فكر استراتيجيمقالات منوعة

حوارات استراتيجية 3: حول البيئات الاستراتيجية

الامتنان الوافر للصديق العزيز مصعب على تفريغ وتهذيب هذه الحوارات..

هناك سؤال بخصوص ما يقصده كولن جراي بالبيئات أو الأبعاد الاستراتيجية في كتاب

modern strategy

هل كان يقصد بها الروافد التي كنتَ شرحتها في محاضرة الأمن القومي، فيكون المراد منها الأبعاد التي تؤثر على عملية التخطيط والتفكير الاستراتيجي بشكل عام كونها تشكل روافد لعقلية الاستراتيجي، وليس جوانب معينة يتم المطالبة باعتبارها والتفكير بها أثناء التخطيط؟

لأن ما سبب إشكال عندي ذكر الكاتب ان إهمال أي بُعد منهم يؤثر على باقي الجوانب الأخرى وأن هذه الجوانب يمكن تشبيهها بأجزاء السيارة بحيث كل جزء له دوره وأهميتهم تحدث بتواجدهم سويا، بينما كان الأقرب بالنسبة لي هو المعنى الأول (الروافد).. 

طبعا هذا السؤال مهم ومركزي في دراسة كولن جراي، وسأبين ذلك لاحقا. لكن أولا في محاضرتي لم أكن أتكلم عن الروافد لصناعة الاستراتيجية بل روافد الأمن القومي كمستوى سياسي

(policy)

من حيث صياغة الأهداف العليا للأمن القومي وتحيزاتها (الجغرافيا، والخلفية العقائدية والتركيب الاجتماعي وأثر التاريخ، وطبيعة النظام السياسي، والاقتصاد)، وإن كانت هذه الروافد لا يقتصر تأثيرها على الأهداف العليا بل وحتى طبيعة الخيارات الاستراتيجية نفسها.

النقطة الثانية فيما يتعلق بالبيئات

Dimensions

الخاصة بالاستراتيجية فهي أوسع بكثير من الروافد فهي تتحدث عن البيئات التي تُخَلّق بها ومنها على أساسها وتتحرك فيها الاستراتيجية فهي تشمل جميع المساحات:

فتشمل المساحات التي تُحرك وتدفع خيارات استراتيجية بعينها

وتشمل المساحات التي تصنع أبعاد القوّة، والفرص والتهديدات.. للذات والخصم

كذلك تشمل المساحات التي تتحرك فيها الاستراتيجية سواء الاستراتيجية الشاملة والجراند أو الاستراتيجية العسكرية، ستجد أن كولن جراي وصف سبع عشرة بيئة، ثم قسمها في ثلاث مجموعات:

People and politics

Preparation to war

War proper

فمثلا يتضمن التحضير للحرب الإدارة العسكرية والاقتصاد واللوجستيات، بينما في الأخيرة نجد المساحات التي تشتبك معها الاستراتيجية وتؤثر فيها وتعمل على تحريكها في المسار الاستراتيجي مثل العمليات والجغرافيا والوقت، فلابد من التفريق بين هذه الأبعاد (البيئات الاستراتيجية) وبين الروافد…فمع كون هذه البيئات تشمل بالفعل روفدا أو تمثل عواملا تُشكل الخيارات الاستراتيجية نفسها، لكن يبقى معناها أوسع بكثير من الروافد.

أيضا لو تتذكر ففي المحاضرة عندما ذكرت الروافد المؤثرة في سياسات الأمن القومي لم أعني أنه ليس لها قيمة خططية؛ بل ما قصدته أنها لا تدخل بشكل منفصل ومحدد ضمن عملية التخطيط بشكل مباشر لكنها تؤثر في كل تفصيله من تفصيلاته بالأساس، فصانع السياسة لا يجلس مثلا ليفكر كيف يخطط من حيث القراءة الجغرافية أو الاقتصادية، بل تتواجد جميع هذه العوامل في الخلفية التي على أساسها تُجرى عملية التخطيط والنظر السياسي والاستراتيجي في هذه المساحات.

