وحلفاؤه مصر والإمارات بالأخص، وكذلك روسيا، والسعودية). صحيح – أن التدخل العسكري التركي الكثيف يظل أمرا مستبعدا نظرا للتعقيدات اللوجستية، وعدم أولوية الملف عند المؤسسة العسكرية التركية أو الشعب (حتى مع تفاقم هيمنة أردوغان على المؤسسة العسكرية وبنية النظام السياسي التركي)، ووجود محاذير ضد التصعيد مع أطراف تحاول تركيا الاقتراب منها (روسيا) أو تبقي على مساحة محفوظة من الخطوط الحمر (السعودية). ولكن يبقى التدخل، قيمة معنوية وشرعية سياسية، وفي ذلك الوقت – يفرض درجة من الردع كذلك على طرف حفتر. وهذا يقلل مستوى تهاوي حكومة طرابلس. وبالنظر إلى ضعف القابلية العسكرية وترهّل قوات حفتر (التي يغلب عليها الطابع الميليشوي أكثر منها جيش احترافي) فهذا قد يوقف بالفعل مستوى التصاعد العسكري، ويفتح بابا أكبر للتفاوض. ولكن في كل الأحوال.. تركيا تعزّز بشكل واضح شرعية وجودها، وفرصة حركتها، بالداخل الليبي كعنصر حاكم.
ولكن لايمكننا استيعاب محركات هذه الأزمة وسيناريوهات تطورها وحلها دون إدراك معمق لخلفيات الموقفين التركي والمصري.
بالنسبة للموقف التركي، فتركيا استفتحت الربيع العربي بهلاوس استعادة السيطرة العثمانية، عبر شرق أوسط إخواني برعايتها وقطر، وبمراعاة بكل تأكيد لمصالح الأمريكي، وصيغة تفاهم طويلة الأمد مع إسرائيل، ولكن أيضا كانت هناك المحرك الاستراتيجي المباشر سواء في تحجيم الخطر الكردي ومايحمله من تهديد انفصالي بالجنوب، وكذلك – توسع مساحة الهيمنة الإقليمية في ظل الفراغ الاستراتيجي الذي أحدثه الربيع العربي، وبطبيعة الحال ماتقدمه هذه الهيمنة من متواليات للمصالح الاقتصادية والسيادية.. وكل هذا دفعها لتدخل حاد وغير منضبط أو أخلاقي في سوريا، واصطناع ولاءات لتشكيلات عسكرية، وتفاهم ودعم حتى مع ظاهرة داعش في وقت ما، وكذا – دعم واحتضان الإخوان المسلمين، خصوصا بعد محنتهم بمصر. ولا ننس – أن العنصر الأيديولوجي حاضر بلاشك عند أردوغان، ولكن يغلب عليه الاستخدام الوظيفي لبناء شرعية داخلية (تعتمد تعبئة الشعور الديني عند قطاعات تركية أفرزها تحول اجتماعي في العقدين الفائتين)، ومساحة حركة خارجية للتدخل والاستعمال في ملفات المنطقة.
جزء كبير من الموجة التركية فشلت بالطبع مع تدخل الروسي واستعادة النظام مع حلفائه للسيطرة على قطاع واسع، وانهيار تجربة الإخوان بمصر، وتحجيمها بتونس (وإن أفاد هذا مجمل التجربة هناك بما فيها حزب النهضة)، ولاقت نقدا حادا من الناتو مثلا أثناء كوباني، فضلا عن تعرضها لهجمات حادة داعشية في الداخل التركي.. هنا – تم إعادة التوجيه الاستراتيجي لمنطق أكثر انضباطا وواقعية. أولا) قدّم المحركات الاستراتيجية المباشرة في الشق الكردي وتوسيع للهيمنة عن البعد الأيديولوجي والوهم التاريخي. وثانيا) استعمال ماتراكم من أدوات دون تدخل مباشر، واقتناص للفرص المتاحة في توسيع التدخل ولكن بشكل منضبط.. والتطبيق على هذا كان في: عملية نبع السلام، القواعد التركية في قطر والصومال..، والآن ليبيا.
فقط – بقي النزاع الحاد الذي غلب عليه طابع العناد الشخصي فيما يتعلق مع النظام المصري، وإن خف كثيرا بلاشك. وهذا لايمكن فهم سر التدافع الحالي كمحرك، وتمظهر دون اعتباره.
أما الموقف المصري، فبشكل مباشر لا تضر الاتفاقية البحرية حظوظه في المتوسط، بالعكس – تزيد حصتها بشكل ما في الترتيب التركي الليبي، ومع ذلك عارضت مصر الاتفاقية بشكل صريح، وأشارت لنقطة موضوعية، أنه ليس من صلاحية حكومة الوفاق عقدها في معزل عن البرلمان (وهو برلمان طبرق وله شرعية)، وبالفعل – في وضع تفتت الدولة الليبية وتنازع فرقها العسكري وحول الشرعية، لايوجد معنى لمشروعية هذا الاتفاق وغيره. ولكن السبب الأعمق هو خلفية الاحتقان بين النظامين واختلال التوازن الإقليمي.
وفي المقابل – النظام المصري يرى مصالحه تتضرر بشكل بالغ من التدخل العسكري التركي في ليبيا، لأنها تقف مع حفتر وهذا التدخل نظريا يقلل من فرص سيطرته على الوضع بليبيا. وأيضا يجعل لنظام معاد (تركيا) يد في التحكيم في بيئة حيوية استراتيجية لمصر ومصدر تهديد حقيقي.
ليبيا في كل الأحوال هي مجال حيوي استراتيجي لمصر، نعم ليس من طبع التهديد الاستراتيجي تاريخيا أن يأتي من قبلها – على عكس جبهة الشام ، ولكن هذا تغيّر في السنين الفائتة بعد انهيار الدولة وتشرذم منظومتها التسليحية، تحولت ليبيا (قطاعها الشرقي بالأخص) لممرات تسليحية ولوجستية ومحضن عازل لجماعات إرهابية (داعش والقاعدة) تقوم بعمليات كبرى بالداخل المصري. ولكن فوق ذلك، ليبيا هي إضافة نوعية وكمية للمجال الحيوي الاستراتيجي لمصر (كنقل بعد التشكيلات والمدارس العسكرية لليبيا لحمايتها من ضربات العمق بالاستنزاف، أو المشاركة المشرفة في حرب أكتوبر) بالرغم من التنازع الحاد بين نظامي السادات والقذافي والمناوشات الحدودية 1977. مصر لاتستطيع احتمال ضياع ليببيا، أو تحولها لبيئة معادية. وللأسف، التداعي المُزمن في القوة الاستراتيجية المصرية وحدود حركتها بالإقليم، شهد تفاقما حادا بعد ثورة يناير وانكفاء ذاتيا، في وقت حرج تم فيه تدمير الدولة الليبية – مع ما بها من عوار بينوي – بتدخل عسكري غربي، ثم احتراب سياسي وعسكري وتفتت. في تلك المرحلة الحيوية من تشكيل ماهية ليبيا فقدت مصر فرصة حقيقية للقيام بدور ناظم سياسي وأمني، ووسيط نزيه وراع لحوار سياسي مفتقد.
وحين قدم نظام السيسي، وجد ليبيا كابوسا حقيقي أمنيا واستراتيجيا، ولعل حادثة ذبح الأقباط المصريين في 2015 مثلت الذروة في ضرب شرعية النظام المصري التي تصدرتها عناوين كاستعادة قوة الدولة وحمايتها لمواطنيها ومحاربتها للإرهاب وموالاة الكنيسة لحفظ مصالح الأقباط.. حينها تصرف النظام بشكل غير رشيد عبر ضربات جوية انتقامية، وكان الأمر يستدعي تدخلا أكثر حزما وتدقيقا في نفس الوقت، كسياسة دفاعية مطلوبة كان يلزم التدخل في مهمتين ويحظر في أخرى. استهداف بنية القواعد الارهابية في المنطقة الشرقية، والقيام بعملية انقاذ مدني تلزم انشاء ممرات آمنة للمصربين ونقل بحري في الغرب والاستعداد لعمليات خاصة محدودة.. وكان يحظر التدخل في الوضع الداخلي بمعنى نصرة طرف على طرف، ولكن محاولة شق الدور السياسي الراعي والوسيط لحل التناحر الليبي الداخلي.
هذا نظريا، ولكن عمليا هناك عوائق وشروط.. توسيع هذه المهمات كان يستلزم درجة من الاستقرار السياسي والدعم الشعبي كانت غير موجودة، ويستلزم تأهيل للقوات المسلحة على هذه المهام النوعية مفتقد، ويستلزم التمهيد بحملة قانونية وديبلوماسية وشعبية مع الطرف الليبي لم تحصل. ثم هناك إدراك داخلي -بعض النظر عن مدى نضجه- بصعوبة المهمة كقدرة عملياتية خصوصا وأن الجيش قام بثلاث عمليات متوسطة منذ حرب أكتوبر.. ليبيا 77 والعراق 91 وسيناء.. وأعتقد أن القيادة المصرية كانت تدرك جيدا طبيعة التقييم لهذه العمليات يعيدا عن البروباجندا المعتادة.
وفي هذا السياق تحديدا – وتحت العجز الذي شعر به النظام لمواجهة هذا المأزق الأمني، ظهرت سياسة دعم حفتر. هناك بلاشك العامل الخليجي (الإماراتي تحديدا) والذي دفع نظام السيسي لدور أكثر فعالية في دعم حفتر.. فبسبب الضعف في بنية الشرعية السياسية للنظام واقتراب الانهيار الاقتصادي، ارتمى بشكل يتجافى مع منطق الشرف المصري وحجمه التاريخي في حجر الإمارات بالأخص ثم السعودية قدم تنازلات في مساحات متعددة، ولكنه في ذات الوقت كانت له حدود تحجزه عن الدوران خلفهما دون تمحيص، وظهر هذا تحديدا فيما يتعلق بسوريا واليمن.
وكان جزء مهم من طرح السيسي فيما يتعلق بسوريا بالمخالفة للخليجي، وكذلك خلف دعمه حفتر تصور ساذج حول أهمية استعادة (الجيوش الوطنية) كمحاولة لاستنساخ التجربة المصرية، دون إدراك أن الأهم هو توفير الظروف السياسية والاجتماعية والدستورية لاستعادة الدولة بالأساس ومعالجة الاحتقانات والتدخلات الخارجية التي مزقتها، وإدراك أن لا جيش (حفتر) أو جيش (بشار) يمتلكون أدنى معايير الجيش الوطني على عكس الجيش المصري مع كل إشكالاته. بل حتى قبل الربيع العربي، الجيش السوري كانت تحكمه قاعدة الطائفية، والليبي قاعدة الارتزاق.
وهناك عامل آخر، دفع نظام السيسي لفشل في تحليل الواقع الليبي وإدراك الفرص لصك استراتيجية صالحة فيه، وهو النفور الحاد الشخصي والنظامي من أي مكون إقليمي له علاقة بالإخوان المسلمين، خصوصا أن بناء شرعيته الداخلية قائم على شيطنة الإخوان وعملقة دورهم وخطره، واستخدم ذلك بالأساس لقتل الحياة السياسية المصرية وتضخيم الوصاية العسكرية والأمنية. هذا لاينفي بالطبع أن الإخوان ارتكبوا خطايا وطنية وأخلاقية، وبالفعل تورطت فصائل منهم في إرهاب، وتحالفوا مع قوى إقليمية وخارجية ضد أوطانهم، ولكن القياس الأخلاقي والوطني كذلك يصم نظام السيسي وبشار (مع فارق كبير بينهما) بجرائم غير مُتصورة وأفدح. والعبرة في حديثنا هنا ليس هذا المعيار الأخلاقي، ولا هو الحاكم لحركة النظام المصري، ولهذا – فموقف النظام مثلا مع حماس اختلف في النصف الأخير لحملة 2014.. فحماس بلاشك تورطت بشكل غير شريف أو مبرر استراتيجيا في الداخل المصري، جزء بسبب تعصب أيديولوجي، ولكن كذلك – لحساب ضيق أن الاضطراب الأمني والسيادي بسيناء يمثل فرصة ما لتسليح وتموين غزة، وراهنت بشكل أخرق على دور قطري في بداية الحملة. وكذلك النظام المصري رد على حماس بشكل متشنج دون مراعاة الحساسيات القومية والاستراتيجية، ولاننس كذلك التقارب مع إسرائيل تحت ضغط الوضع بسيناء كما تجلت أبشع صوره في فضيحة سحب مشروع قرار إدانة الاستيطان من مجلس الأمن في أواخر عهد أوباما. ولكن كلا الطرفين – تحت ضغط المصالح الصلبة المتبادلة، طويا الملف بشكل كبير، وبالفعل توسطت مصر لإنهاء الحرب بشكل معقول حفظ قدر من ماء وجه حماس وساعدها في ترجمة نضالها المُشرف بالحرب لأثر سياسي ما وإن كان أبعد عن أي مفهوم للانتصار بالطبع، وتم تثمين دورها بشدة من حماس، وبالتأكيد خرجت العلاقة بعد ذلك من طور العداء إلى نمط أقل قليلا مماكان سائدا أيام مبارك.
ومن كل ذلك ندرك – أن إشكالات النظامين المصري والتركي بنيويا تجلت في محركات الأزمة وطريقة التعامل معها.. فهو محرك إقليمي بحثا عن الهيمنة وحماية المصالح البحرية عند التركي بشكل أساس، وهو محرك أمني مهووس بالمعادلة الداخلية عند المصري.
وهناك ثلاثة سيناريوهات تبعا لذلك:
الأول مستبعد.. وهو تصعيد عسكري تركي بالداخل الليبي يقابله انخراط عسكري مصري يقود لحرب ثنائية… هو مستبعد لكل التعقيدات السياسية واللوجستية المذكورة سابقا. ومبدئيا، فالتوازن العسكري يميل بشكل مُجرد بالتأكيد للجيش التركي، خصوصا بمستوى احترافه وتواجده داخل الناتو لنصف قرن، والنضج العالي للبيئة التصنيعية والأكاديمية الخادمة له. ولكن تبقى نوعية وكم أسلحة الطيران التقليدي والمدرعات لصالح المصري. ولكن الجيش المصري يعاني منذ أوائل الثمانينات من مشكلات معقدة وترهل نوعي في البنية والتشكيل والفكر العملياتي وخامة القادة. وكلا الطرفين أدركا بشكل ما أهمية تحوير جانب مهم في السياسة الدفاعية – وهو تنويع مصادر السلاح وتقليل التبعية العسكرية. ولكن كلاهما كذلك يعاني من مشكلات مستجدة تضعف من قدرته الاستراتيجية والقتالية: الهيمنة السياسية الحادة لأردوغان على المؤسسة العسكرية التركية، وتداع أكبر في البنية الاحترافية للجيش المصري تبعا لتضخم دوره الاقتصادي، وفقدانه لجزء من قاعدته الاجتماعية تبعا لمسئوليته عن احتقان عند شريحة كبيرة، وإن لم تكن غالبة في الشعب المصري.
ولكن التوازن العسكري لايمكن فهمه بمعزل عن السياق الاستراتيجي الذي تتفاعل فيه؛ الأهداف السياسية ومحدودية استخدام القدرة العسكرية فنيا وبيئيا. وهنا – تظهرمشكلة ضعف بناء زخم عسكري تركي داخل ليبيا، وشبه استحالة نظرا للتقييدات الدولية والإقليمية على هذه النقطة. وكذلك – فقدان الجيش المصري لفائض كمي ذي نوعية عسكرية تقليدية، فضلا عن تأهلها لنمط عسكري هجين يسمح بتدخل كبير وشامل في ليبيا. (تحليلنا فقط لتجربة 1977، وكان الجيش لايزال على قدر كبير من احترافيته وخبرة حرب قريبة، وباستخدام قوات تقليدية وفي نمط نظامي، وأمام قدرات عسكرية شبه بدائية، تؤكد هذا). وهذا التساوي – في العجز العسكري- واضح لكلا الطرفين، وحاجز لهما عن التصعيد.
ثانيا) سيناريو حرب بالوكالة، عبر زيادة معدلات الدعم التسليحي والاستشاري والتدريبي.. وهذا بشكل مايحصل حاليا بالفعل. والأرجح استمراريته لفترة، لأن المشكلات البنيوية وحجم النزاع الحاد بين الطرفين المصري والتركي، وتلبسهما بالمشكلات الإقليمية المحيطة بهما (هاجس الهيمنة عند التركي، والتبعية الخليجية عند المصري)، سيعقد مساحة التسوية أو حتى التفاهم البيني.
ثالثا) صيغ تفاوض حقيقية على إعادة اللحمة السياسية، وفك حاسم للنمط الميليشوي عند كلا طرفي النزاع، وتدشين مرحلة انتقالية جادة بإشراف إقليمي متوازن. وقد يظهر أن حل المشكل المصري التركي البيني هو ضرورة لهذا بحيث أن يكون كل طرف داعم وضاغط لتسوية هذه الإشكالات. ولكن في اعتقادي، أن المصري لوحده يمكنه القيام بدور حاسم في الداخل الليبي، إذا استطاع بالفعل، تغيير بنية سياسته تجاه الملف، وتخلصه من عقدة الإخوان – كما فعل مع حماس – ووقوفه بشكل ما حاسم أمام الضغط الخليجي (وهذا فعله مثلا في ملفات أقل أهمية له كالسوري واليمني)، خصوصا أن الطرف الروسي كذلك قريب من النمط البراجماتي الذي يقصد فقط حفظ قدر من مصالحه. فالتركي أولا وآخرا جسم غريب على تلك البيئة، وهناك حد أقصى لتدخله، ولم تلجأ له حكومة الوفاق وحلفاؤها الإسلاميون على هذا النحو إلا تحت مستوى من الضغط الكبير على طرابلس. والجميع يدرك – أن ليبيا لايمكن أن تعود دولة، فضلا عن استعادة وظيفتها ومصالحها الوطنية والاقتصادية، دون توافق سياسي حقيقي وردم لمرحلة النزاع البيني، ودور مصري داعم.
كيف ننطلق من الرؤية الاستراتيجية لموضعة دورنا الفردي؟
استكمالا للحوارات السابقة… هل تبقى المراجعة الفكرية وتطوير الرؤية الاستراتيجية شيئا نظريا أم يمكن الانطلاق منها لخط أدوارنا الفردية؟
وهل يمكننا الاحتجاج أن النظام يمنع أي حراك سياسي للتخلي عن أولوية تشكيل نخبة وحركة وطنية جديدة؟
الحديث عن الرؤية الفكرية والاستراتيجية ليس فقط مهم نظريا، ولكنه أيضا في صلب تحديد الخيارات العملية.. وعدم إدراك هذه النقطة المفصلية هو سبب نكبة الإخوان تحديدا- كجماعة تحصلت على رصيد كبير في البناء التنظيمي، وإتقان في كثير من الجوانب (العملية) في النشاط السياسي والاجتماعي..
الرؤية الفكرية والاستراتيجية هي ماتحدد الطريق، والخطأ فيهما – ولو يسير – مُهلك ومن الصعب تصحيحه، على عكس المواقف التفصيلية والعملانية..
بل العكس – أستاذي كان له مقولة مشهورة: أن الدولة والجيش ذات القدرة العملياتية والتكتيكية الفائقة مع ضعف الاستراتيجية (يقصد ألمانيا في الحربين العالميتين)، تصل لأوضاع كارثية بالمقارنة بالدولة محدودة القدرة التكتيكية والاستراتيجية معا.
ولكن مشكلة الاستراتيجية – وقبلها الفكر – هو كونهما بالأساس إطارا نظريا (تجريديا)، ولكننا نرى أثره في تحريك آلاف الخطوات ونثريات المواقف لمسارات كلية ونهايات محددة.
—————
إذن ما الحل؟
هذه الممارسات هدفها بالأساس تأهيلي وإنضاجي للوحدة الوطنية، وتشكيل قيادة حقيقية، والتقدمة لها شعبيا.. وإن كان لايمنع هذا تحصيل تنازلات تدريجية من النظام (وفق خارطة إفلاساته المتوقعة)، أو إمكانية الاستفادة من فرص مفاجئة.
ملاحظات حول المراجعات، والحراك الوطني
بعض الملاحظات على هامش حوارات سابقة حول المراجعات الفكرية والسياسية (خصوصا للتيار الإسلامي)، والمنطق السياسي والاستراتيجي للحراك الوطني المعارض
مراجعة للتطور السياسي المصري مابعد ثورة يناير، ومنطق الحركة استراتيجيا
حول مراجعات المجموعة الشبابية للإخوان
حول مراجعات الإسلاميين والإخوان
في الفكر
- شمول الدين لايعني شمول وظائف أي حركة اجتماعية أو سياسية تتحرك لتطبيق ماتفهمه منه.. بل قد يكون هذا الشمول التنظيمي مضادا لمقصود الدين نفسه في عديد من الملفات خصوصا في هذه المرحلة الزمنية التي بدأت بنشأة الدولة الحديثة – سياسيا واجتماعيا.
-
لابد من التمييز القاطع بين الدين (كحيز وحي معصوم)، وبين أي مقاربة بشرية في فهم الدين وتنزيله.. الإخوان ليست (دعوة الإسلام في القرن الرابع عشر هجري) كما وصفها الشيخ البنا، ولكن مقاربة بشرية في تنزيله سياسيا ودعويا واجتماعيا.. ولأنها بشرية فيعتريها الصحة والبطلان، الرشد والانحراف، الإخلاص والهوى، المناسبة الزمنية وعدم المناسبة، محدودية المهمة وإطلاق القيمة…
في المشروع والتنظيم
-
لايجب البدء من اعتبار وجود تنظيم إخواني أمرا مسلما..
فالنظرة الدينية والتجريبية في وضع رؤية عامة واستراتيجية في مسار الحركة الفردية والجماعية للدين.. لابد أن تسبق أي تفكير تنظيمي ومشاريعي – لأنه عالة على الأول.وأي حركة إسلامية – على مدار التاريخ – لها فترة سماح سنني، إذا لم تحقق مقصودها فيه، لابد من إجراء تجديد جذري في كينونتها وأهدافها.
ولعل هذا بالضبط ماأشار له الشهيد علي شريعتي حول دورة حياة أي حركة اجتماعية وسياسية ثورية.
-
أخطر مشاكل الخط السياسي من تجربة الإخوان على مدار 80 سنة:
1- تحركت في العمل السياسي بمنطق الحركة الشمولية، ولهذا ففكرة البنا نفسه عن الدولة كان فيها تناقض جذري بين تأييده للنظام النيابي، وفي ذات الوقت تبنيه للنظام الشمولي ورفض فكرة الأحزاب.2- خطيئة نسبة المشروع السياسي للإسلام.. ليس فقط أن انحيازات كثير من تجارب الإخوان السياسية لم تنحز لمقصودات الدين في بناء النظام السياسي من حيث الشورى الدستورية (الديمقراطية)، والعدل الاجتماعي والاستقلال.. بل لأن المرجعية الشرعية لاتدخل بفعل الاختصاص والاستقصاء والحصر إلا في دائرة محدودة جدا من النشاط السياسي الحزبي أو السلطوي، ولكن أكثر من 95% من البرمجة الحزبية تتدخل فيها الشريعة فقط بوضع المقاصد، فلاينبغي نسبتها للوحي فذلك مفسد للدين والدنيا معا – كما ذكر الإمام أبو حامد الغزالي.
3- لم تكن التجربة السياسية خادمة لرؤية استراتيجية واضحة في معظم المراحل.. فنجد في مرحلة كان الصدام مع الدولة والسعي لحيازة السلطة، في وقت كان النظر الاستراتيجي والوطني يُحتم مسارا إصلاحيا..وفي أوقات كان لابد من رؤية تغييرية وثورية، ولكن كان منطق الحراك السياسي المتبع إخوانيا هو إصلاحي وتفاهمي مع الأنظمة.. وهذا أربك كثيرا النظرة الوطنية العامة لأولويات العمل السياسي.
-
بالإضافة لكل ماسبق..فهناك إشكالات أوسع في حال عودة الإخوان الآن سياسيا بعد التجربة السابقة.كل مقامات التجديد والتطوير كان وقتها قبل ثورة يناير، وبالأخص بعدها مباشرة.ولكن هناك رصيد من التاريخ السلبي وفقدان الثقة العامة في الإخوان – كتنظيم وقيادات ومسار – موجودة الآن في قطاعات عديدة سياسية وشعبية.
وهذا لابد اعتباره في التقييم الأولي حول حدود ومنطق حركة الدين وبدائلها.وهذا ماذكرته سابقا.. أن الانطلاق من كون وجود الإخوان كجماعة وتنظيم أمرا مسلما به غير صحيح. ولكن الانطلاق هو من وجود تيار واسع مرتبط بالفكرة، وله مواقف متباينة من التنظيم ماضيه وحاضره ومستقبله.. هذا التيار هو ماينبغي أن نفكر لأجله – ونساعده أن يفكر بتحرر من أي مسلمات – عدا مسلمات الوحي!
-
باختصار – النقاط الجوهرية لعملية المراجعة المطلوبة ومعوقاتها لايجب أن تضيع في زحمة التفاصيل.
أهم مايُميز – وتقدمه – ملكة الفكر الاستراتيجي هو التمييز بين المهم والأهم، وترتيب الأولويات:هناك فرضيات في مقاربة الدين ووضعية أي حركة إسلامية – لابد أن تُحسم أولا.
هناك مراجعة فعلية للمسار الإجمالي للإخوان قبل وبعد ثورة يناير وبعد 30 يونيو لابد أن تحصل بالفعل، ولكن بالتوازي مع التفكير التجديدي في المشروع العام (وأهم ركيزة فيه، هو الفصل الكامل بين الدعوي والحزبي)، وقد يقتضي تغيير في العناوين وأشكال التحرك ومنطقه.
أخطر مشكلة.. أن فكرة المراجعات (حتى مراجعة المسار السياسي فضلا عن الفرضيات الفكرية والحركية للمشروع) مرفوضة تماما من قبل القيادة التاريخية للجماعة.وثاني أخطر مشكلة… أنه للقيام بتلك المراجعات، لايتطلب الأمر فقط استعداد نفسيا للمراجعة والنقد الذاتي والتحرر من هلاوس الاصطفائية والمظلومية، ولكن امتلاك حد أدنى من التأهل الفكري والحركي والاستراتيجي ليس موجودا عند أجيال تقود الحركة وهي إفراز مسار طويل مُشكل ومقفر تربويا، فضلا عن إرث المشكلات النفسية والمعرفية والتربوية التي أفرزتها تجربة السبع سنين الماضية.