هذه النقطة لو لاحظت تحدث فيها كلاوزفيتز وكولن جراي في مساحة الاستراتيجية أيضا، أي أن التخطيط الاستراتيجي لايتحرك بشكل منفصل وإجرائي لكل عنصر منها، ولكنها تحكم على بنيته ونثرياته.

إذن هذه البيئات  ما هي فائدتها بالأساس؟! فهل ستتعاطي مع كل عنصر من العناصر على حدة؟ فأنت إن فعلت ذلك ستقع في مشكلة جوهرية، أنك ستفقد النظر الكلي لظاهرة الحرب وتفقد فهم العلاقات داخلها. وكولن جراي نقل مقولة كوزفيتز بأن الحرب ظاهرية كليه ومحاولة تقسيم عناصرها على حدة يفقدها معناها، لأن هناك جزء كبير من التعاضد

interdependence

بين هذه العوامل هناك كذلك

Variable Expression

أيضا فالتأثير الخاص بكل عنصر لا يكون متماثلا في جميع الحالات بل كذلك يختلف من آن لآخر في الحالة الواحدة؛ فالعنصر الجغرافي مثلا، أو اضطراب العلاقات المدنية العسكرية مثلا، قد لا يؤثر بنقس الدرجة والحجم في كل مراحل الحرب.

أيضا لابد أن تنتبه لمشكلة وقع بها كولن جراي:

قضية البيئات الاستراتيجية كان قد سبق بها قبل كولن جراي وليامسون موراي وآخرون في دراستهم الشهيرة

Making Strategy

  (وقبلهم حتى مايكل هاوارد في مقاله

Forgotten Dimensions of Strategy)

. والأولون قسموا البيئات الاستراتيجية إلى نوعين: 1- البيئات الخشنة أو الصلبة وهي المسائل التي تتواجد بشكل ظاهر في عملية التخطيط: كالمنهج القتالي ووضع الأهداف وتحديد الخيارات الاستراتيجية العسكرية أو الشاملة.

2- والنوع الآخر ما يطلق عليه البيئات الناعمة  أو المرنة

(soft)

. هذه البيئات لا يتم الانتباه لها وتأثيرها ليس خطيا في العملية الاستراتيجية، وليست جزء أساسيا و حدّيا في عملية التخطيط، ولكن لها تأثير هائل على وضع الاستراتيجية وتنفيذها. وبعض البيئات مثل النظام السياسي والجغرافيا والثقافة والأيدلوجيا تترك أثارا شديدة العمق في قدرة وطريقة تعامل الكيان مع الخيارات السياسية والاستراتيجية العليا وحتى التنفيذية…فهذا جميعه طرحوه قبل كولن جراي وتتبعوه في دراسات حالة للتاريخ الاستراتيجي ممتعة، كولن جراي كتب فصلا، وكذلك مايكل هاندل كتب فصلا حول البيئات الاستراتيجية لصنع الاستراتيجية الإسرائيلية هو أهم ماكُتب في الموضوع مع إيجازه حتى الآن.

أما كولن جراي كما ذكر بنفسه عندما بدأ في هذا الموضوع بالتسعينات قام بالتفريع شيئا فشيئا حتى وصل الى السبعة عشر ثم جمعهم في النهاية في الفئات الثلاث، ومن ضمن المآخذ على كوزفيتز طبعا أن اهتمامه كان بالأساس حول

War Proper

وكذلك طبعا السياسة والإنسان، لكنه لم يكن مهتما بالتحضير للحرب.

عودة لكولن جراي فطبعا القراءة له ممتعة ومطالعة هذا الكم من المعاني مفيد للتفكير الاستراتيجي لكن المأزق الذي وقع فيه هو عدم إدراكه لفائدة دراسة البيئات الاستراتيجية. وكما قال لي ذات مرة، أنه فقد مع الوقت الاهتمام بالموضوع لعدم رؤيته لأي فائدة لها.

فلو هناك مجموعة من العوامل لكن ينبغي اعتبارها بطريقة مترابطة وكلية، فما فائدة دراسة كل عنصر على حدة؟! هذا السؤال ما لم يستطع اجابته.

وفي الحقيقة أثناء تعاملي مع بعض جوانب أصول الفقه هذا السؤال كان موجود بالأخص في بعض الجوانب مثل قيمة القواعد الفقهية والقواعد الأصولية، تخريج الأصول على الفروع، ومقاصد الشريعة…فهي عناصر وعوامل لا تدخل بشكل تحكمي وخطي في صناع الحكم والفتوى لكن لها تأثير مهم أدركه الأصوليين من قديم وهي تعميق النظرة الكلية والأساسي وقدح الملكة الفقهية عند الفقيه.

 هناك نقطة أخرى توقفت أمامها مليا في دراستي للدكتوراة، حيث أني وجدت فوائد عملية محددة غير الفائدة العامة في قدح الملكة الاستراتيجية وماسيرفع مستواك في كل مراحل التخطيط والتنفيذ والمتابعة مع هذا الثراء المعرفي بها ابتداء وبتفصيلاتها في كل حالة…فضلا عن ذلك وجدت أن التقسيم لبيئات صلبة أو مرنة، يُمكن التعبير عنه بالشّرطية

Conditioning

،  والوظيفية – على الترتيب.

فالبيئات المرنة (أو الشّرطية أو الناحتة) تأثيرها لا يكون خطيا، ولكن عميقا، إلا أن الخصيصة الأهم فيها أنه من الصعب تغييرها! فهذه البيئات لا تستطيع اتخاذ قرارات سريعة بشأنها. صحيح أن هذه العوامل الشَّرطية يمكن تغييرها مع الوقت كما حاولت إسرائيل في جانب الجغرافيا، وأيضا يمكن تغيير الثقافة والأيدولوجيا سواء عندك ام عند الخصم هذا يحدث بالفعل، و لكن هذا يأخذ وقتا طويلا للغاية ، والنجاح في ذلك قادر على حسم الأزمات الكُبرى، ويرتبط بالجراند استراتيجي.

ففي هذه الصراعات المتجذرة وذات تاريخ طويل مثل الصراع العربي الإسرائيلي أو الحرب الباردة.. في الغالب لن تحسم مثل هذه الصراعات إلا بتغيير العوامل الشرطية هذه، لماذا؟ لأن هذه الصراعات هي صراعات وجودية وبالتالي تحتاج لحسمها إلى تغيير العوامل التي تشكل وتقوم عليها استراتيجية الأطراف

النقطة الثانية أن البيئات الاستراتيجية بنوعيها، إما انها تٌزيد من القوة والضعف (التهديد) في بيئتك، أو انها تطرح فرص او عقبات عند الخصم وهذا كله له تفصيل كثير، وفوق هذا – هي تُشكل الخيارات الاستراتيجية حيث تجعل بعض تلك الخيارات متناسقا معها

compatible

، أو غير متناسق – مثلا تكتكة الاستراتيجية عند الإسرائيلي ارتبطت بتأثير عوامل مثل خنق الجغرافيا، وبناء جيشها على الاحتياط، ونفسية البحث المطلق عن الأمن تبعا لتجربة الشتات والهولوكوست – فكل هذا دفع الإسرائيلي لخيارات حسم عملياتي وتكتيكي…

 

تذكرت بكلام حضرتك عن عدم ذكر كلاوزفيتز لمسائل الاستعدادات للحرب ما كان قد ذكره هو بنفسه أن كل ما يتعلق بإدامة عمل القوات هو جزء مهم من الحرب لكنه لا يدخل في فن الحرب وتقريبا ذكر أنه سيكتب عن مسائل مثل التجنيد فربما لو عاش لكان أكمل ذلك.