-
في رأيي أن من لم يعتبر الكيانية الإخوانية – في سياقها الشرعي والتاريخي والتطبيقي والتنظيمي وإرث التجربة الإيجابي أو السلبي – مجرد فرضية، فهناك مشكلة ضخمة في استقلاليته فكريا أو سياسيا – حاليا ومستقبلا – للقيام بأي أدوار تأهلية أو تشبيكية أو في التدافع السياسي… فضلا عن عنصر بناء الثقة المتبادلة.
ولكن بلاشك الحالة الإخوانية (بشريا على الأقل) تمثل رصيدا مهما لعملية بناء النخبة السياسية.
لكن فقط – من لم (ولن) يعيقه أسر التنظيم، أو تتمكن منه فرضيات الحالة بحد التقديس، وتحرر ذاتيا من خشية نقد – ونقض إذا لزم – الفرضيات الأساسية تلك .. فليس ثمة قطعيات هنا. -
أعتقد التحدي الأهم – والأوّلي – هو التهيؤ فكريا ونفسيا للدور الوطني..
وهذا يقتضي مراجعة جذرية، وتجديد (أو تعامل إيجابي مع طروحات التجديد فليس المطلوب أن نكون كلنا مجددين ومجتهدين في كل المساحات).. واستعداد نفسي، وقبله ومعه – تأهل معرفي .. خصوصا في أبواب الفكر والاستراتيجية.إذ كثيرا مايُعيق فقدان بديهيات النظر الفكري والشرعي والاستراتيجي عند الشخص، التواصل في تلك المساحات بالأصل، فضلا أن يتفاعل معها ويُجدد.
حول تصور مجموعات الإسلاميين للدولة والنظام السياسي
- في رأيي من أهم علامات ضمور الفكر السياسي والمراهقة الفكرية في الحالة الإسلامية هو هذا الموقف من الدولة الحديثة الوطنية – خصوصا عند شرائح من الشباب وليس بالضرورة الأجيال الأسن من الحركة الإسلامية، بشكل لاتجده بذات الدرجة في بقية التيارات.. ولسببين جوهريين:الأول) أن القضية على درجة عالية من التعقيد بالفعل، لتوقف حركة النظر – وليس فقط التجديد – في الفقه السياسي الإسلامي تحديدا لقرون.. فتراكمات عشرات الأسئلة المركزية، ومئات الملفات وفي غفلة عن إدراك مقتضيات تغيير السنن الاجتماعية والسياسية التي أنتجت تطورا هائلا في الحالة الغربية..
ومع ضعف المتابعة بالأصل للتجربة الغربية، فحتى التواصل معها دون منهجية أصولية ومعرفية مناسبة تُهدد بالوقوع في مشكلة أخرى وهي الاعتساف في النقل دون مراعاة السياقات (وليس فقط مراعاة ثمرة المقاربة الإسلامية في النظر). وكل هذا يكون من الإجحاف أن نحمل هذا الجيل من الإسلاميين أو من سبقوه مسئوليته.الثاني) هو دور الحركة الإسلامية المشكل سواء في تأسيساتها التي شابها شق كبير من الخلط والتسطح الفكري والاعتماد على مخاطبة العاطفة الدينية بأكثر من تأسيس منهج تجديدي فارق،
ومسلكها التربوي الذي أيضا تعامل سلبيا وبشكل نافر – وليس فقط تغافل عن – مع جوانب التطور الفكري والمعرفي (والاستراتيجي أيضا) في النخب والقيادات،
وممارستها التي كان همها إحراز مكاسب سياسية وتوسعية قصيرة المدى والتعجيل بالتنافس السياسي والدخول في مساحة السلطة دون إنفاق وقت كاف في بناء مشروعات حقيقية على مستوى الفكرة والتطبيقات.. - الرفض لفكرة الدولة الحديثة أوضح مثال على الضمور الفكري السابق.. فشق منه فعلا هو نوستالجيا مثالية لأوضاع يتخيل الإسلاميون كونها مثالية تاريخية (وهي أبعد أشوطا شاسعة عن هذا المثال!).لكن هناك ثلاثة منطلقات أساسية:الأولى) مقاربة شديدة السطحية والفقر والتقليد في فهم كيفية تنزيل الشريعة سياسيا؛ أو علاقة النظر الديني ببناء النظام السياسي.. أقول هذا – والغالبية العظمي لم تدرس بالأصل مقومات النظر الشرعي والأصولي، أو تراث الفقه السياسي (مع محدوديته وتوقفه مبكرا).. فضلا أن تكون مؤهلة لاقتراف التجديد.الثانية) هو الخلط بين الرفض الرسالي والاستراتيجي لفكرة التقسيم التي فرضها المستعمر (الدولة الوطنية)، وبين أن هناك واقعا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا شديد الكثافة والتعقيد ارتبط بهذه الحالة مع تقادمها.. ولهذا فيجب اعتباره.
ولا يمكن هذا إلا ببناء عقود اجتماعية محلية، وأنماط سيادة واستقلال وتنمية في الأطر القائمة.. ثم الانتقال التدريجي عن طريق توسعة العقد الاجتماعي والتهيئة للظروف المحيطة للوصول للوحدة..
وإلا فنحن مثلا نستنسخ تجربة عبد الناصر.
وهذا النظر للمقاصد والكفايات أكثر من التراتيب، هو أهم مقومات النظر الشرعي السياسي التجديدي، كما فعل الجويني مثلا – وغيره – مع الدولة السلطانية حين رأوها واقعا انزوت بجواره دولة الخلافة واستحالت رسما.والثالثة: مشكلة الاتجاه الأناركي الإسلامي الذي بدأه المسيري، ونقد التجربة الديمقراطية.
هذه المشكلة لم تنتبه أن التجربة الديمقراطية الغربية بالفعل خرجت بشكل كبير عن الحالة المركزية، إلا في ملفات محدودة، وتحولت معها الديمقراطية غالبا لتشاركية أكثر منها تفويضية، وأن مزية التجربة الديمقرطية ليس خلوها من أخطاء بل أنها قادرة على التطوير الذاتي، وأن الفكر النقدي الغربي للديمقراطي هو محاولة تصحيحة وليس هادما للتجربة لأنه لايطرح نموذج كلي بديل، وأنه خطيئة أن ترفض نموذجا ما دون أن يتضح لك ملامح واضحة لنموذج متكامل.. وجزء من الإشكال بالطبع هو الفقر الأصولي في عدم معرفة كيف يتدخل الإسلام (الفكر الشرعي) في ترشيد الظواهر الإنسانية والسياسية، وأنه لايصنع نماذج متكاملة ولكن مقاربات منهجية (هذا ماكان يسميه أصوليو وفقهاء المالكية بدائرة الإمامة والسياسة – في مقابل دائرة التشريع، ودائرة القضاء.. بتعبير القرافي في كتابه الشهير) -
بخصوص النظام الديمقراطي فالدراسة المتأنية للظاهرة الشرعية، وظاهرة التطور السياسي والاجتماعي والعسكري.. تجعل جزءا كبيرا من مقومات الديمقراطية (خصوصا بمعناها الوظيفي) هي أبلغ الطرق التجريبية (حاليا) لتحقيق مقصودات شرعية..
مثلا فكرة الفصل بين السلطات، أو تقييد السلطة التنفيذية، أو التنوع في مساحات التقييد الرقابي للحاكم في عملية اتخاذه القرار وأخرى يتم تفويضه فيها وحسابه على نتيجتها، أو الهيمنة المدنية على القوات المسلحة، أو الحزبية السياسية والفصل بين النشاط الحزبي والأنشطة الاقتصادية والخيرية والدينية- التبشيرية، أو معايير الحكم الرشيد في الشفافية والمحاسبة والكفاءة والتوازن..
فالمقصودات الدينية والالتفاتات الشرعية في بناء النظام السياسي قد تقتضي من الفقيه السياسي في عصر تطبيقات وفتاوى ما مناسبة لسياق اجتماعي وسياسي (مثلا أن يتم تعيين القاضي من الخليفة، أو عدم اشتراط مدة للحكم، أو عدم تعيين مجلس دائم للحل والعقد، أو شرط القرشية، أو تعقيد ظروف الخروج على أئمة الجور عند من يجيز فضلا عمن يحرمه ابتداء….)
ولكن تغير السياقات والظروف التي تتنزل فيها علل المقاصد والأحكام.. يفرض تغييرا في البنى الحكمية ذاتها فضلا عن الفتاوى. بحيث تصبح ذات الفتاوى السابقة مضادة لذات المقصود الشرعي وتطبيقه!ولعل هذا مثلا ماحكاه البنا أن النظام النيابي هو أقرب النظم لروح الإسلام.. مع إشكالات طرحه الشمولي في العمل الإسلامي أو بناء الدولة كما أسلفت.
الخلاصة – أن النظام الديمقراطي – بكل مشكلاته الذاتية، أو حتى اختلاف البيئات الشرقية عن الغربية مما يقتضي أسئلة مختلفة في العلوم السياسية (مثلا العلاقات المدنية العسكرية مشغولة غربيا بأمور كثيرة ليس منها الانقلابات وفي ذات الوقت تبقى ترفا شديدا – بالعكس سلبيا – في مرحلتنا) فضلا عن اختلاف الإجابات (فترى مثلا اختلاف بنية وتفضيلات شكل النظام السياسي بين أمريكا وبريطانيا مع أنهما يُحسبان في نفس طور الديمقراطيات المستقرة والثابتة)،
أقول – بالرغم من كل هذا.. فالنسق الديمقراطي بالفعل يمثل أفضل الإجابات النظرية عن كثير من أسئلة التجديد في باب الفقه السياسي (وفق شروط وتهييئات معتبرة)، فهو ليس بعيدا عن الروح الإسلامية كما يتخيل البعض.
حول الحراك الوطني والمسار السياسي
- الحقيقة كل ماكنا نأمل فيه من ثورة يناير أن تحدث فتحا لمغاليق التطور الاجتماعي والسياسي الشامل، عن طريق إزالة العقبة التي مثلها النظام السابق.ولكن – بالقطع – لم يكن هناك نخبة سياسية مؤهلة لتصنع سياسات حقيقية بديلة تمثل بذاتها مادة التغيير السياسي والاجتماعي الشامل.
كذلك – لم تكن هناك أي قوة سياسية عندها القدرة والاستقامة وتفويض الشرعية السياسية لتدير المرحلة الانتقالية – ولكن كان الأمل أن تحصل صيغة توافقية – هي بحد ذاتها أهم ضمانة للوقوف أمام ارتداد المؤسسة العسكرية للنظام السابق، وتجاوز مشكلة إعادة الهيكلة الضرورية دون التسييس لمؤسسات الدولة الناشئة، وأيضا التوافق على عقد اجتماعي ديمقراطي ومنحاز للعدل الاجتماعي.
- بالإضافة لأزمة إرث الحكم العسكري، وأزمة التغييب الشعبي وفقدان المبادرة والوعي السياسيين – ممايعيق التحول الديمقراطي الحقيقي وإعادة بناء الدولة، فهناك أيضا أزمة الإرث الحركي الإسلامي الذي يحوز على قاعدة شعبية معتبرة بفعل العاطفة الدينية، ولكنه مشكل من حيث – وضوح انحيازاته، وكونه لبنة في بناء نظام ديمقراطي، ووضح شكل أنشطته وتوافقها مع الدولة الوطنية (إشكال الدولة الوطنية مع التنظيم ذو الهم الأوسع من إطار الدولة – وكانت هذه مشكلة أيضا في التيار القومي) والمنطق الديمقراطي (التخلي عن أي صيغة للشمول التنظيمي، أو الشمول السياسي) (وفك النسبة مع الوصف الإسلامي إلا فيما هو مقطوع به شرعا).وهذا يقتضي كما ذكرت ليس فقط تجديدات جذرية ولكن تضميد جراح وعودة مختلفة للحيز الشعبي.
- بالفعل، خصائص وشروط الطليعة السياسية أو صانعة المشروع وركائزه تختلف عن متطلبات وخصائص القيادة السياسية غالبا.
- الفكرة المُلهمة وتجديد الحلم بمشروع رسالي ووطني شديد الأهمية في هذه المرحلة.. وهذا لاينتج إلا بعد تضميد كثير من الجراح التي أفرزتها المرحلة السابقة عند الجميع، واستعادة الثقة في الذوات الفردية والجمعية والمتبادلة.