أيضا هو كان قد ذكر أن لكل حرب سياق محدد يحكمها بالتالي فالكلام عن البيئات الاستراتيجية يمكن فهمه في إطار ذلك، ففي النهاية كما ذكرت حضرتك لا يمكننا ادخال كل البيئات قسرا في العملية الاستراتيجية بل السياق أو الموقف والواقع هو من يرشدنا للخيارات في النهاية فهل هذا الكلام صحيح؟ بمعنى – ماحدود التفاعل بين النظرية والسياق؟ أيهما الأَوْلى اعتبارا؟

أيضا ، بخصوص المشكلة التي وقع بها كولن جراي فهو كان أيضا ذكر أو نقل لكلاوزفيتز أن عناصر الحرب لا يمكننا القيام بعملية عزل isolation لكل عنصر منهم على حدة فهي فضلا عن كونها عناصر متداخلة هذا التداخل أيضا لا يمكن تفكيكه بل يعمل بشكل معقد…فالبيئات لا يشترط وجودها جميعا أًصلا فضلا عن تواجدها بكيفية محددة وذات أثر ثابت.. وهو قد ذكر مثالا عن التكنولوجيا وكيف أننا رغم وجودنا في عصر الحرب عن بعد إلا أن العنصر البشري قد يُفقد هذا البعد قيمته إذا رفض الأوامر أصلا.. فهل تظن حضرتك أن مسألة القيمة هذه ممكنة؟

أولا بخصوص تقليل كلاوزفيتز من أهمية جوانب التحضير للحرب فهذا خطأ ضخم، لكن مهم اعتبار عنص الزمن الذي عاش فيه كلاوزفيتز نفسه كما ذكرنا سابقا من أن لكل عصر نظريته الخاصة في الحرب والاستراتيجية. كذلك جزء كبير في هذا التصور عن كلاوزفيتز يحدث بسبب تعسف الناس -خاصة جوميني – في فهمه وكون أن ما هو دون القتال ليس من فن الحرب.

لماذا كلاوزفيتس مخطيء إذا أخذنا كلامه حرفيا؟ لأن اختيار المعركة وكثير من فن العمليات، تجميع القوات، وضع سلسلة معينة من التناسق بين العمليات الكبيرة والصغيرة، التحرك على الخرائط…كل هذا ليس من مادة القتال المباشر لكنه أمر حاسم ومحوري استراتيجيا. ولكن كلاوزفيتس دائما ما يُعلي من شأن الاستراتيجية ويميز بينها وبين المعارك والتكتيكات وأن الاستراتيجية هي استخدام الاشتباكات لتحقيق هدف الحرب فبطبيعة الحال جزء كبير من كلامه مرتبط بفن العمليات بمفهومنا المعاصر وهو ماليس من مادة القتال المباشر… ولكنه كان يقصد فقط الجوانب التحضيرية الإدارية والتعبوية للحرب واللوجستيك، وهذا يبقى خطأ بالطبع ولكن ليس مثل الأول.

أيضا جزء كبير من التعسف أو الفهم الخاطئ يحدث لكون كلاوزفيتز كان كثيرا ما يستخدم الاستراتيجية بمعنى العمليات بمفهومنا الحالي، فهو في التمهيد يقول عن الاستراتيجية  (او فن إدارة العمليات العسكرية)، بل حتى كتاب الاستراتيجية (الثالث) جزء كبير منه مثل الاحتكاك والإدارة العسكرية وهذا يرتبط كثيرا منه بمستوى العمليات .وفي الحقيقة مستوى العمليات كان قد ظهر بالفعل في وقت كلاوزفيتز لكن دون أن يُعطى له مسمي فكان جزء كبير مما يُسمى فن عمليات بوقتنا الحالي يُطلق عليه كلاوزفيتز استراتيجية.

في نفس الوقت ما يُطلق عليه استراتيجية بمعنى تحقيق الأهداف السياسية للحرب كان يُطلق هو عليه أيضا استراتيجية ولذلك في الكتاب الثامن، عندما أراد أن يفصل هذا المستوى الأعلى عن المستوى الأدنى منها أسماها الاستراتيجية الخالصة

Pure Strategy،

ومع اعتبار أنه ليس هناك فصل حاد بين المستويات فالأدنى في مستوى الاستراتيجية يمثل أعلى مستوى العمليات، فإذا لم يُميز مستوى العمليات، فكل مافوق التكتيك (المعركة) هو استراتيجية.