- مكونات المشروع السياسي المنشود هي الرؤية الفكرية والسياسية، ثم الرؤية والمسارات الاستراتيجية.بخصوص الرؤية الفكرية:
الخط الأول هي في الانحيازات الأساسية للمشروع الوطني من حيث الأهداف والسياسات البديلة.. ولابد فيه من مراجعة الفرضيات الأساسية عند كل التيارات – وخصوصا الإسلامي – حول أهداف الرسالة والدولة، وشكل الدولة وخطها، وانحيازات التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، والتوازن بين الهم التوسعي (الإسلامي والقومي) ومقتضيات الدولة الوطنية- القطرية وعقدها الاجتماعي والسيادي.أما الخط الثاني – فهو السياسات البديلة في مسارات الدولة الوظيفية.. وهو جزء من استراتيجية الصراع والتدافع السياسي بالأصل، وهذه تنضج وتتطور مع الوقت، وليس بالضرورة حضورها الآن على وجه التفصيل.وفي كلا الخطين هنا حد المشترك الوطني، ولابد من إبرازه والتحلق حوله في مرحلة الصراع السياسي والانتقال الديمقراطي وبناء ركائز الدولة وأهما العقد الاجتماعي، ثم تأتي بعد ذلك في مراحل تالية المشاريع الحزبية والمتأدلجة في مرحلة ممارسة الديمقراطية وهنا لابد من الاختلاف بالطبع . - استراتيجيات الصراع والتدافع السياسي، لابد أن يتم تحديدها ولكن اعتمادا على رؤيةاستراتيجية مبدئية، ونواة قيادية..وغالبا الرؤية الاستراتيجية هي المزاوجة بين استراتيجيات الاحتجاج والفعل السياسي خارج إطار النظام، مع التدافع على المساحات داخل إطار النظام،ويقتضي الأمران طرح سياسات بديلة ونقدية،وتساوقا مع سيناريوهات تطور النظام وخياراته،والأهم فيها مع اختلاف تلك السيناريوهات: تصاعد الاحتقان الشعبي وتعمق الإفلاس النظامي..(على أن في التعامل مع إفلاس وفشل النظام قضية شديدة الحساسية – قيما ووطنيا واستراتيجيا.. فالفشل والإفلاس يكون التعبير عنها وتوظيفها ونقدها منضبطا ودقيقا وعلميا وموضوعيا، لأسباب عديدة أهمها استعادة الثقة الشعبية والمؤسسية في النخبة السياسية وأولوية هدفها في المشروع الوطني وليس المناكفة وحيازة السلطة)أما الخيارات الاستراتيجية وبناء المواقف التفصيلية، فيصعب جدا تحديدها بدون تكوين شرطي الرؤية والنواة القيادة والتنظيمية.
- بالتأكيد تبقى فكرة الصراع الصفري وفق استراتيجيات دفاعية وهجومية مع الإسرائيلي على شكل المنطقة ومشروعها قائمة بالطبع،ثم درجة أخرى من الصراع – ليس صفريا – مع الأمريكي بالأخص ولكن وفق استراتيجيات تهيئة ومناورة وتدافع، ثم تدافع إيجابي مع الأطراف الإقليمية (إيران وتركيا) أو الدولية الأخرى مع تكامل وتلاقي في بعض الملفات.المشكلة الأخطر من كل ذلك، أنه لايوجد مشروع حقيقي يملأ الفراغ القومي (بعد انهيار الدول المركزية، وإشكالات في البنى المركزية والمآل القريب في الخليج والمغرب العربي)، فأصبح فضاؤنا القومي – وحتى قطاعاتنا المحلية – أسيرة للتدخلات الإقليمية والدولية بشكل يجعلنا شعوبا ودولا مفعولا بنا..النظرة الاستراتيجي المعقولة هنا، أن هناك دور محوري لمصر (لاعتبارات عديدة.. أقلها أنها هي التي لاتزال باقية كحالة دولة وجيش) في إعادة بناء مشروع أمة.. وهذا جعل – ويجعل – من التغيير السياسي الحقيقي فيها مقدمة جوهرية لنهضة أمة.
وهذا يوضح كم الخسارة الضخمة، والخطيئة بمفهوم الرسالة والاستراتيجية.. في إفشال الفرصة التي لاحت مع يناير 2011.
فلو حصل الحد الأدنى من التغيير السياسي المطلوب.. بالتأكيد الوضع العام (وحتى الملفات التفصيلية: سوريا، وليبيا، والعراق، والمقاومة، ومشكلة إيران وتركيا، فضلا عن الصراع العربي الإسرائيلي) لكان جد مختلف. -
لا أعتقد أنه من الصحيح نسج علاقات بين النشاط السياسي المعارض في مصر وبين أي حكومات إقليمية أو غربية – مهما بدت نقاط توافق حول بعض الأهداف أو المواقف، أما التلاقح مع الشعوب والتيارات والتجارب الحزبية فهو مطلوب دوما..و لعدة أسباب:
1- للدول القوية (كإيران وتركيا، أو الدول الغربية) مصالح مباشرة كثيرا ماتتناقض مع أهداف وأولويات وأخلاقيات المشروع الوطني.. وبالتأكيد سيكون دوما منسوب التعامل مفضيا لوضع استخدامي لصالح الأقوة. ولنا في مآسي سوريا وليبيا والعراق واليمن، وحتى مصر عبرة.2- هذا تدمير – بالحق والباطل – لسمعة المشروع الوطني ورموزه، وهذا أهم مايطرحه النظام كخطاب مواجه – خصوصا إذا استقامت بين يديه أدلة. وهذا له نتائج سلبية على مستوى القبول الشعبي، وحتى ضمن مؤسسات القوة داخل النظام، والتي ينبغي أن يكون التعامل معها استراتيجيا معتمد على جوانب مختلفة – منها فقط وجه وحيد للتدافع والصدام، ولكن فيها أوجه الإقناع والاستيعاب والاختراق والجذب الوطني والقيمي والمصلحي.. كل هذا تعطله.
أما أن نقصد المشروع الوطني في مرحلة بناء الدولة والتنافس المشاريعي، فهذا طبعا مطلوبا كسياسة دولة، أو برنامج حزبي.
مراجعة للتطور السياسي المصري مابعد ثورة يناير، ومنطق الحركة استراتيجيا
حول مراجعات المجموعة الشبابية للإخوان
تصور عن مآلات الحالة المصرية، يليه مقدمة عن وضع السيناريوهات
عن (الدولة المستحيلة): تقابل حتمي بين نظرية الإسلام في الحكم والدولة القومية؟
في نقد التغيير المسلح؟!
February 2018
نقاش حول شرعية وجدوي العمل المسلح في التغيير السياسي.. ومنطقه الاستراتيجي؟
أولا) أقدّر لك حرصك الشديد على تحرّي كل ماله علاقة بهذا الأمر الحيوي.. ومن أشد الأمور التي جعلتني ناقما على كثير من الكيانات والأفراد، في محيطنا الإسلامي والوطني.. ليس الجهل أو قلة الوعي والإدراك، فمن منا الذي يعلم كل شيء وفي كل شيء، ولكن الترفع عن طلب المعرفة وتمحيص الآراء في الأمور المفصلية التي يتوقف – وتأثرت بها – مصائر البلاد والعباد.
ثانيا) رأيي القديم – شرعيا وحركيا – في مسألة التغيير السياسي المسلح ، أو الذي يكون العمل المسلح أحد مساحاته – كما يشي به فعلا حواري مع القيادي الشرعي الإسلامي – هو منطق الجواز مبدئيا ولكن ضمن شروط هامة..
————–
كنظرة شرعية، بالفعل أغلب الفقهاء المتأخرين، وكثير من أهل الحديث كانوا مع منع الخروج المسلح (ورفعوها حتى لمرتبة الاعتقاد.. كما في العقيدة الطحاوية: ولا يخرجون على أئمة الجور!!)
ولكن هناك قطاع واسع عند الأحناف (رأي الإمام أبي حنيفة على الأخص) وبعض فقهاء الشافعية (أهمهم الجويني، ونقلت رأيه تفصيليا وناقشته في محاضرتي عن الغياثي.. فراجعها – لأنها أهم محاضراتي على الإطلاق)
ورأي عن مالك، وموقف عملي لأحمد في تأييده لثورة أحمد بن نصر الخراعي مع شيوع رأيهما المُعلن بالتحريم.
وفعل فقهاء التابعين والقراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث، وقبلهم الإمام الحُسين، وهو رأي الإمام علي، وأبي ذر.
كلهم يرون جواز الخروج بشرط غلبة المصلحة كظن راجح..
لكن.. بلاشك أن التجربة العملية – سواء في النظر لحجم الدماء (كما حصل في الحرة وكربلاء – خصوصا الحرة التي حكى عنها ابن الأثير وابن كثير – بمبالغة كما هو واضح أن هناك ألفي امرأة حبلت مع استباحة المدينة!، ولكن استباحة المدينة والمقتلة هو قطع تاريخي)
أو الخسائر الضخمة على مستوى الأمة (بالأخص تقويض مستوى المنعة وعدم استباحة الحياض، أو حتى مارآه الفقهاء وقفا لحركة الفتح – بكل مافيها من إشكالات معقدة كما نعلم) وهيبة الديانة (ضرب الكعبة بالمنجنيق، ومجرد استباحة المدينة، والمقتلة في الصحابة وآل البيت والنكالة بهم)،
أو تقييم هل قاد الخروج في حال نجاحه لنتائج إيجابية (كالدعوة العباسية التي قادت لدولة باطشة مُحرّفة).. جعلت فعلا المنحى الفقهي يتجه للتحريم غالبا، وهناك أيضا عنصر تأثير السياسة للأسف – وهو عنصر حاضر.
وهذه إشارة ابن حجر في التقريب (أن السيف كان مذهبا للسلف قديم، ثم لما رأوا ماحصل في الحرة تركوه)
وكانت مشكلتي في مع هذا الرأي الغالب – خصوصا المنبني على تقييم للتجارب والظروف السياسية والاجتماعية – ليس المنع كإفتاء عام مرحلي، ولكن تغيير أصل الحكم.
وكنت أرى من الأولى لهم تبني مسألة (إفتاء عام لزمان بعينه) وليس تغيير الحكم، ولكن يصعب عليّ أن أحاسبهم على هذا لأن هذا التقسيم كان خارج خارطتهم الإدراكية والأصولية حينها!
وهذا أيضا ينسحب على رأي ابن حزم الذي قال بالنسخ (أن الشريعة حرمت الخروج أول الأمر، ثم أتت النصوص بالتجويز)، وفي رأيي أن ذلك مرتبط بالمرحلية والقدرة، وليست بالنسخ.
لكني لاحظت مع الوقت أيضا – أنه حتى ألمع الفقهاء وأوضحهم في التجويز – الجويني كما نقلت عنه كلامه – استخدم كلاما شديدا في التحذير من أخذ الأمر بتساهل..فراجعه.
مع الوقت والتجربة والدرس.. حصلت تطورات هامة في رأيي من ناحيتين:
الناحية الأولى – أني بدأت أقدر عنصر العوامل السياسية والاجتماعية وموازين القوى التي تجعل أي مخالفة للخط السياسي للدولة والرغبة في تغييره، لابد أن تنحو للمسار المسلح وبناء العصبة القبلية في مرحلة زمنية (مفهوم الشوكة عند الجويني)، ولكن حين تتعقد الأنماط الاجتماعية والسياسية وشكل الدولة ومؤسساتها، وتظهر أنماط (قويت أو ضعفت) من التشكيل والممارسة السياسية.. هنا يتغير الأساس الواقعي التي صدرت عليها أحكام (وفتاوي) المنع والإجازة ..
فكرة أن الأحكام (مادون القطع) تتغير على حسب العوائد والأعراف والسنن، وليس فقط الفتاوى، طرحها الإمام شلتوت، وهي مامارسها عمر بتمامها في أحكامه المشهورة.. فهو لم يغير فتاوي ولكن أحكاما.. الفارق هنا: أن هذه الأحكام مبنيه في انطباق شروطها على علل تتغير زمنا، وليس بين حالة فردية وأخرى!
بمعنى أن هناك أنماطا من الشوكة وحيازتها والتعبير عنها وممارستها أوسع من القوة العسكرية والقبلية..
(هذا تناولته باستفاضة في محاضرة الجويني)
ولأن الجويني مثلا بنى كثيرا من خياراته وتأسياساته على علة الشوكة، فظهر لي كيف أن التجديد الزمني والعُرفي في تكييفها، يُمكن أن يفتح بابا لتجديد في مفردات الفقه السياسي، ومنها الخروج المسلح تضييقا أو توسعة.
بمعنى – أن مسألة القوة الشعبية مثلا، والقوة العسكرية النظامية المساندة (كفصيل من الجيش مثلا) للحركة الشعبية.. هي من أنماط الخروج السياسي، ولكن ليس الخائض في العمل المسلح والقتال.
ولأن العمل المسلح فيه من الإشكالات الشرعية (خصوصا في مفهوم الدولة الحديثة والتجنيد الإجباري والعمل الشُرطي – مايجعل هناك حائلا شرعيا أمام الاستحلال الشرعي لدماء القوى العسكرية والنظامية للدولة لخفوت المسئولية الفردية وحيز العدوان في حقهم!) بل حتى في طور الدفاع مافيه من اختلال لموازين التسلح والقدرة القتالية لصالح الدولة، ولكن الأخطر: هو رد الفعل الذي يتعدى حيز الدفاع ورده لمظالم متعدية أوسع كثيرا من مصلحة رد الاعتداء!
وبالإضافة لكل تلك الإشكالات الشرعية والأخلاقية فهناك أيضا الإشكالات العملية كما سيأتي ذكرها، وهي الأكثر حسما لأنها مرتبط بفكرة الجدوى التي بنى عليها المجيزون حكمهم.
كل هذا – يجعل أنماط العمل السياسي الاحتجاجي (الخروج غير المسلح)، أو الإصلاحي.. هي الأولى في الاعتبار.
الناحية الثانية– أن هناك اشتراطات لم يعتبرها الفقيه القديم، وإن كانت من مفردات الجدوى (ليس فقط العملية ولكن الرسالية والقيمية) ورأيتها بحكم التجربة، والدرس التاريخي أخطر من مجرد الحساب الضيق لفاتورة الدم والخسارة مقابل المصلحة العامة..
أ. وضوح الهدف السياسي وسلامته
ب. قدرة القيادة واستقامتها.
لا أقول أن كلا الشرطين لم يكن لهما محل في اعتبار الفقه القديم.. بالعكس – لو حللنا خروج القراء والفقهاء مع ابن الأشعث مثلا، أو حتى خروج محمد ذي النفس الزكية أو الإمام زيد.. لظهر لنا قيمة الشرطين جليا.
فابن الأشعث كان رائم سلطة بالأساس؛ فالهدف السياسي الذي يُخاض من أجله في مخاضة عويصة لم يكن على هذه الدرجة من الصفاء.
والقدرة والاستقامة في حالته كانت منقوصة أيضا لطيشه، والقدرة القيادية (أي المُكنة في التقييم الاستراتيجي وعدم الاندفاع) كانت منقوصة في حالة الإمامين للأسف.
ربما يدفع أحدهم أننا لم نضع الثقة في قدرة القيادة واستقامتها اشتراطا منفصلا عن تقييمنا للجدوى (كمنتج خططي استراتيجي)؟
لأن حساسية ملف الخروج المسلح ومافيه من تعقيدات للقياس الأخلاقي والاستراتيجي المُدقّق يجعلنا – منذ أول الأمر – قبل انتظار لأي تجديف في بحر مهلك لا طائل منه.. نسد الباب إذا افتقد أي من الشرطين السابقين.. خصوصا أن علاماتهما تكون جلية في الغالب.
مثلا قدرة القيادة واستقامتها: إذا كانت قيادات الإخوان والإسلاميين مفتقدين غالبا لشرطي الاستقامة والقدرة والمعرفة أمام استحقاقات وظروف ومهام أيسر كثيرا في جوانب الحساب الأخلاقي والسياسي : (كالتفكير في مسألة التغيير السياسي قبل الثورة، أو عدم التشويش عليها كخط سياسي، أو بناء توافق وطني و استفادة من ثورة شعبية حاضرة، و طريقة التعامل السياسي مع المؤسسة العسكرية، أو معالجة سياسات حمقاء مستأثرة تسمح بتكتل الخصوم وتضييع السلطة من أيديهم، والمقامرة بآلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المسجونين والأسر التي تعاني في مسار عبثي دون وضوح بوصلة سياسية أو حساب مُدقق بعد 3 يوليو، وإدمان التصريحات التخديرية للأتباع على غير الحقيقة في كل المحطات، أو التسبب في إفشال مرحلة التحول الديمقراطي على الجملة، وفشل الحساب الأخلاقي والاستراتيجي في ملفات العلاقة مع الأمريكي وملفات الصراع العربي الإسرائيلي والسياسات الاقتصادية العليا)
فهل يُتوقع من مثل هذه القيادة أو بناتها، أن تؤتمن على خيار شديد الخطورة.. الأصل فيه صعوبة الضبط الأخلاقي والقيمي، فضلا عن الاستراتيجي كالعمل المسلح؟!
من أشد المهازل الشرعية والأخلاقية مثلا ماسُمي بفتوى (القصاص) التي فقط لم تُدرك المآل المُهلك في حساب الدم والسياسة للقيام بهذا (القصاص)، بل جهلت أبسط جوانب الفروق بين الفتوى والقضاء! ولم تر أي مسئولية ولو يسيرة في الطرف الذي سمح بمظاهر سلاح في فعالياته من أول يوم وغرر بآلاف الشباب للوقوف أمام آلة البطش لدولة كاملة في مسار كان ظاهرا عدم جدواه.
القصاص هو حكم قضائي، ليس فقط من حيث أنه لايُترك للعوام إنفاذه وإلا سقط النظام العام وابتلي الناس بفوضى ومقتلة وسلب، ولكن لأنه لايُمكن إنفاذه إلا عبر استنفاذ أدوات التحقيق الجنائي والنظر في الأقضية والأدلة على حسب كل حالة!!
المشكلة الجوهرية في حراك تحالف الإخوان بعد 3 يوليو هي أكثر من نقطة:
!هل الجيش المصري جيش “وطني”؟
حوار مع صديق، حول ماذكرته كثيرا من قبل، ومنذ أيام ثورة يناير، وتقريبا في كل المقالات التي حاولت فيها مقاربة وتفسير تركيبة الجيش وقيادته.. أن الجيش المصري – جيش وطني؟ وهل هناك فعلا فكرة (وطنية ما) حاضرة؟
وهنا لا أدخل تفصيليا في مناقشة أو تفسير المواقف الصادمة أخلاقيا ووطنيا للجيش أو قيادته في ملفات الاستقلال الوطني والديمقراطية والدور الإقليمي واشتراكه – أو صمته عن – الانتهاكات البشرية.. ولكن أحاول تلمَس بعض أساسيات النظر للملف منهجيا وتاريخياـ والتي بحد ذاتها قد تسهل مهمة هذا التفسير...
بخصوص أن الجيش المصري جيش وطني، أو أن المحرك الوطني هو أحد محركات الجيش أو قيادته.. فالمقصود بها ثلاثة أمور:
1- أنه جيش ابن النسيج المحلي في مصر، أي أنه منذ أيام محمد علي بدأت اللحمة للتجنيد تكون من المصريين (الفلاحين) وبأشكال بالطبع سلبية للغاية، يمكن مراجعة دراسة د. خالد فهمي الرائعة (كل رجال الباشا) لتعطيك صورة عن الظرف السياسي والاجتماعي والإنساني للنشأة.
ثم مع الخديوي إسماعيل – بسبب كارثة الحبشة – بدأ المصريون يدخلون في سلك الضباط، ومع الوقت (تمصّرت) حتى العناصر الشركية والتركية فيه.
وحين أتي الاحتلال الانجليزي، أصبح الانجليز هم من يشرفون على الجيش ويتولون المناصب العليا وصولا لمعاهدة 1936، والتي من حينها بدأ المصريون هم من يقودون الجيش (كان رئيس هيئة الأركان شخصية رائعة كعزيز المصري في مرحلة تالية مثلا) ولكن كانت هناك معاهدة مشتركة مع الإنجليز للتطوير العسكري والتسليحي (لأن الجيش كان مُعدا للقيام بدور محلي في الحرب الثانية – وقام بالفعل – خصوصا في الدفاع الجوي) ولكن بعد انتهاء الحرب، انقطعت وسائط التطوير وإرادته – فضلا عن التواصل مع الإنجليز – حتى قامت 48).. (دراسة د. إبراهيم شكيب عن: الرواية المصرية لحرب 48 – عقدت فصولا جيدا في هذا السياق)
بمعنى – أن الجيش الموجود هو امتداد لأول محاولة لجعل اللحمة التجنيدية والقيادية من أهل البلد.
مافائدة النقطتين السابقتين في فهم النسيج الاجتماعي للجيش؟
عشرات الإفادات في نقاط التعبئة والتجنيد والتوظيف السياسي، والحركة السياسية للجيش، ومنطقه الإداري، والاستراتيجي..
هذا بالضبط مانقصده بعلم الاجتماع العسكري.
على سبيل المثال: لا يمكن استخدام الجيش المصري لتصفية قطاع شعبي واسع، إلا بعد أن يتم عزل هذا القطاع سياسيا واجتماعيا وشيطنته.. لماذا؟
لأنه بذلك يُخاطر بتفتيت نسيج الجيش فضلا عن استحالة تنفيذ الأوامر والعملية برمتها..
وهذا يفسر لك كيف ولماذا تدخل الجيش في انتفاضة 1977، واضطرابات 86، وثورة يناير 2011..
ولماذا تحرك بشكل مختلف في أحداث ماسبيرو، ومحمد محمود، والعباسية 1،2 – ويوليو 2013، وسيناء.
ولماذا هو مختلف نسيجيا عن الجيش السوري والليبي واليمني مثلا – ولهذا اختلفت مواقفه وردود أفعاله..
مراجعة للتطور السياسي المصري مابعد ثورة يناير، ومنطق الحركة استراتيجيا
حوار على هامش ورقة (الإطار التشريعي للعلاقات المدنية العسكرية في مصر مابعد يناير 2011)
https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfN2YwckVoS0pSbTQ
بخصوص – تقييم ماحصل في مصر أثناء ثورة يناير، ومرحلة التحول الانتقالي التي فشلت، فقناعتي أنه ليس فقط هناك ضرورة حتمية لإعادة فهمها وتفسيرها بموضوعية كمنطق مراجعة ذاتية وجماعية، ولكن لأنها درس ثمين في تطوير الوعي السياسي للقوى والأفراد لما هو آت.
.
منذ بدء الثورة حين كنت أُسأل، هل هناك نموذج ما لفهم وتفسير مايحصل على أساسه؟ كنت أجيب أنه لا يوجد نموذج يُقاس عليه بشكل كامل، ولكن هناك عدة نماذج تتصارع المشهد وتحدث حالة هجينة: نموذج الثورة الشعبية التي تريد إسقاط نظام وإقامة آخر على أنقاضه، ونموذج التحول الديمقراطي الذي يغلب عليه نسق تدريجي (خصوصا بعد إنهاء حالة الزخم الثوري الحاد بعد 11 فبراير) وفي نفس الوقت يمنع الثورة أن تقود لنظام شمولي، ونموذج الانقلاب العسكري واستعادة هيمنة الدولة المباركية (على اختلاف بين الأطراف الفاعلة فيه.. فنظام مبارك – خصوصا في آخر عقد لم يكن مرضيا للمؤسسة، وحتى نظاما مبارك والسادات تم تراجع وزن المؤسسة سياسيا عبر معادلة تفاهم ما فهي بلاشك لو يُمكنها إعادة تغيير المعادلة لصالحها يكون أفضل). وحتى نموذج الجماعة الشمولية التي تعاني خللا كبيرا في فهم الدين وتوظيفه سياسيا، والتلبس به كفكرة مطلقة دون مراعاة النسبية البشرية في مقاربته، ومهووسة بمبدأ مُشكل عداليا ومقاصديا وديمقراطيا وواقعيا (التمكين).
والقضية هنا بالمناسبة لا يمكن تفسيرها فقط بالحساب الأخلاقي وحسن النوايا، أو دولة مبارك، أم من يريد التغيير.. صحيح أن بنية نظام مبارك والتحالف بين رأس المال الفاسد والقطاع الأمني هو خالص في سوء نيته وكان هو بالأخص ما قامت عليه الثورة.. ولكن المؤسسة العسكرية تتحرك فيها دوافع متشابكة (الدافع الأبوي والتجسيدي للدولة، دوافع المصلحة المؤسسية والشخصية التي يختلط بها فيها الفساد مع رغبة الضغط السياسي لأي مؤسسة عسكرية للتحكم في أخذ القرار، دوافع التصور المريضة والفاشلة عن الأمن القومي، العنصر الخارجي)، والإخوان كذلك دافعهم في السيطرة (التمكين)، وكونهم بديلا عن الأمة والجماعة الوطنية في عقد تفاهم مع قوى داخلية أو خارجية، أو إعلان صراع، هو نتاج فهم مشوه ومتخلف للفكرة الدينية والمقاربة السياسية لها (جزء ضخم يتحملون مسئوليته بالطبع من عدم وجود قاعدة فكرية فضلا عن استراتيجية محترمة وترهل البنية المؤسسية، وأمراض الشعور بالقداسة التاريخية والقيادية، ولكن جزء آخر هو معاناة قرون من غلق مجال الاجتهاد وخصوصا في باب الفقه السياسي والحضاري)..
بلاشك هناك مباديء عامة كانت تصلح للتعامل مع نموذجي الثورة والتحول الديمقراطي مثلا (وبشكل يواجه ويُحجّم ويرشد من سلوك الأطراف المضادة أو المُربِكة للمشهد).. فمبدأ الحركة الوطنية والتوافق، الإنجاز السريع في إعادة هيكلة المؤسسات المضادة (خصوصا الداخلية)، وكذلك إنجاز حاد في أجندة التغيير الديمقراطي (خصوصا الدستور، وإصلاح السلطة القضائية مع الحفاظ على استقلاليتها، ومنع وصاية عسكرية على العملية السياسية دون رفع عامل التوتر معها لدرجة حرجة أو التأثير على سلامتها الوظيفية) ، والإدارة الجماعية لملف التغيير الديمقراطي وأيضا ملف إعادة هيكلة المؤسسات.
لكن المشكلة – أن كل وقت كانت له خريطته التفصيلية في التعامل معه ليس فقط من منطلق هذه المباديء ولكن استجابة لماتغير في إحداثيات المشهد – وهذا بالضبط المنطق الاستراتيجي .. وكلما مضى بنا الوقت منذ 10 فبراير 2011 حتى يونيو 2014، ضاقت بشدة الخيارات المتاحة، واقتضى إحداث أي تطور إيجابي تعديلات أكثر جذرية وبنيوية وحدية في القوى السياسية والجماعات.
مثلا – قبل ثورة يناير بشهر، كان في تصوري إمكانية حصول ثورة، أو مدافعة سياسية مع النظام .. أو أو.. ولكن كان ماينقص المشهد في نظري هو حركة وطنية تتفق على الحد الأدنى من أجندة التغيير السياسي، وتتفق على رأس ورؤية للتعامل مع مقتضيات المشهد والصراع مع النظام بشكل استراتيجي.. لم يكن الحل في رأيي التوصية باستراتيجية بعينها لأن الواقع شديد التغير من أي وصفة ما، ولكن الأهم هو وجود من يريد أن يشتبك مع تطورات المشهد والمرحلة برؤية ومقدرة استراتيجية، ومن خلفه زخم سياسي تنظيمي وشعبي.
https://drive.google.com/file/d/0B3R3f5iENLhfYkJISHFfOWREbW8/view?usp=sharing
و،في ثورة يناير، كان واضح في ذهني تماما في 29 يناير مثلا أننا أمام مرحلة جديدة تمثل إجهاض لحالة الثورة لصالح نظام سياسي قائم على معادلة تفاهم هش بين نظام مباركي معدل (الجيش فيما بعد)والإخوان، وكذلك برضاء أمريكي بعد تعهد أطراف هذا النظام بمراعاة الحدود الاستراتيجية والسياسة الاقتصادية السابقة.
https://drive.google.com/file/d/0B3R3f5iENLhfOVRBSVN1V2NfWUE/view?usp=sharing
https://drive.google.com/open?id=11HGV_Oi41mIkCOLYvI4PSYFe20d6fC43
وصولا لكل المحطات التي أشارت لها الورقة..
https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfbTdqdDZybWNVMlk
https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfMGpWTU8zU2lQTnc
https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfajZSXzFpUG5TUUU
النقطة الجوهرية هنا، كما يُلاحظ من تتبع سريع لما سبق، أن حدود المتاح استراتيجيا تقلصت مع الوقت، خصوصا مع حصول التصادم بين مصلحة الإخوان وقد تواجدوا في السلطة، وبين المعارضة الهزيلة تنظيميا وشعبيا ولكن صوتها عال وقد تعُطي غطاء مدنيا لأي تدخل عسكري.
من الممكن أن نقول، أنه بالمعنى الوطني والرسالي والديمقراطي، بمعاني الاستقامة والقدرة السياسية والاستراتيجية، لم يكن عندنا نخبة سياسية بالأصل.. الكيانات التقليدية كالإخوان والأحزاب وجيل السبعينات هي عائق أمام معادلة التغيير والتحول وليست دافع، وقطاعات الشباب التي انفعلت بالثورة إما أنها خضعت بمنطق السمع والطاعة و (التجيير) أو التعصب الأيديولوجي للإخوان، أو فشلت مبكرا في اختبار التنظيم السياسي وتطوير القدرة الذاتية والجماعية، وفهم أفضل – سياسيا واستراتيجيا – لحالة الثورة والتحول الديمقراطي.
مابعد 3 يوليو الوضع تفاقم كثيرا، لأن تحالف الإخوان أعلن أنه في حالة ثورة (لا توجد مفصليات أساسية في وجودها بالأصل)، لاستعادة شرعية سلطة (فقدت جزء كبير من شرعيتها السياسية قبل الوظيفية) وتقف أمامها موازين القوى وتغيرات الإقليم، وانهارت القوى المدنية تبعا لاستجدائها التدخل العسكري، ونشأت فواتير دم ضخمة ألقت ظلالا كارثية على الشرعية الوطنية للمؤسسة العسكرية والقضاء، وفي ذات الوقت دفعت قطاعات واسعة من الشباب للإحباط والانعزال والرغبة العدمية في الثأر.. والأخطر – هو تمدد المؤسسة العسكرية والأمنية بالتبعية وقتل الحياة السياسية.
إذن ماالحل؟
نظريا – مهم تخيل السيناريوهات المحتملة لوضعية النظام، وهل هناك سياقات إيجابية يمكن الدفع لها، ومايلزم لذلك.
على اختلاف هذه السيناريوهات (سواء بقاء النظام كما هو عليه في فشله الوظيفي واستبداده، أو غياب رأسه وجهوزية المؤسسة ببديل سريع، أو انفجار شعبي محدود أو واسع في الأغلب بسبب اقتصادي، أو تنازل جزئي من قبل النظام في فتح بعض المساحات بسبب – أو توقي – الضغط الشعبي) .. تبقى المشكلة هي نفسها، غياب نخبة سياسية، غياب مشروع وطني.
وبلاشك أن تلك النخبة المقصود بها قيادات وكوادر شابة عندها أطروحات وطنية وسياسية (ليس بالضرورة كثيفة، ولكن واضحة ومنسجمة ديمقراطيا ووطنيا)، وعندها نضج في التعامل مع المشهد السياسي المعقد.. والتخلص من كل الأمراض العقلية والنفسية التي للأسف فاقمتها الأربع سنوات الماضية، ولكن الأخطر – خصوصا في حال الشباب الذي انتمى للتيارات الإسلامية – هو مراجعة الفرضيات الأساسية التي حكمت هذا التيار..
في تقديري مثلا، أن هناك مزاوجة مطلوبة بين مشاريع تدافع على المساحات داخل النظام، وأخرى احتجاجية من خارجه.. وعلى طول المسار السياسي يحصل إنضاج للحالة النخبوية والشعبية سياسيا وتنظيميا وقدراتيا (فأنت لا تؤهل قيادت وتصنع نخبا في غرف مغلقة)، ويحصل استفادة وتغذية ارتجاعية مع إفلاسات النظام وسياساته وظهور سياسات بديلة..
ولكن حتى هذا لايمكن حصوله دون مراجعة جذرية، ووجود نخبة مبدئية تمثل خميرة لهذا المسار البنائي والتدافعي في ذات الوقت.
أسوأ مايمكن التفكير فيه الآن، أن تُكرَّر نفس محاولات العودة لمكونات المشهد لتنسج منها خيطا متصلا فضلا عن بناء معارضة أو جبهة ما.. فهي غير مستعدة نفسيا ولا أخلاقيا ولا قدراتيا، ولا من تحكمات تنظيمية داخلية ومراكز قوى، ولا من حيث استحقاق الشرعية التاريخية والقيادية – أن تُحدث مراجعات، فمابالك بصنع رؤية أو بناء جبهات، أو تفصيل استراتيجيات مواجهة، أو حتى تتفق على ماهية الدولة وأساس الديمقراطية داخلها، وانحيازها في العدل الاجتماعي والاستقلال الوطني على سبيل التفصيل – لا الشعار.
وفي ظل هذه الرؤية العامة والاحتياجات المرحلية.. (المراجعات، تكوين وتطوير نخب سياسية، الاستفادة من المتغيرات الآنية – بقدر – في فتح مجالات أكثر للحراك السياسي.. )يمكن داخلها شقّ أدوار فردية، وأكثر اتساعا – بنفس هاديء.. فحجم الإشكالات والملفات المعطلة هائل، ونحن أمام حقيقة واضحة – أن هناك فشل في تجربة الربيع العربي عدا تونس (أقل الخسائر فيه كانت في مصر للمفارقة، مع أن خسارة مصر حكمت على فشل المسار الإقليمي بأكمله!).. إنجاز الربيع العربي في حد ذاته لم يكن ليحل مشكلات التخلف الحضاري، والجمود الفكري والفقهي وافتقاد المُكنة الحضارية والاستراتيجية والاستلاب السيادي لقرون، ولكن كان فقط سيفتح المجال بشكل سلس وسريع ومُمنهج لحراك سياسي واجتماعي وفكري أكثر نُضجا وإنجازا، يُمكن أن يحدث فارقا في تغيير جيلي..
ولكن الآن – تعقدت المهمة، وصار الطريق لذلك المأمول أصعب كثيرا، ولكنه حتمي للأسف.
أما ماسوى ذلك من تفصيلات في تطوير النخب، والاستراتيجيات التفصيلية، ومنطق التعامل في مرحلة التحول الديمقراطي، والمؤسسة العسكرية، وحتى أولويات وبنود المراجعة لهذا التيار أو ذاك.. فهو ميسور نسبيا متى وضحت الرؤية العامة وتم التحرك فيها من قبل نخبة أولية من كل التيارات.
ورقة عن التهدئة والوفاق الوطني – ديسمبر 2016
هل يفيد الفكر الاستراتيجي العسكري في التخلص من هيمنة العسكريين على السياسة؟
حوار حول (مصر ليست للبيع)، والوضع العام
إصلاح المنظومة العسكرية والمآل السياسي
مأزق الإخوان: تطوير أم مراجعات؟
مراجعات الإخوان: وقفات “حقيقية” مع النفس؟
حوارات فكرية واستراتيجية على هامش مذبحة مسجد سيناء
الحوار الأول هو فكري حول خلفيات العنف، ومسئولية الأيديولوجيا الدينية عن الإرهاب:
السؤال الجوهري الآن بعد هذه المذبحة ومثيلاتها: هل للإسلام كمصدرية في فهم الإسلاميين
والجماعات الإرهاب مسئولية عما يحدث؟ هل المشكلة في النصوص أم التأويلات؟
على افتراض أن مصدر الإرهاب هو حالة فكرية ونفسية عند الإسلاميين – ودون تدخل أي عوامل أخرى كالاستبداد أو تدخل القوى الكبرى بقرون من الظلم والتحكم وأيضا اللعب بالمعادلة الإسلامية – إيه علاقة الإسلام بالإسلاميين؟
موضوع أنه مصدر كلام غير دقيق.. لأن العبرة هي التناول البشري للوحي المقدس، وإلا فإن كل الأديان – والمذاهب الوضعية عشان الملحدين مايزعلوش – يتم استخدامها وتحريفها لتبرير وشرعنة العنف
ويبقى مع كل شيء.. أن مخزون القراءات النصية في الإسلام – وحتى الممارسة الفعلية التاريخية للمسلمين إن وُضعت في إطارها التاريخي – تبقى أرفع كثيرا من أي ممارسة لأتباع دين آخر، بل حتى قريبة ممايتم اعتباره الآن مثالا في أخلاقيات الحرب مثلا.
ولكن لماذا لم يؤدي الاستبداد في أمريكا اللاتينية لإرهاب وقاد في بلادنا؟ أليس لهذا علاقة بالأيديولوجية الدينية المستمدة من الإسلام؟
من قال هذا؟!.. منهج الحركات والثورات الشيوعية في أمريكا اللاتينية (سواء النظري كما في نظرية جيفارا، أو حتى الممارسة الفعلية بدءا من ثورة كوبا وحتى فارك والحزب الشيوعي ببيرو) تعتمد في شق أساس منها على الإرهاب المميز وغير المميز.
لدرجة أني كنت أتكلم مع صديق فقال لي أنا اللي حصل النهاردة فكرني بما كان يحصل في أمريكا اللاتينية من ضرب المجاميع الشعبية بالإرهاب لإجبارها على الانضمام لحركة التمرد.. فقلت له هناك فوارق لأن داعش بالفعل تعدت حدود المنطق الاستراتيجي وتعيش في حالة التوحش
الاستبداد ليس في حد ذاته عاملا مسببا بحاله للإرهاب. – نعم. هو عامل للاحتقان الشعبي والشعور العارم بالظلم.. لأن ظاهرة الإرهاب لابد لها فعلا من مقومات فكرية واجتماعية وخصائص نفسية وأيضا عوامل تضمن إعاشتها. ولكي تتوحش تحتاج لعوامل أشد تعقيدا في بيئة التدافع السياسي والعسكري والاجتماعي..
ومجمل الأدبيات الغربية حول ظاهرة الإرهاب ونشوئها تعتمد مثل هذا المنطق الشمولي والنسبي.
ماهي مثلا أفظع تجارب التصفية الوحشية في هذا العصر – سواء من دول أو من حركات؟
داعش – مايُميزها أنه استخدمت الإسلام (دين سماوي اُتفق أنه مصدر هاجس عدائي عند قطاع من الغربيين)، مع سلاح الصورة وثورة المعلومات، وفي منطقة شديدة المركزية.. ومثلت تهديدا لأوروبا.
وإلا فإنها تبدو شديدة الملائكية إذا قارناها بمافعله السوفيت قبل وبعد الحرب الثانية، وبالطبع النازي، وبالتأكيد الفرق المتصارعة في رواندا.
بل حتى داعش ليست أقل كثيرا من أخلاقية الحملات الصليبية.. ولكن إن تجاهلنا الفارق التاريخي لما يقارب الألفية، وقارناها – هي والصليبيين – بسلوك الجيوش المسلمة حينها – مع أن الأخيرة لم تكن كلها بمثالية جيش صلاح الدين – حينها يظهر الفارق جليا!
———————————————————————————————————————————————————————————————–
أما الحوار الثاني فهو حول مزالق التفكير السياسي والاستراتيجي مع صديق في الخط الأيديولوجي والسياسي المعاكس تماما!
الحقيقة أن موضوع أن النظام أو أحد أطرافه (سواء لمصلحة استراتيجية وسياسية، أو صراع أجنحة) خلغ المذبحة هو أمر مستبعد تماما.. لعدة أسباب:
مثلا – ماحصل هو فعلا خسارة استراتيجية لداعش بالفعل، فمن الممكن أن يتبادر للذهن أنه بما أن النظام مستفيد من هذه الناحية فهو وراءها.. (شيء كهذا كان يقوله إعلام الإخوان في أعوام 2013-15، ولكن ليس كل من له مصلحة في أمر فإنه من يصنعه.
فالمصلحة الأهم للنظام سواء في 2013 والآن هو صيانة هيبته، وتوصيل رسالة قوية أنه مستقر أمنيا وناجح في مكافحة الإرهاب (وهذا حيوي لمصلحته في الداخل والخارج)..
ثم هناك أمور أهم: العقيدة المؤسسية سواء للجيش أو قياداته التي لن تتجه لتصفية قطاع شعبي أو مجموعة سياسية إلا بعد قناعتها (حقيقة أو متوهمة) بخيانتها الوطنية وحرقها شعبيا، والتركيبة العقلية والنفسية للسيسي نفسه كأكثر مصري وطني وحامي الوطن، واستحالة الاحتفاظ بالأسرار التآمرية لأمد والخسارة الهائلة للسمعة السياسية داخليا وخارجيا إن تم كشفها.. وهكذا
نعم – المؤسسة الأمنية كان خطها بعد 30 يونيو مثلا هو التصعيد وتفجير البيئات والتساهل في ارتكاب مذابح ليس فقط بحس الانتقام ولكن حيث تدفع البلد لحالة من الانهيار السياسي والاحتقان الأمني فيمكنها حينها توسعة مجال الحركة والنفوذ لها -بالرغم من خضوعها رسميا لمؤسسة الجيش..
ولكن هذا لم يأخذ شكل أن تقوم بعمل إرهابي مثلا لتحقيق الهدف السابق مع أن هذا لايصطدم مع عقيدتها المؤسسية -نظريا – وإن كان لم يوجد دليل عملي أنها فعلته من قبل إلا الشائعات حول تفجير القديسين أيام العادلي..
السبب – أن نظام مابعد 30 يونيو (بل حتى مابعد يناير 2011) هو نظام تخلت فيها المؤسسة الأمنية عن دورها السيادي الأعلى، وأصبحت خاضعة وتحت رحمة سلطة الجيش ومخابراته، وبطشه أيضا.
فمشهد أن يُغير السيسي طقم قيادة أمن الدولة دفعة واحدة أكثر من مرة، لم يكُن حتى تخيله واردا أيام مبارك.
في موضوع صراع الأجنحة.. لا يوجد أجنحة الحقيقة بمعنى التنافس على السلطة السياسية، فهناك توحد كامل للمؤسسة العسكرية خلف السيسي لاعتبارات عديدة (أهمها تصور المصلحة المؤسسية وارتباطها ببقائه حتى اللحظة، وكاريزمته داخل المؤسسة، فضلا عن قبضته الأمنية عليها من الداخل) ، وحتى المؤسسة الأمنية فتدافعها مع الجيش و توسعتها لنفسها هو في الملفات الأدنى من مستقبل النظام السياسي (يعني تسريبات مثلا في وقت ما احتمال، توسيع نفوذ في المؤسسات الإعلامية أو البرلمان – أكيد.. ولكن دون أن تصل لحالة استفزاز كبيرة)
نعم هناك توجس عند السيسي ومؤسساته أن يظهر مرشحون أقوياء، أو يتنافسون على الدائرة الشعبية والمؤسسية ذاتها، كشفيق أو عنان مثلا..
ولكن فضلا – أن العناصر الكابحة السابق ذكرها في حال النظام أو المؤسسة الأمنية تجعل (رغبتهم) في هكذا أمر غير معقولة، فهناك غياب كامل لأدوات الفعل.
النقطة الأهم مما كل سبق:هل فعلا النظام أو أطراف فيه تعيش حالة قلق وتوجس على المستقبل السياسي القريب للنظام فهي (إما تحاول النجاة بنفسها، أو تعجل حرق النظام.. على تناقض كامل بين الأمرين.!).. لاأعتقد .
حتى منتصف 2015 فعلا كانت هناك هواجس.. بسبب مشكلة شرعية النظام إقليميا ودوليا، وأيضا الوضع الداخلي غير المستقر في الشارع (مع أن النظام كان يستغله للمفارقة لتثبيت شرعيته وضرب أي معارض له وتغول قبضته الأمنية)..
ولكن النظام ليس أمامه الآن مثلا معارضة إخوانية في الشارع، والفصيل الإخواني الذي لجأ للعنف المسلح – وكان إرهابا بدائيا على كل حال – مُسيطر عليه إجمالا وكان هناك غض طرف أمني حتى أمام تحركات القيادة التاريخية لتصفية منابعه، والمعارضة السياسية المدنية تم انهيارها – وتحجيمها – مع الوقت.
النظام يُعاني أزمات اقتصادية وأمنية وأمن قومية بالطبع.. وستتفاقم كثيرا مع الوقت.
لكن – بمعيار استقراره وقوته (من حيث تمريره لأجندات شديدة الاستعصاء شعبيا دون أن يثير ذلك اهتزازا مؤثرا) فهو وصل لدرجة أعلى كثيرا من مبارك والسادات.
وأهم سبب في ذلك – هو انهيار التجربة السياسية المدنية مابعد يناير 2011، وغياب أي بديل سياسي، وكُفر الحالة الشعبية بجدوى السؤال والفعل السياسي نفسه.. وليس فقط القبضة الأمنية.
—–
فيما يتعلق بدحلان ومجموعاته والإمارات.. فنعم دحلان كان له بعض الاتصالات في سيناء ولكنه كان يجريها بعلم النظام وفي مصلحته، خصوصا في الوقت الذي كانت حماس أيضا تلعب بملفات التصعيد الأمني داخل سيناء – وإن كان بشكل غير مباشر (أقصاه كان دعما لوجستيا)
لكن لم يحصل، ولايجرؤ حقيقة على القيام بأي عمل أمني تخريبي.. والأمر أكثر وضوحا في حال الإمارات.
وأبسط سبب: هو غياب أي جدوى سياسية (الكلام على تخريب المصالحة الفلسطينية كلام غير واقعي فالملفات شديدة الانفصال وكذلك آثارها)، وفوق غياب الجدوى: عدم وجود أدوات، والخشية من رد فعل النظام.
موضوع دحلان ودوره في سيناء، كان أغلب مافيه دعاية إخوانية اشتركت معها حماس، ولكن لم يُسائل أحد حماس حين عقدت مع دحلان مثلا تحالفا لإدارة غزة (اللجنة الدائمة) منذ أشهر، وبدعم مالي وسياسي إماراتي – قبل ملف المصالحة طبعا.. كيف يستقيم هذا مع البروباجندا السابقة؟
كما لم يُسائل الكثيرون النظام حين استقام الأمر مع حماس، لماذا تحول دور حماس السلبي أمنيا في سيناء إلى فقط عدم ضبط الأنفاق والحدود، مع أن النظام كان يتهم الأخيرة أنها كانت تقوم بعمل عسكري مباشر وليس فقط لوجستي؟
————
الحقيقة – أنا تعمدت أن أسهب فيمايمكن أن نطلق عليها
critical analysis
للفرضيات السابقة بصبر.. لأشير إلى نقطة أتمنى أن تكون وضحت الآن.
أنه لايمكننا تفسير الوقائع والأحداث المتوالية، دون اختبار صحة فرضيات رؤيتنا للواقع السياسي نفسه – خلفياته ومآلاته.
المشكلة – أن أي مجموعة من الناس خاضعة لبروباجندا ما، وتنغلق نفسيا وإدراكيا داخل أطرها الخطابية والاجتماعية .. فيكون من الصعب جدا الوصول لحالة الاختبار تلك.
وهذا حصل ويحصل سواء مع بروباجندا النظام، وأيضا تحالف الإخوان..
فمهما كانت الفرضيات والمدخليات غير معقولة (الإدارة الأمريكية مخترقة من الإخوان، نظرية مؤامرة كونية على مصر، الإخوان وراء الإرهاب الاحترافي في سيناء والوادي – أو أيضا: أم السيسي اليهودية، وأنه عميل صهيوني، وأنه قُتل وظهر بديله مرات متعددة، وأن قائد الجيش الثاني أو فلان وعلان انقلب، أو النظام يتهاوي) فغالبا لايتساءل من سلم نفسه دون فحص (شاق ومُدقق) لأي حديث أو كلام.
، بل حتى حين يتم تغييرها بشكل حاد دون تقدمة، يتم غالبا قبولها والتعايش معها..
ولا يُسائل الفرد البروباجندا.. أين ماكنت تقولينه حتى عام مضى (بل حتى في تفجير الكنائس منذ شهرين) أن النظام نفسه هو من يقوم بالإرهاب وحتى الاشتباكات العسكرية (كما في واحة الفرافرة)؟
وكيف نحل سلسلة من التناقضات الذاتية في نفس العبارة؟ النظام يقوم بالإرهاب، النظام يتهاوى بسبب الفشل الأمني، صراع أجنحة يريد ضمان استمرار النظام، لا- يريد السيطرة على السلطة بالتعجيل بانهياره..
وهكذا
نعم – ليس عندنا معلومات وافرة عن كل تفصيلات المشهد، وبالتأكيد ليس كلنا متخصص في مسائل السياسة والاستراتيجية.. ولكني أعتقد أن قدر متوازن و(متصل ودائم) من التفكير النقدي (البارد) للأطروحات – (بعيدا عن التفكير الرغائبي وبالفصل بين التقييم الأخلاقي والتقدير الاستراتيجي) سيساعدنا على الأقل في فهم قدر كبير من المشهد ومآلاته.
وكثير من الإجابات على أسئلة الواقع هي مباشرة أمامنا دون تعقيد شديد.. يمكن التعقيد هو في فهم الخلفيات والآليات واستشراف المآلات:
نعم هناك شيء اسمه داعش.. ونعم داعش تفجر المساجد (سنية وشيعية كما حصل في العراق والكويت والسعودية وسوريا وليبيا)، بل حتى قامت بعمليات انتحارية ضد تجمعات جبهة النصرة في سوريا وهم من نفس الأب (تخيل!) ، وقتلت بشكل عشوائي أو استهدافي تجمعات مدنية في خلافها مع السواركة (حادثة السوق) بل حتى ذبحت شيخا صوفيا شارف المائة عام من كام شهر (الشيخ سليمان أبو حراز) لأنها كفرته.
ونعم سلوك وأجندة والإطار المعرفي والنفسي لداعش مختلف كثيرا عن القاعدة (قارن حادث الواحات مثلا، بمذبحة المسجد، واقرأ بيان تنظيم جند الإسلام حول الأخيرة)
مازلت طبعا عند تقدير أن دافع داعش هو حساب سياسي واستراتيجي أخطأته تماما، وغالبا هناك عنصر وافد وراء تلك الخطوة الكارثية..
ولكن بالتأكيد أي تنظيم عقائدي (إسلامي أو جيش أو يساري..) يتوسل بالتبرير الأيديولوجي (الوطني) ليغطي به الحساب الاستراتيجي
والمصلحي- رشد منه أو انحرف هذا الحساب.
أما الحوار الثالث فهو في نفس سياق التحليل الاستراتيجي للمجزرة والتفسيرات البديلة
حول مجزرة مسجد الروضة بسيناء
مع هول الفاجعة اﻹنسانية وتجريم اﻹرهاب بكل أنواعه ودوافعه فالفهم اﻻستراتيجي لظاهرة اﻹرهاب وتطوراتها مهم..
إذا تأكد تبني تنظيم ولاية سيناء لتلك المجزرة، فهذا معناه خطأ كبير في الحساب اﻻستراتيجي حقيقة، وأيضا احتمال وجود عنصر داعشي وافد خلف هذه الخطوة (موجات هجرة داعشية للأطراف بعد ضرب المركز شيء متوقع).
نظريا.. هدف مثل تلك العمليات يندرج في نقطتين:
1- إرهاب القبائل السيناوية بحيث تنحاز لسيطرة داعش وتمتنع عن التعاون مع الجيش والنظام.. خصوصا أن هناك حالة اشتباك بين التنظيم والسواركة تمتد لأشهر.
2- ضرب هيبة النظام وقدرته على حفظ اﻷمن، وإجبارهم على تشتيت قواته ومفارزه اﻷمنية فيسهل استهدافها. بالإضافة للمنطق العام خلف كثير من تكتيكات الإرهاب وهو استدراج النظام لردود فعل (غاشمة) تفتح مجالا لتوسيع دائرة التجنيد والدعم لحركة الإرهاب.
خطأ الحساب هنا هو في نوعية وحجم الاستهداف.. فاﻹرهاب النوعي المحدود للرموز المتعاونة قد يحقق بشكل ما اﻷهداف السابقة، ولكنه تحول لاستهداف عشوائي وجماعي وفي موطن مقدس كالمسجد مما سيؤدي قطعا لخسارة التنظيم لقطاع كبير من الدعم القبلي، وبالعكس حشده معلوماتيا وسياسيا وأمنيا خلف النظام.
هنا يظهر الفارق مثلا بين خط القاعدة وداعش (أنصار بيت المقدس بدأت قاعدية، ثم انتسبت لداعش وواضح اﻵن اقترابها أكثر من سلوك اﻷخير.. في مقابل مثلا تنظيم عشماوي الذي قام بحادث الفرافرة ومن وراء حادث الواحات)، هو إلحاح اﻷول على تمثله كمدافع عن القبائل ومنتصف لهم ضد بطش النظام (وهذا يظهر في نمط العمليات العسكرية واﻹرهابية، وأيضا في الخطاب السياسي)، أما الثاني فبالرغم من توفر قدرات فنية أكبر إلا أن الهوس بالتصفية واللامبالاة بآثار الحساب اﻻستراتيجي واضح أكثر.
ولكن هل يمكن أن يكون الدافع خلف العملية مسألة تبعية المسجد لأحد الطرق الصوفية؟
التصفية اﻷيديولوجية العمياء -والمناقضة لأبسط بديهيات المنطق اﻻستراتيجي- هي أيضا من سمات داعش وماورثته من تنظيم الزرقاوي وأتون الحرب اﻷهلية العراقية.. وهذا حصل مرارا ليس فقط في استهدافات لمساجد الشيعة، ولكن حتى لتفجير مساجد الصوفية واﻷضرحة في ليبيا وحتى حوادث متفرقة في شمال سيناء اﻷعوام الفائتة.
لكن مايجعلني أستبعد هذا الدافع أن يكون اﻷساس في مقابل الدوافع السياسية والاستراتيجية -ليس فقط خلو المسجد من أضرحة بالرغم من كونه صوفيا، ولكن لأن نوعية الاستهداف (ضد المصليين العاديين) وحجمه بهذا الضخامة، فضلا عن التوقيت (ارتباطه بانكسار داعش في المركز، وسباق حول الشرعية الجهادية مع القاعدة بعد حادث الواحات) يجعلني أرجح اﻷخيرة ولكن خطأ في حسابه.
فقط نقطة أخيرة.. أني لا أتخيل الحقيقة أن مسئولية النظام هي فقط في محرد تقصير أمني، ولكن أن مجمل مبانيه وسياساته هي محرك أساس لظاهرة اﻹرهاب، وتمنع بشكل قاطع تطوير استراتيجية حقيقية لمواجهته. (بعيدا عن الهلاوس حول ترتيبه المباشر لهذه العمليات! فهناك عوائق كثيرة في السياق السياسي والإقليمي والحساب الاستراتيجي الجليّ وبنية التشكيلات العسكرية – ليس بالضرورة الأمنية – وعقيدتها ماتقف أمام استنساخ المشهد الجزائري)
الرئيس المصري يتوعد برد (غاشم)! حتى جهله اللغوي لا يبرر استخدام هذا اللفظ فضلا عن تطبيقه.
أقل النقاط.. أننا لسنا مدعويين أصلا كمواطنين (وكحالة سياسية تم قهرها) للحديث أو معالجة هذا (التقصير).
نسأل الله اللطف والرحمة للشهداء. وأن يرأف بحال شعبنا الذي يعاني
هذه ورقة عمرها 3 سنوات حول مكافحة الإرهاب السيناوي.
https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfU29Uak5RTFBIdnc
ذات صلة
حول مراجعات المجموعة الشبابية للإخوان
22 July 2017
تعليق حول الجزء الأول من المراجعات أرسلها صديق.
بخصوص المراجعات، فهي ليست جديدة، وصدر لها جزء ثان مكمل عن فترة مابعد 30 يونيو:
هناك عدة ملاحظات:
أولا – هي مراجعات من حيث المبدأ هامة جدا.. خصوصا أننا لم نر أي مراجعات حقيقية من أيٍّ من القوى السياسية (إسلامية، أو ثورية أو ليبرالية أو يسارية..)..
وتناولت بالفعل قضايا هامة، ولم تكتف بما قام به البعض من مراجعات تحسينية هشة.. مثلا حوار البرادعي، أو بعض أحاديث قيادة الإخوان التاريخية.
(كعادة الناس في مراجعاتهم: مشكلتي الوحيدة إني طيب زيادة عن اللزوم)
ثانيا – وهذه مشكلة كبيرة. أن الطرف الذي قام بهذه المراجعات هو القيادة الشبابية في الإخوان (تيار محمد كمال). وهذا معناه أنها لاتمثل الإخوان فعليا – خصوصا إن علمنا أن القيادة التاريخية استعادت السيطرة على غالبية هياكل الجماعة وقطاعاتها (على مافيها بطبيعة الحال من انهيار وتبعثر حاليا) وبوسائل فيها الكثير من الإشكال الأخلاقي.
و لكن الأخطر – أن هذا التيار الشبابي بالفعل تورطت مكونات منه في العمل المسلح والإرهاب البدائي. وهذا معناه الحكم على أي مستقبل لمايمكن أن تحدثه هذه المراجعات من حراك تنظيمي وسياسي بالسلب.
ولعل في هذا مايُدهش أيضا..
أن تصبر على إجراء مراجعات (مهما اختلفنا حول جودتها) تتناول مناح مستفيضة في حركة الجماعة وتاريخها لثلاثين عاما على الأقل، ثم تصمت على هذا الشق الخاص باللجوء للعنف المسلح – مع مافيه من إشكالات شرعية وفكرية واستراتيجية. ، وربما كان هناك بشكل أو آخر عدم اتصال كامل بين المجموعة التي أعدت المراجعة وتلك ا
لمكونات التي انخرطت بأشكال بدائية أو حتى بعض محاولات احترافية في العنف.
ولكن – يتضح من خط هذه المراجعات أن الفكرة كانت في أن تسبق التأسيس لرؤية فكرية وتنظيمية وسياسية للمرحلة القادمة
وربما التعثر الحالي الذي تواجهه تلك المجموعة وخسارتها للمساحات التنظيمية.. هو من عطل هذه الدورة.
ثالثا – فيما يتعلق بالجزءالأول من المراجعات، فبالتأكيد متفق مبدئيا عل أغلب التفصيلات، بل لعلي أقول أني وجدت فيها بعض النقاط (كتقييم تيارَيْ الجماعة قبل يناير فيما يتعلق بالتغيير، أو نقاط حول المقاصدية والخيار الثوري، أو أولوية الأجندة الثورية في معرض استفتاء مارس وأن العبرة لم تكن في أي خيار منه بنعم أو لا) سبق لي أن طرحتها من قبل، ولم أسمعها من أحد غيري، وهذا لايعني بالضرورة أني مصدرها. ولكنه شيء يسعدني بالطبع. .
لكن هناك بالنظرة المعمقة بعض الملاحظات السلبية:
1- لم يتم إبراز أهمية بعض النقاط التي تحكم تفسيرنا للمسار وتقييمنا له عن نقاط أخرى تفصيلية.. وهذا الإبراز مهم حتى لانتوه في التفاصيل، ونفقد قيمة المراجعة أن تقودنا لخلاصات كلية تدفع للتجديد الفكري والاستراتيجي والواقع.
فمسألة غياب رؤية وإرادة التغيير السياسي قبل ثورة يناير ، وضعف القابلية القيادية لصنع أي استراتيجية .. هي أهم ماحكم مسار الإخوان قبل يناير. ثم تأتي بعد ذلك كل التفصيلات..
وهناك بعض تناقض في ذات الورقة سواء في التقييم أو ماتطرحه كمسار بديل.
فهل كان التركيز على العمل المجتمعي وترك حظوظ بناء القوة والقدرة السياسية هو المشكلة، أم المشكلة كانت في عين المسار الإصلاحي القاصد لتوسيع المكاسب السياسية على حساب مهمة التغيير وإفقاد النظام الشرعية وتوسيع الاحتقان الشعبي؟
في رأيي طبعا – أن الحاكم لمسار الإخوان كان توسيع مصادر النفوذ الاجتماعي والسياسي على أي حساب آخر وبالأخص المسألة التغييرية، وأنه بالعكس – في آخر عشر سنين قبل يناير، تضخم الملف السياسي على حساب كل الملفات التربوية والاجتماعية – الدعوية داخل الجماعة.
2- كذلك في مسار الثورة ذاتها.. المراجعات تلمست فقط مسئولية الإخوان عن تبريد الثورة، والقبول بمرحلة انتقالية يقودها المجلس العسكري، والقناعة الساذجة بسبب المنطق الإصلاحي بأولوية الانتخابات.. وأن هذا من حيث الأثر والدور كان يماثل مسئولية الآخرين إن لم يكن أقل .. ولكنها لم تفسر بوضوح لم
وكيف حدث هذا وماحجمه الحقيقي من حيث التأثير على المسار السياسي؟
المشكلة كما نعلم، كانت بسبب هوس الإخوان بفكرة التقدم للسلطة وهذا مااقتضاها – مبكرا جدا – أن تتفاهم مع المجلس العسكري والأمريكي على مسار سياسي لمصر يحصل فيه تقاسم فعلي لملفات السلطة بينها وبين المؤسسة العسكرية.
فماكان يحتاجه إدارة المسار الثوري بعد يناير أمرين: قيادة وطنية تتفق على ملفات التغيير وإدارة المرحلة الانتقالية، وزخم شعبي.
وكلا النقطتين، الإخوان فعليا هم أول – وأكبر – من أعاقه، ولم يكونوا مجرد موقف وسط بين (يسقط المشير)، و(المشير الأمير)!
وبالطبع – تغافلت الورقة عن حجم التفاهمات التي أبرمها الإخوان مبكرا مع المجلس العسكري والأمريكي حول نسق إدارة المرحلة الانتقالية، أو شكل النظام السياسي المقبل وتقاسم الصلاحيات داخله.. (ومن ضمن هذا ماترشح في دستور 2012 ذاته)
3- هناك ضعف كبير في الوعي الفقهي والسياسي المطلوب لفهم مقتضيات التحول السياسي، وفكرة الدولة ذاتها وإدارتها.. وهذا ماجعل الورقة – بالرغم من إيجابياتها.. تتغافل مثلا عن:
إشكالية الجمع بين العمل الحزبي، والعمل الدعوى والمجتمعي والاقتصادي والسياسي الوطني (هي تناولته فقط من منطلق أنه يرسخ لصورة الهيمنة على الدولة ويحمل الحزب مالايطيق).. ولكنها لم تتناول إشكالاته الضخمة في تنزيل الوصف الديني على خيارات تنافسية، أو استثمار غير شريف للرصيد الخدمي والدعوي في التنافس على السلطة، أو التناقض الحاصل في طلب التواجد في مساحة يحرم التواجد الحزبي فيها (كالقضاء والجيش)، أو حتى الاختلاف الضروري في الخيارات ومساحات النظر في ذات القضايا السياسية.. فضلا عن تفاقم مشكلة أثر رأس المال على التنظيمين الدعوي والحزبي.
أو ماهي الأولويات مابعد يناير بالتحديد ومقتضيات إحداث تحول ديمقراطي حقيقي (التزاوج بين ملفات الثورة وبناء النظام الدستوري)
، أو خطورة تسييس جهاز الدولة وكيفية الجمع بين هذا والإصلاح الجذري الهيكلي للمؤسسات (وهذا مايقتضي القيادة الوطنية لمرحلة الانتقال الديمقراطي)،
وخطورة تجاوز التفويض السياسي سواء للمناصب التنفيذية أو التشريعية (تخيل الورقة مثلا قالت عن الأخونة أنه استحقاق!)
أو خطورة تمرير دستور يعزز المكاسب الفصائلية للسيطرة على الدولة بالمخالفة لصنع عقد اجتماعي حقيقي أو حتى بمناقضة التصورات الوطنية – وحتى تلك المعارضة والإخوانية عن بنود النظام الدستوري..
أو مشكلة التعامل مع القضاء (كسلطة مستقلة).
وكيف تم هذا بمخالفة كاملة للتفويض السياسي للرئيس فضلا عن تعهداته.
وفكرة الدولة الوطنية ذاتها وموضعتها – بكل ماتحمله من سيادة داخلية وضمن حيزها الجيوسياسي – في خارطة الأممية (سواء كتنظيم، أو تصورات عن الخلافة). وكيف يمكن أن تدير جماعة غير مفوضة الحكم في دولة، وهي خارجة عن شرعيتها الداخلية والخارجية.
أو آثار كل ماسبق على الشرعية السياسية -ابتداء وتوسطا – للنظام السياسي.
بطبيعة الحال، المراجعات حاولت التبرير لمواقف الإخوان وإلقاء المسئولية على المقابل، وبشكل فيه تناقض داخلي الحقيقة. ولكن بالنظر إلى أسبقيتها وحجم النقد الذاتي الموجود فعليا ذاتها، فهي مثمنة من هذا المنحى.
4- أما الجزء الثاني الخاص بمراجعات مابعد يونيو 2013، فبالتأكيد العنصر الأبرز فيه من حيث القصور هو الفقر الاستراتيجي.. فخيارات الثورة ابتداء ، فضلا عن مسارات استراتيجية وعملياتية محددة فيها، لابد أوليا من الوضوح الكامل لأهدافها السياسية، ثم التناسب بين الموارد المتاحة وسبل تحريكها في مسارات تصعيد وتفاوض وبالنظر للبيئات المحيطة وبين مايمكن تحقيقه من نهايات.