النقطة الأخرى. أن مسائل الإعاشة والدعم الطبي واللوجيستي في وقت كلاوزفيتز لم تكن مسألة حرجة، كالوضع الحالي فصحيح ان ظاهرة الحرب كانت قد تضخمت كثيرا لكن فقط مع ظهور الدبابات وظهور الطائرات والبوارج الحربية أصبح جزء كبير من حسم نتائج العمليات والمعارك هو القدرة على اعاشة واستدامة هذه الأمور فعندما تفاجأ أن 80% من مسألة اللوجستيات تتعلق بالنفط ستدرك ان المشكلة لم تكن بهذه القسوة في وقت كلاوزفيتز.

أخيرا هناك معان كثيرة في التحضير للحرب مثل تطوير المناهج القتالية بناء القوات تطوير العمليات. الخ هذه الأمور هي في صلب نظرية كلاوزفيتز لكنه فقط لم يضعها تحت هذه العنوان بل اعتبرها شيئا آخر من متطلبات صنع الاستراتيجية.

ثانيا) بالنسبة لتعقيبك على النقطة الهامة من حيث علاقة النظرية بالسياق.. فلو اعتبرنا في النهاية أن كل شيء مرتبط بالظروف فما فائدة النظرية؟ ما فائدة بناء الخبرة؟ فصحيح أن السياق بالنهاية هو ما يحكم، ولكن إذا امتلكت الموهبة النظرية وما كان يسميه كلاوزفيتز الفهم بلمحة خاطفة

Coup D’Oeil

 لتستطيع ان تفرز السياق الحاضر وأن تستشف العلامات المرجحة لهذا الخيار او ذاك، فلابد ان يكون هناك توازن في الامر.

و من النقاط الجوهرية التي طرحها كلاوزفيتز- أن النظرية وحتى الخبرة الذاتية نفسها دون التعامل مع السياق لن تقود في النهاية لشيء خصوصا النظرية،  لكن الجزء الجوهري انها تكوّن الملكة القيادية والاستراتيجية ذاتها، فحين تتعامل مع السياق تستطيع ان تفهمه وتستطيع ان تستشف السيناريوهات الحاصلة وتنزيل القواعد النظرية بشكل سليم ومنطقي، ولذلك حتى العقيدة القتالية التي تقوم عليها كل الجيوش تجد ان الجيوش -المحترمة يعني- لا تسميها عقيدة فلفظة العقيدة لا تُستخدم هنا بل هي أشبه بالمذهب العسكري لكن في استخدامنا العربي له خاطئ فمثلا تجد في تعريف الناتو له أن له حاكمية

authoritative…but it needs guidance during application

 فيحتاج لدرجة معينة من التفسير والنظر حين تطبقه ويمكن ان تتجاوزه، ولكن بوعي؟

في الجانب الخاص بالبيئات الاستراتيجية فهي هامة جدا كما أخبرتك، واكتساب المعرفة النظرية والتاريخية فيها واكتساب الحس والحدس والقدرة على تميزها وادراك أبعاد علاقتها وتأثيرها في الاستراتيجية لديك ولدي الخصم هي ملكة عالية وهي ما تحسم في نهاية الأمر.. هذا تحديدا ما يفرق بين القائد الاستراتيجي وغيره، بين الفاهم وغير الفاهم ولذلك تجد صن تزو تحدث عن

TAO

وهي هذه الملكة وعند كلاوزفيتز اللمحة الخاطفة .. أي معرفة متى يؤثر الاقتصاد مثلا، طبيعة النظام؟ المجتمع؟ .. المقدرة على تحديد خيارات الطرف الآخر أصلا، فأهم جزء في الاستراتيجية وهو سرد السيناريوهات وأفعال الطرف الآخر – كيف يمكنك القيام به؟

هذا يحدث بإدراكك وتشربك لبيئته الاستراتيجية وتحيزاته التي يتحرك منها وملكاتك الفنية والنظرية والخبرة التاريخية عن كيف تحرك هذا المسائل الدول والشعوب، والتمييز – كما ذكرت في مدونة سابقة – بين حدود الثابت والمتغير فيها.

فأنا أخشي أن تفهم من كلام عن عدم وجود علاقة سببية مباشرة أن هذه المسائل بدون قيمة بل هي كل القيمة أصلا لكنها ليست علاقات حسابية مجردة بأن العنصر أ يؤدي إلى ب.  ولذلك نسميها ملكة أو حدس، فما يتراكم من تجارب وخبرات نظرية وفنية كما ذكرنا يعطي الضمير القيادي لديك قدرة على تفسير هذه العلاقة حتى دون القدرة على التعبير عنها…

ومثلا عندنا في الطب على الرغم من كونه من العلوم التطبيقية الا ان هناك فرق بين فن الطب وعلم الطب ونحن نسمي فن الطب (trained intuition)

هذا التدريب والصقل يكون بالعلم والخبرة وهكذا

ثالثا) بخصوص جراي وال-

Isolation

،  لم أقل أن الخطأ المنهجي لكولن جراي كان في فصله لهذه البيئات وانما أنه لم يذكر فائدة الفصل والتقسيم بهذا الشكل، فهي لها الفائدة المذكورة بالأعلى من كونها تعمل على صقل وتطوير المخزون الفكري والاستراتيجي بحيث يرفع من مستوى الملكة الاستراتيجية في فهم هذا البيئات بما يمكنه من المقدرة على تخيل ردود أفعال الخصوم وتقدير موقع خياراته وقدراته في التأثير في هذه البيئات سواء لديه أو لدي الخصم. والنقطة الثانية هي ما ذكرتها أن هذه البيئات لها أدوار وتأثيرات محددة وبالتالي يمكنك بفهم ذلك أن تفهم ما يُحدث تشكيل ونحت للمسار.. وأن تفهم لماذا يعتمد الروسي والمصري أو العربي على الأعداد وليس الكفاءة في بناء قدراته سواء التسليحية أو البشرية على عكس الألماني والإسرائيلي؟! هذا بسبب مستوى معين من البنية الاجتماعية للنسيج العسكري نفسه، فاذا حاولت في هكذا بيئات الاعتماد على الكفاءة العالية ستخسر بلا شك لأن هذا مخالف للسياق الاجتماعي أو تكوينك الاجتماعي للجيش إلا لو عملت على تغيير هذا العوامل على مدار زمني طويل، وليس في وقت الحرب لأن أي تغيير في بنية هذه البيئات سيؤدي لتضعضع الوظيفة مؤقتا حتى يتم بناء علاقات وبنى جديدة وهضمها..

المثال الجيد هو كما فعل المصري بين الحربين وقبول الشاذلي لطلبة الجامعات مثلا.. ولكن في ذات الوقت، لم تكن هناك إمكانية لتطوير للبنية الاجتماعية والسياسية والعسكرية لتسمح بسيادة في حرب الجو والمدرعات، وبالأخص في وقت الحرب وماقبلها مباشرة، فلابد من صنع استراتيجية عسكرية تراعي ذلك – بأن لاتوجد هناك حاجة لهذه السيادة الجوية والمدرعات بالأصل، عبر هجوم محدود تحت منصة دفاع جوي، وتحول سريع للدفاع الكثيف في رءوس الكباري فتتحيد مدرعات الخصم لغياب حرب المناورة، وبالعكس – يتم تدميرها بالدفاع الكثيف.

فأنت اذا لم تستوعب هذه النقاط والمحاذير الخاصة بالبيئات الاستراتيجية ومنطق تأثيرها وتغييرها، وحاولت اللعب فيها قُبيل حرب، وكل هذه الأمور -والتي كانت عند الشاذلي بالسليقة- ستنهار بلا شك.

:وفي ورقة (أزمة السيادة – أجرومية الخلل الاستراتيجي العربي)، تناولت هذه الجدلية الخاصة بالبيئات الاستراتيجية وتغييرها.. صفحات: 13-16

https://drive.google.com/open?id=1dy8LE8FKEHjXOxN7IfqCB4GULtClYjFD

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى